عربي21:
2024-12-23@19:38:45 GMT

الزعيم اللئيم والصعلوك الكريم (13)

تاريخ النشر: 12th, September 2023 GMT

نستكمل في هذه الحلقة، قراءة الجزء الثاني من الاجتماع الذي يُعد "الأخير" في سلسلة الاجتماعات التي تمت بين عدد من قيادات الإخوان المسلمين، والضباط "الأحرار"، قُبَيل وبعد الانقلاب على الملك فاروق، وإرغامه على التنازل على العرش ومغادرة مصر..

اقتصر هذا الاجتماع (الخطير المثير بحق) على كاتب محاضر هذه الاجتماعات المحامي حسن العشماوي، وجمال عبد الناصر، ثم انضم إليهما عبد الحكيم عامر الذي حاول أن ينجح فيما فشل فيه عبد الناصر، ألا وهو إقناع العشماوي بالانضمام إلى صف العسكر (عبد الناصر ورفاقه)؛ لأن قراراً بتصفية الإخوان المسلمين قد اتخذه الضباط "الأحرار".

. ذلك لأن عبد الناصر اعتبر الإخوان "عُصاة"، ولا مكان لعاصٍ في ظل السلطة الجديدة! إذ قال للعشماوي في هذا الاجتماع ما نصه:

"فكر يا حسن ولا تتعجل الرد، فإني سأقضي على الإخوان.. لن أسمح للعُصاة بالبقاء".

إن محضر هذا الاجتماع (في نظري) من أهم الوثائق التاريخية (إن لم يكن أهمها على الإطلاق) التي تثبت بما لا يدع مجالا للشك؛ أن قرار القضاء على الإخوان المسلمين قد اتخذه عبد الناصر أثناء هذه الاجتماعات التي خرج منها بقناعة راسخة مفادها أنه لا يمكنه الانفراد بالسلطة في وجود الإخوان، ومن ثم لا بد من القضاء عليهم، حتى لو تم ذلك باختلاق الذرائع وتلفيق الاتهامات، وهو ما كان حرفيا!

محضر هذا الاجتماع (في نظري) من أهم الوثائق التاريخية (إن لم يكن أهمها على الإطلاق) التي تثبت بما لا يدع مجالا للشك؛ أن قرار القضاء على الإخوان المسلمين قد اتخذه عبد الناصر أثناء هذه الاجتماعات التي خرج منها بقناعة راسخة مفادها أنه لا يمكنه الانفراد بالسلطة في وجود الإخوان، ومن ثم لا بد من القضاء عليهم، حتى لو تم ذلك باختلاق الذرائع وتلفيق الاتهامات،
من الطرائف التي تجري على ألسنة الإخوان: "يوجد أخ عامل، ويوجد عامل أخ".. وتعني: يوجد أخٌ عاملٌ لدينه ودعوته ووطنه، ويوجد صنف آخر يتصنع أو يتكلف هذه الأخوَّة؛ لتحقيق مآرب شخصية لا علاقة لها بدين أو بدعوة!

في هذا الاجتماع سنجد مفهوم "الأخ العامل" متجسدا في حسن العشماوي، الذي رفض عرض عبد الناصر، وأبى أن يبيع إخوانه بعرَضٍ دنيوي زائل، رغم ما تأكد له من فداحة الثمن الذي سيدفعه مقابل "غفلته" حسب وصف عبد الناصر، ومقابل "وفائه" لدعوته وإخوانه حسب وصف العشماوي لموقفه..

يقول العشماوي لعبد الناصر:

"لا تعنيني تسمياتك للأشياء.. فنحن مختلفان في التسميات عادة.. ولكن تعنيني الحقائق كما أراها.. العبرة بالمسميات لا بالأسماء يا جمال.. فما قد تسميه أنت غفلة لأنه يخالف المصلحة الشخصية، أسميه أنا وفاءً".

أما وصف الصنف الآخر من الإخوان، أي ذاك الذي "عامل أخ"، فقد جاء على لسان عبد الناصر، حين تدخّل في الحديث (بغضب) بين العشماوي وعامر:

"أرأيت يا عبد الحكيم، كيف يسعى إلينا الكثير من الإخوان يحاولون إرضاءنا.. ونسعى نحن لإرضاء حسن.. ولكنه يرفض.. ماذا نفعل؟".

كان لدى العشماوي قناعة بأن عبد الناصر سينتصر في حربه على الإخوان، كونه أصبح يمتلك القوة، وبات صاحب النفوذ والقرار، وقد صرخ بذلك لعبد الناصر في هذا الاجتماع.. ورغم ذلك، لم يتردد في أن يكون في صف الخاسر المظلوم، وليس في جانب المنتصر الظالم!كان لدى العشماوي قناعة بأن عبد الناصر سينتصر في حربه على الإخوان، كونه أصبح يمتلك القوة، وبات صاحب النفوذ والقرار، وقد صرخ بذلك لعبد الناصر في هذا الاجتماع.. ورغم ذلك، لم يتردد في أن يكون في صف الخاسر المظلوم، وليس في جانب المنتصر الظالم

ومن عجب، أن العشماوي نبَّه أو حذَّر عبد الحكيم عامر من مصيره الذي لاقاه على يد عبد الناصر بعد سنوات، في حضور عبد الناصر، وهذه هي "الغفلة" الحقيقية التي ظنها عامر "وفاءً" لعبد الناصر!

"إن جمالا يريد أن يكون دكتاتورا يأكل الجميع.. حتى أنت.. ومع ذلك أراك تعينه على ذلك.. سيكون مشروع دكتاتور فاشل".

وإليك (عزيزي القارئ) تفاصيل الجزء الثاني من هذا الاجتماع الخطير المثير.. وللتذكير، فإن هذا الاجتماع (وهو الأخير) قد تم في غرفة مكتب، في "مجلس قيادة الثورة"، في الجزيرة (وسط النيل)..

اليوم الرابع

ظهر يوم 15 أيار/ مايو سنة 1953

- حسن: أتسمع ردي الآن؟

- جمال: بل فكر وأجبني غدا أو بعد غد.

- حسن: إن ردي حاضر.. حاضر منذ وقت طويل.. فاسمعه الآن اختصارا للوقت.

- جمال: إن شئت..

- حسن (في هدوء): لقد عرفتك (يا جمال) عن طريق الإخوان.. ولولا هم ما عرفتك.. وأنت تنوي حربهم، وتستعين عليهم بكل وسيلة، تفرق بينهم، وتستعدي عليهم الناس والدول، وتستعمل أجهزتك في القضاء عليهم.. إن أغلب الظن عندي أنك ستنتصر عليهم.. ثم ها أنت تأتي لتعرض عليّ أن أتركهم وهم في محنة، لأعمل معك وأنت في السلطة.. هم في هبوط، وأنت في ارتفاع.. لا.. إن وفائي لهم ولمبادئي يمنعني من ذلك.. يمنعني من قبول عرضك.. وأنا على يقين أن لك عليهم النصر في هذه الجولة.. (يصمت).

- جمال (بعد لحظة): أتعلم يا حسن أني جاد في حربي للإخوان؟

- حسن: نعم.. أعلم.

- جمال: ومع ذلك تقول إنك ترفض عرضي وفاءً لهم.. ليس هذا بالوفاء.. إنه التهور والغفلة!

- حسن: لا تعنيني تسمياتك للأشياء.. فنحن مختلفان في التسميات عادة.. ولكن تعنيني الحقائق كما أراها.. العبرة بالمسميات لا بالأسماء يا جمال.. فما قد تسميه أنت غفلة لأنه يخالف المصلحة الشخصية، أسميه أنا وفاءً.

- جمال: فكر يا حسن ولا تتعجل الرد، فإني سأقضي على الإخوان.. لن أسمح للعُصاة بالبقاء.

- حسن: هل العُصاة عندك هم مَن يخالفونك الرأي أحيانا؟

جمال (في ضيق): نعم.

- حسن (في هدوء): اعتبرني من العُصاة إذن.. (يهم بالقيام) اسمح لي بالانصراف.. فقد انتهى حديثنا فيما أعتقد.

- جمال (ممسكا بذراع حسن ليجلس): بل ابق قليلا.. فعبد الحكيم قادم الآن.. أريد أن يعلم أني بذلت جهدي.

- حسن (في تعجب): عبد الحكيم؟ وهل يعلم عرضك عليّ؟

- جمال: طبعا.. وكان يريد أن يتولى هو العرض عليك.. ولكني آثرت أن أقوله شخصيا.. ومع ذلك فشلت بسبب غفلتك، وإصرارك على الوفاء لقوم لستَ منهم.

- حسن: هبني لستُ منهم في رأيك.. المهم قل لي.. هل من سبيل (لأجل هذا البلد) ننهي به الخصومة بينك وبين الإخوان دون صدام؟

- جمال: هذا يتوقف عليهم.. أما أنا فقد بذلت جهدي.. إنهم يعارضونني في كل شيء.. إنهم يعملون ضدي في كل مجال.. إنهم يفرضون عليّ وصاية لست على استعداد لقبولها.

- حسن: وتأييدهم الداخلي في أحرج المواقف.. هل نسيته؟

- جمال: لقد استفادوا هم منه أكثر مما استفدت أنا.

من عجب، أن العشماوي نبَّه أو حذَّر عبد الحكيم عامر من مصيره الذي لاقاه على يد عبد الناصر بعد سنوات، في حضور عبد الناصر، وهذه هي "الغفلة" الحقيقية التي ظنها عامر "وفاءً" لعبد الناصر
- حسن: وموقفهم في التفاهم مع الإنجليز؟ ألم يسند ظهرك في مفاوضاتك الجارية؟

- جمال: ذاك موقف استفدت منه وانتهى.. ولكنهم صاروا عصاة.. لا يجوز أن أتركهم كذلك.

- حسن (مقاطعا): أكُل من خالفك الرأيَ عاصٍ؟

- جمال (في تسرع): نعم.

- حسن: اللهم فاشهد أني من العُصاة في نظر جمال.. جمال رحِمَهُ الله.

- جمال (يكتم غيظه): هلا كنت معي أكثر رفقا؟

- حسن: وهل كنت أنت يوما رفيقا بأحد؟ جزى الله مكيافيللي وعبد الرحمن السندي بما يستحقان.. قد..

- جمال (مقاطعا في حدّة): لا تحدثني هكذا.. قد كنا أصدقاء.. وأنت اليوم تنفض يدك من صداقتي.

- حسن: الحمد لله أن قلتها أنت.

(صمت.. كلاهما مطرق.. يدخل عبد الحكيم)

- عبد الحكيم (يسأل ضاحكا): ما بكما؟ أراكما صامتين كمن يجلس في مأتم.. مأتم مَن يا ترى؟

(جمال وحسن ينظران إليه صامتين.. يقف حسن ليسلم، ويجلس ثانية)

- عبد الحكيم (مواصلا): ما بالكما.. أراكما صامتين كأسدي كوبري قصر النيل! (يأخذ صوته طابع الجد).. هل عرضت عليه ما اتفقنا عليه يا جمال؟

- جمال: عرضت عليه ورفض.. رفض بحجة الوفاء لمن كان السبب في تعارفنا، وكأنما ليس لمصلحة البلد وحب الوطن شأن في الأمر.

- حسن: دعك من الحديث عن الوطن وحبه.. فالكل يدَّعيه.

- عبد الحكيم: ولماذا رفضت يا حسن؟ لقد أردنا أن نبقيك بعيدا عن المعركة حتى تنتهي.. إنه أمر بسيط.

- حسن: قلت لكم مرارا أني لن أحاربكم بأية وسيلة غير مشروعة.. ولكن لي الحق في أن أقول رأيي وإن خالفكم.

- عبد الحكيم: أرجئ رأيك حتى ننتهي.

- حسن: لن أتخلى عن الدعوة التي عشت فيها.

- عبد الحكيم: احتفظ بها في قلبك حتى تنتهي الأمور.. هل هذا مطلب عسير؟

- جمال (متدخلا في الحديث): أرأيت يا عبد الحكيم كيف يسعى إلينا الكثير من الإخوان يحاولون إرضاءنا.. ونسعى نحن لإرضاء حسن.. ولكنه يرفض.. ماذا نفعل؟

- حسن: قل لي يا عبد الحكيم.. أنسيتم ما فعله لكم الإخوان.. لماذا حربهم؟ أما من سبيل إلى التفاهم؟

- عبد الحكيم: ما فعله الإخوان لمصلحتنا أمر تم وانتهى.. هكذا يرى جمال.. ونحن معه في ذلك.. حتى موقفكم من الإنجليز سنستفيد منه، ولكن لا يجوز أن يكون لأحد فضل غيرنا.. غير جمال أعني.. فهو يمثل نيابة عنا آمال مصر ومستقبلها.. إننا نريد بلدا موحد الكلمة وأنتم (أقصد الإخوان) لا تريدونها كذلك.. تعقَّل يا حسن، فأنت تعلم أننا ماضون في طريقنا، ولن تقف أمامنا عقبة.. فكن معنا.. لا تكن علينا.

- حسن: لن أكون عليكم.. ولن أكون معكم.. سأظل كما أنا وفيّا لدعوة آمنت بها.. واعلم أن رأيي لا يزال كما هو.. إن جمالا يريد أن يكون دكتاتورا يأكل الجميع.. حتى أنت.. ومع ذلك أراك تعينه على ذلك.. سيكون مشروع دكتاتور فاشل.

- جمال (يكظم غيظه): أسَمِعت؟ أسمعت؟

- عبد الحكيم (محاولا تهدئة الجو): لا.. لا.. لا تقل هذا يا حسن.. إنه مجرد انفعال مؤقت.. فكر في الأمر.. وقابلنا مرة أخرى.

- حسن: صوتُ سيِّده!

- جمال: أسمعت؟ أسمعت؟

- عبد الحكيم: أتحاول إغضابي أنا الآخر يا حسن؟ لا.. لن أغضب.. فكر في الأمر، وقابلنا مرة أخرى.. تعقَّل قبل أن تتخذ قرارا.

- حسن: لقد فكرت وقررت.. ولا أعتقد أني سأراكما بعد اليوم، إلا أن تطلباني أو يرسلني المستشار.. وأرجو ألا يفعل.. وما دام الأمر قد انتهى بيننا، فأرجو أن تستلما ما لكم من أسلحة ومتفجرات في العزبة [الأسلحة التي دفنها عبد الناصر بنفسه في عزبة حسن العشماوي، وكانت تستخدم في العمليات الفدائية ضد الاحتلال].. لم يعد لها محل الآن.. فهي لكم، لا يعلم بها حتى الإخوان.

- جمال: لا.. بل دعها عندك.. ليست لنا مئة مخزن مثل الذي عندك.. من يدري.. لعل الظروف تتغير فنحتاجها.

- حسن: أرجوك يا عبد الحكيم.. أرسل من يتسلمها، فأنا لا أريدها عندي.

- عبد الحكيم: لا داعي للعجلة.. سنفعل ذلك فيما بعد.. ولكن دعها عندك الآن.. أرجوك.

- حسن: إلى حين.. وأستودعكما الله.. وأسأله أن يهديكما الرشاد.. وأنا في انتظار من يتصل بي لاستلام ما عندي لكم من أسلحة..

(يخرج حسن عازما ألا يعود.. ينظر جمال وعبد الحكيم كل منهما إلى الآخر ويقول عبد الحكيم قبل أن يغادر حسن الغرفة)

- عبد الحكيم: خسارة هذا الشاب.. كنت أريده معنا.

- جمال: سنستفيد بذلك يوما.

(يُتبع)..

twitter.com/AAAzizMisr
aaaziz.com

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الإخوان مصر مصر الإخوان جمال عبد الناصر تصفية 23 يوليو مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة مقالات صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الإخوان المسلمین فی هذا الاجتماع عبد الحکیم على الإخوان عبد الناصر ومع ذلک أن یکون

إقرأ أيضاً:

الكشف عن مؤامرة خططت لقطع النيل عن مصر

كشفت هيئة الإذاعة البريطانية “BBC”، عن مؤامرة إنجليزية خططت لقطع النيل عن مصر خلال حرب العدوان الثلاثي في 1956.

وتُعتبر أزمة السويس عام 1956 مرتبطة بشكل وثيق بنهر النيل، حيث تراجع الغرب عن تمويل مشروع السد العالي دفع الزعيم المصري جمال عبد الناصر إلى اتخاذ قرار بتأميم قناة السويس، مما أدى إلى هجوم بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مصر.

وزير الخارجية: تنسيق إيجابي مع أوغندا بشأن نهر النيل.. وأوريبم: لن نسمح بانقطاع المياه وزير الخارجية السوداني: نستطيع التعايش مع سد النهضة.. وإثيوبيا تتعمد الإضرار بمصر

 

لكن هناك جانب آخر يتعلق بالنيل في سياق هذه الأزمة، حيث فكر البريطانيون في قطع إمدادات النيل عن مصر كوسيلة للضغط على عبد الناصر لإجباره على التخلي عن السيطرة على قناة السويس.

وانتهت أزمة السويس في 22 ديسمبر 1956 عندما أكملت القوات الفرنسية والبريطانية انسحابها من مدينة بورسعيد، ولكن ما هي العلاقة بين بريطانيا ونهر النيل؟ وكيف كانت خططها لقطع النيل عن مصر؟.

وأدرك البريطانيون أن نهر النيل يمثل شريان الحياة لمصر، وبعد احتلالهم للبلاد، حرصوا على حماية مصالح مصر المائية في النيل، لكن الوضع تغير لاحقًا خلال أزمة السويس.

وقبيل الهجوم الثلاثي على مصر، المعروف بأزمة السويس في عام 1956، وضعت الحكومة البريطانية خطة سرية غريبة تهدف إلى قطع نهر النيل عن مصر، في محاولة للسيطرة على قناة السويس.

وقد بدأت المناقشات حول هذا الموضوع في سبتمبر من عام 1956، حين كانت أزمة السويس تقترب من ذروتها.

وتشير دائرة المعارف البريطانية إلى أن الأزمة بدأت في يوليو 1956 عندما قام الرئيس المصري جمال عبد الناصر بتأميم شركة قناة السويس، التي كانت تحت سيطرة فرنسا وبريطانيا.

قدمت قناة السويس لبريطانيا مساراً بحرياً أقصر إلى إمبراطوريتها. ومع بداية القرن العشرين وزيادة أهمية النفط، أصبحت القناة توفر طريقاً بحرياً مختصراً إلى حقول النفط في الخليج العربي، مما جعل بريطانيا ملتزمة بحمايتها، كما تعرضت قناة السويس للهجوم خلال الحربين العالميتين.

وبعد فترة قصيرة من بداية الحرب العالمية الأولى، أعلنت بريطانيا مصر محمية، وأرسلت قوات بريطانية وهندية لحماية قناة السويس. في المقابل، أرسلت تركيا، التي انضمت إلى الحرب كحليف لألمانيا في عام 1914، قواتها للاستيلاء على القناة في فبراير 1915.

لكن هذا الهجوم تم صدّه. وبحلول عام 1916، تم دفع الخطوط الدفاعية البريطانية إلى عمق صحراء سيناء لمنع أي محاولات أخرى.

وفي عام 1936، تم توقيع المعاهدة الأنجلو-مصرية في لندن، التي أعلنت أن مصر دولة مستقلة ذات سيادة، لكنها سمحت للقوات البريطانية بالبقاء في منطقة قناة السويس لحماية المصالح المالية والاستراتيجية لبريطانيا حتى عام 1956، حيث سيتم تقييم الحاجة إلى وجود تلك القوات وإعادة التفاوض بشأنها إذا لزم الأمر.

وفي 19 أكتوبر 1954، تم توقيع معاهدة جديدة بين الأطراف المعنية، حيث مثلت مصر في هذا الاتفاق جمال عبد الناصر، رئيس وزراء النظام الجديد الذي تولى الحكم بعد الإطاحة بالملك فاروق قبل عامين. ومن الجانب البريطاني، كان أنطوني نوتينغ، وزير الدولة للشؤون الخارجية، حاضراً. وقد نصت المعاهدة على أن تستمر لمدة سبع سنوات.

وبموجب هذه الاتفاقية، كان من المقرر سحب القوات البريطانية من مصر بحلول يونيو 1956، على أن تُدار القواعد البريطانية بشكل مشترك من قبل فنيين مدنيين من كلا البلدين.

كما وافقت مصر على احترام حرية الملاحة في قناة السويس، وتم الاتفاق على إمكانية عودة القوات البريطانية في حال تعرضت القناة لأي تهديد من قوة خارجية.

في تلك الأثناء، كانت مصر تسعى لبناء السد العالي في أسوان، وقد تعهدت كل من الولايات المتحدة وبريطانيا في يناير 1956 بتقديم الدعم المالي لهذا المشروع.

وتغير الموقف الأمريكي بشكل ملحوظ، حيث أصبحت الولايات المتحدة مقتنعة بعدم نجاح مشروع السد، ورغبت في تقليص الإنفاق على المساعدات الخارجية. كما كانت واشنطن قلقة من شراء عبد الناصر للأسلحة السوفيتية.

في 19 يوليو، أبلغ وزير الخارجية الأمريكي جون فوستر دالاس السفير المصري في واشنطن بأن حكومته قررت عدم تمويل بناء السد. وقد اتخذ وزير الخارجية البريطاني سلوين لويد نفس الموقف.

لاحقًا، رفض البنك الدولي تقديم المبلغ الذي تعهد به لمصر، والذي كان قدره 200 مليون دولار.

تشير دائرة المعارف البريطانية إلى أن عبد الناصر رد على القرارين الأمريكي والبريطاني بإعلان الأحكام العرفية في منطقة القناة وتأميم شركة قناة السويس في 26 يوليو 1956، متوقعًا أن الرسوم التي ستجمع من السفن العابرة للقناة ستغطي تكاليف بناء السد خلال خمس سنوات.

وقد كانت بريطانيا وفرنسا تخشيان من أن يقوم عبد الناصر بإغلاق القناة، مما سيؤدي إلى قطع شحنات النفط المتدفقة من الخليج العربي إلى أوروبا الغربية.

وكانت الأمور تتجه نحو نقطة الغليان، ومن هذا المنطلق، قرر البريطانيون قطع شريان الحياة عن مصر للضغط على عبد الناصر ودفعه للتخلي عن السيطرة على قناة السويس.

تشير وثائق حكومية بريطانية من فترة الخمسينيات إلى أن بريطانيا كانت تخطط سراً لخفض تدفق مياه نهر النيل خلال المواجهة مع عبد الناصر أثناء أزمة السويس.

وطُلب من المخططين العسكريين البريطانيين وضع خطة لتقليل تدفق النهر بشكل كبير، ما قد يؤدي إلى إثارة الاضطرابات بين المزارعين المصريين.

كان لدى المخططين العسكريين البريطانيين اعتقاد بأنهم يمكنهم استخدام أحد السدود في أوغندا لتقليل منسوب مياه نهر النيل، مما سيؤثر سلباً على الزراعة والاقتصاد في مصر.

وقد أشار الخبراء إلى أن التأثير سيكون أكبر إذا تم تقليل تدفق المياه من سد شلال أوين في أوغندا، حيث سيؤدي ذلك إلى خفض مستوى بحيرة فيكتوريا، التي تُعتبر أحد المصادر الرئيسية للنيل الأبيض، إذ أن ثلاثة أرباع تدفق النهر يأتي من بحيرة فيكتوريا عبر سد شلالات أوين الذي يمد أوغندا وكينيا بالطاقة الكهربائية.

أوضحوا أن هذا السد قادر على احتجاز 80% من المياه المتجهة نحو الشمال، مما يعني أن مستوى بحيرة فيكتوريا سيرتفع بمقدار 24 سنتيمتراً فقط. وفي غضون 16 شهراً، سيكون التأثير ملحوظاً في مصر، مما سيؤدي إلى "آثار خطيرة".

وتتناول الوثائق كيف كانت مصر تعتمد بشكل كبير على النيل الأبيض خلال الفترة من فبراير إلى يوليو، حيث كان المزارعون يركزون على زراعة الأرز والقطن، ورغم أن هذه المحاصيل قد تتعرض لأضرار جسيمة نتيجة لهذا الإجراء، إلا أنه من غير المحتمل أن يؤدي ذلك إلى تدمير الاقتصاد أو التسبب في مجاعة خطيرة.

كما أشارت الوثائق إلى أن الخبراء اقترحوا أن التهديد بقطع النيل عن مصر قد يكون له تأثير فعّال، حيث ذكروا أن التهديد بالتدخل في النهر، الذي يمتد لأكثر من 4000 ميل، سيكون له "أثر نفسي كبير على المصريين الذين لطالما اتخذوا موقفاً أنانياً تجاه استخدام مياه النيل، متجاهلين حقوق الدول الأخرى التي تعتمد على النهر".

وأوضح جون هانت، المسؤول في الحكومة البريطانية، أن "التهديد باتخاذ هذا الإجراء قد يؤدي إلى نشر رسالة بين المصريين مفادها أنه إذا لم يتراجع عبد الناصر، فإن بريطانيا ستقوم بقطع النيل".

ومع ذلك، حذرت الوثائق من أن "مصر كانت دائماً قلقة بشأن سيطرة بريطانيا على منابع النهر، نظراً لأهمية النيل بالنسبة لها، وبالتالي فإن أي اقتراح للسيطرة على النيل دون موافقة مصر من المؤكد أنه سيؤدي إلى عواقب وخيمة".

وتم تقديم الخطة السرية إلى السير أنتوني إيدن، رئيس الوزراء البريطاني في ذلك الوقت، قبل ستة أسابيع فقط من غزو فرنسا وبريطانيا لقناة السويس في نوفمبر 1956، عقب تأميمها من قبل عبد الناصر.

في 24 سبتمبر، أرسل سكرتير مجلس الوزراء نورمان بروك وثيقة مكونة من خمس صفحات توضح "الحقائق البارزة" من وزارة الدفاع إلى رئيس الوزراء، استجابةً لطلبه.

ومع ذلك، حذر مستشارو رئيس الوزراء من أن قطع المياه عن نهر النيل سيؤدي حتماً إلى نشوب حرب وزيادة "كراهية الأجانب في العالم العربي".

كما أن مثل هذه الخطوة كانت ستؤثر بشكل كبير على صورة بريطانيا في العالم، وقد تترتب عليها عواقب وخيمة على دول مثل أوغندا وكينيا وتنزانيا.

وفي النهاية، تم التخلي عن الخطة لأنها اعتبرت غير قابلة للتطبيق وقد تؤدي إلى عواقب خطيرة.

وعندما أخفقت الجهود الدبلوماسية في حل الأزمة، قامت بريطانيا وفرنسا، التي كانت تسعى للانتقام من موقف مصر المؤيد للثورة الجزائرية، بالتخطيط سراً لعمل عسكري لاستعادة السيطرة على قناة السويس.

وبذلك، أصبح إيدن، الذي أشار إلى سياسة الاسترضاء البريطانية تجاه أدولف هتلر في الثلاثينيات، يدرس إمكانية تنفيذ عمل عسكري قد يؤدي إلى الإطاحة بعبد الناصر واستعادة النفوذ البريطاني في المنطقة.

في تلك الأثناء، كان بعض المشرعين البريطانيين يدّعون أن هذا الإجراء قانوني.

وكشفت الوثائق أن المدعي العام السير ريغينالد مانينغهام بولر كتب رسالة قوية يتحدى فيها هذا الإجراء.

فقد كتب لإيدن قائلاً: "لا أستطيع أن أجد أي حجة يمكن أن تدعي أنها تبرر قانونياً مطالبتنا لمصر بسحب قواتها من جزء من أراضيها التي تدافع عنها، أو التهديد باحتلال أراضيها بواسطة القوات المسلحة إذا لم تستجب لهذا الطلب".

أبلغ وزير مجلس الوزراء في ذلك الوقت، السير نورمان بروكس، رئيس الوزراء بعدم إثارة قضية شرعية الحرب في خطاباته.

وجدت بريطانيا وفرنسا حليفاً مستعداً في إسرائيل، التي زاد عداؤها لمصر نتيجة إغلاق ناصر لمضيق تيران (عند مصب خليج العقبة) والهجمات المتكررة التي نفذتها قوات الكوماندوز المدعومة من مصر ضد إسرائيل خلال الفترة بين 1955 و1956.

في أكتوبر من عام 1956، اجتمع إيدن مع نظيريه الفرنسي غي موليه والإسرائيلي ديفيد بن غوريون في سيفرس بالقرب من باريس، حيث تم التوصل إلى اتفاق سري ينص على أن تقوم إسرائيل بشن هجوم على مصر، مما يوفر ذريعة لغزو أنجلو-فرنسي لقناة السويس.

وأصدر بن غوريون تعليماته للجنرال موشيه ديان، رئيس أركانه، لوضع خطة لشن هجوم على مصر.

في 29 أكتوبر 1956، قاد الهجوم الإسرائيلي عملية إنزال جوي للسيطرة على ممر ميتلا، مما أدى إلى اندلاع قتال عنيف.

في اليوم التالي، أصدرت بريطانيا وفرنسا إنذاراً للطرفين بضرورة وقف القتال فوراً.

استمر الإسرائيليون في عملياتهم، متوقعين هجوماً مضاداً من الجانب المصري، لكن جيش عبد الناصر بدأ في الانسحاب بدلاً من ذلك.

بين 29 أكتوبر و5 نوفمبر، تمكنت القوات الإسرائيلية من احتلال شبه جزيرة سيناء، باستثناء شريط ضيق على طول قناة السويس.

وفي 5 نوفمبر 1956، بعد حوالي ثلاثة أشهر و10 أيام من تأميم عبد الناصر لقناة السويس، بدأ الهجوم الأنجلو-فرنسي على المدينة، والذي تضمن قصفاً جوياً أسفر عن تدمير القوات الجوية المصرية.

في 5 و6 نوفمبر، نفذت القوات البريطانية والفرنسية عمليتي إنزال في بورسعيد وبور فؤاد، وبدأت احتلال منطقة القناة.

هذا التحرك العسكري قوبل بمعارضة من الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة على حد سواء.

تشير الوثائق البريطانية إلى أنه رغم اعتراض الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور على السيطرة على القناة، إلا أن جهاز الاستخبارات البريطاني كان يعمل سراً مع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية لوضع خطة للإطاحة بعبد الناصر، الذي اعتبره إيدن بمثابة هتلر الشرق الأوسط.

كما أضافت الوثائق أنه في 8 أكتوبر، أي قبل شهر من الغزو، أبلغ وزير مجلس الوزراء السير نورمان بروك إيدن عن محادثات سرية أجراها رئيس لجنة الاستخبارات باتريك دين في واشنطن مع وكالة الاستخبارات المركزية ووزارة الخارجية الأمريكية، حيث قال بروك: "توافق الأمريكيون معنا على أن أهدافنا المشتركة تتطلب إزاحة عبد الناصر عن السلطة".

ومع ذلك، بينما كانت الطائرات الحربية البريطانية والفرنسية تستعد للهجوم، أبلغ دين أن وزير الخارجية الأمريكي جون فوستر دالاس أراد حذف فقرات رئيسية من الوثيقة الأنجلو-أمريكية المشتركة المتعلقة بالمحادثات.

وفي منتصف ليل 6 نوفمبر، تم الدعوة إلى وقف إطلاق النار بناءً على إصرار الأمين العام للأمم المتحدة داغ همرشولد.

في نفس اليوم، اضطر إيدن إلى تغيير موقفه، وتحت ضغط من الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور، تم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار.

كانت القوات الأنجلو-فرنسية قد وصلت إلى جنوب بورسعيد، لكنها لم تكن قد سيطرت بالكامل على القناة عندما تم إيقاف العمليات.

على الرغم من أن العملية كانت تسير نحو تحقيق نجاح عسكري كبير، إلا أنها توقفت بسبب الضغوط الدولية.

في 22 ديسمبر، قامت الأمم المتحدة بإجلاء القوات البريطانية والفرنسية، وانسحبت القوات الإسرائيلية في مارس 1957.

أثرت أزمة السويس سلبًا على سمعة السير أنتوني إيدن، مما أدى إلى استقالته في يناير 1957.

مقالات مشابهة

  • الكشف عن مؤامرة خططت لقطع النيل عن مصر
  • هوس التريند.. سلوى محمد علي تنتقد أفلام الزعيم
  • الحكيم للسفير السعودي: العراق محصن اجتماعيا من أزمات المنطقة
  • سلوى محمد علي تكشف تفاصيل هجومها على الزعيم عادل إمام
  • بعد تصريحاتها عن الزعيم.. سلوى محمد علي مطلوبة على جوجل
  • "الطرق والنقل" بالإسماعيلية: حلول عاجلة لأزمة المياه الجوفية بمدخل نفق جمال عبدالناصر
  • الطرق بالإسماعيلية تنفذ عدد من الحلول العاجلة لحل مشكلة المياه الجوفية بمدخل نفق جمال عبد الناصر
  • وفاة القيادي البارز في الإخوان المسلمين يوسف ندا عن عمر 93 عاما
  • جمال سليمان يروي موقفًا حدث له مع الزعيم عادل إمام
  • جمال سليمان: عبد الناصر سبب تسميتي بهذا الاسم