النضال الصامت الصارخ بخيانة الديمقراطية
تاريخ النشر: 12th, September 2023 GMT
ألقى الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل تصريحا جلب له موجة سخرية وجعله "كاراكوز".. "النضال في بعض الأحيان يكون بالصمت"، هكذا بصريح العبارة. كان قبل ذلك بأيام قليلة قد خرج من صمت الصيف الطويل وقال لقد برد الطقس وسنعود إلى النضال، بما ذكّر الناس بقوم هربوا من القتال في الحر والقرّ فانهزمت دعوتهم.
نتحدث هنا عن مكاسب سياسية لا مكاسب نقابية، فالنقابة التونسية حزب سياسي يلبس لبوس نقابة ويُلْبِس على الناس. هنا مفتاح فهم تصريح الأمين العام وهنا مفتاح فهم موقف النقابة عامة لا من الانقلاب فحسب؛ بل من الثورة ومكاسبها السياسية وفي مقدمتها الحرية العزيزة على كل نفس حرة فقط.
الحديث عن النقابة مملّ
أحبذ أن اعتذر لقارئ محتمل عن تكرار الحديث عن موقف النقابة من الثورة ومن الديمقراطية وبالتالي ومن الانقلاب، لأن موقفها من الوضوح بحيث يدخل تحت باب توضيح الواضحات من الفاضحات.
النقابة التونسية حزب سياسي يلبس لبوس نقابة ويُلْبِس على الناس. هنا مفتاح فهم تصريح الأمين العام وهنا مفتاح فهم موقف النقابة عامة لا من الانقلاب فحسب؛ بل من الثورة ومكاسبها السياسية وفي مقدمتها الحرية العزيزة على كل نفس حرة فقط
يزعم كثير ممن يتناول أمر النقابة التونسية الأشهر محليا وعربيا أن الصف النقابي ليس واحدا، فهناك تياران يشقانها؛ التيار الأول ترتيبيا هو تيار العاشوريين (نسبة إلى الحبيب عاشور- أمين عام سابق) أو ما يسمى عند اليسار بالبيروقراطية النقابية، وهو التيار المنعوت بأنه نقابي خالص لا يستعمل النقابة استعمالا سياسيا. أما التيار الثاني فهو تيار اليسار المتطرف، وانضم إليه القوميون العرب بعد أن كانوا يرون العمل النقابي خيانة ثورية.
التيار الأول متهم من التيار الثاني بمهادنة السلطة وخيانة العمال وذلك منذ ما قبل أزمة كانون الثاني/ يناير 1978، حين اصطدمت النقابة بالحزب الحاكم وحدثت مجزرة فعلية، لكن السلطة وللمفارقة سجنت العاشوريين وسلمت النقابة لليسار الثوري في مؤتمر قفصة بعد ثلاث سنوات.
بعد الثورة لم نر فرقا بين التيارين فقد وقفت النقابة بكل جامعاتها القطاعية وتمثيلياتها الجهوية ضد الثورة، وخاصة بعد خسارة اليسار للانتخابات 2011 التي تقدم فيها الإسلاميون. كلمة السر: لا يجب أن يحكم الإسلاميون تونس وحدهم أو مع شركاء، وكل طريق تؤدي إلى مشاركتهم في السلطة وجب قطعها ولو بتخريب البلد وإسقاط مطالب الثورة ومسار بناء الديمقراطية. وقد حصل ذلك بحذافيره حتى انتهينا إلى الانقلاب، ولقد تباهى بذلك الأمين العام السابق حسين العباسي قائلا: لم نسمح لهم بالراحة طيلة العشرية، وهو يعني الإسلاميين فقط دون أي فريق سياسي آخر. والنتيجة كانت انهيار كل المسار.
ولقد كان واضحا منذ ساعة الانقلاب الأولى أن النقابة تقف معه وتدعمه، ومنحته منذئذ الوقت الكافي ليستقر ويرسخ قدمه، وهو ما سماه الأمين العام الحالي بالنضال بالصمت.. إنه "نضال" ضد الديمقراطية وضد الثورة وضد الحريات.
لمصلحة من خربت النقابة الثورة والديمقراطية؟
كان واضحا منذ ساعة الانقلاب الأولى أن النقابة تقف معه وتدعمه، ومنحته منذئذ الوقت الكافي ليستقر ويرسخ قدمه، وهو ما سماه الأمين العام الحالي بالنضال بالصمت.. إنه "نضال" ضد الديمقراطية وضد الثورة وضد الحريات
لقد كان واضحا منذ الثمانيات أن اليسار التونسي عاجز عجزا مطلقا عن بناء حزب يساري كبير، والأمر نفسه بالنسبة للقوميين ولو كان تحالفا أطروحاته الفكرية وأساليب عمله السياسي والتنظيمي جعلت منه أقلية معزولة شعبيا، بينما تمدد الإسلاميون في كل ناحية وكل مؤسسة بدءا من الجامعة رغم كل ما تعرضوا له من ملاحقات وسجون طيلة نصف قرن.
وقد أكدت انتخابات 2011 التعددية واقع التشرذم اليساري والقومي (هناك أكثر من عشرة فرق قومية تعتبر نفسها أحزابا)، فلم يبق لدى اليسار والقوميين لمواجهة الإسلاميين إلا التحصّن بالنقابة واستعمالها سياسيا لمنع الإسلاميين من الحكم ومن ترسيخ أقدامهم في الدولة والمجتمع. حصل اليسار على مبتغاه السياسي، لقد أُقْصِيَ الإسلاميون من كل مشاركة وعادوا إلى وضع المطاردين الأزليين، لكن حصلت مع ذلك نتائج أخرى.
لقد عادت منظومة الفساد والاستبداد للحكم بالتدريج مستفيدة من التخريب النقابي خاصة في المؤسسات العمومية، وانتهى الأمر بعودة مظفرة على ظهر الانقلاب. من استعمل من في النتيجة، ولو بفرضية حسن النية النقابي ونحن لا نرجحها؟
النتيجة: أقصت النقابة الإسلاميين لمصلحة منظومة الفساد، بما وضح لكل ذي بصيرة الموقع السياسي الحقيقي لليسار التونسي وللقوميين كجزء مكين من المنظومة الفاسدة. إنهم ذراعها الضاربة وقوتها في الشارع، إنهم زبانية المنظومة التي اصطنعتها عصا غليظة ولم تدفع في استخدامها من جيبها وإنما من جيب المواطن التونسي فلم يكلفها الأمر شيئا، لقد زرعتهم في مواقع القرار بحيث عطلوا ما وجب تعطيله حتى سقط الإسلاميون؛ العدو الحقيقي للمنظومة.
وجب أن نضيف هنا أن لقاء مصالح قد حدث ولا نظنه إلا مخططا مدروسا، فقد التقت المنظومة الفاسدة مع مصالح المحتل القديم في منع بناء الديمقراطية في تونس، فالثورة التي طرحت سؤال محاسبة المحتل على جرائم الاحتلال لا يجب أن تحكم. وكان اليسار ونقابته في ماكينة قطع الطريق على المحاسبة، بما يجعلهما أداة للاحتلال. وهنا نفهم سر جائزة نوبل ومسارعة النقابة للاحتفال بالجائزة مع الرئيس الفرنسي قبل أن تعود بالأوسمة إلى تونس، وغير مهم هنا إن كان حسين العباسي عاشوريا أو يساريا فقد ذاب الفرق بين الشقين في خدمة المحتل ومنظومة التبعية المحلية.
والحل مع هذه النقابة؟
يظن كثيرون أن تجاهل الانقلاب للنقابة يضر بالنقابة وهو تحليل خاطئ بالجملة، فمطالب النقابة تتحقق على الأرض بواسطة الانقلاب وهذا تفسيرنا للنضال الصامت. إنه لا يتجاهلها بل يترك لها فسحة وقت وهو يعرف (الحقيقة أن المنظومة الكامنة وراء الانقلاب تعرف) قدرتها على إعادة توظيف النقابة في أية لحظة، فالنقابة جاهزة دوما لخوض المعركة نفسها لصالح المنظومة
لم يرتق خيال السياسيين التونسيين إلى تصور تونس دون هذه النقابة، لذلك لا يخلو خطاب من تمجيدها وذكر مآثر مؤسسيها، وهو خطاب يخفي خوفا بل رعبا من مواجهة النقابة، وما دام هذا الخوف يملأ صدور السياسيين بمن فيهم الإسلاميين فإن أمام النقابة أيام زاهية. بل لعل الإسلاميين أكثر الأطراف السياسية خوفا أمام النقابة، لقد كانوا يرون النقابة تخرب على حكومتهم بمنخرطي حزبهم، إذ تمنع أنصارها من كسر الإضرابات أو فسخ الانخراط من النقابة، لقد رسخت النقابة في عقول كثيرة أن كسر إضراب يرتقي إلى جريمة شرف أو خيانة وطن.
يظن كثيرون أن تجاهل الانقلاب للنقابة يضر بالنقابة وهو تحليل خاطئ بالجملة، فمطالب النقابة تتحقق على الأرض بواسطة الانقلاب وهذا تفسيرنا للنضال الصامت. إنه لا يتجاهلها بل يترك لها فسحة وقت وهو يعرف (الحقيقة أن المنظومة الكامنة وراء الانقلاب تعرف) قدرتها على إعادة توظيف النقابة في أية لحظة، فالنقابة جاهزة دوما لخوض المعركة نفسها لصالح المنظومة. لم يُعتقل نقابي واحد منذ الانقلاب، ولحست النقابة كل مطالبها التي رفعتها ضد حكومات ما بعد الثورة، وهو اتفاق غير مكتوب مع الانقلاب؛ نتيجته سلامة النقابة حتى تحتاجها المنظومة من جديد.
المنخرط الشجاع الذي لا يتبع النقابة في أي أمر من أمورها "النضالية" لم يولد بعد، والسياسي الشجاع الذي سيحل النقابة لم يولد بعد، لذلك سيتحمل التونسيون كابوس النقابة لزمن أطول مما يتوقع الجميع.
ونختم بيقين: ستدعم النقابة المنقلب في انتخابات الرئاسة لسنة 2024 مقابل المزيد من تصفية الإسلاميين.. هؤلاء الإسلاميون لا يموتون إذن ليُمنح الانقلاب فرصة أخرى.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه التونسي اليسار الإسلاميين الإنقلاب تونس الإسلاميين اليسار نقابات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة مقالات سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الأمین العام النقابة فی
إقرأ أيضاً:
غانا: مسار الديمقراطية وتحديات المستقبل
محمد تورشين*
تُعد غانا إحدى أبرز الدول الإفريقية التي نجحت في تحقيق انتقال ديمقراطي مستقر وترسيخ التداول السلمي للسلطة. منذ استقلالها عن الاستعمار البريطاني عام 1957، مرت البلاد بتحولات سياسية عميقة، تضمنت فترات من عدم الاستقرار السياسي بسبب الانقلابات العسكرية، قبل أن تدخل حقبة جديدة من الديمقراطية المستدامة مع إقرار دستور الجمهورية الرابعة عام 1992. ومنذ ذلك الحين، شهدت البلاد ثماني عمليات انتخابية منتظمة وتناوبًا سلميًا على السلطة بين الحزبين الرئيسيين: "المؤتمر الوطني الديمقراطي" (NDC) و"الحزب الوطني الجديد" (NPP)، ما جعلها نموذجًا إفريقيًا في الاستقرار السياسي.
التحديات الاقتصادية وتأثيرها على الاستقرار
رغم الإنجازات السياسية، تواجه غانا تحديات اقتصادية واجتماعية كبيرة قد تهدد استقرارها. في مقدمة هذه التحديات، تأتي البطالة التي وصلت إلى معدلات مقلقة تجاوزت 14% من قوة العمل، ما أدى إلى حالة من السخط الشعبي، خاصة بين الشباب. يمثل هذا الوضع ضغطًا متزايدًا على الحكومة الجديدة، حيث أظهرت استطلاعات الرأي مثل تقارير "جلوبال إنفو أناليتكس" و"أفرو باروميتر" أن أغلبية الشعب تطالب باتخاذ إجراءات عاجلة لخلق فرص عمل وتحسين الظروف المعيشية. الفقر أيضًا يمثل عائقًا كبيرًا أمام التنمية والاستقرار. على الرغم من النمو الاقتصادي الذي حققته البلاد في السنوات الأخيرة، إلا أن الفجوة بين الأغنياء والفقراء تزداد اتساعًا، ما يزيد من التحديات الاجتماعية. تحتاج الحكومة إلى تعزيز سياسات التوزيع العادل للموارد، ودعم القطاعات الإنتاجية مثل الزراعة والصناعة لتوفير فرص عمل مستدامة وتحقيق العدالة الاجتماعية. إلى جانب ذلك، تعاني البلاد من ارتفاع الدين العام الذي يضغط على الميزانية الوطنية ويحدّ من قدرة الحكومة على تنفيذ مشروعات تنموية ضرورية. يتطلب هذا الوضع اعتماد إصلاحات اقتصادية جذرية تهدف إلى تقليل الاعتماد على القروض الخارجية، مع التركيز على تعزيز الإنتاج المحلي والصادرات. لا تزال البنية التحتية في غانا غير متطورة بالشكل الكافي لدعم الطموحات الاقتصادية للبلاد. هناك حاجة ماسة إلى تحسين شبكات النقل والطاقة والمياه، خاصة في المناطق الريفية، لتسهيل الوصول إلى الخدمات وتعزيز النشاط الاقتصادي. بالإضافة إلى ذلك، يعاني قطاعا التعليم والرعاية الصحية من تحديات كبيرة تتطلب تدخلًا حكوميًا عاجلًا. تحسين هذه القطاعات سيكون له تأثير مباشر على تحسين جودة الحياة للمواطنين وتعزيز الإنتاجية.
غانا ودورها في محاربة الإرهاب في غرب إفريقيا
في ظل تصاعد التهديدات الإرهابية في منطقة غرب إفريقيا، تلعب غانا دورًا حيويًا في تعزيز الأمن الإقليمي. وعلى الرغم من أنها لم تشهد هجمات إرهابية كبيرة على أراضيها حتى الآن، إلا أنها تدرك خطورة انتشار الجماعات الإرهابية في البلدان المجاورة مثل بوركينا فاسو ومالي.تعمل غانا على تعزيز قدراتها الأمنية والعسكرية من خلال التعاون مع الشركاء الدوليين، مثل الأمم المتحدة والمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس). بالإضافة إلى ذلك، تساهم غانا في عمليات حفظ السلام الإقليمية وتبذل جهودًا لتأمين حدودها الشمالية من تسلل الجماعات الإرهابية. ومع ذلك، لا يقتصر دور غانا في مكافحة الإرهاب على الجانب الأمني فقط، بل يمتد إلى معالجة الأسباب الجذرية التي تغذي التطرف، مثل الفقر، والبطالة، وضعف الخدمات العامة. إن تحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين، خاصة في المناطق الحدودية، يُعد عاملًا رئيسيًا في منع انتشار الفكر المتطرف والحفاظ على استقرار البلاد والمنطقة.
ختاما يمكن القول بأن غانا تقف على مفترق طرق. نجاحها في مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية، وتعزيز دورها الإقليمي في محاربة الإرهاب، سيحدد مستقبلها كدولة مستقرة وديمقراطية في إفريقيا. ورغم التحديات الكبيرة، فإن إرثها السياسي الراسخ، إلى جانب التزامها بالإصلاحات، يمنحها فرصة حقيقية لتعزيز مكانتها كقوة ديمقراطية واقتصادية في القارة. إن الجمع بين الاستقرار السياسي، ومعالجة القضايا الاقتصادية، وتعزيز الأمن، سيُسهم في خلق بيئة مواتية للتنمية المستدامة، ما يجعل غانا نموذجًا يُحتذى به للدول الإفريقية الأخرى.
* باحث وكاتب سوداني ، متخصص بالشأن المحلي والشؤون الإفريقية
mohamedtorshin@gmail.com