ستُسأل عن كل نفس ظلمتها
تاريخ النشر: 12th, September 2023 GMT
حمد الحضرمي **
الظُلم من الصفات الدنيئة والأخلاق الرذيلة، ولهذا نزّه الله سبحانه وتعالى نفسه عنه، فقال: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَظُلم النَّاسَ شَيْئًا وَلَٰكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظُلمونَ" (سورة يونس:44) كما حرَّم الله سبحانه وتعالى الظُلم على نفسه، كما جاء في الحديث القدسي: "يا عبادي، إني حرمت الظُلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا".
والظُلم من البلايا التي ابتليت بها البشرية، وهو شقاءٌ على الفرد والمُجتمع معًا، وما من مصيبة تحل على النَّاس والأمم إلا وتجد الظُلم هو السبب الأول وراءها، وورد ذلك في كتاب الله الكريم موضحًا أسباب هلاك الأمم من قبلنا: "وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ" (سورة القصص: 59)؛ فالظُلم عاقبته وخيمة في الدنيا والآخرة، وأهل الظُلم في الدنيا مكروهون من الناس، ويبغضهم الله جل في علاه "إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ" (سورة الشورى: 40)، علاوة على أن الظالِم يقع تحت طائلة الغضب الإلهي، والانتقام الرباني في النفس والمال والولد، هذا لأن دعوة المظلوم "ليس بينها وبين الله حجاب"، والله يرفعها فوق الغمام ويقول لها: "وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين".
وقال بعض الحكماء: الظُلم ثلاث أنواع: النوع الأول: ظُلم بين الإنسان وبين الله، واعظمه الكفر والشرك والنفاق "إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ" (سورة لقمان: 13) والنوع الثاني: ظُلم بين الإنسان وبين الناس، وإياه قصد بقوله "وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا" (سورة الشورى: 40) وأما النوع الثالث: ظُلم بينه وبين نفسه، وإياه قصد بقوله "فَمْنِهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ" (سورة فاطر: 32) وكل هذه الأنواع الثلاثة من الظُلم هي في الحقيقة ظُلم للنفس، فإن الإنسان في أول ما يهم بالظُلم فقد ظُلم نفسه. والظُلمة ثلاث فئات: الفئة الأولى: الظالم الأعظم، وهو الذي لا يدخل تحت شريعة الله تعالى وإياه عنى بقوله "إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ" (سورة لقمان: 13) والفئة الثانية: الظالم الأوسط، وهو الذي لا يلتزم حكم الحاكم، أي لا يلتزم بما وضعه الحاكم من أنظمة وقوانين لتيسير أمور الحياة، وأما الفئة الثالثة: الظالم الأصغر، وهو الذي يتعطل عن المكاسب والأعمال، فيأخذ منافع الناس ولا يعطيهم منافعهم.
وقد قال الإمام الذهبي: الظُلم يكون بأكل أموال الناس وأخذها ظُلما، وظُلم الناس بالضرب والشتم والتعدى والاستطالة على الضعفاء، وقال ولا تظُلم الضعفاء فتكون من شرار الأقوياء، ثم عدد صورًا من الظُلم منها: أخذ مال اليتيم، المماطلة بحق على الإنسان مع القدرة على الوفاء، ظُلم المرأة حقها من الصداق والنفقة والكسوة، ظُلم الأجير بعدم إعطائه الأجرة. وقد حذر رسول الكريم صلى الله عليه وسلم في الحديث "اتقوا دعوات المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرار"، وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديث ثاني "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا، قالوا: يا رسول الله هذا ننصره مظلومًا فكيف ننصره ظالمًا؟ قال: تأخذ فوق يده"، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر "اتقوا الظُلم فإن الظُلم ظُلمات يوم القيامة....".
وقال أبو العتاهية:
أما والله إن الظُلم لؤم // وما زال المسي هو الظلومُ
إلى ديان يوم الدين نمضي // الله تجتمع الخصوم
ستعلم في الحساب إذا التقينا // وغدًا عند الإله من الملوم
والسؤال المطروح: هل ابتعدنا عن إيقاع الظُلم على الآخرين كما أمرنا الله سبحان؟ والحقيقة عندما نواجه أنفسنا نجد بأننا كم دائنٍ ماطلناه في حقه ونحن قادرون على الوفاء، وكم زوجة استضعفناها بالإهانة أو الإيذاء، وكم ولد أهملنا في تربيته ثم حاسبناه على تقصيره، وكم قصرنا في حقوق آبائنا وأمهاتنا، وكم من فريضة فرطنا في القيام بها من غير عذر، وكم من صديق وجار ظُلمناه واغتبناه وسخرنا منه في غيبته، أو أخذنا حقوقه وتجبرنا عليه، وكم من مال التركة اقتطعناه بسيفي الظُلم والحياء من أرحامنا وأقاربنا.... وما أكثر ما نتألم من صور الظُلم وما غفلنا عنها، وما نتذكر إلا ظُلم الناس لأنفسهم وننسى ظُلمنا لأنفسنا بتقصيرنا في جنب الله وظُلمنا لعباد الله. وقد توعد الله الجبار الظالمين باجتثاث شافتهم في الدنيا قبل الآخرة بقوله "فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ" (سورة الأنعام: 45) وفي الآخرة قال تعالى "وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ" (سورة إبراهيم: 42).
ألا يعي الظالم بشاعة الظُلم وآثاره، ألا يعي هذا الظالم أن رب العزة والقدرة والجبروت، يقول محدثًا عن ذاته العلية "إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ"(سورة النساء: 40) فإن كان الله القوي القادر لا يظُلم مثقال ذرةٍ، فكيف يبيح المخلوق الضعيف أن يظُلم ما لا يقوى على حمله الجبال، وكم قضى الله على دول وأمم، فيا أيها الظالم ألا تتعظ والأمثلة أمامك واقعة، والأدلة شاهدة وناطقة، فيا الله، ما اصبر المرتشين والمرابين والمختلسين والمعتدين على الحقوق العامة والخاصة، أين الظُلمة؟ أين فرعون وهامان والنمرود، ومن بغى ببغيهم وعتا عتوهم في كل زمان ومكان؟!
أيها الإنسان تذكر جيدًا قبل أن تظُلم وتغدر عدل الله فيك، وعند مقدرتك قدرة الله عليك، وإن كنت قد ظُلمت، فبادر بالتوبة، بادر برد المظالم الآن إلى أهلها، قبل أن يأخذك الله بظُلمك أخذ عزيز مقتدر، وكن دائمًا على حذرٍ من دمعة اليتيم، ودعوة المظلوم، فإنها تسري والناس نِيام.
أيها المسؤولين وأصحاب السلطة والنفوذ لا تظُلموا الناس، واتقوا الله فيمن تحت أيديكم، وخافوا الله في الضعفاء ، ومن ليس لهم حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وتذكروا أيها المسؤولين أن لهؤلاء البسطاء أطفالًا وزوجات وأسر يحتاجون إلى أن يعيشوا بكرامة في أوطانهم.
ويا أيها الظُلمة وأعوان الظُلمة اتقوا عاقبة الظُلم وموعد كل ظالم متكبر وأن مآله إلى القبر، لأن الضعفاء والبسطاء لا يقدمون شكواهم إلى القضاء، وإنما يقدمون شكواهم لرب السماء، والله يمهل ولا يهمل، وكل ظالم سينال عقاب الله عاجلًا أو آجلًا.
ويا أيها الآباء والأمهات لا تظُلموا أولادكم، ولا تميزوا بين الذكور والإناث، وعليكم بالعدل بين أولادكم في العطية والميراث، ولا تفرقوا بينهم حتى لا يحدث بينهم البغضاء والفرقة والشقاق. وكن أيها الإنسان على يقين بأنك في الآخرة ستسأل عن كل نفس ظُلمتها.
** محام ومستشار قانوني
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
كلمات دلالية: ظالم ا
إقرأ أيضاً:
مجرد رقم «الأخيرة»
السعادة هى فن نصنعه بأيدينا، وكذلك التعاسة، قد يعترض كثيرون على مقولتى، ما يجعلنى أطرح سؤالا يبدو تقليديا لكنه مهم كوجود الإنسانية جمعاء، «هل يصنع الإنسان حياته وقدره»، نعم يصنع الإنسان حياته وقدره، وأستثنى بالطبع من هذا موعد ميلاده وموته، أما رزقه فهو مرتبط بسعيه، وقد لا يأتيه رزقه المالى قدر سعيه مما يغضب له الإنسان ويشعره بعدم عدالة السماء «والعياذ بالله»، ولكنه لا ينتبه إلى أنه يأخذ رزقه كاملا فى باقى نعم الله عليه بها من ستر، صحة، أسرة طيبة، زوجة أو زوج صالح، أولاد، مركز اجتماعى أو علم نافع، وهكذا، وقد لا يدرك كثيرون أن رزق المال هو أدنى الأرزاق، وكم من أثرياء حرموا اشياء كثيرة منها الصحة مثلا مما أفقدهم متعة المال، يصنع الإنسان حياته باختياراته من خلال عقله الذى ميزه الله به عن سائر مخلوقاته، يختار طريق الخير والصلاح لنفسه ولغيره، أو طريق الشر، فقد هدانا الله النجدين لنختار، أما مسألة أننا مسيرون وكل ما نعيشه مقدر ومكتوب، فهو أمر يخلط به الناس مسألة أن المكتوب لا يعنى أن الله كتب لنا طريقنا فى الحياة بالقلم والمسطرة لنسير عليه مغمضى العينين، بل يعنى أن الله يعلم وهو عالم الغيب، يعلم ما سيفعله كل مخلوق من مخلوقاته فى حياته، وكيف سيتصرف فى النعم التى أنعم عليه بها، وإلا لو كنا نسير وفق خطة مسبقة وضعها الله لنا، لما جعل هناك ثوابا وعقابا وجنة ونارا، وهى قضية قديمة حسمها الأئمة والشيوخ، لكنى أوردها هنا لزوم ما أريد قوله لنفسى أولا قبل أن أقوله لكم، أن الإنسان هو من يختار كيف يسير حياته، ليس فقط فى الدراسة والعمل والتعامل مع البشر غيره لتحقيق مستقبل ناجح وتحدى صعوبات الحياة بإرادة قوية، بل هو من يختار كل تفاصيل حياته، حتى وقوعه فى الحب هو اختيار مسبق له، لأن الإنسان يضع فى اللاوعى اشتراطات للشخص الذى يمكن أن تحبه فتاة أحلام، فارس أحلام، فإذا صادف هذا الشخص تلاقى هواه النفسى مع الواقع، فوقع فى الحب معتقدا أنه لم يختر وأن القدر اختار له هذا الحبيب بكل ما به من خير أو شر قد يتكشف فيما بعد. ولأن الله سبحانه أورثنا الأرض بعد أن نفخ فينا من روحه، فلا يصح أن نهمل ونتغافل ونتكاسل، ونلقى بلائمة الفشل فى حياتنا على ما كتبه الله لنا وأن هذا هو قدرنا، فهذه أكذوبة نعلق عليها تقاعسنا، فهناك ملايين النماذج فى الحياة خلقها الله بعجز وإعاقات لكنها تحدت وحققت نجاحات سجلها التاريخ، وأسوق مثلين فقط، ستيفن وليام هوكينج أشهر عالم فيزياء ولد قعيدا ومعاقا، ولم يستسلم لعجزه، طه حسين لو استسلم لظروف بيته وفقدان بصره لجعل حياته كلها عتمة وظلاما، ولم يصبح وزيرا ولا عميد الأدب العربى ولم يعرفه العالم، إذن عدم اشتراط الإنسان على الله اكتمال النعم ليسعى وينجح ويسعد فى الحياة، هو الرضا الذى يمنح النجاح والسعادة، وإيلاف النعم أى اعتيادها يفقد الإنسان الشعور بها وبأهميتها، فيشعر بالضجر من حياته وعدم الرضا ويطلب المزيد من الله، ولا يتأدب حتى فى طلبه من الله بل يطلبها ساخطا غاضبا منكرا كل ما وهبه الله من نعم أخرى، ويوقف كل رضاه وسعادته على ما غاب عنه. هؤلاء البشر معتادو النعم منكرو فضلها، لو حرمهم الله من نعمة فقط مما اعتادوها كأن يفقد عينا أو يدا، جزءا من جسده، أو يصاب بمرض يجعله غير قادر حتى على تناول ساندويتش فول كان يزهده ويستنكر تكرار طعمه من قبل بسبب ضيق ذات اليد، عندها سيفيق من غفلته ويتنبه أن الله أسبغ عليه نعما لا تحصى، ومن معتادى النعم من يملأ حياته تشاؤما وبكاء ونواحا مما يلقى به فى أتون الشيخوخة والمرض بسرعة بسبب عشقه للهم والغم وتضخيم المشاكل وتهويل الصغائر، ويمكن لشاب أن يصبح عجوزا لهذه الأسباب، فيما يمكن لعجوز ان يظل شابا فى مظهره وصحته لتمسكه بالتفاؤل والطاقة الإيجابية والرضا بعطايا الله وحمده وشكره. مؤمنة أنا بأن عاشق البهجة ستأتية السعادة من حيث لا يدرى ولا يحتسب، ومعتنق الحزن سيأتيه الهم والغم من حيث لا يدرى أيضا، من يضخم المشاكل ستتضخم، ومن يهون منها ويعمل ما عليه وترك الأمر لله مدبر كل أمر ستهون المشاكل وتنفك العقد.
فمن صبر على الابتلاء واعتقد إيمانا فى قول الله تعالى: «وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ»، سيرى الخير قادما من قلب ما اعتقد أنه شر، وسيرى النور قادم من حلكة الظلام
[email protected]