رحيل شيخ المترجمين السودانيين السر خضر سيد أحمد
تاريخ النشر: 12th, September 2023 GMT
توفي أمس الأحد في مدينة ود مدني بولاية الجزيرة المترجم السوداني السر خضر سيد أحمد.
وكان البروفيسور والأديب السوداني علي المك قد أطلق على الأستاذ السر خضر سيد أحمد لقب “شيخ المترجمين السودانيين”، لما يتمتع به من إلمام واسع باللغتين العربية والإنجليزية، ومهارات فنية فائقة في الترجمة العكسية بين اللغتين.
كما وصفه الشاعر عالم عباس بقوله “لو كنا في عصر المأمون لكان السر خضر صنوا لابن المقفع، ولكانت لدينا روائع التراجم مثل كليلة ودمنة، عملا إبداعيا خلاقا، لا نكاد نهتم أو نعرف الأصل الذي ترجم منه، وربما كان السر خضر من الذين ترجموا لنا رباعيات الخيام، التي تبارى فيها المترجمون الحذاق من لدن الصافي النجفي وأحمد رامي وغيرهما”.
إذا من السر خضر سيد أحمد الذي نتحدث عنه وعن طول باعه في الترجمة؟ وإلى أي جيل ينتمي؟ وما الأعمال الرئيسة التي أصدرها في مجال الترجمة ولم تصل إلى جمهور واسع من القارئين والباحثين؟ عندما سأله الشاعر محمد نجيب محمد علي: من أنت؟ رد السر قائلا “من أصعب الأشياء أن تتحدث عن نفسك، لذا فلندع الأشياء تقول ما تحب أن تقول، دون الرجوع إلى الذات، باختصار أنا رجل بسيط من مدينة بسيطة وجميلة، تلقيت تعليمي في مدينة ود مدني و(جامعة) الخرطوم، ثم مارست التدريس، وأثناء الحياة الطلابية والمهنية مارست الترجمة وإلى الآن.. أنا شغوف بالترجمة، ومحب لها، وألتهم الكتب التهاما”.
ويبدو أن جامعة الخرطوم قد عززت فيه دافعية القراءة والترجمة، حيث حصل فيها على بكالوريوس الآداب في اللغة الإنجليزية في نهاية الستينيات من القرن العشرين، وأول عمل مترجم إلى العربية أنجزه السر في سنوات جامعة الخرطوم كان إحدى قصائد الشاعر والمسرحي الأميركي المرموق كونراد بوتر أيكن (1889-1973)، الذي اشتهر بشاعر الولايات المتحدة الأميركية في النصف الأول من عقد الخمسينيات.
وبعد حصوله على بكالوريوس الآداب في اللغة الإنجليزية، عمل السر بالمدارس الثانوية أستاذا للغة الإنجليزية، وتدرج في سلك التعليم الثانوي إلى أن بلغ رتبة موجه تربوي، واغترب لفترة قصيرة بسلطنة عمان، وأخيرا ختم حياته العملية محاضرا في اللغة الإنجليزية والترجمة بكلية ود مدني الأهلية. وفي خواتيم عمره مال إلى التصوف وأدبيات القوم، وسلك الطريقة القادرية على الشيخ الريح الشيخ عبد الباقي.
دار جدل قديم عن الترجمة في الأروقة الأكاديمية: هل هي علم أم فن؟ فكانت الإجابة المجمع عليها أنها تجمع بين الاثنين، فإذا نظرنا إليها من الناحية الأكاديمية فهي علم له قواعده، وأسسه، ونظرياته المرتبطة بعلم اللسانيات، ولكن مخرجات العمل المترجم تتأثر بملكات المترجم اللغوية، وثقافته الأدبية والمعرفية، وقدرته على توليد المترادفات في اللغات، ولذلك يقال إن المترجم كاتب ثانٍ للنص، لأنه يتقمص روح المؤلف، ويتوخى الدقة في نقل إحساسه الكامن وراء الألفاظ والمعاني.
ينظر السر خضر إلى فن الترجمة من هذه الزاوية، ويتجلى ذلك في حواره مع الشاعر محمد نجيب عندما سأله: هل يكون الارتكاز في الترجمة على اللغة أم على المعنى أم الإيحاء؟ فأجابه قائلا “على المعنى، الترجمة هي أساس نقل للمعنى من لغة إلى لغة أخرى، ولا بد أن يكون المترجم ملما بثقافة اللغتين”. ولذلك يصف عالم عباس ترجمات السر بالترجمات الإبداعية الخلاقة، التي تتغلغل في المعنى وروحه.
وفي سؤال آخر طرحه محمد نجيب عليه: “قل لي إلى أي حد يستطيع القارئ باللغة الإنجليزية استيعاب شعر امرؤ القيس مثلا؟” فأجابه السر إجابة طريفة لكنها تحمل بعض الدلالات المهمة، مفادها “امرؤ القيس يكتب من بيئة عربية صحراوية والقارئ الإنجليزي بيئته مختلفة تماما، ذاك يقوم على الجماعة وهذا على الفردية”.
من أهم الترجمات الإنجليزية التي أصدرها السر “ديوان العودة إلى سنار”، و”ديوان السمندل يغني”، لصديقه الدكتور محمد عبد الحي. وشكلت قصيدة العودة إلى سنار الخيط الناظم لقصائد الديوان، الذي حمل اسمها، ونسجت بعدا جديدا من أبعاد أدبيات الغابة والصحراء، وكذلك السمندل الطائر البحري، الذي حلق اسما ورمزا في الديوان الذي حمل اسمه.
ترجم السر هذين الديوانين ترجمة رصينة تغلغلت فيهما مقاصد المعاني وأرواحها، كما يرى عالم عباس، كما أتقن الترجمة بمحبة صادقة لصديقه محمد عبد الحي. وعندما سأله الشاعر محمد نجيب محمد علي عن سر اختياره لترجمة ديواني الشاعر محمد عبد الحي، أجابه “أنا أحب محمد عبد الحي محبة كبيرة، وهو ليس شاعرا فقط، بل هو مفكر، وأحد أعظم المترجمين من الإنجليزية للعربية في العالم العربي، إلى جانب أنه كاتب مسرحي. وعبد الحي يكتب وفي منظوره قارئه، وهذا القارئ يتطلع إلى أشياء معينة يحبها، لا يجدها إلا عند محمد عبد الحي. العودة إلى سنار هي العودة إلى النبع، وهي مثل رواية الجذور (لمؤلفها أليكس هيلي)، التي ترجع إلى الأصول الأفريقية في الذات الإثنية، وتجاوز محمد ذلك، لأنه يتحدث عن الذات الجمعية والذات الجنسية، ويتكلم عن الوطن بكل بعده الجغرافي والإنساني، عبد الحي في العودة إلى سنار يعكس عودته هو إلى السودان، والسمندل يغني من ذات البعد من منظور ثقافي”.
وفي حوار مع مجلة “سودان ناو”، سئل السر عن إعادة ترجمة ديوان العودة إلى سنار، فرد قائلا “تصدر آلة الكمان العتيقة نغمة آسرة”، أي إذا اتيحت له فرصة إعادة ترجمة ديوان العودة إلى سنار لأنتج ترجمة أبدع من الترجمة الأولى.
نشر السر خضر العديد من الترجمات الشعرية في مجلة سودان ناو، والتي أبهرت عالم عباس، ودفعته لوصف السر بالرائد الذي عرفه منذ السبعينيات، ويصف ترجمات السر خضر لقصائد شعراء معاصرين أمثال محمد عبد الحي، ومصطفى سند ومحمد المكي إبراهيم، وعبد الرحيم أبو ذكرى، والنور عثمان أبكر، بأنها كانت “في غاية الجمال والدقة، وعندما “تجد نصا ترجمه السر خضر، فاعلم أن هذا نص بديع… فالسر لا يترجم إلا الدرر، فأي نص ترجمه يتألق في ثوب من الجمال يتمنى صاحب أي نص أن لو عبر من خلال قلمه السر خضر”.
وإلى جانب هؤلاء الشعراء كان السر مغرما بكتابات عيسى الحلو، فوصفه بأنه أميز المثقفين والكتاب العرب والأفارقة، وأنه يمتلك تقنيات سرد عالية، وخيالا واسعا، واسترجاعا جذابا، فضلا عن أنه كان يختار شخصياته الروائية من الحياة الواقعية، وينسج من بعض سلوكياتها وتفاعلاتها مع الحياة حبكة روائية ممتازة وآسرة. وترجم السر مجموعة قصصية للكاتب عيسى الحلو، وصفها بأنها كانت تمثل نموذجا من الروايات السودانية التي كانت تفوق نظائرها الأفريقية جودة وإبداعا.
وفي عقد التسعينيات من القرن العشرين ترجم السر مجموعة أعمال لشعراء مرموقين، أمثال محمد المهدي مجذوب، ومحمد المكي إبراهيم، ومصطفى سند، وكمال الجزولي، وعالم عباس، وفضيلي جماع، ونشرها في كتاب بعنوان “الشعر السوداني الحديث: مختارات وتقييم”. ووصف الأستاذ الناقد مجذوب عيدروس مقدمة الكتاب بأنها “مقدمة ضافية عن الشعر السوداني، فيها خلاصة رؤية المترجم، وتعريفه لقارئ الإنجليزية بالمسيرة الإبداعية لشعراء السودان”، كما وصف الدكتور أحمد الصادق، أستاذ اللسانيات بجامعة الخرطوم، الترجمة “بالنصاعة والنضارة”، والنصوص المختارة بأنها قد مثلت وعيا راشدا “بالذاكرة الشعرية (السودانية، وفتوحات اللغة وكشوفاتها، وفتوقات السؤال، وقد ظل أستاذنا (السر) لما يقارب نصف قرن أمينا لمشروعه ولم يحد عنه”.
تأسست رابطة أدباء الجزيرة عام 1960، وحضر اجتماعها التأسيسي محمد عبد الحي، وفضل الله محمد، وصديق محيسي، وانضم إليهم لاحقا الزين عباس عمارة، وعبد المجيد عبد الرحمن، وعثمان جعفر النصيري، والنور عثمان أبكر. وعقدت الرابطة اجتماعها الأول في منزل عبد الحميد البوشي، الذي اختير أول رئيس للرابطة، ومحمد عبد الرحمن شيبون أمينا عاما، ومحمد عبد الحي مسؤولا ثقافيا. ومنذ ذلك التاريخ أصبحت الرابطة نشطة فاعلة في مجال العمل الثقافي بود مدني. وإلى جانب دور الرابطة الثقافي والأدبي، يذكر الأستاذ صديق محيسي أن مكتبات ود مدني الخمس كانت تشكل رافدا ثقافيا.
في هذه البيئة الثقافية نشأ السر خضر، واستقام ميسم كسبه الأدبي والمعرفي. وبعد فترة من العطاء الأدبي المجتمعي احتجبت رابطة أدباء الجزيرة عن المسرح الثقافي، وحلت محلها رابطة الجزيرة للآداب والفنون عام 1973، برئاسة الأستاذ محمد الحاج محمد صالح.
هذا هو السر خضر الذي شهدت كوكبة من الأدباء والشعراء والنقاد السودانيين بتواضعه الجم، وأدبه الرفيع، وابتعاده عن الأضواء، ولذلك قال عنه عالم عباس “لو كان السر في مكان آخر غير هذا البلد، لأقيمت له التماثيل، وهيئت المؤسسات، وعسى أن يأتي اليوم الذي نكرم فيه هذا الترجمان الراهب بإنشاء دار للترجمة، تليق به وبنا، إذا كنا حقا نسعى للبر بهذا الوطن”، ويضيف عالم: “السر خضر كنز.. لكن لا كرامة لنبي في قومه، وما أقسى ذلك في هذا الزمان”.
الجزيرة نت
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: اللغة الإنجلیزیة الشاعر محمد فی الترجمة محمد نجیب کان السر ود مدنی
إقرأ أيضاً:
دراسات الترجمة بين النظرية والتطبيق في ندوة لقصور الثقافة بأسيوط
شهد قصر ثقافة أسيوط ندوة ثقافية بعنوان "دراسات الترجمة بين النظرية والتطبيق"، ضمن أنشطة الهيئة العامة لقصور الثقافة، برئاسة اللواء خالد اللبان، في إطار برامج وزارة الثقافة.
أقيمت الندوة بإشراف الكاتب محمد ناصف نائب رئيس الهيئة، وجاءت ضمن أنشطة نادي الترجمة برئاسة الأديب د. سعيد أبو ضيف، أستاذ الترجمة بكلية الآداب بجامعة أسيوط، بهدف دعم وتطوير مهارات المترجمين الشباب، وتعزيز دور الترجمة في نقل المعارف والثقافات.
واستهلت د. صفاء حمدان، مدير قصر ثقافة أسيوط الندوة بكلمة أكدت خلالها أهمية الترجمة في بناء الجسور بين الشعوب، ودور قصور الثقافة في إثراء الحياة الثقافية وإتاحة الفرص أمام الشباب لاكتساب المهارات اللغوية والمهنية.
وأكد جمال عبد الناصر، مدير عام إقليم وسط الصعيد الثقافي، أن الترجمة تعد سفيرا للتفاهم بين الشعوب، مشيرا إلى دورها الحيوي في نشر المعرفة وتعزيز الحوار الثقافي بين الأمم، داعيا الشباب إلى الاعتماد على الذات، وتطوير مهاراتهم التقنية واللغوية لمواكبة متطلبات سوق العمل الحديث.
وخلال الندوة، شدد الدكتور سعيد أبو ضيف على أهمية الجمع بين الدراسة الأكاديمية والتدريب العملي في مجال الترجمة، مشيرا إلى أن ورش العمل والندوات المتخصصة تتيح للمترجمين المبتدئين فرصة لاكتساب الخبرات التطبيقية اللازمة لسوق العمل.
كما أوضح أن التعاون بين نادي الترجمة الحديث، ووزارة الثقافة، ومكتبة مصر العامة بأسيوط، يعزز من فرص الشباب في تطوير مهاراتهم بعيدا عن النطاق الأكاديمي التقليدي.
أما الدكتور خالد سلامة، أستاذ اللغويات والترجمة بجامعة أسيوط، فتناول أهمية التفكير خارج الصندوق في مجال الترجمة، والبحث عن فرص العمل الرقمية عبر المنصات الإلكترونية، مشيرا إلى أن التطور التكنولوجي أتاح للمترجمين مجالات جديدة، مثل الترجمة الفورية، والترجمة الآلية، والتوطين اللغوي.
في السياق، أوضح الكاتب والمترجم ياسر سعيد أحمد، الباحث في علوم الترجمة بجامعة سوهاج، الفرق بين النظريات الأكاديمية والتطبيق العملي، مشددا على أهمية الابتكار والتطوير المستمر للمترجمين، لا سيما مع تطور أدوات الذكاء الاصطناعي وتزايد الحاجة إلى مهارات جديدة في المجال.
وتطرقت الدكتورة هبة الله يحيى سيد، من كلية الدراسات الإنسانية بجامعة الأزهر، إلى أهمية الاستفادة من التقنيات الرقمية في الترجمة، مثل القواميس الإلكترونية، وبرامج التدقيق اللغوي، وأدوات الترجمة بمساعدة الحاسوب (CAT tools)، مؤكدة أن هذه الأدوات أصبحت ضرورية لكل مترجم يسعى للتميز في مجاله.
وتخللت الندوة التي قدمت ضمن أنشطة إقليم وسط الصعيد الثقافي، وفرع ثقافة أسيوط بإشراف خالد خليل، ورشة تفاعلية قدم خلالها عدد من شباب المترجمين تجاربهم حول سوق العمل الحر في مجال الترجمة، حيث استعرضت نوران كريم وهالة صابر، من قسم الترجمة بجامعة أسيوط، خبراتهما في العمل عبر الإنترنت، وكيفية التغلب على التحديات التي تواجه المترجمين المستقلين.
كما تحدثت عضوتا نادي الترجمة الحديثة، آلاء أسامة وفاطمة حسانين، عن أهمية التدريب المستمر وورش العمل في تأهيل المترجمين، وتعريفهم بأحدث التطورات في المجال، مشيرتين إلى أن العمل الحر أصبح فرصة ذهبية للباحثين عن وظائف غير تقليدية في مجال الترجمة.
وشهدت الندوة حضور عدد من الشخصيات الثقافية والأدبية، من بينهم الأديب أيمن رجب، الشاعر رأفت عزمي، والدكتور عبد الناصر بديوي. وفي ختام الفعالية، تم تكريم الطلاب المتميزين في مجال الترجمة، بمنح شهادات تقدير للمتدربين الذين اجتازوا ورشة إعداد المترجم المحترف، التي أقامها نادي الترجمة الحديثة.