رمال الشرق الأوسط وشمال إفريقيا المتحركة
تاريخ النشر: 12th, September 2023 GMT
لا سكون في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لا جمود في التحالفات الإقليمية والدولية لحكوماتها، لا حدود لتقلبات المزاج العام للشعوب بين تفاؤل شامل بالمستقبل ويأس من قادم الأيام.
نحن سكان منطقة لا تعرف الهدوء. حين تخف وطأة العنف الأهلي في بلدان كسوريا وليبيا وتتراجع حدة المواجهات العسكرية والحرب بالوكالة في اليمن، تنفجر الأوضاع في السودان الذي تستعر به حرب أهلية تفرض مصائر التهجير على الملايين من مواطنيه وتلحق دمارا واسعا بالممتلكات العامة والخاصة وتقلل من فرص الانتقال الديمقراطي الذي كان مناط أمل الناس قبل سنوات قليلة.
نحن سكان منطقة تختلف خطوط شعوبها من ثروات الأرض والموارد البشرية، منطقة تواجه تحديات تنموية وبيئية بالغة، منطقة تهاجمها بين الحين والآخر كوارث طبيعية مدمرة لا قبل لشعوبها وحكوماتها بالتحامل الذاتي معها.
تتراكم الثروة في بلدان الخليج التي تعمل حكوماتها منذ عقود وباستراتيجيات مختلفة على توظيف عوائد الوفرة النفطية لتحقيق التنمية المستدامة ورفع معدلات التنوع الاقتصادي والرفاهة الاجتماعية، بينما تعاني البلدان غير المصدرة للنفط والغاز الطبيعي من تراكم الديون الخارجية والداخلية ومن ارتفاع نسب الفقر والبطالة والتهميش الاجتماعي، ومن ضغوط الأزمات الاقتصادية العالمية التي تحد من المردود الإيجابي لجهود تنموية حقيقية في قطاعات الطاقة المتجددة والإنتاج الصناعي والزراعي الأخضر.
وفي المنطقة الممتدة بين الخليج والمغرب، تشتد قسوة التحديات التنموية والبيئية التي تصدم الشعوب والحكومات تارة بزيادات سكانية لا تتناسب لا مع محدودية النمو الاقتصادي ولا مع المتاح من فرص عمل وخدمات أساسية في قطاعات التعليم والصحة والضمان الاجتماعي، وتارة بتداعيات التغيرات المناخية المتمثلة في ارتفاع مطرد في درجات الحرارة وتراجع مطرد في الموارد المائية وتكاثر مطرد أيضا للحوادث المناخية الحادة كالسيول والأعاصير والتي تحمل قطاعات الإنتاج الزراعي والصناعي أثمانا باهظة وتهوي بقدراتها على الوفاء باحتياجات الناس وتعمق من ثم من هشاشة المجموعات السكانية الفقيرة وغير القادرة والمقيمة في المناطق الأشد تأثرا بالتغيرات المناخية (كالمناطق الساحلية وسفوح الجبال والأقاليم شبه الصحراوية المعتمدة معيشيا وزراعيا على مياه الأمطار).
نحن أمام تناقض صادم بين شعوب ذات أغلبيات شبابية متفائلة بالحاضر والمستقبل في الخليج وشعوب ذات أغلبيات شبابية تبحث عن سبل للهجرة
وحين توضع التحديات التنموية والبيئية على منحنى واحد مع الانعكاسات السلبية للأزمات العالمية كجائحة كورونا والحرب الروسية – الأوكرانية، تكتمل ملامح مشهد غياب الأمن الإنساني والبيئي والغذائي عن الأغلبية الساحقة من شعوب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وكأن كل هذا مصحوب بضعف أداء الحكومات في مواقع مختلفة ومحدودية التزامها بقيم الشفافية والرشادة لا تكفي، فتهاجمنا الكوارث الطبيعية المدمرة بين الحين والآخر كما في زلزال تركيا وسوريا بدايات العام الحالي وزلزال المغرب قبل أيام ولا تدع للشعوب من باب للنجاة غير الدعاء وللحكومات من باب للفعل غير طلب المساعدات الخارجية العاجلة.
ولكوننا نعيش في منطقة لا سكون فيها وتتسع بها بعيدا عن الخليج الفجوة بين الواقع المعاش بأزماته وتحدياته وبين الآمال المشروعة للمواطنات والمواطنين، فإن الحركية الدائمة أضحت أيضا الصفة المميزة لأداء العديد من الحكومات التي تبحث إقليميا ودوليا عن تحالفات تمكنها من تحقيق قدر من التنمية المستدامة وشيء من التكيّف مع التغيرات البيئية والسيطرة على أضرارها.
هي، إذا، حركية في مجال السياسة الإقليمية والدولية وليس في مجال السياسات الداخلية التي لا يريد بشأنها العدد الأكبر من حكومات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وبعد عقد الانتفاضات الشعبية غير خليط من الاستقرار والإصلاح التدريجي الذي لا يطرق أبواب تداول السلطة أو إعادة اقتسام الثروة.
فقط في سياق الحركية الإقليمية والدولية هذه يمكن أن تدرك الأبعاد الكاملة لترحيب بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بتنامي دور الصين الاقتصادي والتجاري والسياسي وتدريجيا الأمني والدبلوماسي وبصعودها كمنافس للولايات المتحدة الأمريكية وللاتحاد الأوروبي وبتنسيقها في بعض قضايا وشؤون المنطقة مع روسيا.
فقط في سياقها أيضا يمكن أن تفهم الأهمية الكبرى لانضمام إيران والإمارات والسعودية ومصر إلى تجمع «بريكس» كأعضاء كاملين اعتبارا من 2024 وبما تؤشر عليه عضوية تجمع يضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا فيما خص الرغبة الإيرانية في تهميش الدور الأمريكي في الشرق الأوسط، والتوجه الإماراتي والسعودي إلى الانفتاح على تحالفات اقتصادية وتجارية ونقدية متنوعة تقلل من تبعية البلدين للولايات المتحدة والغرب والدولار كعملة عالمية، والسعي المصري إلى التفاوض الجماعي باسم القارة الإفريقية ودول الجنوب العالمي لتسوية ديون الجنوب المتراكمة ومن داخلها الديون المصرية والحصول على عوائد تنموية حقيقية والتوسع في برامج مبادلة الاقتصاد الأخضر ونقل التكنولوجيا.
أما عن تقلبات المزاج العام لشعوب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والتي تدلل عليها استطلاعات الرأي العام التي يجريها «البارومتر العربي» بانتظام، فحدث ولا حرج. نحن أمام تناقض صادم بين شعوب ذات أغلبيات شبابية متفائلة بالحاضر والمستقبل في الخليج وشعوب ذات أغلبيات شبابية تبحث عن سبل للهجرة (شرعية أو غير شرعية) بعيدا عن أوطانها.
تقلبات المزاج العام هذه، والتي تعبر عنها اليوم الإبداعات الموسيقية للشباب العربي (خاصة الراب) يتواكب معها طرح علني في الفضاء العام الذي تصيغه شبكات التواصل الاجتماعي لأسباب التفاؤل هنا والقنوط هناك على نحو يصنع، بعيدا عن السياسة ووسائل الإعلام التقليدية، حالة من حرية التفكير والتعبير وكسر المحرمات تستحق المتابعة في عموم المنطقة.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الشرق الأوسط الخليج التنمية تقلبات الخليج الشرق الأوسط التنمية تقلبات اقتصاد دولي سياسة دولية سياسة دولية سياسة دولية سياسة دولية سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الشرق الأوسط وشمال
إقرأ أيضاً:
قهر الفلسطينيين يغذي الاضطراب في الشرق الأوسط
فـي الشرق الأوسط، إخماد النيران المضرمة هو الأولوية، ويستحيل تحقيق إنجازات أكبر من ذلك ما دامت إراقة الدماء مستمرة. غير أن تجنب إشعال المزيد من الحرائق يقتضي أمرا شديد الندرة هو الدرس الجاد والاعتراف بالمواد الأساسية القابلة للاشتعال. ولقد لوحظ منذ أمد بعيد، ولم يزل صحيحا، أن سياسة إسرائيل الإقليمية -وإسرائيل هي الدولة التي تتسبب فـي أكثر النيران- تبدو «تكتيكات فقط بغير استراتيجية». وقد يصح أن نقول مثل ذلك فـي سياسة الولايات المتحدة برغم حسن نوايا جهودها الفاشلة حتى الآن من أجل التوصل إلى وقف لإطلاق النار. الشرق الأوسط منطقة معقدة ذات صراعات وخصومات كثيرة، بعضها يتقاطع ويتداخل مع بعض. وأول ما يجب التحوط منه فـي أي نقاش لأسباب عدم الاستقرار هو الميل شديد الشيوع إلى التبسيط بإيعاز المشاكل جميعا إلى سبب واحد. لكن التأمل الدقيق حتى للحرائق الحالية، ناهيكم بالحرائق الماضية، يشير إلى عامل واحد يغلب أي عامل آخر فـي كونه السبب الكامن لما فـي المنطقة من عنف واضطراب. وذلك العامل هو قهر إسرائيل المستمر للفلسطينيين، وإنكارها عليهم حق تقرير المصير الوطني، وما يصاحب هذا الإنكار من احتلال وحصار وإعاقة للحياة اليومية. ويتضح الرابط بأكبر نحو فـيما يتعلق بالأهوال التي تكشفت فـي قطاع غزة خلال العام الماضي، وشملت عشرات آلاف القتلى. لقد أدى تفكيك بعض المستوطنات الإسرائيلية سابقا إلى سيطرة إسرائيل على حدود غزة وجوها ومساراتها البحرية مستعملة ذلك فـي دعم الحصار الخانق الذي أحال القطاع إلى أكبر سجن مفتوح فـي العالم. ومن طبيعة الإنسان أن يرد الضربة إلى المتسببين فـي فرض مثل هذه الظروف. ففـي ظل هذا البؤس يشعر الناس أنه لم يبق لديهم ما يخسرونه إن هم حاولوا رد الضربات. وكل الجبهات الأخرى فـيما أصبح اليوم حربا متعددة الجبهات فـي الشرق الأوسط إنما تنشأ من قمع الفلسطينيين. فقد بدأ النظام الحوثي فـي اليمن ضرباته للشحن فـي البحر الأحمر إظهارا لدعم الفلسطينيين المحاصرين فـي غزة، ما أدى إلى تدخل الولايات المتحدة بقصف أهداف فـي اليمن. ولولا هذا الموقف المزري فـي قطاع غزة، لما توافر للحوثيين سبب لضرب الشحن فـي البحر الأحمر، فقد أوضحوا أن ضرباتهم سوف تنتهي بانتهاء مذبحة إسرائيل فـي غزة. ونشأ أيضا الهجوم الإسرائيلي الحاد على لبنان نشأة مباشرة من وضع قطاع غزة فهو بهذا نتاج ثانوي لقهر الفلسطينيين. إذ إن حزب الله، مثل الحوثيين، قد بدأ إطلاق النار على إسرائيل تضامنا مع غزة. ولعل هذا كان أقل ما توصل قادة حزب الله إلى أنهم قادرون عليه لكي لا يظهروا غير مبالين بمعاناة الفلسطينيين. وإلا فإن حزب الله الذي يدرك ما تكبده من تكاليف خلال الحرب الكاملة السابقة مع إسرائيل فـي عام 2006 لم يكن يريد حربا أخرى مع إسرائيل فـي 2024. وقبل تصعيد إسرائيل فـي هذا العام إلى هجوم كبير على لبنان، ربط حزب الله، مثل الحوثيين، إيقاف إطلاق النار عبر الحدود اللبنانية الإسرائيلية بوقف إطلاق النار اللازم فـي قطاع غزة. فالوضع السياسي المتعلق بقمع الفلسطينيين هو المحرك الأساسي للاضطراب والعنف، وليس وجود أو طبيعة أو أهداف أي جماعة أو مجموعة من الجماعات تعدها إسرائيل عدوا لها. فقد استجابت الجماعات المعنية هنا لسياسات إسرائيل أكثر كثيرا مما استجابت لمحض وجودها. فنشأة حزب الله فـي مطلع ثمانينيات القرن الماضي ونموه السريع وشعبيته تدين لدوره بإعلانه نفسه المدافع عن اللبنانيين فـي مواجهة الغزو الإسرائيلي للبلد سنة 1982. وقد كان لذلك الغزو، شأن الغزو الراهن، رابط مباشر بقهر الفلسطينيين، إذ كان الهدف الإسرائيلي الأساسي سنة 1982 هو توجيه ضربة قوية لمنظمة التحرير الفلسطينية المقيمة آنذاك فـي لبنان. فلو لم يكن من احتلال لأراض فلسطينية ينبغي تحريرها، لما كان من دور لمنظمة التحرير الفلسطينية. وبالمثل، ليست حماس المحرك الأساسي للعنف الفلسطيني ضد إسرائيل، وذلك ما تثبته المقاومة العنيفة التي بدأتها فئة كبيرة من الجماعات الفلسطينية منذ أواخر ستينيات القرن الماضي، قبل أمد بعيد من تأسيس حماس سنة 1987. وتدين حماس بكثير من نموها وشعبيتها بعد ذلك لانتشار تصور بين الفلسطينيين بأن السلطة الفلسطينية التي تهيمن عليها حركة فتح كانت أقرب إلى مساعد عاجز للاحتلال الإسرائيلي بدلا من أن تكون خصما فعالا له. وتدين حماس ببعض قوتها لسياسة إسرائيلية تنكر حق تقرير المصير على الفلسطينيين، ويتمثل ذلك الدين فـي الدعم المالي القطري الذي يسَّره رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. إذ يرى نتنياهو أن دعم حماس يمثل ثقلا مقابلا للسلطة الفلسطينية بما ساعد على انقسام السلطة الفلسطينية ومكّن القادة الإسرائيليين من الاستمرار فـي تأكيد أنه «ما من شريك» يمكن التفاوض معه على السلام. ومن بعدُ، هناك إيران التي كثيرا ما يخطئ الذين يروجون تفسيرا وسببا أحاديا لاضطرابات الشرق الأوسط خطأ فادحا إذ يعدونها «المشكلة الحقيقية» فـي المنطقة. غير أن التوترات الراهنة المتعلقة بطهران فـي غداة الضربة الجوية الإسرائيلية لإيران فـي أعقاب الانتقام الإيراني من ضربات إسرائيلية سابقة، إنما ترجع هي الأخرى إلى المشكلة الفلسطينية. لقد كان أحدث انتقام إيراني انتقاما من هجمات إسرائيلية أدت إلى قتل قائد حماس السياسي إسماعيل هنية خلال زيارته لطهران وقتل الحليف الإيراني حسن نصر الله زعيم حزب الله. وكان قتل نصر الله جزءا من الهجوم الإسرائيلي الراهن على لبنان الذي نشأ مثلما سبق القول من المجزرة الإسرائيلية فـي قطاع غزة التي تمثل بدورها امتدادا للاحتلال ولوضع غزة باعتبارها سجنا مفتوحا. لقد كانت السياسات الإيرانية فـي المنطقة، وبخاصة سياساتها تجاه إسرائيل، إلى حد كبير سياسات رد فعل، إلى حد أن العداء الإيراني لإسرائيل قائم على ما هو أكثر من الرد على هجمات إسرائيل على المصالح الإيرانية واستمرار إسرائيل فـي الإعراب عن العداء الشديد لإيران، فالقضية الفلسطينية مرة أخرى لها وضع مركزي فـي هذا كله. والنظام الإيراني يتحدث عن هذه القضية فـيكون حديثه إلى حد ما منطلقا من تعاطف صادق مع الفلسطينيين المحاصرين، ولكن الغالب أن ذلك وسيلة لزيادة النفوذ لدى الشعوب العربية التي لا تزال القضية الفلسطينية تجد صدى كبيرا عندها. وبرغم أن النظام الإيراني تبنى خطابا متطرفا يبدو أنه يرفض أي حل يقوم على أساس دولتين، فما كان ليتوافر له سبب لمواصلة هذا الحديث لو تم التوصل إلى تسوية تعطي الفلسطينيين حق تقرير المصير. بل لتوافر لديه سبب وجيه ليقرر أن ما يرضى به الفلسطينيون هو ما ترضى به طهران، خاصة فـي ضوء أن أهمية هذه القضية لدى أغلب العرب سوف تخفت بسرعة إذا ما أصبحت للفلسطينيين دولتهم أخيرا. لو استبعد المرء القضية الفلسطينية واستبعد الهجمات الإسرائيلية التي ترغم إيران على الرد، فلن يكون لإيران سبب يذكر لرفض علاقة مستقرة مع إسرائيل. ستظل هناك اختلافات أيديولوجية واضحة، ولكن منذ السنوات العديدة الأولى التالية للثورة الإيرانية، كان دافع سياسات طهران الإقليمية يتعلق بالاهتمامات الجيوسياسية البراجماتية أكثر كثيرا مما يتعلق بالأيديولوجية. وإيران، شأن إسرائيل وتركيا، دولة غير عربية تعيش فـي منطقة يغلب عليها العرب. ولقد أدت الاعتبارات الجيوسياسية بإيران فـي الماضي إلى البحث عن قضية مشتركة مع إسرائيل، وليس ذلك فقط عندما كان الشاه فـي السلطة ولكن فـي ظل الجمهورية الإسلامية أيضا عندما تلاعب وليم كاسي بأزمة الرهائن ليفوز لرونالد ريجان بالانتخابات الرئاسية سنة 1980. فقد كانت هناك أيضا قضية إيران-كونترا التي اضطلعت فـيها إسرائيل بدور مهم. شرق أوسط أقل عنفا تخيلوا تاريخا بديلا حصل فـيه الفلسطينيون على دولتهم، سواء فـي أعقاب حصول اليهود على دولتهم فـي فلسطين سنة 1948 أو بعد تنازل عن الأراضي الفلسطينية التي غزتها إسرائيل فـي الحرب التي بدأتها هي سنة 1967. كانت لتبقى أيضا خصومات كثيرة وأسباب أخرى للاضطراب فـي الشرق الأوسط لا تضرب جذورها فـي الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. لبقيت على سبيل المثال انشقاقات طائفـية وقبلية فـي اليمن تستدعي تدخلات من أمثال مصر والمملكة العربية السعودية. ولبقيت على الأرجح أيضا سياسات توسعية من صدام حسين. ولبقيت خصومات تتعلق بجماعة الإخوان المسلمين والأنظمة العربية الاستبدادية التي أرست أسس الاضطراب السياسي فـي بعض الدول. ولبقيت أيضا عناصر متطرفة صغيرة ترفض وجود إسرائيل وتراها وجها للكولونيالية الغربية. غير أن هذا الشرق الأوسط البديل -من أوجه أخرى- كان ليختلف اختلافا كبيرا عن الشرق الأوسط القائم خلال العقود العديدة الماضية. فالعنف الذي مورس سعيا إلى حق تقرير المصير الفلسطيني ما كان ليحدث لو تحقق بالفعل حق تقرير المصير. والعنف الأكبر كثيرا الذي تسعى من خلاله إسرائيل إلى الاستمرار فـي قمع الفلسطينيين ما كان ليحدث لو كانت إسرائيل توقفت عن قمع الفلسطينيين. كانت طاقات النخب السياسية الفلسطينية لتتركز فـي التنافس على السلطة داخل دولتها. ما كانت حماس -التي نشأت من رحم الإخوان المسلمين- لتوجد بالشكل الذي نعرفها به اليوم. ولكن، كان ليوجد فرع فلسطيني من الإخوان المسلمين يتنافس على السلطة السياسية مثلما تفعل فروع أخرى فـي تونس والأردن (وفـي مصر قبل التغيرات الأخيرة). فحتى حماس التي نعرفها أبدت -حينما سنحت لها الفرصة- عزما وقدرة على المنافسة بنجاح فـي صناديق الاقتراع لا فـي السلاح. كان القادة الفلسطينيون، على اختلاف ألوانهم الأيديولوجية، ليمتلكوا الكثير مما يمكن أن يخسروه فـي هذا العالم الشرق أوسطي البديل لو لجأوا إلى العنف ضد إسرائيل، فـي مقابل عدم امتلاكهم اليائس الآن لأي شيء يمكن أن يخسروه فـي ظل طبيعة الوجود الفلسطيني اليوم. كانت إسرائيل المدعومة من الولايات المتحدة لتبقى البلد الأقوى عسكريا فـي المنطقة، القادرة على سحق أي دولة فلسطينية صغيرة تخرج عن السيطرة. فقد كانت المخاطرة بفقدان الدولة الفلسطينية التي طالما سعوا إليها لتردع المواطنين والقادة عن التفكير فـي المروق والخروج عن السيطرة. كان العنف فـي ذلك الشرق الأوسط البديل ليصبح أقل كثيرا مما عرفته المنطقة بالفعل، فـي ضوء ضخامة حجم العنف المدفوع بدافع القومية الفلسطينية المحبطة. كان الوضع فـي الشرق الأوسط البديل ليماثل الإرهاب القومي الأيرلندي بعد التوصل إلى اتفاق السلام الذي أصبحت بموجبه الحركة القومية الرئيسية شين فـين جزءا من ترتيبات تقاسم السلطة فـي أيرلندا الشمالية، فألقى جناحها المسلح، الجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت، سلاحه. فالإرهاب الذي مارسته بعد ذلك جماعات متطرفة هامشية رفضت اتفاق السلام كان قدرا ضئيلا من عنف وقع عندما كانت منظمة بيرا «أي الجيش الجمهوري الأيرلندي» لم تزل قائمة ونشطة. فـي الشرق الأوسط البديل ما كانت لتنشب حروب كثيرة فـي غزة، منها الحرب المدمرة الجارية الآن. ولا كانت الحروب العديدة بين إسرائيل ولبنان لتقع وقد حرمت كل منها من صراع إسرائيل مع الفلسطينيين. كانت الخلافات بين إسرائيل ولبنان لتقتصر على مسائل تفاوضية من قبيل موضع رسم الخط الحدودي فـي حقل الغاز بالبحر الأبيض المتوسط. أما عن شكل العلاقات بين إسرائيل وبقية الدول العربية فـي الشرق الأوسط، فلا داعي لأن يتكهن به المرء. إذ تبنت جميع الدول العربية الـ22 مبادرة الجامعة العربية للسلام، وتأكد ذلك مرارا، ولا يزال مطروحا على الطاولة. وتقترح المبادرة تطبيعا كاملا بين العالم العربي وإسرائيل بشرط أن تنسحب إسرائيل من الأراضي المحتلة -مع إمكانية تبادل للأراضي- و«تسوية عادلة» لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين والسماح بإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية. فالجيران العرب ليسوا ساعين إلى تدمير إسرائيل. إنما هم ساعون إلى إنهاء قهر إخوانهم الفلسطينيين. ضرورة العمل على القضية على القادة السياسيين بطبيعة الحال أن يتعاملوا مع الواقع، وليس مع واقع بديل خيالي. وجزء من الواقع الراهن يتمثل فـي مشروع إسرائيلي عمره عقود لبناء مستوطنات فلسطينية فـي الأراضي المحتلة جعلت إقامة دولة فلسطينية أصعب مما كان عليه الحال قبل ذلك. ويعتقد بعض المراقبين أن ذلك قد جعل حل الدولتين مستحيلا بالفعل وأنه ما من مجال الآن لتحقيق الحقوق الإنسانية والسياسية للفلسطينيين إلا فـي دولة واحدة مشتركة مع الإسرائيليين اليهود. ومن شأن حل الدولة الواحدة الناجح أن يحقق تقريبا كل منافع الشرق الأوسط البديل الموصوف فـي ما سبق. وليس مؤكدا الآن إن كان حل الدولتين لا يزال ممكنا أم لا، ولا أن ابتكار حل دولة واحدة مرضٍ أم غير مرض لطموحات كل من الإسرائيليين اليهود والفلسطينيين الوطنية، ولكن هذه الأسئلة بحاجة إلى مناقشة فعالة ومفتوحة تشترك فـيها حكومة الولايات المتحدة وتبث فـيها قدرا من الطاقة كافـيا لتنفـيذ حل. ويعني هذا عملا يتجاوز ترديد شعار «حل الدولتين» الدبلوماسي مع التقاعس عن القيام بأي شيء مما يتصل بالعلاقات الأمريكية الإسرائيلية لتقريب أي حل من الإثمار. لكن المؤكد أن الشرق الأوسط سوف يستمر على عنفه، مع نوبات متكررة من التشنجات المماثلة لما نشهده الآن، طالما بقي القهر للفلسطينيين مستمرا. |