لوكليزيو... المياه المياه وبينهما الحرب
تاريخ النشر: 12th, September 2023 GMT
هي الترجمة الثانية التي تصدر لرواية الكاتب الفرنسي جان ماري غوستاف لوكليزيو، «أونيتشا»، في غضون عام بالضبط. الأولى، في أغسطس 2022 عن «الهيئة العامة السورية للكتاب» في دمشق، (ترجمة عماد موعد)؛ أما الثانية ففي أغسطس 2023، في الكويت، ضمن سلسلة «إبداعات عالمية» التي يصدرها «المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب»، (ترجمة سعيد بلمبخوت).
لا أقصد في سؤالي سوى الإشارة إلى مفهومين يعرفهما جيدا أهل الترجمة؛ الأول، أن تكون لغة الاستقبال هي الأساس بمعنى أن يبدو النص المنقول وكأنه «مكتوب» بها، بينما يحاول الثاني، الحفاظ على «المصدر»، حتى لو تطلب ذلك من المترجم أن «يضحي» بــ «شعرية» اللغة التي ينقل إليها، بعيدا عن سياقها الفكري والاجتماعي وما تحمله من خاصيات. المفهومان صحيحان، وهما يسيران على خطين متوازيين منذ بداية عهد النقل ولغاية أيامنا هذه. لذا لن أفاضل، هنا، بين ترجمتَيّ الرواية (سأحتفظ بذلك لنفسي) وإن كنت سأشير إلى أن كل ترجمة من هاتين الترجمتين تحمل مفهومها الخاص، أي أننا أمام المفهومين اللذين أشرت إليهما قبل قليل؛ لكنهما ترجمتان جيدتان، استطاعتا أن تُدخلنا إلى قلب عالم لوكليزيو الكتابي (وبخاصة لمن يعرف النص بلغته الأصلية).
***
ثمة «سحر» ما، من الصعب معرفته بدقة حين تقرأ لوكليزيو (نوبل للآداب العام 2008)، يجذبك إليه. لأقل هناك متعة خفية، في اكتشاف تلك العوالم التي يكتبها، على الرغم من أنه ينحو في كثير من الأحيان إلى ما اصطلح على وصفه في الأدب بالــ«اكزوتيكية» (المجلوب أو الدخيل...)، كما من حيث مزج الواقع بالخيال، لدرجة لا يعد بإمكانك معها التمييز بين الأمرين. لهذا تبدو كتابته كتابة «حُلُمية»، برغم أنها تستقي موضوعاتها من واقع معروف وملموس. ثمة ما يجذبنا الآن أيضا، إلى هذه الرواية: صدورها في الوقت الذي تعرف فيه القارة الإفريقية العديد من الأحداث السياسية والعسكرية كما أن هناك تغيرات في أنظمة حكم بعض بلدانها، من هنا لا بدّ لنا، أن نُسقط الكثير من الأفكار والمقارنات، ما بين هذه الأحداث وبين قراءة أحداث رواية أونيتشا (اسم منطقة في نيجيريا) التي تدور في إفريقيا، في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وقبل فترة الاستقلال ورحيل الاستعمار.
***
الحرب مشتعلة في أوروبا، وكان رب العائلة جيوفروي آلان (إنجليزي الجنسية) قد غادرها قبل فترة ليذهب إلى تلك القارة بحثا عن أحلامه. هناك في أونيتشا ضاعت أخباره. كان اسم القرية يرن في أذنيّ الصبي الصغير ذي الثانية عشرة من العمر، مثل الشِعر. عاش الطفل وحيدا، لذا كان متعلقا بأمه مثل كلّ الأطفال الوحيدين، لدرجة الغيرة، حتى من صورة والده الغائب. أما الأم (الإيطالية)، فكانت تحلم بإفريقيا: تحلم بركوب الخيل في الأدغال، وصرخات الوحوش البرية المبحوحة في المساء، والغابات العميقة المليئة بالزهور المتلألئة والسامة، والطرق التي تؤدي إلى الغموض.
***
تبدأ الرواية لحظة الرحلة على المركب من أوروبا إلى القارة السمراء، ليتبدى لنا من خلالها مسار مصائر أشخاص لا نعرف عن ماضيهم الشيء الكثير. في عام 1948، انطلقت ماوو وابنها فانتان إلى نيجيريا للقاء الأب «المحبوب والمجهول» بعد أن طلب منهما الالتحاق به. لكن في رطوبة النهر، وعلى صوت الطبول، انهار كل ذاك الحلم، فجأة، لتنبثق قارة من الحمّى والعنف أمام أعين الوافدين الجديدين المذهولين. لم تظن ماوو أن الأمر سيكون على هذا الشكل: الأيام الطويلة الرتيبة، والانتظار تحت الشرفة، وهذه المدينة ذات الأسطح شديدة الحرارة. لم تكن إفريقيا أرض السعادة التي حلمت بها وابنها. لذا، كان عليهما إعادة بناء الحلم، بعيدًا عن تفاهة العالم الاستعماري المصغر، كان عليهما أن يتعلما حبّ هذا العالم القاسي التي هي عليه القارة السوداء، واكتشاف أسرار الأسلاف ونضالهم من أجل الحرية، والحب الذي يستطيعان تحقيقه. فانتان بدوره شعر بخيبة أمل، عندما نزل على نهر النيجر، لكننا، من خلال نظراته نختبر تقريبًا كلّ سحر هذا البلد، وصعوبات التكيف معه إذ إن التعرف على ثقافة أخرى وقبولها ليست سهلة دائمًا بالنسبة إلى طفل. أما الأب فنكتشف لاحقا أنه وقع في حب تلك المنطقة وبخاصة مروي التي كانت تشكل في الماضي جزءا من وادي النوبة وعاصمته التاريخية والتابعة للسودان اليوم (كان على المترجم الثاني أن ينتبه إلى تسمية تلك المنطقة، وألا يتركها كما تُلفظ بالفرنسية ميروي).
أمام هذه الأحلام المنهارة، تبدأ رحلة التعلم، وتلك المغامرة المفعمة بالحيوية: بدأت ماوو بالتأقلم مع نساء القرية، أغرمت بأهلها لدرجة أنها بدأت تتولى الدفاع أيضا عن السجناء وغيرهم من الخدم الذين تعرضوا لانتهاكات المستعمِر، ما سوف يثير استياء المستوطنين الذين يسيئون إليهم ويستغلون موقعهم.
من جهته أصبح فانتان وكأنه واحد من أطفال القرية، بدأ يذهب حافي القدمين إلى الأدغال، يركض مع أترابه، يلتقي وينظر ويراقب ويكتشف، يتغذى على الحياة البرية، يعتقد أنه ولد هناك، بالقرب من النهر، يعيش كل ما يمكن أن يسحر الأطفال في إفريقيا وفي الوقت عينه يخترع رواية (مثلما فعل لوكليزيو من قبله، وأقصد تفاصيل الرحلة التي قام بها الكاتب مع والدته من نيس إلى بورت هاركور وفي نفس الظروف). أما الأب، الغائب نوعا ما طيلة الكتاب، فيخترع قصة ملكة مروي السوداء، التي يقال إنها هاجرت من نهر النيل إلى نهر النيجر، حيث وقع في حبّها.
الماء حاضر دائمًا في هذه الرواية، حمّام الأم، في الرحلة التي يقومون بها معًا من بوردو إلى داكار ثم من داكار عن طريق البحر إلى كوتونو وأخيرا بورت هاركور، وأخيرا النهرين، النيل والنيجر. وكأنها رواية أنهار، في البداية النيجر المنتشر في كل مكان، الذي يحمل الأخبار الجديدة، وينير الرواية بأكملها. الماء حاضر، أكثر من الحرب، حرب البيافرا، بسبب النفط. من أجل الاستيلاء على عدد قليل من آبار النفط، أغلقت عليهم (الأطفال) أبواب الدنيا، أبواب الأنهار، جزر البحر، الشواطئ. ولم يبق إلا الغابة الفارغة الصامتة.
***
في نثر شعري ومؤثر، يروي لو كليزيو الرحلة الفوضوية لعائلة مفككة لا يمكن جمعها إلا بالثورة، حتى عندما بقي سكان أونيتشا يعانون لفترة طويلة من نير السلطة الإنجليزية. ولكن علينا أن ننتبه إلى أمر مفصلي: هذه «النمطية» التي تُسيّر لوكليزيو ــ الأوروبي ــ وأقصد لِمَ نحن بحاجة إلى هذا الآخر كي يعلمنا كيف نخرج من الكولونيالية التي اخترعها هو؟
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
كمين عيترون: الرواية الكاملة للكمين على لسان جندي صهيوني مشارك
كانت هذه المعركة بمثابة تصدٍ شرسٍ من مقاتلي حزب الله ضد محاولة اقتحام قامت بها قوة من “جيش” العدو الإسرائيلي، حيث تحصّنت هذه القوة في مبنى مدمر داخل القرية. وقد أسفرت المعركة عن حصار طويل واشتباكات عنيفة استمرت لما يقارب 14 ساعة.
وقبل الخوض في تفاصيل الكمين وفق شهادة الجندي المصاب، نشير الى أن العدو الإسرائيلي كان قد أعلن في 1 أكتوبر الماضي بدء عملية عسكرية برية ضد لبنان شملت غارات جوية وقصفا مدفعياً واغتيالات، لكن جيش العدو لم يتمكن حتى الآن من التمركز في أي قرية أو بلدة دخل إليها بسبب المقاومة التي يواجهها من قبل مجاهدو حزب الله، وهي الحقيقة التي تناقض ادعاءات العدو وتقزّم كل إنجازاته الميدانية، لا سيما مع حجم الخسائر المهولة التي يتكبّدها في المواجهات، وتكرّس واقع الفشل الكبير الذي يُمنى به العدو يومياً في مواجهاته مع المقاومة الإسلامية في لبنان.
وقد بلغت الحصيلة التراكمية لخسائر جيش العدو منذ بدء ما سماه “المناورة البرية في جنوب لبنان وحتى قبل أسبوع ،وفقاًُ لبيانات المقاومة، ، أكثر من 100 قتيل و1000 جريح من ضباطه وجنوده، كما تم تدمير 43 دبابة ميركافا، و8 جرافات عسكرية، وآليتي هامر، ومُدرعتين، وناقلتي جنود، وتم إسقاط 4 مُسيرات من طراز “هرميس 450″، ومسيرتين من طراز “هرميس 900”
كواليس الكمين المرعب والأكبر:
وفقًا للمراسل العسكري لصحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية يوآف زيتون، الذي أجرى لقاءً مع أحد جنود العدو الإسرائيلي الذي شارك في اشتباك عيترون وكمينها الشهير وأصيب خلاله، فإن المعركة تعتبر الأطول والأكثر دموية التي خاضها جيش العدو الإسرائيلي في جنوب لبنان، حيث أدت إلى مقتل 6 جنود صهاينة وإصابة 14 آخرين بجروح متفاوتة. (الحصيلة متوافقة مع العدد المعلن عنه رسمياً من قبل جيش العدو، مع الإشارة إلى فرض العدو سياسة الحظر الإعلامي).
تجسدت اللحظة الدرامية التي ستظل عالقة في أذهان المشاركين، من خلال مشهد إنقاذ أحد جنود العدو المصابين، وهو “إيتاي فوكس”، البالغ من العمر 24 عامًا. حيث حاول المقاومة من خلال رفع قبضته أثناء عملية إنقاذه، في محاولة لتقليل آثار الهزيمة والخسائر التي تكبدها الجيش العدو الإسرائيلي في هذه المعركة المؤلمة.
كمين عيترون
خلال هذه المعركة، لقي 6 جنود صهاينة من لواء “ناحال الشمالي ألون 228” مصرعهم، واستمرت الاشتباكات مع تبادل إطلاق النار وإلقاء القنابل اليدوية، بالإضافة إلى عمليات التفتيش المعقدة لإنقاذ القتلى والجرحى تحت جنح الظلام. دخلت القوة الإسرائيلية إلى المبنى المدمر جراء غارة جوية، حيث كان هناك عنصران من حزب الله قد كمنا لهم، وعند دخول القوة، أطلق مجاهدو حزب الله النار بشكل مفاجئ، مما أسفر عن وقوع إصابات فادحة.
لاحقاً أدى تبادل إطلاق النار إلى اشتعال النيران بشكل كبير في المبنى، كما تعرضت قوة دعم إسرائيلية لإطلاق نار مكثف، مما أوقع العديد من الضحايا في صفوف القوة المساندة.
الفوضى تسود إثر انهيار الصف القيادي:
خلال مجريات المعركة، فقدت قوات العدو الإسرائيلي القدرة على التواصل الفعّال بين “الجنود والضباط،” الأمر الذي دفع “الفرقة 91” إلى الاعتقاد بأن “الجنود” قد وقعوا في الأسر. وصف أحد الجنود الصهاينة المشاركين في المعركة المشهد بأنه كان مليئًا بالفوضى والصراخ، مما زاد من حدة التوتر في تلك اللحظات الصعبة والحرجة.
بعد التعرّض لحدث معقّد وصعب، أصيب جنود الاحتياط من اللواء الصهيوني ذاته تحت قيادة “يانيف مالكا” بجروح خطيرة، وتعرض العديد من جنود العدو للقتل. وظلت القوة الصهيونية محاصرة في المبنى المدمر لساعات، ومع استقدام مزيد من القوات تمكنت “وحدات النخبة” من تحديد موقعهم وإنقاذهم بصعوبة بالغة، وبعيداً عن شهادة “الجندي” الصهيوني الجريح لا يستبعد أنّ هذه القوة النخبوية تعرّضت هي الأخرى لخسائر في صفوفها، وإن تحفظ العدو عن ذكر خسائره هنا في سياق الغموض والملابسات التي تغطي سردية الإنكار كاملة عن خسائره في الكمين.
تعتبر هذه المعركة، بحسب تسلسل الأحداث التي استعرضتها الصحيفة العبرية، آخر نشاط عملياتي لكتيبة الاحتياط في “عيترون” وهذا له دلالته. حيث أصر القادة العسكريون على التسلل إلى القرية لمهاجمة وتدمير البنية التحتية المسلحة لوحدة الرضوان التابعة لحزب الله.
كما أوضح “اللواء” في احتياط العدو “يوفال داغان” في حديثه للصحيفة العبرية: “كنا نعلم بوجود عدد أكبر من المسلحين في القرية، بعد أن عثرنا على آلاف الأسلحة ودمرناها، إضافة إلى اكتشاف مقر تحت الأرض لحزب الله، وشاحنات صغيرة مزودة بقاذفات صواريخ متعددة الفوهات. وقد قمنا بتكثيف العملية عبر الخداع للوصول إلى مبنى البلدية الذي كان يُعتقد أنه المقر المركزي لحزب الله”.
ووفقاً لـ”داغان”، فقد شنت القوات الإسرائيلية “هجومًا استمر ليوم كامل، حيث قام سلاح الجو الإسرائيلي بقصف بعض المباني المشبوهة لتسهيل تقدم القوات”، لكن الواقع كان معقداً، حيث أن المسلحين كانوا يختبئون بين الأنقاض.
كمين عيترون
معركة شرسة ومواجهات ضارية:
قال اللواء في احتياط ” جيش” العدو إنه في” الساعة 14:31 تلقى أول اتصال عبر أجهزة الاتصال اللاسلكي يفيد بوقوع حدث صعب، حيث كان من الصعب الحصول على معلومات دقيقة حول الوضع الميداني بسبب إصابة العديد من الضباط. وتظهر التحقيقات الأولية للجيش الإسرائيلي أن القوة الأولى التي دخلت المبنى “لتطهيره” من المسلحين، والتي كانت تضم 6 جنود، تعرضت لإطلاق نار شديد من مسافة قريبة من قبل مسلحَين إثنين من حزب الله مختبئين بين الركام”.
كما ألقى مجاهدو حزب الله قنابل يدوية، مما أدى إلى اشتعال حريق كبير في المبنى، وأضاف” اعتقد باقي جنود السرية الذين هرعوا إلى موقع الحادث لإنقاذ رفاقهم المصابين، بسبب الدخان الكثيف، أن هناك مسلحًا واحدًا فقط. لكن في الواقع، كان هناك مسلح آخر مختبئ تحت الأنقاض، ينتظر الفرصة المناسبة لإطلاق النار”.
وصف الجندي الصهيوني ” إيتاي فوكس” تجربته بقوله: “كنت ضمن قوة إسناد ورأيت أربعة أو خمسة جنود مصابين في باحة المبنى، بعضهم لم يكن يتحرك ولا يستجيب. كنت أعلم أنه وفقًا للإجراءات، يجب أولاً القضاء على التهديد وقتل المسلحين، ومن ثم إنقاذ الجرحى وتخليص القتلى”.
وأضاف: “أطلقت نيرانًا على نقاط مشبوهة ثم أنزلت بندقيتي الرشاشة لأستطيع إنقاذ جندي جريح آخر وسحبه إلى الخلف. في تلك اللحظة، كانت الأجواء هادئة نسبيًا، لكنني أصبت برصاصة دخلت بجوار الأرداف وخرجت من الفخذ”.
بأس المقاومة يفرض على العدو تغيير خططه:
ومن الواضح أن العدو الإسرائيلي تفاجأ بشدة المقاومة في تصديها أثناء التوغل البري رغم حشده الهائل للفرق العسكرية والنخبوية من قواته، وكذلك رغم اغتياله عدد كبير من القادة العسكريين على المستويين الأول والثاني، لكن جيش العدو وأمام استبسال المقاومين اضطر لدفع خطته إلى تعديل إستراتيجي والتحول إلى تكتيك جديد يعتمد على الدخول إلى المناطق وتفخيخ المباني ثم تفجيرها، والانسحاب السريع لتفادي المزيد من الخسائر البشرية، خاصة بعد نجاح المقاومة في نصب الكمائن.