قلت في نهاية مقالي السابق عن «الجمال في الفن» أن فن الحدائق يستحق مقالًا قائمًا بذاته، باعتبار أن هذا الفن هو أحد المواطن التي تعبر بوضوح عما هنالك من وشائج قُربى بين الجمال في الفن والجمال في الطبيعة: فنحن ها هنا نجد أن عناصر الجمال الطبيعي ممثلة في النباتات والأشجار والأزهار تخضع لرؤية الفنان الذي يقوم بتنظيم مفرداتها وأوضاعها وعلاقاتها بعضها ببعض سواء من حيث النِّسب والأشكال وغير ذلك.
غير أننا لا يمكن أن نكتفي بهذه الرؤية لفن الحدائق من منظور الميتافيزيقا لدى شوبنهاور، فلقد بلغ فن هندسة الحدائق جماليًّا قدرًا هائلًا من الإبداع قبل شوبنهاور، ويكفي في هذا الصدد أن نتأمل قصة نشأة حدائق قصر فرساي التي استغرق إنشاؤها قرابة نصف قرن (بدأت منذ 1600 حتى سنة 1645)؛ إذ استعان الملك لويس الرابع عشر في إنشائها بأشهر عائلة ضالعة في هذا الفن، تنتمي إلى أندريه لو نوتر André Le Nôtre، وهي عائلة قد استدعاها الملك لإنشاء حدائق القصر بحيث تعبر عن مفهوم المَلِك الذي يجسد إله الشمس في الأساطير اليونانية وما قبلها، من خلال التماثيل اليونانية المعبرة، والمساحات الشاسعة التي تعبر عن النفوذ الواسع للمَلِك: الحديقة تمتد على مساحة 2000 فدان، وتشتمل على 200000 شجرة، وحوالي 210000 زهرة، و50 نافورة مياه، تستهلك حوالي 3600 متر مكعب من المياه في الساعة في فترة «التشغيل السنوي للنوافير بكامل طاقتها». ولقد كانت المياه جزءًا أساسيًا في التصميم الأصلي شأنها شأن الأشجار والنباتات؛ وكان للنوافير والجداول المائية تصميمها الخاص، وقد صممت فوهاتها وتم توجيهها بحيث تخلق تأثيرًا انطباعيًا نحتيًّا قويًا. وأحيانًا كان ربابنة الجنادل والمراكب يتم استئجارهم بزيهم الرسمي كي يجدفون في مياه الجندول الكبير، بينما الموسيقيون يعزفون على الشاطئ.
إن الإيهامات الكلاسيكية الموجودة في كل مكان من فرساي تتطلب مشاهد مثقفًا، كيما يستطيع أن يتذوقها. فحديقة فرساي مثل قصرها كانت تقوم بوظيفة اجتماعية وسياسية وثقافية أثناء فترة الملكية المطلقة. فالحديقة كانت تشير إلى سيادة الملك، ومشاهدها البانورامية تومئ إلى أن مُلك المَلِك يمتد بقدر ما يمكن أن يصل إليه امتداد البصر (بل أبعد مما يمكن أن يمتد إليه). ولكن هناك أيضًا حساسية جمالية تمارس تأثيرها في ذلك التركيب للحديقة المعقد في نظامه الهندسي (انظر تفصيل ذلك في ترجمتنا لكتاب سينثيا فريلاند بعنوان «نظرية الفن: مقدمة موجزة»).
حقًّا إن فن تنسيق الحدائق لم يكن يُنظَر إليه باعتباره فنًا ساميًا، فقد جاء في أدنى الدرجات في سُلم تصنيف الفنون لدى هيجل (الذي وضع الشعر في أعلاه) ولدى شوبنهاور (الذي وضع الموسيقى في أعلاه)، ومع ذلك فقد ظل هذا الفن جزءًا من تصنيف الفنون في العصر الحديث؛ بل إن كانط نفسه -من قبل هيجل وشوبنهاور- قد نظر إلى هذا الفن باعتباره نوعًا من التصوير الذي يقوم على «التلاعب الحر بالخيال»؛ ولهذا فإنه أيضًا قد وضع هذا الفن ضمن تصنيفه للفنون الجميلة. ومع ذلك، فإن علم الجمال المعاصر لم يعد يأخذ بالتصنيفات التقليدية للفنون الجميلة التي يتم فيها ترتيب الفنون ترتيبًا هرميًّا، وأصبح يميل إلى تصنيف الفنون تصنيفًا أفقيًّا بحيث تتداخل بعضها مع بعض من خلال علاقات عديدة.
وفضلًا عن ذلك، فإن الرؤية الجمالية لفن الحدائق قد اختلفت أيضًا عما كانت عليه في الماضي كما في نموذج حدائق فرساي، فهناك نماذج أخرى من هذا الفن يبدو فيها التفاعل بين الإنسان والطبيعة بدلًا من تأكيد سطوة الإنسان (أو الفرد/الملك) على الطبيعة. يتبدى لنا هذا في حديقة الزن اليابانية Zen garden التي تبدو طبيعية تمامًا بما تنطوي عليه من أشجار وصخور وممرات ملتوية وبحيرات وشلالات ونباتات طحلبية تنمو بشكل تلقائي، وهي بذلك تؤكد على الصلة الحميمة بين الشخص والطبيعة، خاصة حينما يستمتع داخل الحديقة بحفل شاي بوذي أو بفن انتقاء الزهور.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: هذا الفن من خلال تصنیف ا
إقرأ أيضاً: