لجريدة عمان:
2025-10-19@11:48:21 GMT

عن جماليات فن الحدائق

تاريخ النشر: 12th, September 2023 GMT

قلت في نهاية مقالي السابق عن «الجمال في الفن» أن فن الحدائق يستحق مقالًا قائمًا بذاته، باعتبار أن هذا الفن هو أحد المواطن التي تعبر بوضوح عما هنالك من وشائج قُربى بين الجمال في الفن والجمال في الطبيعة: فنحن ها هنا نجد أن عناصر الجمال الطبيعي ممثلة في النباتات والأشجار والأزهار تخضع لرؤية الفنان الذي يقوم بتنظيم مفرداتها وأوضاعها وعلاقاتها بعضها ببعض سواء من حيث النِّسب والأشكال وغير ذلك.

غير أن الرؤية الجمالية للحدائق لم تكن على هذا النحو دائمًا، وهو النحو الذي يجمع بين عناصر الطبيعة والتدخل البشري من خلال رؤية الفنان: فالفيلسوف الألماني الشهير شوبنهاور كان يفضل الحدائق الطبيعية على الحدائق التي تخضع ليد الإنسان من خلال التنظيم والتشكيل وتقليم الأشجار، إلخ. ولكن موقف شوبنهاور هذا مرتبط بفلسفته العامة في إرادة الحياة: فهو يرى أن الفنون جميعًا تعبر عن إرادة الحياة بدرجات متفاوتة من الوضوح، وفن الحدائق die Gartenkunst (horticulture) يعبر عن إرادة الحياة كما تتجلى في النبات أو في قوة الطبيعة الإنباتية التي تكشف عن طبيعة النبات حينما ينمو دون تدخل من الإنسان إلا في أضيق الحدود؛ ولذلك فإن هندسة الأشجار (أي تشكيلها هندسيًّا) تحجب طبيعة النبات أو إرادة الحياة التي تتجلى فيه حينما نشاهد- على سبيل المثال- النبات ينمو ليتجاوز المكان المظلم، بحيث تعلو فروعه وأوراقه وتتمدد كي تجد منفذًا إلى الضوء اللازم لعملية النمو، وغير ذلك من الظواهر المعبرة عن القوة الإنباتية، وهو ما يشكل مصدر المتعة الجمالية التي تشبه تلك المتعة التي تحدث في أنفسنا حينما نشاهد الجمال الطبيعي كما يتبدى في الغابات على سبيل المثال. ولهذا السبب كان شوبنهاور يفضل الحدائق التي تعتمد على الكثرة والتنوع في عناصرها الطبيعية، مع ترك الحرية للنبات كي يعبر عن طبيعته.

غير أننا لا يمكن أن نكتفي بهذه الرؤية لفن الحدائق من منظور الميتافيزيقا لدى شوبنهاور، فلقد بلغ فن هندسة الحدائق جماليًّا قدرًا هائلًا من الإبداع قبل شوبنهاور، ويكفي في هذا الصدد أن نتأمل قصة نشأة حدائق قصر فرساي التي استغرق إنشاؤها قرابة نصف قرن (بدأت منذ 1600 حتى سنة 1645)؛ إذ استعان الملك لويس الرابع عشر في إنشائها بأشهر عائلة ضالعة في هذا الفن، تنتمي إلى أندريه لو نوتر André Le Nôtre، وهي عائلة قد استدعاها الملك لإنشاء حدائق القصر بحيث تعبر عن مفهوم المَلِك الذي يجسد إله الشمس في الأساطير اليونانية وما قبلها، من خلال التماثيل اليونانية المعبرة، والمساحات الشاسعة التي تعبر عن النفوذ الواسع للمَلِك: الحديقة تمتد على مساحة 2000 فدان، وتشتمل على 200000 شجرة، وحوالي 210000 زهرة، و50 نافورة مياه، تستهلك حوالي 3600 متر مكعب من المياه في الساعة في فترة «التشغيل السنوي للنوافير بكامل طاقتها». ولقد كانت المياه جزءًا أساسيًا في التصميم الأصلي شأنها شأن الأشجار والنباتات؛ وكان للنوافير والجداول المائية تصميمها الخاص، وقد صممت فوهاتها وتم توجيهها بحيث تخلق تأثيرًا انطباعيًا نحتيًّا قويًا. وأحيانًا كان ربابنة الجنادل والمراكب يتم استئجارهم بزيهم الرسمي كي يجدفون في مياه الجندول الكبير، بينما الموسيقيون يعزفون على الشاطئ.

إن الإيهامات الكلاسيكية الموجودة في كل مكان من فرساي تتطلب مشاهد مثقفًا، كيما يستطيع أن يتذوقها. فحديقة فرساي مثل قصرها كانت تقوم بوظيفة اجتماعية وسياسية وثقافية أثناء فترة الملكية المطلقة. فالحديقة كانت تشير إلى سيادة الملك، ومشاهدها البانورامية تومئ إلى أن مُلك المَلِك يمتد بقدر ما يمكن أن يصل إليه امتداد البصر (بل أبعد مما يمكن أن يمتد إليه). ولكن هناك أيضًا حساسية جمالية تمارس تأثيرها في ذلك التركيب للحديقة المعقد في نظامه الهندسي (انظر تفصيل ذلك في ترجمتنا لكتاب سينثيا فريلاند بعنوان «نظرية الفن: مقدمة موجزة»).

حقًّا إن فن تنسيق الحدائق لم يكن يُنظَر إليه باعتباره فنًا ساميًا، فقد جاء في أدنى الدرجات في سُلم تصنيف الفنون لدى هيجل (الذي وضع الشعر في أعلاه) ولدى شوبنهاور (الذي وضع الموسيقى في أعلاه)، ومع ذلك فقد ظل هذا الفن جزءًا من تصنيف الفنون في العصر الحديث؛ بل إن كانط نفسه -من قبل هيجل وشوبنهاور- قد نظر إلى هذا الفن باعتباره نوعًا من التصوير الذي يقوم على «التلاعب الحر بالخيال»؛ ولهذا فإنه أيضًا قد وضع هذا الفن ضمن تصنيفه للفنون الجميلة. ومع ذلك، فإن علم الجمال المعاصر لم يعد يأخذ بالتصنيفات التقليدية للفنون الجميلة التي يتم فيها ترتيب الفنون ترتيبًا هرميًّا، وأصبح يميل إلى تصنيف الفنون تصنيفًا أفقيًّا بحيث تتداخل بعضها مع بعض من خلال علاقات عديدة.

وفضلًا عن ذلك، فإن الرؤية الجمالية لفن الحدائق قد اختلفت أيضًا عما كانت عليه في الماضي كما في نموذج حدائق فرساي، فهناك نماذج أخرى من هذا الفن يبدو فيها التفاعل بين الإنسان والطبيعة بدلًا من تأكيد سطوة الإنسان (أو الفرد/الملك) على الطبيعة. يتبدى لنا هذا في حديقة الزن اليابانية Zen garden التي تبدو طبيعية تمامًا بما تنطوي عليه من أشجار وصخور وممرات ملتوية وبحيرات وشلالات ونباتات طحلبية تنمو بشكل تلقائي، وهي بذلك تؤكد على الصلة الحميمة بين الشخص والطبيعة، خاصة حينما يستمتع داخل الحديقة بحفل شاي بوذي أو بفن انتقاء الزهور.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: هذا الفن من خلال تصنیف ا

إقرأ أيضاً:

ما العامل الحقيقي الذي حقق به ترامب صفقة غزة؟

ترجمة: أحمد شافعي

كثرت الإشادات بدبلوماسية الرئيس ترامب في وساطته لإبرام اتفاق وقف إطلاق النار في غزة وتركز أغلبها على كيفية إقناعه بنيامين نتنياهو بقبول الاتفاق. فافترض كثيرون أن الرئيس ترامب هدد بسحب الولايات المتحدة لدعمها من إسرائيل أو أنه ضغط على رئيس الوزراء الإسرائيلي بطريقة أخرى من أجل التسليم.

لكن نجاح الرئيس ترامب له تفسير آخر أكثر إقناعا. فبعيدا عن محض تهديد نتنياهو بعواقب الأمور، جاء تدخل الرئيس الأمريكي أساسا بإعطاء شريان حياة سياسي لرئيس الوزراء الإسرائيلي ذي الشعبية الضئيلة بشدة. فكان سر نجاح الرئيس ترامب مع نتنياهو يكمن في عرضه جزرات في السياسة الداخلية، لا عصيًا في السياسة الخارجية.

ثمة عوامل خارجية مهمة بطبيعة الحال هي التي وضعت الأساس للاتفاق. فقد انتهت إسرائيل وحماس كلتاهما أخيرا إلى أن استمرار الحرب طرح خاسر. فبالنسبة لحماس، كانت عمليات إسرائيل على مدار العام الماضي مهلكة؛ إذ تعثرت قدرة الحركة على المناورة وإعادة تزويد نفسها بالإمدادات، وانقطعت مصادر تمويلها، فضلا عن القضاء على كبار قادتها، وخارج غزة، ضعف أنصار حماس في محور المقاومة أيضا بسبب غارات إسرائيل على لبنان وسوريا واليمن وإيران نفسها، ووجدت حماس نفسها معزولة في المنطقة ورأت شعبيتها ماضية في التراجع داخل غزة.

وبالنسبة لإسرائيل، بلغت الحرب نقطة القشة التي تقصم ظهر البعير. فلم تعد مكاسبها من العمليات العسكرية تغلب انهيار مكانة إسرائيل الدولية، وتآكل الدعم الأمريكي من الحزبين بسبب وفيات المدنيين في غزة أو الضغط على الجيش الإسرائيلي المنهك بسبب الحرب. وجاءت مرحلة الحرب الجديدة التي أعلنها نتنياهو في الصيف ـ وسعت منها إسرائيل إلى السيطرة على أغلب قطاع غزة وإخلاء شمال غزة مرة أخرى من حماس ـ فألزمت القوات الإسرائيلية باستنزاف لا يمكن احتماله للذخيرة والقوة البشرية.

وكانت الضربة التي نفذتها إسرائيل في وضح النهار لقادة حماس السياسيين في الدوحة لتمثل فرجة هي الأخرى. فقد كان غضب العالم الإسلامي المتصاعد منذ عامين بسبب آلام غزة يفرض بالفعل ضغطا على القادة في أرجاء الشرق الأوسط. وكان الكثير يناصرون سرا تفكيك حماس لكنهم ما كانوا ليخاطروا بردة فعل محلية إذا ما ظهر أنهم يدعمون حملة إسرائيل العسكرية. ثم جاءت ضربة إسرائيل للدوحة فجلبت الحرب عليهم، مهددة بإلغاء العقود غير المكتوبة بين الحكم والمحكومين. وأصغى ترامب لقادة دول الخليج المستائين، فاستغلوا ذلك.

يمضي بنا هذا إلى دور الرئيس ترامب الذي لم ينصب إسهامه المهم على الضغط على نتنياهو بقدر ما غاص عميقا في مستنقعه السياسي. لم يتردد الرئيس بايدن قط في دعمه لحملة إسرائيل الرامية إلى تفكيك حماس بعد أهوال السابع من أكتوبر. لكن فريق الرئيس بايدن مارس أيضا ضغوطا ـ من قبيل منع ذخائر معينة والشجب العلني لبعض جرائم الحرب الإسرائيلية ـ ليدفع إسرائيل إلى حماية المدنيين وزيادة المساعدات الإنسانية. وعندما رجع الرئيس ترامب إلى السلطة، أنهى أي حالة من الوضوح مع نتنياهو بشأن غزة. فلم يعترض الرئيس ترامب حينما أوقفت إسرائيل جميع المساعدات الإنسانية لغزة في مارس. ولم يهدد بسحب الدعم الأمريكي، برغم مؤشرات تنذر بمجاعة في قطاع غزة وتكاثر التقارير عن وفيات المدنيين.

افترض كثير من المحللين أن نتنياهو ـ المعرض للضغط من ائتلافه اليميني المتطرف ـ لن يقبل أي إنهاء للحرب دونما استسلام تام من حماس. فأي تسوية تستطيع بها حماس إعادة تأكيد وجودها قد تؤدي إلى انتخابات مبكرة في إسرائيل، وتكلف نتنياهو رئاسة الوزراء وتنزع عنه أسلحته في مواجهة محاكماته في قضايا الفساد.

ونقض الرئيس ترامب هذا السيناريو. فقد أغدق الرئيس الأمريكي الثناء على نظيره، موفرًا له الحماية السياسية الناجمة عن شعبية الرئيس ترامب الطاغية في إسرائيل. وفي المقابل، وافق نتنياهو على مقترح الرئيس ترامب بإطلاق سراح الرهائن والسماح لحماس بالنجاة في الوقت الراهن.

وفي يونيو، ظهرت بادرة مبكرة لهذا التدخل السافر في السياسة الداخلية الإسرائيلية، حينما نشر ترامب على موقع «تروث سوشيال» منشورًا عن اتهامات الفساد التي يواجهها نتنياهو واصفًا إياها بأنها «مطاردة ساحرات سياسية» وداعيًا إلى إلغاء هذه المحاكمات. وبعد أسابيع، في خطوة غير معهودة إلى حد كبير، حضر السفير الأمريكي لدى إسرائيل مايك هوكابي إحدى جلسات محاكمة نتنياهو.

وبعد الفتح الذي تم الأسبوع الماضي، جلس مبعوث ترامب الخاص ستيف ويتكوف وصهره جاريد كوشنر عن يمين نتنياهو وشماله في اجتماع بمجلس الوزراء الإسرائيلي، منخرطين انخراطًا مباشرًا في جدال داخلي حول الموافقة على اتفاقية وقف إطلاق النار. ومضى ويتكوف وكوشنر إلى الثناء على نتنياهو في مسيرة بميدان الرهائن بتل أبيب، برغم صيحات الاستهجان من الجموع المشاركة. وأخيرا، وفي الواقعة الأشد غرابة، توقف الرئيس ترامب خلال خطبة الانتصار التي ألقاها أمام الكينيست الإسرائيلي وحث الرئيس الإسرائيلي إسحق هرتزوج على العفو عن رئيس الوزراء في اتهامات الفساد الجاري محاكمته بسببها.

هذا هو العامل الحقيقي الذي استعمله ترامب في اتفاق غزة: الضغط بالإبهام الرئاسي على ميزان العملية الانتخابية والقانونية في إسرائيل.

وثمن المنجز الذي تحقق اليوم سوف يكون السبب في الاضطراب غدا. فمن أجل الحفاظ على دعم القادة العرب والمسلمين لاتفاق وقف إطلاق النار، سوف تحتاج إسرائيل إلى ضبط النفس حينما تواجه مقاومة حماس الحتمية لنزع السلاح. لقد تحدت حماس وقف إطلاق النار في غضون ثمان وأربعين ساعة فقط من إبرامه بإطلاق النار على مقربة من خط الانسحاب الإسرائيلي بما جعل الجيش الأمريكي يصدر تحذيرًا مقتضبًا.

سيكون الواقع الجهم متزايد القسوة على نتنياهو خلال موسم الحملة الانتخابية القادم إذ يستمر الهجوم عليه لقبوله الاتفاق الذي يبقى حماس في موضعها. وقد يستدرج الرئيس ترامب إلى موضع أعمق في السياسة الإسرائيلية في ظل سعيه إلى حماية نتنياهو من حصار اليمين في مجلسه الوزاري ويمنع انهيار وقف إطلاق النار الهش.

كل هذا يجعل السلام مضطربا. فالرئيس ترامب يربط الولايات المتحدة بزعيم ضئيل الشعبية قاوم حتى الآن أي محاسبة له على دوره في كارثة السابع من أكتوبر وعواقبها. ويبدو أن نجاة نتنياهو السياسية الآن تعتمد على الرئيس ترامب شخصيا برغم الشكوك المتزايدة من اليمين واليسار الأمريكيين في دعم الولايات المتحدة لإسرائيل. وفي الوقت الذي يمضي فيه كلا البلدين إلى انتخابات تشريعية تشهد الكثير من المنافسة والاستقطاب والضراوة في العام القادم، فقد يجد الرئيس ترامب عما قريب أن اللعب في سياسات غيره أمر محفوف بالخطر.

دانا سترول مديرة الأبحاث في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى ونائبة مساعد وزير الدفاع الأمريكي السابقة لشؤون الشرق الأوسط.

الترجمة عن نيويورك تايمز

مقالات مشابهة

  • القانون الذي لا يشيخ.. المفصولون السياسيون يعودون جيلاً بعد جيل
  • هل يحارب البروكلي الأمراض المزمنة ويعزز الجمال؟
  • المهندس أسامة نصار… قلب طنطا الذي ينبض في دبي
  • “الغماري” الفريق الركن الذي وفى
  • ما العامل الحقيقي الذي حقق به ترامب صفقة غزة؟
  • جرحُ العمر.. عن الموت الذي يهزّ النفس والجسد
  • زيت السمسم.. سر الجمال الطبيعي لبشرة ناعمة وشعر قوي
  • استعادة رونق القاهرة التراثية
  • حمام دافئ وملح إبسوم القديم.. وصفة العافية التي لا تبطل
  • في ذكرى رحيله.. يوسف وهبي أيقونة الفن العربي وصوت المسرح الذي لا ينضب