عربي21:
2024-07-31@04:15:22 GMT

الاغتراب بعد أوسلو.. الفلسطيني ليس بطلاً في قصص كافكا!

تاريخ النشر: 12th, September 2023 GMT

كتب ماركس في مخطوطات العام 1844، عن الاغتراب من حيث العملية الإنتاجية التي لا يملك فيها العامل ما ينتجه، لتمثّل هذه الحقيقة طبقة من طبقات عدّة، مجموعها الاغتراب الكامل لذلك العامل، الذي يفتقد حرّيّته أصلاً داخل العملية الإنتاجية؛ من الدافع مروراً بظروف العمل، بما ينتهي بالعملية إلى الانتقاص من قدرة العامل على المساهمة في صياغة العالم، ولأنّ العمليّة برمّتها محكومة للمنطق الرأسمالي، فإنّ هذا الاغتراب يأخذ مدى أوسع باغتراب الإنسان عن الإنسان، العامل عن العامل، الفقير عن الفقير (يمكن ملاحظة ذلك اليوم بوضوح في تحميل فقراء بلدان؛ فقراء آخرين ألجأتهم الحروب إليهم؛ المسؤولية عن أزماتهم الاقتصادية).



قفز ماركس بمفهوم الاغتراب قفزة كبيرة، من هيغل مروراً بفيورباخ، لكنّ هذه القفزة الماديّة لا تلبث أن تعود إلى بعد ميتافيزقيّ ما في نتائج الاغتراب على الفرد، حينما نطبّق المفهوم الماركسي على وقائع أخرى من النشاط الإنساني القهريّ غير العملية الإنتاجية المباشرة، إذ يسعى منطق القهر إلى تغريب الفرد عن ذاته، بسحق روحه، وجعله آخر الآمر شخصية "كافكاوية" مهزومة بالكامل، لا تفقد إرادة المواجهة فحسب، ولكنها قد تستكثر على نفسها حتّى الوجود.

منذ توقيع اتفاقية أوسلو والاحتلال يحفر هذا الاغتراب في كلّ شيء، فلا أحد منّا نحن الذين عرفنا الضفّة الغربية (الأرض الموعودة لإقامة دولة فلسطينية عليها)، يعرفها اليوم كما كانت أمس، قبل أوسلو. نحن لا نملك أن نتحرك بحرّيّة في أرضنا، وأن ننتقل من مدينة إلى أخرى بلا خوف، وأن ندخل بسياراتنا في أي شارع نريد، بل حتى المشي في الفضاء الطبيعي في كثير من القرى محال
في قصة "الحساب" لكافكا، يموت البطل منتحراً غرقاً في النهر ردّاً على اتهام أبيه الظالم له بمحاولة قتله، وفي قصة "المسخ" يتحوّل البطل إلى حشرة، وحينما لا تقبل العائلة فرضية أنّ ابنها تحوّل إلى حشرة، تدفن هذه الحشرة في القمامة، فيقرّر البطل (الحشرة) أن ينتحر بالموت جوعاً. وفي قصة "فنان الجوع" كان البطل المسرحيّ يصوم طويلاً بما أثار إعجاب جمهوره، وحينما انفضّ عنه جمهوره، طلب الصفح من جمهوره عن أيّام نجاحه، فالجوع الذي أعجب جمهوره لم يكن سببه سوى أنّه لم يكن يجد طعاماً يحبّه، وفي "المحاكمة" يعجز البطل عن إثبات براءته في اعتقال لا يعرف سببه ليقتله آخر الأمر موظفان طعناً بسكين.

هكذا الأبطال لدى كافكا، مسحوقون، منهزمون من الداخل قبل أيّ شيء، مغتربون عن كلّ شيء حتى عن ذواتهم، أرواح ميتة، وهذا ما يسعى منطق القهر للوصول إليه بأيّ مُستضعَف؛ قتل إرادة المقاومة فيه، بل جعله شخصاً اعتذاريّاً يزدري ذاته ويحتقرها، وينكر حقّه، يرى الحقّ مع مُضطهِده، وهو أمر يذكّر بسياسات القهر الفرعوني، بتقسيم الناس شِيعاً، وجعل المسحوقين ضدّ بعضهم، بما ينتهي بهم إلى موت الروح فيهم: "قالوا أوذينا مِن قَبلِ أَن تَأتِيَنا وَمِن بَعدِ ما جِئتَنا".

منذ توقيع اتفاقية أوسلو والاحتلال يحفر هذا الاغتراب في كلّ شيء، فلا أحد منّا نحن الذين عرفنا الضفّة الغربية (الأرض الموعودة لإقامة دولة فلسطينية عليها)، يعرفها اليوم كما كانت أمس، قبل أوسلو. نحن لا نملك أن نتحرك بحرّيّة في أرضنا، وأن ننتقل من مدينة إلى أخرى بلا خوف، وأن ندخل بسياراتنا في أي شارع نريد، بل حتى المشي في الفضاء الطبيعي في كثير من القرى محال.

القارئ الذي لا يعيش ما نعيش، لا يمكنه فهم ماذا يعني قرية "كفر عقب" بين رام الله والقدس، التي لا شخصية لها ولا هوية، وباتت عالماً اجتماعيّاً مغترباً بالكامل، ولا يمكنه أن يفهم ماذا يعني قرية "بيت إكسا" التي يفترض أنّها جزء من الضفة الغربية، ولكنها مفصولة بالكامل بحاجز إسرائيلي ثابت، عن محيطها الذي يُدعى "شماليّ غرب القدس"، لا يمكنه أن يفهم ماذا يعني قرية "النبي صمويل" التي هي تماماً كقرية "بيت إكسا" بل أشدّ تعقيداً، نحن لدينا قرى مجاورة نُمنع من دخولها، أو قد يُسمح لنا بدخولها بإذن خاص، بالرغم من كونها، سياسيّاً لم تضمّ لكيان العدوّ، أو لـ"القدس الكبرى" الاستعمارية الاستيطانية! هذه أمثلة صغيرة، لا تغني عن المعاينة لفهم ماذا يعني أن تكون في الضفّة الغربية!

الفلسطيني يغترب عن أرضه التي ورثها. الأصلاني يلاحظ الغريب يتحرك بحرية فيما يفترض أنه ملك للأصلاني حيث لا يستطيع التحرّك فيه، ويمكن تخيّل شعور الفلسطيني، الذي كانت تقلّه السيارة في الماضي من رام الله إلى شارع صلاح الدين وباب العمود في القدس، حينما ينظر اليوم طول طريقه إلى يمينه وهو ذاهب من رام الله إلى قرى شرقيّ القدس التي جعلها الاحتلال "خارج الجدار"، فيرى الحواجز التي تفصله عن القدس، وتمنعه من الوصول إلى ما كان يمكنه الوصول إليه بسهولة قبل توقيع اتفاقية أوسلو
أعيش في قرية (قرية رافات في شماليّ غرب القدس وجنوبي رام الله)، حيث ينصرف المخيال إلى الأودية والبساتين والجبال والخلاءات، ولكن لا يمكنني في هذه القرية إيجاد متنفس للاختلاء بالنفس، منذ العام العام 1967 بمعسكر "عوفر"، ثمّ تالياً من بعد أوسلو، بالجدار العازل والطرق الالتفافية، والاحتلال يفصل قريتي هذه عن فضائها المحيط، فقد أغلقها من ثلاث جهات، وعزلها عن امتدادات أرضها، وجعلها متصلة فقط من الناحية الشمالية برام الله. هكذا لم أعد أجد قريتي التي كنت أجوب جبالها ووديانها في طفولتي، ولا يمكنني الاقتراب من أراضيها المحاذية للمعسكرات والطرق والأسلاك والجدران التي تعزل ما كان من قريتي عنها اليوم.

قرية "بيتين" من أقرب قرى رام الله إليها، فلا يفصلها عنها سوى بضعة أمتار، هذه الأمتار القليلة تتحوّل إلى كيلومترات كثيرة، حينما يقرّر الاحتلال إغلاق حاجر الـ"DCO" المحاذي لمستوطنة "بيت إيل"، وهكذا تدور أسماء الحواجز والمستوطنات على ألسنة الفلسطينيين، أكثر ممّا تدور أسماء قراهم ومدنهم، حتى لو كانت تلك الحواجز تشتهر بأسماء قرى ومناطق عربية؛ "حوارة وزعترة" في طريقك إلى نابلس وشماليّ الضفة الغربية، أو "جبع" في طريقك إلى العيزرية وأبو ديس وقرى شرقيّ القدس، أو أسماء غرائبيّة لها علاقة بجذور الحاجز المادية (الكونتينر) في طريقك إلى بيت لحم والخليل، وإن قررت أن تسلك طرقاً أخرى، فإنّ أكثر ما سوف تشاهده الأبراج، والنقاط العسكرية الكبيرة والصغيرة، والبوابات الحديدية، والمكعبات الإسمنتية، والمستوطنات، والطرق الالتفافية! هذا هو الحال في كلّ تجمع قرويّ فلسطيني.

الفلسطيني هنا، ليس كالعامل الذي يغترب عن السلعة التي ينتجها فحسب، بل الفلسطيني يغترب عن أرضه التي ورثها. الأصلاني يلاحظ الغريب يتحرك بحرية فيما يفترض أنه ملك للأصلاني حيث لا يستطيع التحرّك فيه، ويمكن تخيّل شعور الفلسطيني، الذي كانت تقلّه السيارة في الماضي من رام الله إلى شارع صلاح الدين وباب العمود في القدس، حينما ينظر اليوم طول طريقه إلى يمينه وهو ذاهب من رام الله إلى قرى شرقيّ القدس التي جعلها الاحتلال "خارج الجدار"، فيرى الحواجز التي تفصله عن القدس، وتمنعه من الوصول إلى ما كان يمكنه الوصول إليه بسهولة قبل توقيع اتفاقية أوسلو. الحقيقة خلف هذه الكلمات أكبر من أن يصفها تعبير من قبيل "جدار الفصل العنصري".

لا يكتفي الاحتلال بذلك، بتغريب الفلسطيني عن أرضه وهو فيها، بل يسعى إلى تغريب الفلسطيني عن ذاته، حينما يجعله في ذاته سلعة عمّالية داخل ماكينة الاقتصاد الإسرائيلي الجائع للعمالة، وبحيث يضمن الإسرائيلي أن ما يدفعه للعامل الفلسطيني، الذي يفقد حرّيته تماماً، بأكثر ما يفقده العامل الذي يتحدث عنه كارل ماركس، سوف يعود للإسرائيلي نفسه
لا يكتفي الاحتلال بذلك، بتغريب الفلسطيني عن أرضه وهو فيها، بل يسعى إلى تغريب الفلسطيني عن ذاته، حينما يجعله في ذاته سلعة عمّالية داخل ماكينة الاقتصاد الإسرائيلي الجائع للعمالة، وبحيث يضمن الإسرائيلي أن ما يدفعه للعامل الفلسطيني، الذي يفقد حرّيته تماماً، بأكثر ما يفقده العامل الذي يتحدث عنه كارل ماركس، سوف يعود للإسرائيلي نفسه، لأنّ الاقتصاد الفلسطيني ملحق صغير بالاقتصاد الإسرائيلي المتوحّش.

يصلّي العامل الفجر على الحاجز، بعد أن يحصّل تصريحه للدخول للأراضي التي كانت لأبيه أو لجدّه قبل العام 1948، ويمكن لنا الآن أن نتخيّل طبقات الاغتراب التي يُغمس فيها هذا الفلسطيني، والتي هي أضعاف ما أتيتُ على ذكره هنا! بكلمة قصيرة، هذه هي سياسات "السلام الاقتصادي"، التي لا معنى لها آخر الأمر سوى سلب الفلسطيني روحَه!

إنّ اغتراب الإنسان عن الإنسان، الفلسطيني عن أخيه، بدأ مع أوّل حروف اتفاقية أوسلو، باختراع فكرة إسرائيلية عبقرية، سُمّيت "إعادة الانتشار"، تضمن للإسرائيلي أن يضرب الفلسطيني بالفلسطيني، بينما يتخلّص هو من كل عبء، مع استمراره في احتلال أكثر راحة من أيّ وقت مضى!

بعد ذلك كلّه، يأبى الفلسطينيون، أن يكونوا أبطالاً في قصص كافكا، وهذه هي المعجزة الحقيقية وسط هذا الاغتراب الخانق!

twitter.com/sariorabi

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه اتفاقية أوسلو فلسطينية الضفة الغربية الاحتلال الفصل العنصري فلسطين الضفة الغربية الاحتلال الفصل العنصري اتفاقية أوسلو مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة مقالات سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة من رام الله إلى الفلسطینی عن هذا الاغتراب ماذا یعنی ة الغربیة الذی ی ما کان

إقرأ أيضاً:

«كافكا في طنجة».. أحدث إصدارات هيئة الكتاب

صدر حديثًا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، برئاسة الدكتور أحمد بهي الدين، ضمن إصدارات سلسلة الإبداع العربي، رواية «كافكا في طنجة» للكاتب محمد سعيد احجيوج.


في هذه الرواية يستدعي محمد سعيد احجيوج، شخصية الكاتب التشيكي فرانز كافكا، ويقتنص الفكرة الرئيسة التي نهضت عليها روايته «المسخ» فيتشارك بطلا الروايتين، ثيمة التحول عن الهيئة البشرية، فبينما يتحول بطل كافكا «جريجو سامسا» إلى حشرة عملاقة يتحول بطل احجيوج «جواد» بعد انتهائه من قراءة رواية «المسخ» إلى هيئة أقرب لقرد، وعبر هذا التداخل والمزج بين الحقيقة والفانتازيا يرصد الكاتب علاقات أسرية متوترة تشوبها النفعية ويلج واقعا كابوسيا يعيش فيه الفرد أزمات طاحنة مع مجتمع يمارس ضده شتى ألوان القهر ويعاني فيه استلابل ماديا يزهق إنسانيته ويلقي به في هاوية عميقة من الاغتراب وعدم الانتماء.

وعلى الرغم من تعمد الكاتب التناص مع رواية الكاتب التشيكي المنشورة قبل أكثر من قرن من الزمان، وتشابه بعض الأحداث؛ فإنه عمد إلى مخالفته في التعاطي مع نتاج أزمة البطل وخياراته ومصائر الشخوص.

محمد سعيد احجيوج، كاتب وروائي من المغرب صدر له روايات: «أحجية إدمون عمران المالح» (بيروت (2020)، تأهلت الرواية إلى القائمة القصيرة لجائزة غسان كنفاني للرواية العربية 2022، و«ليل طنجة» (القاهرة 2022)، حصل مخطوط الرواية على جائزة إسماعيل فهد إسماعيل للرواية القصيرة (2019). و«متاهة الأوهام» (بيروت، 2023)، أما الطبعة الأولى من رواية «كافكا في طنجة» فقد صدرت باللغة الإنجليزية (طنجة 202٣)، واليونانية أثينا 2023)، وترجمت فصول منها إلى الإيطالية.

مقالات مشابهة

  • رياضيون مقدسيون يحملون رسائل إلى أولمبياد باريس
  • سردية الصمود الفلسطيني
  • «كافكا في طنجة».. أحدث إصدارات هيئة الكتاب
  • شرط الأمان لتحقيق العدالة لفلسطين
  • حليف أردوغان يؤيد التدخل العسكري التركي في الحرب الإسرائيلية على غزة
  • مذكرات اعتقال نتنياهو وغالانت آتية لا محالة
  • الأول بالتوجيهي الفلسطيني: فرحتي بالتفوق منقوصة
  • مفتي القدس: الفلسطينيون يقبضون على الجمر في زمن قاسٍ
  • مفتي القدس: صوت الساسة ورجال الدين لا بد أن يصدح أمام استباحة المسجد الأقصى
  • الشيخ رائد صلاح: الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي خرجتا إلى التقاعد