نحن نشهدُ المستقبلَ القريبَ يُصنعُ اليوم. إعلانُ دلهي عن مشروعِها الممرِ التجاري الموجهِ للشرق الأوسط وأوروبا يرفع حرارة التنافس بين القوى الكبرى. هجمةٌ اقتصاديةٌ هنديةٌ على منطقتنا، تعتمد النقلَ البحري والبري، وستبني شبكةَ طرقٍ وقطارات. كأنَّنا نقرأ صفحةً مستعارةً من التاريخ القديم.

في مطلع القرن الماضي، بنت ألمانيا سكةَ حديدٍ ربطت برلين بإسطنبول، ثم بغداد، وتوقَّفت قبلَ البصرة والخليج، كانت لنقل البضائعِ والجنود.

وبنَى حلفاؤها الأتراكُ سكةَ حديد، ربطت دمشقَ بعمانَ وتبوك والمدينة المنورة، وبعد 8 سنواتٍ من تشغيل القطار، فجَّر الضابطُ الإنجليزي «لورنس العرب» الخطَ، وقضى عليه نهائياً.

في خريف 2013، أعلنَ الرئيس الصيني عن مبادرة الحزام والطريق، مشروع أخطبوطي ضخم تشارك فيه 139 دولة، ضمنها دول عربية، بدرجاتٍ متفاوتة. الطريقُ من خطين، بري عبر آسيا إلى الشرق الأوسط، ثم أوروبا، وبحري يشق المحيطَ الهنديَّ إلى أفريقيا وأميركا الجنوبية.

الهند تراقبُ، قلقةً وغيرَ راضية. لم تعترض، إنَّما، بلغةٍ دبلوماسية، تحتجُّ، «بالمعاييرِ الدولية، والحوكمة، وسيادة القانون، والشفافية، واحترام حدودِ الدول»، وأنَّ الطريق يمرُّ بمناطق متنازع عليها في كشمير مع باكستان، حليفةِ الصين وبوابتِها الرئيسية للعالم.

بشكلٍ عام، المنطقةُ العربيةُ مستفيدةٌ من التنافس الدولي اقتصادياً، الذي حفَّزَ التنافسَ العربيَّ العربي. ترحّبُ به كلُّ دولةٍ وتسعى أن تصبحَ مؤهلةً لعقودٍ أكبرَ في المشروعين العملاقين.

السؤالُ البديهي، الطريقُ والحزامُ الصيني والممرُّ الهندي أيضاً، باطنُها مشاريعُ سياسية، فكيف للمنطقة أن تتحاشَى التورطَ في صراعِ الفيلةِ الدولية؟

كما ذكرتُ في البداية، اتفاقاتُ اليوم تصنعُ المستقبل. فالأرجحُ خلال السنوات المقبلة، ستفرز هذه المشاريع دول المنطقة سياسياً، ستنشأ تحالفاتٌ ومنظماتٌ جديدة. المشاريعُ السياسية لطالما كانت تاريخياً شبكةً من المصالح الاقتصادية. الطرقُ وسككُ الحديد من دول المحور بقيادة ألمانيا، وقناة السويس من بريطانيا، والسد العالي من الاتحاد السوفياتي، والبنية التحتية من مطارات وموانئ من الولايات المتحدة لعدد من حلفائها.

واشنطن ودلهي مقتنعتان بأنَّ هناك دوافعَ صينيةً خفيةً تجاريةً وعسكرية وراءَ مبادرتِها الحزام والطريق. الهند، مثلُ الصين، قوةٌ صاعدة، ترغب كذلك في التمدّدِ والحصولِ على مزيد من الموارد والأسواق، كلتا المبادرتين اقتصادية وسياسية. الولايات المتحدة تعود للمنافسة، وكانت قد قلَّصت حضورَها في أفريقيا وآسيا، بعد نهاية الحرب الباردة.

اختارت واشنطن تعزيزَ علاقتِها بالهند، القوة المرجحة، وإن بدت بعضُ مواقفِها مختلفة عن الأجندة الأميركية. مثلاً، رفضت دلهي دعوة رئيس أوكرانيا لقمة العشرين الحالية، إرضاءً لموسكو. هذا موقفٌ سياسيٌّ تكتيكي، في حين أنَّ العلاقةَ الاستراتيجية أوثقُ اليوم مع الولايات المتحدة، بدليلِ دعمِها الكامل لمشروع الهند، الممرِ التجاري مع الشرق الأوسط وأوروبا.

أي الخيارين، الصينيِّ أم الهنديِّ، أفضلُ لمنطقتنا؟

الاثنان معاً، ما أمكنَ ذلك. فالسعودية، على سبيل المثال، تبيعُ مليوني برميل نفط للصين، ونحو مليون برميل للهند. ويمثل البلدان اليوم، وإلى سنوات مقبلة، أكبر سوقين للرياض. فالهندُ ستزيد من استيرادها البترولي من 5 إلى 7 ملايين برميل يومياً في 2030، بخلافِ ما يعد به رئيس الوزراء بتخفيض استيرادِ بلاده إلى النصف. التقديراتُ تقول العكس، ستزداد وارداتُها بنسبة النصف. وسيزداد تنافس القوى الصاعدة على مصادر البترول الجغرافية، والخليج تحديداً. فهي ركنٌ أساسيٌّ في خططِ السياسات العليا للدول الكبرى إلى منتصف القرن الحالي.

من حيث التوقيت، السعودية في موقع قوي، آخذين في الاعتبار أنَّها تعمل منذ 6 سنواتٍ على مشروعها الاقتصادي العملاق الذي ينسجم مع المبادرتين الصينية والهندية. وقد اتجهت لتقوية علاقاتِها الاقتصادية مع القوتين الصاعدتين. وإدارة العلاقات مع القوى الكبرى ليست بالمسألة الهيّنة؛ التنسيق النفطي مع موسكو، والتصدير لبكين ودلهي، والتعاون مع الولايات المتحدة عسكرياً.

*إعلاميّ ومثقّف سعوديّ، رئيس التحرير الأسبق لصحيفة «الشّرق الأوسط» ومجلة «المجلة» والمدير العام السابق لقناة العربيّة. خريج إعلام الجامعة الأميركية في واشنطن، ومن ضمن الكتاب الدائمين في الصحيفة.

*نشر أولا في صحيفة الشرق الأوسط

يمن مونيتور12 سبتمبر، 2023 شاركها فيسبوك تويتر واتساب تيلقرام طائرات مساعدات جزائرية في طريقها إلى المغرب مقالات ذات صلة طائرات مساعدات جزائرية في طريقها إلى المغرب 12 سبتمبر، 2023 المصاب العظيم في ليبيا.. مئات الجثث وآلاف المفقودين 12 سبتمبر، 2023 (حصري) هل يخطط الحوثيون لإدخال صنعاء في دوامة عنف لانقاذ أنفسهم؟ 11 سبتمبر، 2023 كاريكاتير- استغلال الحوثيين للمولد النبوي 11 سبتمبر، 2023 اترك تعليقاً إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التعليق *

الاسم *

البريد الإلكتروني *

الموقع الإلكتروني

احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.

شاهد أيضاً إغلاق آراء ومواقف ديفيد بروكس يكتب.. البشر أكثر كرمًا مما تعتقد 9 سبتمبر، 2023 الأخبار الرئيسية (حصري) هل يخطط الحوثيون لإدخال صنعاء في دوامة عنف لانقاذ أنفسهم؟ 11 سبتمبر، 2023 هيئة التدريس بجامعة عدن تبدأ غدا الثلاثاء إضرابا شاملا 11 سبتمبر، 2023 اتحاد دولي يطالب بإنهاء الاحتلال المفروض على مقر نِقابة الصحفيين في عدن 11 سبتمبر، 2023 الصليب الأحمر..معدل التلوث بالذخائر في اليمن من بين الأعلى في العالم 11 سبتمبر، 2023 ليبيا تعلن درنة مدينة منكوبة والإعصار دانيال يخلف 150 قتيلا 11 سبتمبر، 2023 الأكثر مشاهدة واللاتي تخافون نشوزهن 14 مارس، 2018 التحالف يقول إن نهاية الحوثيين في اليمن باتت وشيكة 26 يوليو، 2019 الحكومة اليمنية تبدي استعدادها بتوفير المشتقات النفطية لمناطق سيطرة الحوثيين وبأسعار أقل 12 أكتوبر، 2019 مجموعة العشرين تتعهّد توفير “الغذاء الكافي” في مواجهة كورونا 22 أبريل، 2020 (تحقيق حصري) كيف تحوّلت مؤسسات صنعاء إلى “فقَّاسة صراع” الأجنحة داخل جماعة الحوثي؟ 29 أغسطس، 2021 اخترنا لكم ديفيد بروكس يكتب.. البشر أكثر كرمًا مما تعتقد 9 سبتمبر، 2023 طارق الحميد يكتب.. هل نُسي السودان؟ 6 سبتمبر، 2023 راغدة درغام تكتب.. لماذا تفضل إيران مهمة السلام اللبنانية الإسرائيلية التي يقودها بايدن؟ 6 سبتمبر، 2023 د.عبد العزيز العويشق يكتب.. كيف يمكن وقف حلقة العنف والبؤس المفرغة في اليمن؟ 6 سبتمبر، 2023 عمّار ياسين يكتب: كيف يُغير استهداف البنى التحتية قواعد اللعبة في الصراعات؟ 25 أغسطس، 2023 الطقس صنعاء غيوم متفرقة 21 ℃ 26º - 19º 46% 0.9 كيلومتر/ساعة 26℃ الثلاثاء 27℃ الأربعاء 26℃ الخميس 25℃ الجمعة 28℃ السبت تصفح إيضاً عبد الرحمن الراشد يكتب.. منطقتنا بين حزام الصين وممر الهند 12 سبتمبر، 2023 طائرات مساعدات جزائرية في طريقها إلى المغرب 12 سبتمبر، 2023 الأقسام أخبار محلية 24٬289 غير مصنف 24٬146 الأخبار الرئيسية 11٬696 اخترنا لكم 6٬309 عربي ودولي 5٬526 رياضة 1٬983 كأس العالم 2022 72 كتابات خاصة 1٬976 اقتصاد 1٬895 منوعات 1٬757 مجتمع 1٬715 صحافة 1٬434 تراجم وتحليلات 1٬410 آراء ومواقف 1٬389 تقارير 1٬377 حقوق وحريات 1٬165 ميديا 1٬158 فكر وثقافة 813 تفاعل 738 فنون 443 الأرصاد 141 بورتريه 60 صورة وخبر 20 كاريكاتير 18 الرئيسية أخبار تقارير تراجم وتحليلات حقوق وحريات آراء ومواقف مجتمع صحافة كتابات خاصة وسائط من نحن تواصل معنا فن منوعات تفاعل من نحن تواصل معنا فن منوعات تفاعل © حقوق النشر 2023، جميع الحقوق محفوظة   |   يمن مونيتورفيسبوكتويتريوتيوبتيلقرامملخص الموقع RSS فيسبوك تويتر واتساب تيلقرام زر الذهاب إلى الأعلى إغلاق فيسبوكتويتريوتيوبتيلقرامملخص الموقع RSS البحث عن: أكثر المقالات مشاهدة واللاتي تخافون نشوزهن 14 مارس، 2018 التحالف يقول إن نهاية الحوثيين في اليمن باتت وشيكة 26 يوليو، 2019 الحكومة اليمنية تبدي استعدادها بتوفير المشتقات النفطية لمناطق سيطرة الحوثيين وبأسعار أقل 12 أكتوبر، 2019 مجموعة العشرين تتعهّد توفير “الغذاء الكافي” في مواجهة كورونا 22 أبريل، 2020 (تحقيق حصري) كيف تحوّلت مؤسسات صنعاء إلى “فقَّاسة صراع” الأجنحة داخل جماعة الحوثي؟ 29 أغسطس، 2021 أكثر المقالات تعليقاً 4 سبتمبر، 2022 مؤسسة قطرية تطلق مشروعاً في اليمن لدعم أكثر من 41 ألف شاب وفتاه اقتصاديا 19 يوليو، 2022 تامر حسني يثير جدل المصريين وسخرية اليمنيين.. هل توجد دور سينما في اليمن! 15 ديسمبر، 2021 الأمم المتحدة: نشعر بخيبة أمل إزاء استمرا الحوثي في اعتقال اثنين من موظفينا 2 سبتمبر، 2023 عزوف الطلاب عن الدراسة الجامعية في تعز.. ما الأسباب والتداعيات؟ 20 ديسمبر، 2020 الحوثيون يرفضون عرضاً لنقل “توأم سيامي” إلى خارج اليمن 30 مايو، 2023 الأرصاد اليمني يدعو المواطنين إلى عدم استخدام الأجهزة الإلكترونية أثناء العواصف الرعدية  أخر التعليقات ماجد عبد الله

الله لا فتح على الحرب ومن كان السبب ...... وا نشكر الكتب وا...

diva

مقال ممتاز موقع ديفا اكسبرت الطبي...

عبدالله منير التميمي

مش مقتنع بالخبر احسه دعاية على المسلمين هناك خصوصا ان الخبر...

Tarek El Noamany

تحليل رائع موقع ديفا اكسبرت الطبي...

عاصم أبو الخير

[أذلة البترول العربى] . . المملكة العربية السعودية قوة عربية...

المصدر: يمن مونيتور

كلمات دلالية: الولایات المتحدة فی الیمن

إقرأ أيضاً:

شاطئ السلام

بقلم: د.إبراهيم عمر(صاروخ)
كاتب وباحث في قضايا السلام والتنمية.
١ رمضان ١٤٤٦ه الموافق السبت: ١ مارس ٢٠٢٥م.
----------------
*تبني قيم الحكم الراشد جسر الدول النامية نحو الحداثة وسبيلها للخروج من دوامة التقليدية*
--------------
لقد تنامى الاهتمام بمفهوم الحكم الراشد في أواخر القرن العشرين من القرن الماضي، خاصةً مع ظهور المشكلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في الدول النامية نتيجة لفشل الأنظمة السياسية في الاستجابة لاحتياجات وتطلعات مواطنيها. غالباً ما تفتقر هذه الأنظمة إلى الشفافية والمساءلة والمشاركة الديمقراطية في العمليات الحكومية، حيث تُتخذ القرارات المصيرية من خلف الأبواب المغلقة، مما يؤدي إلى غياب المعلومات لدى المواطنين.
لذا يعد الحكم الراشد أحد أبرز العوامل التي تؤثر بشكل كبير وفعّال في استقرار الدول ونجاحها السياسي، الاقتصادي والاجتماعي؛ إذ يعتمد على المبادئ الإنسانية السامية والقيم الأخلاقية الفاضلة في تسيير الشؤون العامة، مما يجعله أسمى طرق الحكم وأرقاها، والتي يجب أن تتبناها كل الدول لإدارة شؤونها الداخلية والخارجية بهدف تحسين نوعية وجودة الحياة وتحقيق الرفاهية والعدالةالاجتماعية، وبالتالي ضمان سيادة حكم القانون وتعزيز الشفافية والمساءلة وتمكين المجتمعات.
في اللغة العربية يتكون المصطلح من شقين رئيسيين، هما: (الحكم) و(الرشد)، حيث يشير الشق الأول إلى العلم والتفقه في شؤون الحكم، بينما يعبر الشق الثاني عن الاستقامة والمسؤولية. يُستخدم الحكم الراشد كإطار عمل لتحسين الأداء الحكومي وتعزيز الثقة بين الحكام والمواطنين.
اصطلاحاً: هو مجموعة من المبادئ والممارسات الجيدة التي تهدف إلى تعزيز الشفافية والمساءلة والمشاركة الديمقراطية وسيادة القانون.
فيما يعرفه البنك الدولي وهو أول من استخدم مصطلح الحكم الراشد في عام ١٩٨٩م بأنه ذلك النظام الذي يعتمد على الديمقراطية في الحكم وعلى الإدارة الرشيدة للموارد.
أما برنامج الأمم المتحدة الانمائي قد عرفه بأنه ممارسة السلطة الإدارية والسياسية والاقتصادية لإدارة كافة شؤون الدولة.
وتتجلى أهمية تبني قيم الحكم الراشد من خلال القيم والأخلاق التي تتبناها الدول مثل: العدالة في توزيع الموارد، والشفافية في اتخاذ القرارات، والمساءلة التي تحتم على الحكومة تقديم خدمات عادلة وفعالة تلبي حاجات المواطنين، مما يمنح الأفراد الأمان والعدالة من خلال تطبيق القانون على الجميع بالطرق التي تتسم بالنزاهة، الاستقلال، الكفاءة واحترام حقوق الإنسان. وطبقاً لأقوال الدكتور/ صالح علي ناصر الخدري الأستاذ بكلية الدارسات الاسلامية بجامعة أديامان التركية في كتابه الطريق إلى الحكم الراشد رؤية شرعية وصفه بأنه الغاية الأسمى والمرتجى التي تسعى إليها النفوس الطيبة والأحرار من البشرية والأمم التي فهمت معنى للحياة والإنسانية بمفهومها الصحيح والكامل وجوهرها الصافي والشامل، مشددة بأن في ظله لا مكان فيه لأولئك الذين يتسمون بالنفوس المريضة والعقول الفاسدة والأهواء الزائفة فهو موافق لكمال الرشد الذي هو كمال العقل ونزاهة الفكر وصفاء النفوس وصلاح الأعمال وسمو الأخلاق ومواءمة الأقوال مع الأفعال، وهو ما يعزز القيم الإنسانية العليا التي ترفض الزيغ والزيف والمحسوبية والطائفية والقبلية والمصالح الخاصة.
..لقد أثبتت الدراسات والعديد من التقارير في هذا الصدد، مثل: تقارير منظمة الشفافية الدولية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي التي أجريت في هذا الشان بأن الدول التي تبنت هذه المبادئ وطبقتها بفعالية والتجرد على أرض الواقع قد نجحت في تحقيق التقدم التنموي المستدام والشامل، على سبيل المثال: تُعد *دولة رواندا* أنموذجاُ بارزاً يُحتذى به في أفريقيا، حيث تمكنت الحكومة الرواندية، تحت قيادة وإشراف الرئيس بول كاغامي، أن تحقق نمواً اقتصادياً مستداماً وملحوظاً عبر الإصلاحات الكبيرة التي أجرتها القيادة في مجالات الحكم: السياسة، الاقتصاد، الاجتماع والإدارة بعد حرب الإبادة الجماعية في عام 1994م، إذ تمكنت الحكومة من تطبيق سياسات كفيلة بمحاربة الفساد والمفسدين والعمل على توفيرِ بيئةٍ قانونيةٍ مستقرةٍ، تحت شعار: (زيرو فساد)، مما أدى إلى نمو اقتصادي سنوي يُقدر بحوالي 7% خلال العقد الماضي، فضلاً عن انخفاض معدل الفقر من 60% إلى 40% في الفترة ما بين عامي 1994 إلى 2020م، كنتيجة لتوجيه الجهود ومقدرات البلاد نحو تطوير قطاعات حيوية مثل الزراعة والصناعات المتوسطة والصغيرة بالإضافة إلى توجيه المدخرات الوطنية وطاقاتها نحو الإستثمار في البنية التحتية، التعليم والتدريب والتكنولوجيا.
كما تشكل *دولة سنغافورة* هي الأخرى مثالًا آخر للنجاح بفضل تبنيها لحكم الراشد، حيث طبقت الحكومة سياسة صارمة ضد الفساد بقيادة الرئيس لي كوان يو، تحت الشعار(زيرو فساد) الذي بموجبه قام بإصلاح النظام السياسي والقانوني والاقتصادي والإداري بشكل جذري، وبموجب ذلك تحول اقتصاد سنغافورة إلى أقوى اقتصادات العالم نمواً وتقدماً وازدهاراً، بمعدل النمو السنوي بلغ 5% في المتوسط، وكما تتمتع البلاد بدرجة عالية من الشفافية في إدارة الموارد العامة، وفيما انخفض مؤشر الفساد إلى أدنى درجة بمعدل 5% في المتوسط خلال العقود الأخيرة. ومع ذلك توجد هناك دولاً قد فشلت في تحقيق أي تقدم ملموس على الصعيد التنموي عند تطبيقها لقيم ومبادئ الحكم الراشد.
وعلى الرغم من نجاح بعض الدول في تطبيق قيم الحكم الراشد، تواجه دولاً أخرى العديد من التحديات التي تحول دون تطبيقها من أبرز هذه التحديات بناءً على التقارير الصادرة في هذا الصدد: *الفساد المستشري* : وهو يمثل أحد أكبر المعوقات التي تواجه الحكم الراشد ويتخذ هذا الفساد أشكالاً متعددة، بدءاً من استغلال السلطة لتحقيق مكاسب شخصية، التوظيف والمحسوبية، عدم الشفافية في القرارات الاقتصادية وصولاً إلى التلاعب بالموارد العامة، مما يؤدي إلى إهدار المال العام وتدهور الخدمات، الفساد يخلق تفاوتاً كبيراً في توزيع الدخل والثروة، مما يؤدى الى تنامي الإحساس بالظلم وكما انه يغذي الصراعات والاحتجاجات السياسية والاجتماعية مما يعزز من حالة عدم الاستقرار السياسي - ضعف المؤسسات : حيث تفتقر العديد من الدول النامية إلى مؤسسات حكومية قوية ومستقلة لا تستطيع تنفيذ السياسات والبرامج بكفاءة وفعالية - غياب الثقافة الديمقراطية : الافتقار إلى الوعي السياسي والمعرفي حول أهمية الحكم الراشد في بناء الدول وتنميتها- المقاومة من النخبة الحاكمة: غالباً ما تقاوم النخبة الحاكمة التغيير خوفاً من فقدان سلطاتها وامتيازاتها، هي ما تقف حجر عثرة أمام الإصلاحات المطلوبة.
وبناءً على التقارير الصادرة من منظمة الشفافية الدولية لعام ٢٠٢٤م، تعتبر دولة جنوب السودان النموذج الأبرز للدولة الفاشلة في تطبيق نموذج الحكم الراشد، حيث أحرزت المرتبة الأولى في ترتيب الدول الإفريقية الأعلى في مؤشر الفساد؛ تؤكد التقارير أن استمرار الفساد الممنهج، وعدم الشفافية والمساءلة، قد أدى إلى تقويض جهود الاستثمار والتنمية في البلاد.
يعزي عدد من الخبراء والمختصون في مجالات الحكم والإدارة والاقتصاد أن الأسباب وراء ذلك إلى ضعف البنية المؤسسية للدولة، مما يمنعها من تحقيق الأمن والاستقرار. كما تشير التقارير إلى أن خزينة الدولة تفقد سنويًا ما يقارب مليارات الدولارات نتيجة الفساد الممنهج؛ أما دولة غانا: على الرغم من إجراء بعض الإصلاحات في السياسة والحكم والإدارة إلاّ أنها تمثل واحدة من الدول الأكثر فقراً في العالم بسبب الفساد المتجذر في بنية مؤسسات الدولة، الناتج عن سوء الإدارة الذي لا يزال يشكل التحدي الأكبر أمام السلطات، فالبلاد لا زالت تعاني من مشكلات جمة مثل: البطالة، الفقر، عدم المساواة؛ بينما تمثل جمهورية نيجيريا: حالة أخرى تواجه خلالها تحديات كبيرة ومعقدة على الرغم من التقدم الملحوظ في مجالات الحكم والإدارة، فقد شهدت البلاد اجراء انتخابات حرة وتحسينات في مستوى الشفافية في بعض القطاعات، ومع ذلك لا يزال الفساد بشكله الواسع والمستشري يمثل عائقاً كبيراً يؤثر على كفاءة الأداء في كلا القطاعين (العام والخاص) على حدٍ سواء بسبب الضعف في قيادة الدولة. فيما يمثل الفساد في السودان: عقبة رئيسية أمام التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية في البلاد، بحسب تقرير الفساد الصادر عن المنظمة إنه احتل المرتبة السادسة حيث حصل على درجة ١٥ من أصل ١٠٠ درجة في ترتيب الدول الأفريقية الأعلى في مؤشر الفساد للعام نفسه، إذ تشير الدرجات المنخفضة إلى حتمية وجود فساد في مستوى مرتفع للغاية واسع النطاق في مؤسسات الدولة، كما أوضح التقرير أن عملية تصريح الخدمات العامة مثل: تكلفة الخدمة للحصول على تصريح أو تراخيص يتطلب ذلك دفع رشاوي تتجاوز قيمتها ٣٠% من اجمالي التكاليف الكلية. يظهر التقرير أن نسبة ٦٠% من المستثمرين الأجانب يعتقدون أن الفساد يمثل العقبة الرئيسية أمام دخول الأسواق السودانية، كما يؤكد التقرير أن حوالي ٧٠% من المواطنين يشعرون بأن الفساد منتشر في القطاع العام، مما يعكس عدم الثقة في المؤسسات الحكومية.
إن الانتقال من النظام التقليدي، الذي يعتمد على السلطة الدينية والقبلية والجهوية والطائفية أو الشخصيات الكارزمية، إلى النظام الحديث الذي يتبنى قيم ومبادئ الحكم الراشد، يتطلب تغييرات جوهرية من عدة مستويات.
.. في النظام التقليدي، تفتقر آليات المحاسبة الفعالة والرادعة، وغالباً ما تكون السلطة مركزة في يد قلة من الأفراد أو فئات محددة، مما يؤدي إلى تفشي الفساد وتعطيل سيادة القانون والمساواة. بالمقابل، في النظام الحديث، يتم تطبيق مبادئ الحكم الراشد عبر تعزيز الشفافية، المساءلة، واحترام حقوق الإنسان، مع وضع سياسات وآليات قانونية تضمن توزيع السلطة بشكل عادل على مختلف المستويات.
إذ يتطلب مثل هذا النوع من الحكم(الحديث) إلى قيادات تتمتع بقدر عالٍ من القيم والحكمة والأخلاق السامية، حيث تلعب هذه القيم دورًا محوريًا في توجيه السياسات واتخاذ القرارات. فالقيم هي تلك المبادئ الأساسية التي توجه سلوك الأفراد والجماعات وتأثيرها في اتخاذ القرارات.
في هذا السياق تعتبر القيم مثل: العدالة والمساواة في إطار الحكم الراشد، هي من المرتكزات الضرورية التي تعزز الشفافية والمساءلة، أما الحكمة فإنها تُساعد القادة على تحليل المشكلات والقضايا المعقدة وتحديد الأسباب الجذرية، مما يمكنهم من اتخاذ قرارات مدروسة وتوقع النتائج المحتملة للقرارات والعمل على التوازن بين المصالح المختلفة سواءً كانت سياسية، اقتصادية واجتماعية؛ بينما الأخلاق تعني الالتزام بالمبادئ السليمة والقيام بالتصرفات التي تعكس قيماً نبيلة فهي تمثل خط الدفاع الأول ضد الفساد؛ كما أن القادة الأخلاقيون الملتزمون دوما بمبادئ الحكم الراشد مثل: الشفافية والمساءلة، يُعززون من الثقة بين الحكومة والمواطنين فيُقلل ذلك من الفساد، هذه الثقة تمثل أساساً للاستقرار والتنمية في الدولة.
فالأخلاق تدفع بالقادة إلى اتخاذ قرارات عادلة تُراعي حقوق الإنسان وتحافظ على كرامته، لذا فإن القادة الذين يتمتعون بالأخلاق يساهمون في بناء مجتمعات أكثر عدلاً وتوازناً، لأن القيم تمثل الإطار الذي يحدد ما هو صحيح وما هو خطأ بينما الأخلاق هي التطبيق العملي والفعلي لهذه القيم؛ لذا يجب على القادة والسياسيون والإداريون أن يركزوا على تعزيز هذه القيم من خلال التعليم والتدريب المستمر والممارسات الجيدة لضمان تحقيق الحكم الراشد الذي ينشده المجتمع، لذا فإن إمكانية التطبيق وفرص نجاحه يحتاج إلى وجود نظام سياسي يستمد شرعيته من إرادة الشعوب لأنه يقوم على مبدأ العدالة واحترام حقوق الإنسان.
إن دور القيم والحكمة والأخلاق في مبادئ الحكم الراشد لا يمكن تجاهله، لأنهم يمثل الأساس في بناء الثقة بين الحكومة والمواطنين، مما يساعد على تعزيز الاستقرار والتنمية...
من خلال ما تقدم ذكره يتبين لنا أن الانتقال نحو نظام حكم حديث مبني على قيم ومبادئ للحكم الراشد يتطلب وجود نظام سياسي ذو مؤسسات قوية تمتاز بالقدرة الفعالة على تنفيذ السياسات والبرامج ملتزما بتطبيق القوانين بشكل شفاف على الجميع لضمان ثقة المواطنين ومستقلاً عن التدخلات السياسية والمصالح الخاصة قادراً على إدارة الموارد بكفاءة وفعالية وتوزيع المنافع بشكل عادل ومرضي. ولضمان تحقيق إدارة فعالة للموارد وتوزيع عادل للمنافع يتطلب الأمر إلى تبني الحوكمة الجيدة التي تعرف بأنها مجموعة من العمليات والآليات التي تهدف إلى إدارة الموارد بكفاءة وفعالية والتوزيع العادل للمنافع؛ كما أن الإستمرار في هذه الجهود سوف يساهم في بناء مجتمعات مستقرة، متطورة ومزدهرة.

ibrahimsarokh@gmail.com

/////////////////////

   

مقالات مشابهة

  • حسني بي: انخفاض مدفوعات الكاش إلى 13.9% ونمو الدفع الإلكتروني في 2025
  • المغرب..استرجاع أكثر من 100 مليون درهم وملاحقة 636 موظفًا في قضايا فساد
  • جائزة بمليون دولار لمن يفك رموز تُحير العلماء منذ أكثر من 150 عام
  • دراسة.. أكثر من 41 ألف حالة إصابة بالحصبة في اليمن بين 2020 و2024
  • سفارة الهند بالرياض تعلن عن مناقصة لبيع أثاث مكتب قنصلية بلادها في صنعاء
  • سياسات ترامب تجاه اليمن والشرق الأوسط وفق “مشروع 2025..وعد المحافظين”
  • تجهيز أكثر من 30 مدرسة.. دعم سعودي شامل للتعليم في اليمن
  • شاطئ السلام
  • منظمة حقوقية توثق أكثر من 692 انتهاكاً حوثياً ضد المدنيين في صنعاء خلال 2024
  • أمريكا تنسّق مع السعوديّة والإمارات للتصعيد في اليمن