الكتاب: "مراجعة نقدية للإجماع بين النظرية والتطبيق"
الكاتب: حمادي ذويب
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة 2013.


إن دراسة أصول الفكر في واقعنا الحديث لم تفقد مشروعيتها، بل لعل هذه المشروعية تأكدت، اليوم، أكثر من أي وقت مضى، لأنها أضحت في مختلف وجوه الحياة في المجتمع الإسلامي، أدوات توظف لتحقيق غايات دنيوية مختلفة، بعضها إيجابي وبعضها سلبي.



في هذا الإطار، صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، كتاب "مراجعة نقدية للإجماع بين النظرية والتطبيق"، لحمادي ذويب، أستاذ الحضارة والفكر الإسلامي، في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، والحاصل على دكتوراه الدولة عن أطروحة بعنوان "أصول الفقه وصلتها بالواقع التاريخي".

يدرس الكتاب موضوعًا مهمًّا من موضوعات أصول الفقه الإسلامي، وهو الإجماع: كيف نشأت سلطته، ومواقف الفقهاء، والمفكرين المسلمين من حجيته، مع محاولة نقد أسسه على قاعدة مواجهة الوظائف السياسية للإجماع، ومراجعة وظائفه الاجتماعية أيضًا.

يقدّم الكتاب نقدًا جريئًا للإجماع على قاعدة العودة إلى مواقف منهجية، ومرجعيات إسلامية انتقدت وظيفة الإجماع السياسية، والاجتماعية. وهو لا يسعى من خلال هذه "المراجعة" إلى إرساء أيديولوجيا معينة، بل إلى المشاركة في إرساء منهج يسائل الحقائق والمسلَّمات، ويستفيد من المكتسبات العلمية، والمنهجية الحديثة.

حسنًا فعل، ذويب، حين سعى لاستخدام مصادر أصولية، على غرار "تقويم الأدلة للدبوسي" (ت 430 هـ)، و"الوصول إلى الأصول" لابن برهان الحنبلي (ت 518 هـ)، ولم يعتمد في بحثه على مدونة تقليدية تنحصر في عدد معين من الكتب.

في الفصل الأول "مراجعة سلطة الإجماع في الفكر الإسلامي من خلال بعض الاتجهات والأعلام" خاض، المؤلف، في دراسة نماذج من المذاهب والفرق، الذين راجعوا سلطة الإجماع مراجعة نقدية، فنظر، في المحور الأول، في موقف القرآنيين القدامى من الإجماع، ثم ركز النظر على نقد المعتزلة القدامى، أي معتزلة القرن الثالث للهجرة، لحجّية الإجماع، ساعيًا إلى تبيّن الأسس النظرية التي عضدوا بها آراءهم ودوافعهم. في المحور الثاني، توقف، الكاتب، عند بعض تجليات مراجعة الإجماع في الفكر الإسلامي الحديث، على غرار مواقف بعض علماء الهند، وموقفي محمد توفيق صدقي، المصري، وعبد الحميد الزهراوي، السوري.

سعى هذا الفصل إلى انتقاء بعض المحطات المهمة في تاريخ نقد نظرية الإجماع ودراستها. وما يمكن استخلاصه من هذه القراءة أن الفكر السني، وإن كان حاضرًا في مستوى النقد الجزئي لأدلة إثبات الإجماع، فإنه كان غائبًا على صعيد إنكار سلطة هذا الأصل الثالث من أصول التشريع، بحسب الترتيب السني. وهذا الغياب يخبر عن وعي ممثلي الفكر السني بأن كل قطع مع الإجماع يعني الخروج عن صف أهل السنة.

لم يكتف، الكاتب، بتحليل أطروحات منكري الإجماع، وإنما تطرق، أيضًا، إلى آراء مثبتييه من القدامى والمحدثين، الذين آثروا المحافظة على سلطته، مع إدخال تغييرات نقدية على بعض مقومات النظرية.آثر، الكاتب، في الفصل الثاني، "مراجعة مفهوم الإجماع وأسسه النظرية" التوقف عند، مسألتين أساسيتين، من المسائل التي بنى عليها مراجعو الإجماع وناقدوه مواقفهم، وهي مفهوم الإجماع، وأسانيد سلطة الإجماع. ولم يكتف، الكاتب، بتحليل أطروحات منكري الإجماع، وإنما تطرق، أيضًا، إلى آراء مثبتييه من القدامى والمحدثين، الذين آثروا المحافظة على سلطته، مع إدخال تغييرات نقدية على بعض مقومات النظرية.

توسع، الكاتب، في أمر، رأى أنه قد لا يستسيغه كثيرون من المؤمنين بقدسية الإجماع وبسنّيته، وهو النقد السنّي الكلامي الأشعري لأدله إثبات سلطة الإجماع. ولكنه أوضح أن "الغاية من هذا النقد لم تكن إسقاط حجية الإجماع، بقدر ما كانت الغاية منه مراجعة تصور الإجماع وأسانيده، واقتراح بدائل ومرتكزات جديدة." ص (72)

في إطار سعيه لدراسة القسم التطبيقي المتعلق بوظائف الإجماع، خصص، الكاتب، الفصل الثالث "مراجعة وظائف الإجماع السياسية"، لدراسة مركزية الإجماع في نظرية الحكم السنية. فتوقف، في المبحث الأول، عند توظيف الإجماع لتبرير شرعية نظام الحكم السني، وسعى إلى مقاربة مسألة وجوب قيام سلطة تنظم المجتمع، كما تطرق إلى السياق التاريخي الذي برز فيه استخدام الإجماع في النظرية السياسية السنية.

عرض، ذويب، في المبحث الثاني، توظيف الإجماع لتبرير طاعة الحكام، حتى لو كانوا جائرين، أو مغتصبين للسلطة. واستعرض بعض أقوال العلماء التي تعضد هذا الإجماع، كما نظر في غايات هذا الموقف، وصلته بالسياق التاريخي.

أما المبحث الثالث، فقد تطرق فيه، الكاتب، إلى صلة الإجماع بالحرية، ليبين إدراك ممثلي حركة تصحيح الإجماع، ومراجعته إلى ضرورة إعادة النظر في دور الإجماع في مجال حرية الاجتهاد من جهة، والحرية السياسية من جهة أخرى. وقد سعى، ذويب، إلى مزيد من التعمق في فهم طبيعة الصلة بين الإجماع والحرية، من خلال نموذج بعينه، هو الإجماع على قتل المرتد.

تطرق الفصل الرابع "مراجعة بعض وظائف الإجماع الاجتماعية" إلى بعض المسائل الإجتماعية التي اعتمد عليها الإجماع تأصيلًا لشرعيتها، على غرار مسألة تعدد الزوجات، وحجاب المرأة، وختان الإناث، وتولي المرأة المناصب القيادية. وقد حاول، المؤلف، التأكد من وجود إجماع كلي على هذه القضايا، فتبين له "أن في العصور القديمة أو في العصر الحديث، سواء داخل الفكر السني أو خارجه، إشارة إلى أنها مجرد إجماعات مبنية على الاجتهاد، أو على النصوص قابلة للتأويل، أو لإعادة النظر في ضوء ما برز من جديد في العلم أو في المجتمع". ص (217)

لم يقتصر الفصل على القضايا المتعلقة بالمرأة، باعتبارها فئة من فئات المجتمع، وإنما تطرق، بإيجاز، إلى مسألتين تتعلقان بتوظيف الإجماع لتحريم عادتين اجتماعيتين: التدخين واستهلاك المخدرات. وأشار المؤلف في هذا الصدد إلى أن الإجماع، في هاتين المسألتين، هو مجرد موقف تبناه عدد مهم من علماء الدين، لا جميعهم، إن قديمًا أو حديثًا.

حاول، الكاتب، من خلال الفصل الخامس "توظيف الإجماع لتحريم بعض العادات الاجتماعية"، إلقاء مزيدًا من الأضواء، على بعض السمات التي وجدها في المباحث السابقة في الكتاب، النظري منها والتطبيقي. وقد اختار الكاتب، ثلاث خصائص، رأى أنها من أهم ما يميز نظرية الإجماع، وهي الماضويّة، والمركزية، والإقصاء.

برز إنكار الإجماع ونقده منذ أقدم العصور، ولم يؤد إلى اضمحلال الدين، بل على العكس من ذلك، أفضى إلى جدل واسع ونقاش عميق بين المذاهب والفرق الإسلامية، وهو ما أغنى الفكر الإسلامي بطائفة من البراهين متنوعة، وآليات خطابية وحجاجية متعددة. وقد سعى، ذويب، إلى إبراز تأصل المراجعة والنقد لعلم أصول الفقه وقضاياه، إن داخل الدائرة السنية أو خارجها. ورأى أنه علامة صحية تُبرز أن الفكر الإسلامي كان فكرًا حيًا يتفاعل مع بيئته، ويتجاوز أحيانًا سلطة التقليد والسلف.

برز إنكار الإجماع ونقده منذ أقدم العصور، ولم يؤد إلى اضمحلال الدين، بل على العكس من ذلك، أفضى إلى جدل واسع ونقاش عميق بين المذاهب والفرق الإسلامية، وهو ما أغنى الفكر الإسلامي بطائفة من البراهين متنوعة، وآليات خطابية وحجاجية متعددةيتفق ذويب مع من يرى أن الإجماع مجرد آلية من آليات الوحدة، هدفها الأساسي درء الانقسام إلى الحد الذي انتهى معه الفقهاء إلى اعتبار الحقيقة مطلقة، لا تحتمل النسبية أو الخطأ. وكان من الممكن للإجماع أن يكون إيجابيًا لو كان عامل صهر لكل فئات المجتمع، وعنصرًا من عناصر التآلف والتوحد بين مختلف أصناف العلماء، لكن غاياته العامة تغلبت عليها المصالح الفئوية، والمذهبية فأضحى سلاحًا يقع إشهاره في وجه كل مخالف. ص (274)

في خاتمة كتابه، أشار، ذويب، إلى جهود المجددين، وسعيهم، لتطعيم الإجماع بمكتسبات معرفية ومنهجية حديثة. حيث يرى، الكاتب، أنه ليس هناك خيار أما المعرفة الدينية غير أن تتزود من مبادئ الإبستيمولوجيا والأنثروبولوجيا، وعلم اللغة، وعلم النفس، وغيرها من العلوم، "حتى تتجدد أطروحتها ولا تبقى على هامش الثورات العلمية". ص (276)

وأخيرًا، يدعو، ذويب، الباحثين إلى المضي قُدمًا نحو التجديد في أصول الفقه، فمن غير ذلك سيظل  الفكر الإسلامي يدور في حلقة مفرغة.

وبعد، يحسب للكاتب أنه اختار أن يكون في غير دائرة الأكثرية، التي تكتفي بطمأنينة الاعتقاد بسلطة الأصول والقواعد التي نظر لها الأصوليون منذ قرون. بل سعى لاتخاذ منهج نقدي جريء للتراث، سبقه إليه أعلام كبار في تاريخنا الإسلامي القديم، وأستأنفه فريق من العلماء المصلحين في العصر الحديث، الذين أدركوا أنه لا خروج من وضع التخلف الحضاري، إلا من خلال مراجعة نقدية صريحة، وجريئة للفكر الإسلامي، وما أنتجه من علوم.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب الفقه عرض كتاب عرض اجماع فقه كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار تغطيات سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الفکر الإسلامی من خلال

إقرأ أيضاً:

الفساد سرطان الاقتصاد الذي أعيا الحكماء.. قراءة في كتاب

الكتاب: "التعاون الدولي في مكافحة الفساد"
الكاتب: كريم معروف
الناشر: المركز الديمقراطي العربي ط1، ألمانيا ـ برلين 2024.
عدد الصفحات: 225

ـ 1 ـ


في الاقتصاد الحديث يوجد خطان متوازيان متقاطعان في الآن نفسه: الاستثمار وعمل المافيات واللوبيات. فحيث ثمة مشاريع كبرى يوجد طفيليون يتحيّنون الفرص لتحقيق المكاسب غير المشروعة.  وليس استئصال الطفيليات من الاقتصاد باليسر نفسه الذي يتحقق في المزارع لوجود معطيات تحول دون ذلك أحيانا. فالاقتصاد الحر اليوم ينبذ المركزية ويكفر بالحدود. وشركاته عابرة للقارات. وتجارته إلكترونية يتجاوز فيها التبادل المعايير الكلاسيكية كالالتزام بالتوقيت الإداري أو المقرات الاجتماعية ضمن دولة محددة ووفق قانونها الخاص.

وصفقاته تعقد خارج أيام العطل والأعياد وتتحقّق بكبسة زر وتوقيع وتحويل مالي إلكترونيين في المقاهي أو المطاعم. وبالمقابل يدفع البعد السّيادي للدول باستمرار  إلى التعامل مع الجرائم الاقتصادية والفساد المالي من منطلق تمركزها على ذاتها، مّما يمثل عائقا يحول دون التحرك بفاعلية ضد الفساد الذي بات عملا منظما تتعدد فيه الأطراف الدولية وتنسق فيما بينها وفرصة للفاسدين الباحثين عن ملاذ آمن يعفيهم من المحاسبة.

ليست مقاومة الفساد مسألة قضائية شكلية فحسب ولا هي سياسية بالأساس. والاكتفاء بهذين العاملين دون اعتماد معيار الأخلاق يجعل منها بابا واسعا يتسرب منه الفساد إلى الحياة العامة ضمن حالة الزيف التي أصابت القيم جميعا في عصرنا الحالي. ولكن الإشكال هنا أي أخلاق نعتمد ومن هذا "الأخلاقي" الذي سيمنح صلاحية الحكم على الآخرين؟من هذه المفارقة تتأكد الحاجة إلى مراجعة الاتفاقيات والمعاهدات الدولية والإقليمية في مجالات التعاون الدولي لمكافحة الفساد تكريسا للشفافية المالية التي تنادي بها مؤسستا البنك الدولي وصندوق النقد الدولي واستجابة للضغط الذي تمارسه منظمات المجتمع المدني في المحافظة على الممتلكات العامة، ولإيجاد وسائل لمواجهة الفاسدين، تقرّب وجهات النظر والآراء دوليا وتتسم بالمرونة والفاعلية وتحد من الاعتبارات المجحفة للحقوق السيادية للدول مراعاة للصالح العام الدولي.

ضمن هذا الأفق عمل كتاب "التعاون الدولي في مكافحة الفساد" للبحث كريم معروف على استعراض الوضع العام للتعاون الدولي في مجال مكافحة الفساد وسعى إلى البحث في الإستراتيجية العالمية لتعزيز فاعلية التعاون الدولي في مجال مكافحته.

ـ 2 ـ

يستهل الباحث كريم معروف أثره بعرض التعريفات القانونية المختلفة للفساد لفصله عمّا ليس منه. ومن أبسط تعريفاته وأولها ما يتعلق بالارتشاء واختلاس الموظفين للأموال أو المحسوبية أو الابتزاز أو الاحتيال. ويربطه هذا التعريف بالوظيفة العامة وبأنشطة الدولة ويستبعد إمكانية وجوده في القطاع الخاص. ثم تطورت مقارباته الموازية لتطوره بعد أن بات أكثر تعقيدا وتنظيما واحترافية وارتباطا بالجرائم الاقتصادية.

وهذا ما وسّع تعريفه. فأضحى يفيد "نية استعمال الوظيفة العامة بجميع ما يترتب عليها من هيبة ونفوذ وسلطة لتحقيق منافع شخصية منافية للقوانين والتعليمات الرسمية" أو "السلوك الوظيفي السيئ الذي يهدف إلى الانحراف والكسب غير المشروع الخروج عن النظام المصلحة شخصية" أو هو "استخدام السلطة العامة لأجل كسب أو ربح شخصي [كذا] أو تحقيق مكانة اجتماعية أو منفعة لجماعة أو طبقة ما بطريقة يترتب عليها خرق القانون أو التشريع ومعايير السلوك الأخلاقي".

ولعل تعريف البنك الدولي أكثر دقة. فهو يحدّده بكونه "سوء استغلال السلطة العامة لأجل الحصول على مكاسب خاصة ويتمثل في جميع الممارسات السيئة المتمثلة في استغلال الوظيفة سواء كانت حكومية أو خاصة كالعمولات والرشاوى والتهرب الضريبي والجمركي وإفشاء أسرار العقود والصفقات هذا بخصوص الشركات الخاصة، أو من خلال استغلال الوظيفة العامة عن طريق الوساطة والمحسوبية أو السرقة المباشرة الأموال الدولة". ويتم تفريعه إلى فساد سياسي وفساد بيروقراطي أو إداري.

ـ 3 ـ

تختلف طرق التعاون الدولي في مكافحة الفساد ووسائله بحسب الميدان الذي تسعى إليه الدول المتعاونة، فيشمل المجالات السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية. وهذا ما حفّز الباحث على تعريفه من منطلق زوايا مختلفة نوجزها فيما يلي:

ـ هو تحرك جماعي للأطراف الدولية المعنية به، سواء اشتركت دولتان أو أكثر في أعمال منظمة ومنسقة،  لتحقيق نفع مشترك على مستوى مكافحة الجريمة والقبض على مرتكبها وتوقيع العقوبات الرادعة عليهم بما يتناسب وجسامة الجريمة المرتكبة.

ـ يتضمن هذا الجهد توحيد الإجراءات القضائية: ما تعلّق منها بالأدلة الجنائية أو الإدلاء بالشهادات وتبادل المعلومات والمساعدة القانونية المتبادلة.

ـ يقتضي هذا التعاون معالجة الثغرات الأمنية والقانونية الموجودة عبر التنسيق بين الأجهزة الأمنية والقضائية الدولية في محاربة الفساد.

ـ  يشمل التعاون تبادل التجارب والخبرات الأمنية بين مختلف الدول.

رغم اقتناع جميع الدول بأن آلية التعاون الدولي هي الضمانة الرئيسية والأساسية في ملاحقة مرتكبي جرائم  الفساد ورغم هذه النقاط المشتركة، يؤكد الباحث غياب التعريف الموحد والجامع للتعاون الدولي في مجال مكافحة الفساد ويرده إلى اتساع المجال الذي يمكن أن يتخذه هذا التعاون واختلاف طرق استخدامه وتطور أنماطه بالنظر إلى التحولات الاقتصادية المتسارعة. أضف إلى ذلك أنّ الأساس القانوني للتعاون الدولي في مكافحة الفساد يستند إلى عنصرين رئيسيين قد يتضاربان هما النصوص التشريعية الوطنية والاتفاقيات الثنائية أو الإقليمية أو الجماعية المبرمة.

ـ 4 ـ

يهدف لملتجئون للفساد إلى تحقيق المصالح الخاصة وضمان مكتسبات غير مستحقة. وعليه فهو إجراء يحول دون تثمين الكفاءة والجدارة والتنافس النزيه عرضا وطلبا. ويعطّل بالنتيجة قيام اقتصاد سليم قائم على العدالة الجبائية المنصفة، فضلا عن عواقبه النفسية المدمرة للأفراد الذين يحرمون من حقوقهم في العدالة الاجتماعية والاقتصادية له عواقب وخيمة على المشاريع التنموية والاقتصادية. فتهريب الأموال المنهوبة إلى الخارج يمثل استنزافا لاحتياطاتها من العملة الصعبة. ومن هنا تتأكد أهمية ضبط منظومة ناجعة وطنيا ودوليا لاسترداد العائدات الإجرامية، وإرجاعها إلى أصحابها الشرعيين.

ولهذا تُلزم اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد 2003  الدول الأعضاء بضرورة التعاون لمكافحة الفساد حاثة إيّاها على تبادل المساعدات اللازمة لكشفها ومنع حدوثها وعلى البحث عن حلول متبادلة بين المجموعة الدولية تتلاءم مع خطورة جرائم الفساد عالميا. ويتخذ التعاون الدولي لمكافحة الفساد عدة صيغ، منها نظام الإنابة القضائية الدولية الذي  يعرفه الباحث بكونه "شكلا من أشكال التعاون القضائي بين الدولة المنابة للجهاز القضائي في الدولة المنيبة يمارس وفق ضوابط وشروط موضوعية وإجرائية". ومنها تمتيع الدولة الطالبة بحقها في محاكمة المتهم وتنفيذ الحكم الصادر بإدانته، وحق الدولة المطلوب إليها في المحافظة على أمنها واستقرارها.

رغم اقتناع جميع الدول بأن آلية التعاون الدولي هي الضمانة الرئيسية والأساسية في ملاحقة مرتكبي جرائم الفساد ورغم هذه النقاط المشتركة، يؤكد الباحث غياب التعريف الموحد والجامع للتعاون الدولي في مجال مكافحة الفساد ويرده إلى اتساع المجال الذي يمكن أن يتخذه هذا التعاون واختلاف طرق استخدامه وتطور أنماطه بالنظر إلى التحولات الاقتصادية المتسارعة.يكون تسليم المجرمين بناء على اتفاقيات ثنائية بين الدولتين المعنيتين بالتسليم، على أن تتم هذه المساعدة وهذا التعاون بصورة سريعة وفعالة. عبر تسهيل إجراءات البحث والتحري والتحقيق في جرائم الفساد الدولي والرشوة الدولية، والجرائم الاقتصادية.

ولكن هذه الاتفاقيات وحزم القوانين المختلفة تواجه تحديات كثيرة تحول دون تفعيلها ميدانيا على الوجه الأكمل. ويتعلّق أهمها بالعراقيل التشريعية التي تؤثر على نجاح عملية التعاون الدولي في مواجهة الفساد،كاختلاف الأنظمة القانونية أو الأنظمة الإجرائية.

ـ 5 ـ

ما يعني المواطن العربي أكثر من إجراءات مكافحة الفساد اتفاقية الأمم المتحدة لعام 2003. فمادتها الأولى تحدد أغراضها في ثلاث نقاط، هي :

‌"أ ـ  ترويج وتدعيم التدابير[كذا]  الرامية إلى منع ومكافحة الفساد بصورة أكفأ وأنجع،

‌بـ ـ ترويج وتيسير ودعم التعاون الدولي والمساعدة التقنية في مجال منع ومكافحة الفساد، بما في ذلك في مجال استرداد الموجودات

‌ت ـ تعزيز النزاهة والمساءلة والإدارة السليمة للشؤون العمومية والممتلكات العمومية".

ومأتى أهمية هذه الاتفاقية في كونها ملزمة لجميع أعضائها الموقعة عليها ويبلغ عددها 187 دولة. ولنا أن نضيف إلى ذلك، اتفاقية الإتحاد الإفريقي لمنع الفساد ومكافحته 2003 التي تسعى إلى دعم جهود القارة الإفريقية في مجال مكافحة هذه الظاهرة المسؤولة إلى حدّ كبير على حالة الفقر التي تعيشها القارة أو الاتفاقية العربية لمكافحة الفساد العام 2010. فتكاد هذه الاتفاقيات تتشابه من جهة إستراتيجيات مكافحة الفساد والبحث عن تعزيز التعاون الدولي، باستثناء بعض الفوارق القانونية الشكلية البسيطة. وهذا ما يؤكد أن التحدي الأكبر لمقاومة الفساد ليس قانونيا وإنما هو إجرائي يتعلّق بانعدام الشفافية، وغياب الوعي المجتمعي بضرورة القضاء عليه. أمّا الآليات فمتوفرة. ولا  تحتاج إلاّ من يفعّلها.

ـ 6 ـ

ينتهي الباحث إلى تقديم حزمة من التوصيات والحلول من أجل تعاون أجدى لمكافحة الفساد دوليا. منها ضرورة توحيد الجهود الدولية ومضاعفة أساليب التعاون الدولي، خصوصا ما يتعلق باسترداد العائدات الإجرامية.  ومنها إعادة النظر في نصوص الاتفاقيات الدولية التي تحتوي على قيود وعراقيل تقف حائلا أمام إتمام وإكمال عمليات التعاون القضائي، وذلك بتعديلها والتوسيع من نطاق المساعدة القانونية المتبادلة ووضع التشريعات الجادة والفعالة ومعالجة الصعوبات والعراقيل التي تواجه نجاح عمليات التعاون الدولي. وهذا يقتضي التزام جميع الأطراف في الاتفاقيات والمعاهدات الدولية المعنية بمكافحة الفساد والانخراط فيها بالتنفيذ الأمين لأحكامها وقراراتها.

وما يحسب له دعوته لإنشاء محاكم دولية متخصصة بمكافحة الفساد. ويستند في ذلك إلى أطروحة ترى أن جرائم الفساد لا تقل خطورة عن الجرائم الدولية وأن أمواله كثيرا ما تستغل في ارتكاب جرائم أخرى كتمويل الإرهاب وغسيل الأموال والاتجار بالأسلحة والمخدرات وغيرها من الجرائم. ويشدد على ضرورة استقلالية الهيئات والمؤسسات الدولية المعنية بمكافحة ظاهرة الفساد الاستقلالية التامة والكاملة. ويتحقّق ذلك بتحييد السياسيين وإعفائهم من تعيين أعضائها.

ـ 7 ـ

يطرح الباحث المسألة التعاون الدولي لمكافحة الفساد من زاوية قانونية شكلية صرف. وهذا الإجراء مفروض من مستوى منهجي وأكاديمي. ولكن عمليا تبقى المسألة محاطة بكثير من النفاق الدولي وغياب الجهود المخلصة. فسياسيا كثيرا ما تُعتمد قضايا الفساد لتصفية الحسابات بين الخصوم لإزاحتهم والتخلص منهم. فباسمه تتم الانقلابات السياسية. وشعار الانقلابيين جميعا هو التصدي للفساد المستشري في البلاد، بصرف النّظر عن وجوده فعليا من عدمه. وغالبا ما تؤسس هذه الانقلابات لفساد أكبر.

وعمليا أيضا، لا يكون التعريف القانوني الشكلي للفساد ولطرق مقاومته مجديا كثيرا. فوجود عدد كبير من الفاسدين على رأس المؤسسات والمنظمات والحكومات، وقد أثبتت المحاكمات تورطهم، يعطل القوانين ويجرّدها من جوهرها. أما التعقيدات الإدارية والقضائية الكثيرة، فقد أثبتت الوقائع أنها تعطل استرجاع الأموال المنهوبة وتفرّط في حقوق الدول والشعوب وتخدم الدول التي تودع عندها هذه الأموال على حسابها تحت عنوان  حماية حقوق الأفراد المتهمين. والتجربة التونسية في محاولة استعادة هذه الأموال خير دليل. فلهذه التعقيدات أضاعت الدولة التونسية الوقت وأنفقت الأموال الكثيرة بلا جدوى، وأكثر من ذلك أصبحت المسألة رهانا يستغله السياسيون لتبرير تمسكهم بالسلطة.

ولا يخلو  الخوض في المسألة من نفاق حقوقي. فالقيم النبيلة التي يدافع عنها بعض المدعين للنضال الحقوقي مثل احترام الحريات وحماية الممتلكات واحترام المعايير العالمية للعدالة تصبح من العناصر المعطلة. وبناء عليها يتم التأخير المتعمد في البت في قضايا الفساد، في انتظار تغيّر الظروف عساها تمنح الفرصة لعقد صفقة مع فاسدين جدد من رجال السياسة أو القضاء يصلون إلى مراكز القرار.

إضافة إلى ذلك فإن فكرة استقلالية الهيئات والمؤسسات الدولية المعنية بمكافحة ظاهرة الفساد الاستقلالية التامة لا تخلو من نبل. ولكن التجربة التونسية التي ننطلق منها لمناقشة هذا الكتاب تثبت أنها سلاح ذو حدين. فقد تحولت هذه الهيئات إلى دويلات مستقلة متمردة على القوانين، تحدد امتيازاتها بنفسها وتشبع جشعها إلى المال العام . صحيح أن استقلالها لا يحول دون محاسبتها. ولكن هذه المحاسبة تكون داخلية يحكمها منطق التضامن القطاعي وهاجس غلق الملفات وتجاوزها بكثير من المجاملات.

إذن ليست مقاومة الفساد مسألة قضائية شكلية فحسب ولا هي سياسية بالأساس. والاكتفاء بهذين العاملين دون اعتماد معيار الأخلاق يجعل منها بابا واسعا يتسرب منه الفساد إلى الحياة العامة ضمن حالة الزيف التي أصابت القيم جميعا في عصرنا الحالي. ولكن الإشكال هنا أي أخلاق نعتمد ومن هذا "الأخلاقي" الذي سيمنح صلاحية الحكم على الآخرين؟

مقالات مشابهة

  • اعلان غير سار من اليونيسيف للأسر اليمنية التي كانت تحصل على مساعدات نقدية
  • الفساد سرطان الاقتصاد الذي أعيا الحكماء.. قراءة في كتاب
  • تعزيز التعاون بين «الإفتاء المصرية» ومجمع الفقه الإسلامي الدولي
  • مجمع الفقه الإسلامي الدولي: نثمن جهود مصر لنشر صحيح الدين وإصدار الفتاوى الوسطية
  • مفتي الجمهورية يلتقي الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة
  • قراءة نقدية لرواية “عورة في الجوار” للكاتب السوداني أمير تاج السر
  • في نقد كتاب “نقد النقد”: قراءة تجمع بين التنظير والتأصيل
  • الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي: الفكر المنحرف والغلو خطر حقيقي
  • أمين مجمع الفقه الإسلامي: فلسطين تعاني من فكرٍ متطرف ينتهك الأعرافَ الدولية
  • أمين مجمع الفقه الإسلامي: الفتوى الصحيحة صمام أمان المجتمع وتعزِّز الأمن الفكري