التغير المناخي يهدِّد بصدمة اقتصادية كبرى
تاريخ النشر: 12th, September 2023 GMT
المسار الذي يُرجَّح أن يتخذه التغير المناخي قياسا إلى أداء العالم الحالي في خفض الانبعاثات اتضح بجلاء مرارا وتكرارا. فالأحداث المناخية المتطرفة مثل موجات الحر غير المسبوقة التي عانت منها مؤخرا بلدان جنوب أوروبا والولايات المتحدة ستتكرر بوتيرة أشد وأكثر تدميرا.
العواقب الاقتصادية والمالية للتغير المناخي واضحة خصوصا مع النقص الفادح حتى الآن في الإنفاق على التكيف مع ما سيحدث.
لن يعود من الممكن القول إن هذه التوقعات غير مؤكدة بشكل قاطع أو إنها لن تحدث قريبا. ففي حالات عديدة هي حتمية الآن حتى إذا تسارعت بشكل جذري سياسات التلطيف منها.
مع ذلك لا توجد أدلة تذكر اليوم على أن تعديلا يحدث في أسعار الأصول (المالية) لعكس هذه التطورات المناخية.
وجد بعض الباحثين علاوات مخاطر (فوائد) أعلى في الدَّين السيادي للبلدان النامية الأكثر هشاشة للتغير المناخي. وهنالك أيضا بعض الأدلة على وجود عائدات أقل (تعكس مخاطر أخف) على أسهم الشركات الأقل تعرضا للتغير المناخي. لكن، إجمالا، لا يبدو أن الأسواق مهتمة بذلك على نحو خاص. والحوار مع بعض كبار المستشارين في المؤسسات المالية الكبرى يفسر جزئيا ذلك.
السؤال: لماذا لا تعكس الأسواق المالية حتى الآن المخاطر المناخية؟
من بين الآراء السائدة في الولايات المتحدة أن التطور التقني السريع سيحل المشكلة وأن عدم اهتمام الأسواق نفسه يؤكد الاعتقاد في هذا الحل.
لكن هذا الرأي يفترض أن الأسواق رشيدة وأنها تراكم المعلومات المتاحة ثم تقوم بتمحيصها. كما يستبعد أيضا تحديات مهولة تقنية ومالية تواجه نشر التقنيات الجديدة بسرعة حول العالم.
هنالك وجهة نظر أخرى وهي أن التغير المناخي معقَّد وغير يقيني أصلا وكذلك آثاره في الاقتصاد الكلي. وفي حين أن هذه الآثار قد تصبح مهمة في الأجلين المتوسط والطويل إلا أن التضخم وارتفاع الدين العام يشكلان الأولوية القصوى اليوم. لكن من الصعب كما يبدو أن يصمد هذا الرأي أمام الأحداث المناخية المتطرفة الحالية بآثارها الاقتصادية الكبرى.
آليات سوق المال يمكن أيضا أن تلعب دورا. إذ ليس من غير المعتاد أن تنحرف أسعار العملات أو الأسهم أو أوراق الدَّين عن قيمتها الأساسية صعودا أو هبوطا. قد يكون هنالك إجماع قوي بأن تصحيحا كبيرا في الأسعار تبرره الأساسيات الاقتصادية. لكن بما أن لا أحد يعلم متى يحدث ذلك بالضبط فإن اتخاذ موقف استثماري على أساس توقع هذا التصحيح يشكل مخاطرة للمستثمرين الأفراد. نتيجة لذلك يستمر التفاوت بين سعر الأصل والتقييم الموضوعي لقيمته الأساسية، وربما يتفاقم.
قد تلعب أنواع أخرى من تفضيل المصالح الضيقة دورا أيضا مع حشد الصناعات المرتكزة على المواد الهيدروكربونية الدعمَ السياسي لتأخير أو إضعاف الإجراءات التي تهدد أنشطتها التقليدية، حتى عندما توجد مبررات حاسمة للتغيير. وهنالك أيضا أدلة قوية على وجود نزعة لدى المستثمرين في التمسك بأنماط ونماذج الاستثمار التي اعتادوا عليها على الرغم من أن البدائل قد تكون مربحة أكثر وبقدر كبير.
من اللافت أن هذه العوامل لا تزال مهمة (في اتخاذ القرارات المالية) رغم كل الجهد الذي بذل لجعل المؤسسات المالية تشعر بالحاجة إلى إدراك وقياس وكشف مخاطر المناخ في محافظها الاستثمارية منذ خطاب مارك كارني الذي سلط الأضواء على هذه القضية في عام 2015 (تحدث مارك كارني محافظ بنك إنجلترا وقتها في خطابه المذكور عن ضرورة فهم وقياس مخاطر التغير المناخي لجعل النظام المالي أكثر مرونة تجاه تأثيراته - المترجم).
مهما كانت أسباب الهدوء ورباطة الجأش الحالية في الأسواق المالية تجاه مخاطر التغير المناخي يبدو أن احتمال حدوث تصحيح حادّ يزداد باطراد. وكلما تأخر هذا التصحيح كان أكثر حدة في الغالب وظهر المزيد من مسبباته المحتملة.
إحدى المسببات المحتملة للصدمة المناخية الاقتصادية المالية أن يبدأ المشرفون على الإجراءات المالية و/ أو المحللون المستقلون في النظر بعين فاحصة وأيضا ناقدة في المخاطر المناخية بالمحافظ الاستثمارية للمؤسسات المالية الكبرى وإجراء اختبارات ضغط (تحمُّل) ترتكز على سيناريوهات مناخية جديدة وأكثر تطرفا لكن أيضا واقعية إلى جانب تطبيق نماذج تنبؤ اقتصادية غير متوازنة.
ومن الممكن أن ترافق ذلك تقديرات مستقلة أكثر تفصيلا (وأكثر تشاؤما إلى حد بعيد) للمخاطر التي تواجه العقارات في المناطق الحضرية الساحلية مثل ميامي وشنغهاي وأمستردام أو في أقاليم معرضة للحر الشديد.
هذا قد يقود إلى إغلاق أعداد متزايدة من الأسواق المالية بالكامل أو جزئيا مع إدراك المؤسسات والشركات أنها لا يمكنها مواصلة القبول بالمخاطر المناخية في نشاطها الأساسي. ويشكل انسحاب شركتي تأمين رئيسيتين من سوق العقارات السكنية في كاليفورنيا مثالا على ذلك.
من الممكن أيضا أن تصبح المخاطر المناخية عاملا رئيسيا يحدّ من قدرة البلدان النامية على الوصول إلى الأسواق المالية العالمية. وكما أوضحت الأزمة المالية العالمية مثل هذه التطورات يمكن أن تكون لها آثار ارتدادية حيث يقود إغلاقُ إحدى الأسواق بسرعة إلى إغلاق سوق أخرى متصلة بها.
هنالك مسبب محتمل آخر للصدمة المالية وهو أن يبدأ الرأي العام في بلدان رئيسية عديدة بعد تعرضها للأوضاع الجوية المتطرفة هذا الصيف في مطالبة الحكومات بمواقف أكثر جذرية تُسرِّع الخطوات الفنية والإدارية ذات الصلة وتقود إلى إجراءات استثنائية من شاكلة تلك التي اتخذت أثناء الجائحة.
هذا قد ينطوي على إغلاق صناعات بأكملها أو اتخاذ إجراء طارئ بفرض حواجز جمركية ضد الواردات كثيفة الكربون. وقد تكون هنالك أيضا تطورات سياسية تطلق إعادة تقييم أوسع نطاقا وأكثر تشاؤما للمخاطر المناخية.
مثلا إذا فشلت مبادرة وقمة بريدجتاون لميثاق تمويل عالمي جديد في تغيير المواقف في مجموعة العشرين قد تتوصل الأسواق إلى عدم وجود فرصة واقعية لإغلاق فجوة التمويل المناخي الضخمة والمطلوبة لتحقيق صافي صفر كربون (تقدر بحوالي ثلاثة تريليونات دولار في العام). وإذا أعيد انتخاب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب وأبطل على الفور سياسات بايدن المناخية قد تفترض الأسواق سيناريوهات تشتد فيها درجات الحرارة ويتفاقم التغير المناخي.
من الشطط محاولة التنبؤ الدقيق بالوقت الذي يتحقق فيه سيناريو من هذا النوع. لكن الأسواق المالية تشرع قبل سنوات عديدة في تضمين التطورات في أسعار الأصول الراهنة. وهي تفعل ذلك على نحو حاسم عندما تقل أوضاع عدم اليقين.
لذلك مثل هذه الصدمة الاقتصادية تبدو احتمالا واقعيا قد يتحقق في أي وقت خلال السنوات الخمس القادمة. ويمكن القول إنها ستكون بالضبط ذلك النوع من الأزمات الذي يمكن أن يحدث تغييرا فجائيا في السياسة العامة والتصرفات الخاصة اللازمة لتجنب وقوع كارثة مناخية.
قد يكون هذا صحيحا. لكن من الأفضل أن يدرك واضعو السياسات الاقتصادية في كل القطاعات الحكومية بأنهم لا يمكنهم تجاهل هذا التهديد حتى عندما يُواجَهون بتحديات موازية كارتفاع التضخم وتصاعد الديون وتدني الإنتاجية.
يجب معالجة التهديد المناخي في تزامن مع هذه التحديات الأخرى. وفي الواقع إذا أجبر المرء على الاختيار سيفضل تكريس الأولوية في السياسة الاقتصادية للتهديد المناخي.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الأسواق المالیة التغیر المناخی
إقرأ أيضاً:
مجلس "الشيوخ" يُحيل طلب بشأن تطوير قطاع التأمين ورقمنة المعاملات المالية للجنة الاقتصادية (تفاصيل)
أحال مجلس الشيوخ، برئاسة المستشار عبد الوهاب عبد الرازق، خلال الجلسة العامة، اليوم الأحد، طلب المناقشة العامة بشأن استيضاح سياسية الحكومة حول سبل الارتقاء بكفاءة وتنافسية قطاع التأمين، ورقمنة المعاملات المالية غير المصرفية وتسريع التحول الرقمي لتحقيق الشمول المالي في القطاع المالي غير المصرفي، إلى لجنة الشئون المالية والاقتصادية والاستثمار، لبحثه وإعداد تقرير بشأنه.
تطوير قطاع التأمين
وكان قد استعرض النائب محمد المنزلاوى، عضو مجلس الشيوخ، طلب المناقشة العامة المُقدم منه، مؤكدًا أن قطاع التأمين أحد الركائز الأساسية للنظام المالي والاقتصادي، حيث يلعب دورا حيويا في إدارة المخاطر الاقتصادية، وحماية الأفراد والمؤسسات، وتعزيز الاستقرار المالي، كما يسهم في جذب الاستثمارات وتعزيز التنمية الاقتصادية، وتوفير التغطية التأمينية للقطاعات الإنتاجية والخدمية، مما يجعله عنصرا رئيسيا في تحقيق التنمية المستدامة.
وأوضح أن قطاع التأمين في مصر يشهد نقلة نوعية بعد صدور قانون التأمين الموحد بالقانون رقم (١٥٥) لسنة ٢٠٢٤، الذي جاء ليواكب التطورات التشريعية العالمية، ويعالج التحديات التي كانت تواجه السوق التأمينية، من خلال وضع إطار تنظيمي حديث يهدف إلى تحقيق الشفافية، وتعزيز كفاءة السوق، ورفع مستوى الحماية التأمينية للمؤمن عليهم والمستفيدين من الخدمات التأمينية، وبما أن قطاع التأمين يعد أحد الركائز الأساسية للنظام المالي والاقتصادي، فإن تطويره بعد خطوة حتمية لضمان رفع مستوى تنافسيته وتعزيز مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي، ودعمه لخطط الدولة التنموية، خاصة في ظل التوجه نحو توسيع قاعدة الشمول التأميني والاستفادة من أدوات التأمين الحديثة.
وأشار إلى أن رفع كفاءة قطاع التأمين يتطلب التعامل مع مجموعة من التحديات أبرزها ضمان التطبيق الفعلي الأحكام القانون الجديد، وتطوير البيئة التنظيمية الداعمة لنمو السوق، وتحفيز شركات التأمين على التوسع في تقديم خدمات أكثر مرونة وتلبية لاحتياجات مختلف الفئات وهو ما يتطلب تحديث نظم الحوكمة داخل شركات التأمين، ورفع كفاءة الكوادر العاملة في القطاع، فضلًا عن تحسين بيئة العمل الرقابية من خلال تعزيز الشفافية والمساءلة بما يضمن الحماية الكاملة الحملة الوثائق.
الاستثمار في قطاع التأمين
ولفت إلى أن تحفيز الاستثمار في قطاع التأمين من المحاور الأساسية لرفع كفاءته، حيث يتطلب ذلك العمل على تيسير إجراءات تأسيس شركات التأمين وإعادة التأمين، وتحفيز جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى السوق، وتعزيز تنافسية شركات التأمين الوطنية، ويتطلب ذلك تحسين آليات الرقابة المالية والمحاسبية.
وتابع، تطوير التكنولوجيا في قطاع التأمين أصبح ضرورة لتعزيز كفاءته وتحسين تجربة العملاء، إذ أن التحول الرقمي والتوسع في استخدام الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة بات يتيح الشركات التأمين تقديم خدمات أكثر دقة ومرونة، مما يسهم في تحسين إدارة المخاطر، وتطوير نماذج تسعير أكثر كفاءة، مضيفًا: بالرغم من الجهود المبذولة لتطوير قطاع التأمين، فإن هناك بعض التحديات التي تحتاج إلى حلول أكثر فاعلية، مثل ضرورة زيادة الوعي التأميني لدى الأفراد والشركات، وتعزيز الثقافة التأمينية، وتحفيز استخدام منتجات التأمين في مختلف القطاعات الاقتصادية.
وأردف قائلًا: من جانب آخر يشهد القطاع المالي العالمي تحولا جذريا نحو الرقمنة، مدفوعا بالتطورات التكنولوجية المتسارعة والمتغيرات الاقتصادية التي فرضت الحاجة إلى تبني حلول مالية أكثر كفاءة وشمولية، مؤكدًا إنه أصبحت رقمنة المعاملات المالية غير المصرفية ضرورة استراتيجية لتعزيز كفاءة الأسواق المالية، وتحقيق الشمول الماني ويُعد القطاع المالي غير المصرفي - بما يشمله من أنشطة التأمين، والتأجير التمويلي، والتخصيم، والتمويل العقاري، وغيرها أحد القطاعات المحورية التي يمكن أن تستفيد من تطبيقات الرقمنة، حيث تتيح التكنولوجيا المالية (FinTech) حلولا متطورة تمكن من تقديم خدمات مالية أكثر سرعة وشفافية، مما يعزز من كفاءة المعاملات ويحد من المخاطر التشغيلية، ومن هنا، فإن تسريع تطبيق الرقمنة في الخدمات المالية غير المصرفية بعد خطوة ضرورية لتوسيع نطاق الشمول المالي، وتحقيق رؤية الدولة في تعزيز الاستدامة المالية، ودعم مناخ الاستثمار.