عن الشوكولاتة وأشياء أخرى
تاريخ النشر: 12th, September 2023 GMT
رواية كالماء للشوكولاتة أو الغليان وفق عنوانها الأصلي للروائية المكسيكية: لورا سكيبيل هي عمل أدبي أخاذ فيما يخص تلاقي السحري مع الواقعي وفي قدرة الكاتبة الفنية على اختيار ثيمة لافتة في ثقافة بلدها ومزجها مع مكونات السرد الأخرى لاعبة ببراعة هنا أيضا على دمج عالمين حسي واقعي وآخر أسطوري وغرائبي وهي ثيمة الطعام.
عام 2010 أدرجت منظمة اليونسكو المطبخ المكسيكي ضمن التراث العالمي غير المحسوس. تاريخ الطعام في المكسيك ضارب في القدم وتوالي الحضارات والثقافات المتباعدة في أصولها والمختلفة جدا في تكوينها على المكسيك أغنى مآدب الطعام ونكهات الأكل وتقنيات الطبخ. فلا عجب أن ارتبط الطعام لديهم بكثير من الطقوس والعادات فمن حضارة المايا والأزتك لتأثير الإسبان (وضمنا المطبخ الأندلسي) والثقافة الأوروبية وليس انتهاء بتأثير القارة الأفريقية.
هذا الخليط العجيب من الثقافات بتفضيلاتها الغذائية وتوابلها ومكونات الطعام فيها وتقنيات الطبخ التي حوت التأثير القديم لحضارات السكان الأصليين والمهاجرين ورفه النمط الأوروبي (المتغطرس ربما) ومرح وبهجة (الكاريبي) ممتزجة بمناخ وعادات وبيئة المكسيك جعل من هذا الطعام روايات بحد ذاتها.
انتقت الروائية بعناية ثيمة الطبخ لتنسج بها وحولها صراع التقاليد والرغبات والقيم وتلم حولها شخوص حكاياتها بعلاقاتهم الشائكة والشائنة في كثير من الأحيان ووجع بعض البشر في رحلتهم الإنسانية وهم يعبرون هذه الدنيا بمشقة فرضتها عليهم ظروفهم المحيطة وتراهم يحاولون جاهدين أن يجدوا سبيلا أكثر راحة ولكن ليس دون تكلفة باهظة ودون قلق وأذية وأخطاء.
كانت وصفات الطبخ الدقيقة مقدمة لكل باب من أبواب الرواية ومتداخلة مع كل حدث محوري فيها لتشعرك أن الطعام جزء من ثقافة المكان وصيرورة الحياة فيه، فأنت كما تريد أن تستشعر مكان الرواية والبنية الحضارية لمحيط الأحداث ومناخات السرد، أين تتكون الحكاية ويتصاعد إيقاعها، من هم هؤلاء الشخوص، تجد نفسك لا شعوريا تريد أن تعرف ماذا يأكلون! العجيب أنه في لحظة ما تود حقا أن تجرب هذا الطبق أو لو أنه يمكن أن يخرج من الصفحات إلى مائدتك.
نجحت لورا في روايتها من أن تجعل الطعام يتفاعل مع أحداث الرواية. فهو ليس ديكورا هامشيا تضعه ليزين الحكي أو لتتأكد فقط من واقعية ما يحدث بتضليلك فربما وفق ما توقع خيالها الروائي أنه بإضافتها مكونا تعرفه في حياتك وهو الطعام. تقنعك في لحظة التخيل أنك أمام حدث واقعي لا محالة ولا بد من أن هذه الحكاية قد حدثت في زمان ما، فأنت تأكل مع هؤلاء البشر ما الذي يمكن أن يكون محسوسا أكثر من ذلك!. هي تذهب لما هو أبعد بأن جعلت الطعام جزءا من الأحداث فبطلة الرواية ولدت على مائدة المطبخ لأسباب تراجيدية ولم تتغذ على حليب أمها بل تغذت على يد طباخة المنزل من المطبخ وانغمست في الطعوم والروائح مبكرا، وكان هذا الانفصال العاطفي عن أمها مبكرا يقابله انتماء كامل لعالم الطبخ الذي احترفته. وكانت ذكية في إقناع القارئ بصدقية الرواية للحد الذي بدا فيه التحول اللامنطقي للأحداث مفهوما ولم يكسر ذلك الخيال الجامح واقعيتها تماما. فالأسطورة كما هو الطعام جزء من ثقافة المكسيك. والسحرية التي تؤول إليها الأحداث ليست غريبة عن أجواء الحكي ومكانه وبالتالي لا يمكن أن تفهم منطقية الحدث في بلاد الأساطير دون غرائبية ما، فالدموع يمكن أن تفيض وتتبخر وهذا في أول أسطر الرواية وأنت تشهد البداية بولادة بطلة النص ولا تقف مستغربا ويتبعك هذا الإحساس المتقبل لخيال ينسج نسجا في الواقعية فيتصل بها اتصالا محكما يفرض عليك صدقيته. مكون ضروري لرواية كهذا مثلما يمكن أن تضيف أحد المنكهات النادرة بقدر ما.
بل إن وصفة الطعام أشبه بالحياة نفسها. حتى لا تفسد الطبخة وتفسد كل ما حولها وجب أن تتبع الوصفة بدقة. تصف الروائية مكونات الطبخة قبل أن تشرع في سرد الأحداث وضمنيا يجب أن تتبع القوانين في عالم الطبخ كأن تضبط درجة حرارة الموقد ومدة الطبخ بما يضمن النتيجة المثالية متى ما حدث تغيير حاد: غير مألوف أو غير مرغوب لا يمكن أن يخرب الطعم والنكهة فقط بل إن النتيجة ستكون كارثية. قد تحترق الوجبة بالكامل أو تؤذي كل من يتصل بها كما حدث لأبطال الرواية الذين خالفوا العادات والقيم وأخلاقيات المجتمع في كل مرة يرتفع إيقاع المخالفة تعلو وتيرة الارتداد وشدته حتى وصلت للنهاية الكارثية والاحتراق الأخير. وكلما كانت بين الأحداث فرصة للاتزان والتعايش هدأت موازين القوى تماما كما تتزن مقادير وصفة الطبخ وتمر لحظة الأكل/ العيش بسلام.
رواية الغليان ليست الوحيدة بالطبع في استلهام ثيمة الطعام كمادة للحكي. وربما كان للأدب اللاتيني حظ الوفرة في الافتتان بالمطبخ في نصوصه الروائية. وإذا فصلنا موضوع القص والأحداث جانبا فالروايات غالبا تمنحك معرفة خارج مادة الحكاية نفسها، أنت تعرف شيئا قليلا عن الحضارة والتاريخ والتقاليد، وهنا أن تعرف شيئا عن الطبخ: عن طيور السمان بصلصة الورد مثلا. وعن تسمين الديوك الرومية بعدد محدد من حبات الجوز.
يعد الطهي ثيمة ثقافية تم تناولها بكثافة في الأدب والفن. ولعل العرب من أوائل من كتبوا فيه إذ يرجع تاريخ أول كتاب للطبخ العربي للقرن العاشر لصاحبه ابن سيار الوراق وهو يعد توثيقا لفن الطبخ وآداب الطعام في تلك الفترة. وهناك أيضا كتاب الوصلة إلى الحبيب في وصف الطيبات والطيب ألفه ابن العديم الذي عاش في دمشق. وغيرها من الكتب التي توالت في مختلف الحقب الحضارية الإسلامية. قيمة مثل هذه الكتب أنها تقدم لنا صورة عن جزئية في ثقافة الشعوب آنذاك لم تكن لتصل إلينا لولاها. الطهي وأطباق الموائد وعاداتها ليست فقط أطايب ومادة للإشباع بل هي أسلوب حياة. فهي تسرد عادات الأكل وتوضح لنا المأكولات وتقنياتها وما هي أهم المواد التي يتم استهلاكها وتشير بشكل ما إلى العلاقات التجارية والصلات الثقافية ببلدان أخرى ومكامن التأثير والتأثر فمثلا كتاب الوصلة للحبيب (يستحق العنوان بذاته تحليلا) لم يقدم أية مأكولات تحتوي على الطماطم لأنها لم تكن معروفة في سورية في ذلك الوقت (وأظن أنها لم تكن معروفة في العالم المستكشف وقتها إذ إنها وصلت بداية إلى أوروبا عن طريق المستكشفين إلى أمريكا اللاتينية ووجدت طريقها للأطباق الراقية بعد فترة طويلة جدا من التردد والتجريب). ومن الجميل أن نعرف أن بعض الحلويات التي نتناولها اليوم تناولها على موائدهم أسلافنا في العصر العباسي كلقمة القاضي، واحتوى الكتاب على أبواب عجيبة من مثل ذكره للطيب والبخور والمسك والعنبر وباب في (تصعيد المياه وتطييب رائحة الفم) واصفا الطرق الجميلة لتعطير الماء الذي يستخدم في غسل اليدين أو تعطير الفم آخذا ومقتبسا من مؤلفين سابقين مبتدأ حديثه ذاك بالتعطير بالورد بأنواعه رطبا طريا ومجففا وألوانه أحمر وأبيض وأزرق.
( أي متعة ! ). الطهي كذلك بالإضافة للنشر المتخصص فيه مادة للتصوير التلفزيوني والسينمائي روائيا ووثائقيا. ولوحظ ارتفاع عدد البرامج التلفزيونية والقنوات المتخصصة في الطبخ وذلك لجماهيريتها العالية وما تحققه من نسب إعلانات مرتفعة لا نختلف كثيرا في ذلك في عالمنا العربي فهي في تزايد، ولعل أولها قناة فتافيت التي بدأت بثها عام 2006 واكتسبت جماهيرية عالية. من نماذج برامج المسابقات الناجحة والمعروفة لدينا في العالم العربي والتي أصبحت لها نسخ في بلدان عدة برنامج الطبخ المعروف: ماستر شيف والذي يعتبره البعض حالة من حالات التأثير والهيمنة الثقافية كحال برامج الواقع التي يكون القالب فيها غربيا والمحتوى محليا، بحيث إن لم تؤد للتغريب الكلي فهي على الأقل تنتج هوية مدمجة أو مركبة. وبرامج جوردن رمزي التي تنوعت بين برامج الواقع تلك المغرقة في الدراما والتشويق مثل hell’s kitchen وبين تلك البرامج الوثائقية التي تقترب من ثقافات الشعوب الأخرى وتربط الطبخ بعادات ومناخ البلدان التي يزورها مثل أسرار الطعام. يذكر في نفس السياق برنامج cooked لمايك بولان ومن الأفلام الوثائقية فيلم spinning plate وفيلم Jiro Dreams of Sushi الذي يتتبع رحلة الشيف الياباني جير وولعه بإتقان فن السوشي حد الكمال، وهنالك أفلام وثائقية اتخذت خطا تحقيقيا لتبحث في صناعة الأطعمة حاليا والحروب والتنافس بينها وحقيقة قيمتها الغذائية لعل من أشهرها فيلم supersize me عام 2004 الذي قام فيه مخرج الفيلم بتطبيق التجربة على نفسه، إذ عمد إلى تناول وجبات مكدونالدز لمدة شهر كامل حتى يبين نتائج مثل هذه العادات الغذائية! الأمر الذي فتح نقاشا تعدى مادة الفيلم والنتيجة التي خلص إليها للجدل حول الآلية التي صنع بها. إذن لا تقدم هذه البرامج توثيقا ومعرفة ولحظات شهية فقط، فالبحوث العلمية تشير إلى أن برامج الطهي والشبكات والقنوات التلفزيونية المتخصصة فيه تؤسس لثقافة ومتعة طعام جديدة وتسهم في خلق أنماط استهلاكية وأساليب تسويق بل ومنتجات غذائية جديدة وأنها في كثير من الأحيان تكون شكلا من أشكال القوة الناعمة.وثائقيات وبرامج الطعام عموما صناعة يلتقي فيها الاقتصاد بالمتعة والمعرفة والهويات الثقافية والسياسة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: یمکن أن
إقرأ أيضاً:
الاستقلال أو الفناء.. هل يمكن لأوروبا مواجهة ترامب؟
من المؤكد أن مشهد جدال الرئيس الأميركي ترامب ورئيس أوكرانيا فولوديمير زيلنسكي كان حدثا دبلوماسيا نادرا وصادما، حيث جرت العادة أن يخرج الزعماء بمشاهد الابتسامات والمصافحات الودودة أمام الكاميرات، فيما تجري المفاوضات والمناقشات الصعبة خلف الكواليس. لكن يبدو أن إدارة ترامب استحدثت بروتوكولا خاصا لضيوفه يعمد خلاله إلى استعراض نفوذه والضغط عليهم أمام الشاشات سعيا لانتزاع تنازلات بعينها.
لكن زيلنسكي لم يكن يمثل نفسه، أو حتى أوكرانيا فحسب، لكنه كان ممثلا للتحالف الأطلسي بين الولايات المتحدة وشركائها الأوروبيين والتي كانت أوكرانيا ميدان عمله الرئيسي خلال السنوات الثلاثة الفائتة. لذلك فإن سلوك ترامب وإدارته في ذلك اليوم كان أشبه برسالة ضمنية إلى الأوروبيين حول الطبيعة الجديدة للتحالف الأطلسي.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2يربك العالم بأفكاره عن الجغرافيا.. كيف يفكر ترامب "جيوسياسيا"؟list 2 of 2ميرتس.. "ترامب ألمانيا" الذي تُعوّل عليه أوروبا لمواجهة "ترامب أميركا"end of listلقد ألقى ترامب قنبلة في الملعب الأوروبي مطالبًا دول القارة ضمنيا إما الاستسلام لعرضه للتسوية في أوكرانيا وقبول أن تصبح أوروبا بأسرها مجرد تابع للعم سام، أو تحمل المسؤولية والتصدي لبوتين ونشر قوات أوروبية على الأراضي الأوكرانية كبداية، والاستعداد لتخلي أميركا عن التزاماتها الأوروبية في النهاية.
وهنا تحديدا تظهر الأسئلة الكبيرة: هل تكون هذه بداية النهاية للتحالف الاستراتيجي الأوروبي الأميركي الذي ترسخ بعد نهاية الحرب العالمية الثانية؟ وإذا انهار هذا التحالف هل تستطيع أوروبا الصمود وحدها الصمود في مواجهة الخصوم المتربصين وفي مقدمتهم روسيا التي لا تخفي نواياها لقضم المزيد من أراضي أوروبا؟ وعلى المدى الأقصر، هل تستطيع الدول الأوروبية الآن الاستمرار في دعم أوكرانيا في حربها ضد روسيا بدون الولايات المتحدة التي تحملت الحصة الأكبر من ذلك الدعم خلال السنوات الثلاثة الماضية؟
إعلانتستكشف السطور التالية السيناريوهات المحتملة لتلك الأسئلة المفخخة
السيناريو الأول: أوروبا لن تتوقف عن القتال
يفترض هذا السيناريو أن أوروبا لن تتوقف عن القتال حتى لو قررت أميركا الانسحاب والتخلي عنها، لأن البديل هو ببساطة السماح لروسيا بالمزيد من التوسع في الأراضي الأوروبية.
وساعتها سوف تكون أوكرانيا فقط الضحية الأولى التي ستبتلعها موسكو تماما وتستعين بمواردها لشحذ آلتها الحربية استعدادا للخطوات القادمة كما فعلت خلال الحقبة السوفياتية، وبعدها سيأتي دور بولندا ودول أوروبا الشرقية، التي كان بعضها سابقًا جزءًا من الاتحاد السوفياتي أو من عمقه الإستراتيجي والتي ستكون معرضة لمواجهة نفس المصير مع تخلي أميركا نهائيا عن التزاماتها الأمنية اتجاه القارة العجوز.
وحتى تستمر أوروبا في القتال عليها أن تتبنى بشكل حاسم عددا من السياسات غير المعتادة من بينها: مصادرة الأصول الروسية المجمدة في البنوك الأوروبية، بذريعة التعويض عن الأضرار التي سببتها روسيا خلال الحرب، واستخدامها في دعم الصناعات الدفاعية في أوكرانيا وأوروبا، وزيادة إنفاقها الدفاعي إلى ما يعادل 3% من ناتجها المحلي الإجمالي، إذا لم تكن قد فعلت ذلك بالفعل، وأن تضع خططًا لرفعه إلى 5% في غضون السنوات الثلاث المقبلة، وأن تنشئ بنكًا حكوميًّا لإعادة التسلح.
مع العمل في الوقت نفسه على زيادة إنتاجها من الأسلحة النووية، وفق المقترحات التي طرحها جارفان والش، المستشار السابق للسياسة الأمنية الوطنية والدولية لحزب المحافظين البريطاني.
يرى والش أن فرنسا وبريطانيا تمتلكان الأسلحة والتكنولوجيا اللازمة، ولكنهما لا تستطيعان تحمل تكاليف التوسعة اللازمة للترسانة العسكرية الأوروبية، ولذا فإنه يتعين على الدول الأوروبية الأخرى أن تساعد في دفع التكاليف.
إعلانعلى سبيل المثال، طالب والش السويد بأن ترسل إلى أوكرانيا كل طائراتها المقاتلة من طراز "جريبن" التي يبلغ عددها نحو مئة طائرة، والتي تتسم بمتطلبات صيانة منخفضة مقارنة بمتطلبات طائرات "إف-16" الأميركية، كما طالب النرويج بأن تستخدم الأرباح الإضافية التي حققها صندوقها النفطي من ارتفاع أسعار الطاقة بسبب الحرب، لتمويل المجهود الحربي.
وكذلك، ناشد والش المملكة المتحدة أن تُعيد فتح مصانع إنتاج قذائف المدفعية، وأن تقوم بتوسيع منظمة التعاون المشترك في مجال التسلح، التي تضم المملكة المتحدة وعدة دول من الاتحاد الأوروبي، وأن تحسم الإدارة الجديدة في ألمانيا، حجم المشاركة الألمانية في الالتزامات الأوروبية المشتركة.
وتندرج هذه الإجراءات المقترحة وغيرها ضمن حزمة استعدادات للدفاع عن أوروبا في حال انشغال الولايات المتحدة بصراع في آسيا أو تخليها عن التزامها الأوروبي، وهو ما يتطلب إجراء تغييرات هيكلية في العقيدة العسكرية الأوروبية وآليات القيادة والسيطرة وإدارة اللوجستيات المشتركة.
لكن هل ستكون هذه الإجراءات أو غيرها من الإجراءات المقترحة كافية لتوفير الأمن لأوروبا في زمن الغياب الأميركي؟
تشير دراسة أعدها معهد "بروغل للأبحاث" في بروكسل، ومعهد "كيل للاقتصاد العالمي" في ألمانيا، إلى أن أوروبا يتعين عليها إنفاق ما بين 260 و270 مليار دولار سنويًّا في استثمارات دفاعية لتأمين نفسها دون دعم من الولايات المتحدة، وهو ما يعادل 1.5 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي.
يعد هذا القدر من الإنفاق، على سعته، ممكنا حتى في ضوء الإمكانات الأوروبية الحالية. وإذا ضيقنا الإطار إلى أوكرانيا وحدها، فسيتضح أن حجم الإنفاق الأميركي على الحرب (بصرف النظر عن مبالغات الإدارة الأمريكية) يظل قابلا للاستبدال. فمنذ فبراير/شباط 2022، بلغ الدعم العسكري الأميركي لأوكرانيا 70 مليار دولار، في حين أرسلت أوروبا، ومنها المملكة المتحدة، نحو 68 مليار دولار.
إعلانوفي عام 2024، بلغ الدعم العسكري الأميركي نحو 23 مليار دولار من إجمالي نحو 48 مليار دولار، وبالتالي، ولكي يحل الاتحاد الأوروبي محل الولايات المتحدة، سيتعين عليه إنفاق 0.12٪ أخرى فقط من ناتجه المحلي الإجمالي على المجهود الحربي.
لكن الشيطان يكمن في التفاصيل كما يحدث دائما. وترجح الدراسة المشار إليها أن أوروبا سوف يتعين عليها إنفاق ما يعادل 4% من الناتج المحلي الإجمالي سنويا على الدفاع، وأن نصف المبلغ يمكن تمويله عبر ديون أوروبية مشتركة واستخدامه في مشتريات جماعية، كما يمكن تخصيص النصف الآخر عبر ميزانيات الدول.
لكن إذا حاولنا تطبيق هذا الالتزام على دولة بعينها مثل ألمانيا، صاحبة الاقتصاد الأكبر في أوروبا، فسنجد أن برلين يتعين عليها زيادة إنفاقها الدفاعي من 85 مليار دولار إلى نحو 150 مليار دولار للوصول إلى نسبة 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو أمر سيكون محفوفا بالكثير من القيود والعقبات.
لكن الإنفاق الدفاعي لن يكون هو معضلة أوروبا الوحيدة. فحتى في حال التوصل إلى اتفاق على وقف إطلاق النار، تشير بعض التقديرات العسكرية إلى أن أوكرانيا سوف تحتاج إلى ما بين 100 و150 ألف جندي أوروبي لردع روسيا بفعالية وفق ما عبر عنه الرئيس الأوكراني زيلينسكي صراحة في تعليقه على اقتراح الرئيس الفرنسي ماكرون إنشاء قوة أوروبية تكون ضمانة للسلام في أوكرانيا.
وبغض النظر عن أن بوتين من غير المرجح أن يقبل بنشر قوات أوروبية في أوكرانيا، فإن الأزمة الحقيقية سوف تظهر حين تقرر روسيا مهاجمة أي دولة أخرى من دول الاتحاد الأوروبي الأعضاء في حلف الناتو.
ووفق الترتيبات الراهنة، فإن جزءا كبيرا من عبء الرد على تلك الخطوة يقع على عاتق 100 ألف جندي أميركي متمركزين في أوروبا، سوف يتم تعزيزهم بسرعة بما يصل إلى 200 ألف جندي أميركي إضافي، مما يعني أن أوروبا سيتعين عليها توفير 300 ألف جندي جاهزين للقتال إذا ما أرادت استبدال الولايات المتحدة، وهو ما يعادل إنشاء 50 لواءً أوروبيا جديدا.
إعلانيمكننا الوقوف على حجم المعضلة إذا علمنا أن ألمانيا لا تزال تكافح للوفاء بتعهدها بتزويد حلف الناتو بفرقتين قوامهما 40 ألف جندي، في حين سيكون عليها توفير قرابة 100 ألف جندي للقوة الأوروبية المفترضة.
وحتى إذا نجحت أوروبا في الوفاء بذلك الالتزام البشري الضخم -وهو أمر محل شك في أدنى الأحوال- فإن القوة القتالية للقوات الأميركية التي يبلغ قوامها 300 ألف جندي ستكون أكثر فاعلية من العدد المماثل من القوات الأوروبية الموزعة على 29 جيشًا وطنيًّا (27 دولة عضو في الاتحاد الأوروبي إضافة إلى بريطانيا والنرويج).
حيث ستأتي القوات الأميركية في وحدات كبيرة ومتماسكة، مع قيادة موحدة وسيطرة أكثر إحكامًا حتى من القيادة المشتركة لحلف شمال الأطلسي، كما ستحظى القوات العسكرية الأميركية بدعم كامل من القدرات الإستراتيجية الأميركية، بما في ذلك الأصول الإستراتيجية من الطيران والفضاء، التي تفتقر إليها الجيوش الأوروبية.
وهكذا فإن أوروبا سيتعين عليها إما زيادة أعداد القوات بشكل كبير بما يزيد على 300 ألف جندي لتعويض الطبيعة المجزأة للجيوش الوطنية (تمتلك دول أوروبا، بما فيها المملكة المتحدة، نحو 1.47 مليون عسكري في الخدمة الفعلية وفق تقديرات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام 2024) أو إيجاد سبل لتعزيز التنسيق العسكري بسرعة، لأن الفشل في التنسيق يعني تكاليف أعلى كثيرًا، إذ لا تبدو القدرات الفردية لأي من الجيوش الأوروبية قادرة على مجاراة الجيش الروسي.
المعضلة التالية تتعلق بتجهيز هذه القوة لمهام القتال الفعلية، وتسليحها بشكل مناسب. وفي هذا السياق تطرح دراسة معهد "بروغل" نموذجًا مصغرًا لتلك التجهيزات المطلوبة، مقدِّرة أنه لمنع أي اختراق روسي سريع في منطقة البلطيق، فإن الأمر يتطلب نحو 1400 دبابة و2000 مركبة قتالية للمشاة و700 قطعة مدفعية.
إعلانوهذه القدرات أكبر من الموجودة حاليًّا لدى القوات البرية الفرنسية والألمانية والإيطالية والبريطانية مجتمعة، هذا بجانب الحاجة إلى تزويد هذه القوات بالذخائر الكافية، ومنها نحو مليون قذيفة من عيار 155 ملم تمثل الحد الأدنى من المخزون اللازم لتغطية 90 يوما من القتال المكثف.
وسوف تحتاج أوروبا أيضا إلى توفير قدرات الطيران والنقل، والصواريخ، والطائرات المسيّرة، والاتصالات، والاستخبارات، وغيرها.
ويتطلب ذلك من أوروبا أن تزيد من إنتاجها الصناعي العسكري لمعالجة القيود المفروضة على إمدادات الأسلحة الأميركية التي تعتمد عليها القارة، حيث يشكل التأخير في إنتاج وتسليم الأنظمة الأميركية مثل طائرات إف-35 المقاتلة، وصواريخ الدفاع الجوي وأنظمة التحكم، والغواصات المجهزة بموجب اتفاقية أوكوس مع أستراليا والمملكة المتحدة، مشكلة محتملة للأمن الأوروبي، خاصة إذا استخدم ترامب هذه الإمدادات وسيلةً للضغط على صناع القرار في القارة العجوز.
وقد استحدثت المفوضية الأوروبية بالفعل منصب مفوض الدفاع، المكلف بتعزيز الإنتاج الدفاعي للدول الأوروبية وخفض الأسعار باستخدام حجم السوق الموحدة للتحالف، وتعزيز ميزانية الدفاع، وإنشاء صندوق أوروبي إضافي يصل إلى 500 مليار دولار لزيادة الإنتاج الصناعي العسكري الأوروبي، وضمان توفير احتياجات الجيوش الأوروبية من الأسلحة الهجومية البعيدة المدى، والدفاعات الجوية، والذخائر الموجهة، والطائرات المسيّرة، وأنظمة الاستخبارات والاتصالات الفضائية.
وكما هو متوقع سوف تكون المحطة الأولى التي يتعين على أوروبا إثبات جدارتها فيها هي أوكرانيا، سواء من خلال دعم المجهود الحربي الأوكراني ضد روسيا ماديا وبشريا بهدف وقف تقدم الروس، أو توفير الضمانات الأمنية اللازمة لردع روسيا ومنع ترامب من إرغام كييف على اتفاق من شأنه تقويض سيادة أوكرانيا وتهديد الأمن الأوروبي بشكل عام.
إعلان السيناريو الثاني: التوجه شرقًا وبناء شراكات مع روسيا والصينكما يتضح، ينطوي سيناريو مواصلة أوروبا القتال دون دعم الولايات المتحدة على الكثير من المخاطر والتحديات، وهو ما يقود إلى عملية إعادة ترتيب سياسي واسعة على المدى الطويل.
في مقال له بمجلة "فورين بوليسي" يطرح كيشور محبوباني، وهو مؤلف كتاب "هل فازت الصين؟ التحدي الصيني للتفوق الأميركي"، ثلاثة مسارات أساسية يجب على الدول الأوروبية التحرك مباشرة نحوها استجابة للتهديد الأميركي في عهد ترامب.
أول هذه المسارات أن تعلن أوروبا عن استعدادها للانسحاب من حلف شمال الأطلسي، لأنه إذا قامت أوروبا بتخصيص ما بين 4 و5% من دخلها القومي للإنفاق العسكري فلن تكون في حاجة إلى الولايات المتحدة التي تتحكم فيها وتوجه سياساتها، لأن 5% من الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة معًا عام 2024 تعادل 1.1 تريليون دولار، وهو ما يتجاوز الإنفاق الدفاعي الأميركي الذي بلغ 824 مليار دولار في عام 2024 بنحو 300 مليار دولار.
ويرى كيشور محبوباني أن التهديد الواضح بالانسحاب من الناتو، والاستقلال الأوروبي عن الولايات المتحدة، كفيل بدفع ترامب للتعامل مع أوروبا باحترام، أما إصرار الأوروبيين على البقاء في حلف شمال الأطلسي بعد تصرفات إدارة ترامب "الاستفزازية" فيُعطي انطباعا للعالم بأنهم "يلعقون الأحذية التي تركلهم في وجوههم".
ويؤكد محبوباني أن من القواعد الأساسية في الجغرافيا السياسية التخطيط ضد أسوأ السيناريوهات، وأنه بعد اندلاع حرب أوكرانيا، كان التفكير الإستراتيجي الأوروبي قائمًا على أفضل سيناريو محتمل وهو يتمثل في أن تكون الولايات المتحدة حليفًا موثوقًا به تمامًا، على الرغم من تجربة ولاية ترامب الأولى وتهديداته بالانسحاب من أكبر تحالف عسكري في العالم.
أما المسار الثاني في إطار هذا السيناريو كما طرحه محبوباني فيشمل السعي إلى صفقة إستراتيجية كبرى جديدة بين أوروبا وروسيا، بحيث يستوعب كل جانب المصالح الأساسية للجانب الآخر وهي دعوة ثورية إلى حد بعيد تناقض أسس التنافس الدولي في حقبة الحرب الباردة وما بعدها.
إعلانوبعد إعادة بناء الثقة الإستراتيجية بين روسيا وأوروبا الجديدة المستقلة إستراتيجيًّا، يرى محبوباني أن أوكرانيا يمكن أن تعمل كجسر بين الاتحاد الأوروبي وروسيا بدلًا من أن تكون نقطة خلاف.
وبعد هذا يأتي المسار الثالث القائم على التوصل إلى اتفاق إستراتيجي جديد مع الصين، في مواجهة الحرب التجارية التي يشنها ترامب ضد الجميع، وحرب التعريفات التي يهدد بها اقتصاديات الجميع. وكما هو واضح، فإن هذا السيناريو يفترض عملية إعادة تنظيم واسعة للنظام الدولي بحيث تتكتل القوى المتباينة على أساس مصلحتها المشتركة في معارضة الهيمنة الأميركية.
غير أن هذا السيناريو يظل غير مرجح إلى حد بعيد، لأنه حتى تلك اللحظة، يظل العداء بين أوروبا وروسيا أكثر تجذرا وترسخا بكثير من الخلافات بين أوروبا والولايات المتحدة، التي يرى الكثير من الأوروبيين أنها مرتبطة بميول ترامب وفريقه وليس بتغيرات جوهرية في مصالح واشنطن وخياراتها السياسية الإستراتيجية.
السيناريو الثالث: التفكك الأوروبي أمام التغول الأميركيفي الوقت الذي يقوم فيه السيناريو الأول على وجود توافق أوروبي، وإمكانية تعزيز القدرات الأوروبية الذاتية في مواجهة احتمالات العدو الروسي، ينظر السيناريو الثالث بعين الاعتبار أكثر إلى التصدعات في البنيان السياسي للقارة الأوروبية، وكون أوروبا غير موحدة، وإلى الانقسام الواضح بين القادة الأوروبيين فيما يخص التعامل مع ترامب وأميركا، الذي يعوق إمكانيات اتحاد أوروبا، ويُعزز من فرص نجاح سياسات ترامب.
ففي مقال نشرته مجلة فورين بوليسي لباحثة السياسة الأوروبية المرموقة كريستي رايك، ميزت الكاتبة بين أربع مجموعات من الدول الأوروبية من حيث علاقاتها مع ترامب، الأولى تضم فئة الزعماء الشعبويين اليمينيين الذين يشاركون ترامب رؤيته للعالم ويقلدون أسلوبه، مثل رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، وبدرجة أقل رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، ورئيس الوزراء السلوفاكي روبرت فيكو، الذين يعتنقون -بدرجات متفاوتة- وجهات نظر "غير ليبرالية" بشأن قضايا الديمقراطية والهجرة والقيم الثقافية، فضلا عن ميلهم إلى الإعجاب بالزعماء الأقوياء الاستبداديين.
لكن من غير المرجح أن يوفر التقارب الأيديولوجي أساسًا متينًا للعلاقة بين ترامب والشعبويين الأوروبيين، ذلك أن السياسة الخارجية لترامب تسعى إلى تحقيق المصلحة الذاتية الأميريكية بشكل واضح، وحتى لو تمكن الشعبويون في أوروبا من انتزاع بعض المكاسب من التعاون مع ترامب، فإن ذلك لن يضمن المصلحة العامة للقارة الأوروبية كما تقول رايك.
إعلانبعد ذلك تأتي المجموعة الثانية، التي تضم بولندا، ودول الشمال الأوروبي، ودول البلطيق، ومعظمها من بين أعلى الدول إنفاقًا على الدفاع في حلف شمال الأطلسي وتبذل جهودًا براغماتية لبناء علاقة فعالة مع الولايات المتحدة، وحرص على تعزيز التعاون الإستراتيجي معها، ولديها رؤية واضحة للأمن.
هذه المجموعة ترى أن الدور الأميركي لا غنى عنه، وأن لا سبيل إلى استبدال الولايات المتحدة مهما بلغ حجم الضغوط التي تمارسها وقدر التنازلات التي تطلبها، خاصة أن هذه الدول هي الأكثر تعرضًا لروسيا والأكثر قلقًا بشأن الإنفاق الأوروبي غير الكافي على الدفاع، وتشعر بخطر أكبر من احتمال العدوان الروسي عليها، وخطر تخلي الولايات المتحدة عن الحلفاء الأوروبيين الذين تنظر إليهم هذه المجموعة على أنهم غير راغبين في تحمل تكاليف أمنهم.
تنطلق هذه المجموعة من فرضية "أنه كلما زاد إنفاقها على الدفاع، زادت احتمالات بقاء الولايات المتحدة في المنطقة والمساعدة في ردع روسيا"، لذا أيدت بولندا وإستونيا وليتوانيا رؤية ترامب حول إنفاق 5٪ من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع، وكانت الدول الاسكندنافية حريصة على تقديم فوائد ملموسة لحليفها الأكبر والأهم، وتراهن هذه الدول كذلك على أن الاهتمام الإستراتيجي لترامب بمنطقة القطب الشمالي بوصفها ساحة للمنافسة بين القوى العظمى قد يساعد في إيجاد مشاريع مفيدة للطرفين.
لذا نجد أن الدنمارك، رغم مناوشاتها مع ترامب بشأن رغبته المعلنة في شراء غرينلاند، رحبت بالتعاون والمزيد من الاستثمارات الأميركية، وتسعى فنلندا، الرائدة في إنتاج كاسحات الجليد، إلى التعاون مع الولايات المتحدة لبناء وصيانة مثل هذه السفن المتخصصة.
كما تبنت أوكرانيا نهجا مماثلا للصفقات المفيدة وتستعد لاتفاق مع ترامب بشأن احتياطياتها الكبيرة من المعادن الحيوية، مثل الليثيوم والغاز الطبيعي والتيتانيوم، ولا تزال تتمسك بذلك رغم التراشق العلني الأخير بين ترامب وزيلنسكي في البيت الأبيض.
إعلانأما المجموعة الثالثة، فتضم ألمانيا وحدها وتدور اهتماماتها حول التأكيد على مبدأ حرمة الحدود وأن ذلك ينطبق على كل بلد، بغض النظر عما إذا كان يقع إلى الشرق أو إلى الغرب، ويتعين على كل دولة أن تلتزم به، بغض النظر عما إذا كانت دولة صغيرة أو دولة قوية.
وهو ما تتعامل معه إدارة ترامب على أنه "موعظة أخلاقية فارغة" خاصة أن ألمانيا رفضت بشكل واضح تولي القيادة في مواجهة روسيا التي انتهكت بعدوانها على أوكرانيا مبدأ "حرمة الحدود" الألماني. وهكذا لا تبدو ألمانيا راضية عن السياسة الأميركية الحالية، لكنها تفتقر إلى الرغبة أو القدرة على تحديها وهو ما تدركه واشنطن بوضوح.
وفي الختام هناك المجموعة الرابعة التي تمثلها فرنسا التي ترى في التوتر الراهن بين ضفتي الأطلسي في ظل إدارة ترامب فرصة لها لتحقيق طموحها بقيادة أوروبا، وتتمتع باريس بسجل طويل من الانتهازية في النظر إلى كل أزمة تواجه أوروبا باعتبارها تبريرًا لأجندتها في الاستقلال الإستراتيجي الأوروبي تحت زعامتها على حساب واشنطن واستخدام الاتحاد الأوروبي وسيلة لتحقيق المصالح الفرنسية.
وتعود تلك النظرة الاستقلالية الفرنسية في جذورها إلى زمان شارل ديغول الذي جمد عضوية بلاده في الناتو متحديا الولايات المتحدة، بيد أن يد باريس اليوم تبدو مغلولة بقدراتها المحدودة مقارنة بزمان ديغول.
يصب هذا الانقسام الأوروبي الواضح في مصلحة أميركا التي تهمين على التحالف الأطلسي مستغلة ضعف حلفائها الأوروبيين. من جانبها، وعلى الرغم من دعوات الاستقلالية التي تقفز إلى الواجهة بين الحين والآخر، تدرك أوروبا أن التحالف مع أميركا لا غنى عنه في الوقت الراهن، بسبب التكاليف الباهظة للاستقلال الأمني الأوروبي من ناحية، وبالنظر إلى أن الاعتماد على الصين أو السماح لروسيا بإعادة تشكيل النظام الأمني في أوروبا ليسا خيارين قابلين للتطبيق الآن.
إعلانوالمحصلة أن الأوروبيين ربما يتعين عليهم تجرع كأس السم في سنوات ترامب، والتمسك ببقاء حلف الناتو وتوسيع هوامش المناورة في انتظار دوران عجلة السياسة الأميركية مجددا بعد أربع سنوات من الآن.
السيناريو الرابع: رضوخ أوكرانيا لترامبيقودنا ذلك إلى السيناريو الرابع الذي لا يمكن استبعاده بحال، وهو قبول أوكرانيا بضغوط ترامب في ظل اقتناع القادة في البلاد بأنه لولا الدعم الأميركي خلال السنوات الثلاث الماضية لما استطاعت كييف الصمود أمام التوغل الروسي في أراضيها.
وقد سعى ترامب وقبله صقور الجمهوريين في الفترة الأخيرة من حكم بايدن إلى نقل هذه الرسالة إلى زيلينسكي ورفاقه من خلال تعطيل طلبات المساعدات الجديدة؛ مما أدى إلى تقويض القوات الأوكرانية ومنح الروس الوقت لإعادة تجميع صفوفهم وتثبيت مواقعهم.
يكرر ترامب السياسة نفسها مجددا بشراسة أكبر في أعقاب الفشل الذريع للقائه الأخير مع زيلينسكي، مقررا تعليق جميع المساعدات العسكرية لأوكرانيا "حتى يبدي قادتها استعدادا للسلام"، وهو ما يضع ضغوطا كبيرة على كييف وأوروبا بأسرها.
وخلف تلك الضغوط، يستغل ترامب أدوات القوة الأميركية للضغط على أوكرانيا وأوروبا اقتصاديا، مطالبا بصفقة للحصول على 50% من ثرواتها المعدنية، وإنشاء صندوق استثماري بين الدولتين تحصل الولايات المتحدة على نصف عائداته دون أن تستثمر فيه سنتا واحدا.
وفي ظل عدم وضوح الرؤية والتردد في المواقف الأوروبية، وعدم قدرة أوكرانيا على الصمود وحدها، يبقى الافتراض الراجح هو عودة زيلينسكي مجددا للتفاوض على "الرضوخ" بشروط محسنة.
يدلّنا ذلك على أن ترامب من المرجح أن يخرج فائزا في معركته مع حلفائه "الضعفاء" على الضفة الشرقية للأطلسي، لكن ذلك لا يعني أن أميركا ليس لديها ما تخسره على المدى الطويل حتى لو فشل ترامب في إدراك ذلك في الوقت الراهن.
إعلانوتعد رؤية ترامب للناتو تحديدا مصدر خطر كبير، وهي تعكس ضعف إيمانه بالتحالفات الإستراتيجية التي صنعت النفوذ الأميركي بعد الحرب العالمية الثانية، ورؤيته لها عبئًا ماليًّا أكثر من كونها أدوات لضمان الهيمنة الأميركية.
فمنذ ولايته الأولى وهو يلوّح بالانسحاب من الحلف الأطلسي، ولا يرى فيه سوى "صفقة غير عادلة"، وأن الولايات المتحدة لم تعد مضطرة إلى الدفاع عن أوروبا على حساب دافعي الضرائب الأميركيين.
لكن منطق الرئيس الأميركي يتجاهل حقيقة أن الناتو ليس مجرد تحالف عسكري، بل أحد أعمدة السيطرة الأميركية على النظام العالمي.
فمنذ تأسيس الناتو، لم يكن الهدف منه فقط مقتصرًا على ردع الاتحاد السوفياتي حتى 1991 ثم روسيا بعد ذلك، بل كان أداة لضمان استمرار الهيمنة الأميركية على أوروبا ومنع أي قوة من منافستها هناك. وهو ما لخصه أول أمين عام للحلف، هاستينغز إسماي، في عبارته الشهيرة حول دور الناتو: "إبقاء الروس في الخارج، والأميركيين في الداخل، والألمان تحت الوصاية".
إن حلف الناتو لم يكن مجرد مظلة عسكرية، بل كان صمام أمان ضد تمرد القوى الأوروبية على السياسات الأميركية، فقد أدى دورًا محوريًّا في منع ألمانيا من تهديد جيرانها مجددًا، عبر دمجها في منظومة أمنية تسيطر عليها الولايات المتحدة، وتقليل احتمالات الصراعات بين الدول الأعضاء؛ مما ساهم في استقرار أوروبا لعقود، ومنع ظهور قوة أوروبية منافسة يمكنها تحدي النفوذ الأميركي، بل واستخدام أوروبا أداة من أدوات السياسة الخارجية الأميركية في العديد من الملفات الإقليمية والدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم.
وفي ضوء هذه الاعتبارات وغيرها ذهب المفكر الأميركي، الذي يعدّ من أهم منظري الواقعية في العلاقات الدولية، ستيفن والت إلى القول إن "معظم الزعماء الأوروبيين، وخاصة أولئك الذين حضروا مؤتمر ميونيخ للأمن في نسخته الـ61 يرون أنه لأول مرة منذ عام 1949 (عام تأسيس حلف الأطلسي)، أصبحت هناك أسباب قوية للاعتقاد بأن ترامب ليس فقط غير مبال بحلف شمال الأطلسي ويتجاهل زعماء أوروبا، بل إنه معادٍ لمعظم الدول الأوروبية، وبدلا من التفكير في دول أوروبا باعتبارها أهم شركاء أميركا، يبدو أن ترامب قد غير موقفه ويرى في روسيا بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين رهانًا أفضل في الأمد البعيد".
إعلانوأضاف والت: "لقد تجاوز ترامب وفريقه الخلافات الطويلة الأمد مع أوروبا حول تقاسم الأعباء، أو الحاجة إلى تقسيم أكثر عقلانية للعمل داخل التحالف، أو إعادة التقييم حول كيفية التعامل مع الحرب في أوكرانيا والعلاقات مع روسيا، وأصبح هدفهم تحويل العلاقات مع حلفاء الولايات المتحدة القدامى بشكل جذري، وإعادة كتابة القواعد العالمية، وإذا أمكن إعادة تشكيل أوروبا".
وإذا كان ما ذهب إليه والت، عن طبيعة ما يفكر فيه ترامب وفريقه، واقعيًّا، فليس أمام أوروبا اليوم إلا الدفاع عن ذاتها، وبناء قدراتها الذاتية بعيدًا عن مسارات الهيمنة الأميركية، أو مواجهة خطر الفناء بين بندقية "العسكري الروسي" .