قاضي الجبل والأم العظيمة.. من مرويات اللبان
تاريخ النشر: 11th, September 2023 GMT
سالم الكثيري
ولد رائد قصتنا على وجه التقريب في بدايات القرن العشرين في جبل بيت زربيج المعروف حاليًا بجبل إتين وكان وحيد أبويه اللذين استقر بهما الحال ما بين سهل اللوب ووادي جرزيز المجاور له مع قطيع أغنامهما، حيث عرف عن الأب الكرم والعطاء؛ إذ كان يقدم حليب أغنامه للغادين والرائحين من الجبال والصحراء إلى صلالة بكل سخاء حاله كحال الآخرين من أصحاب الماشية في ذلك الزمن.
ولما كان أقارب الأم الذين نزحوا من البادية طلبًا للرزق ويعملون في تجارة اللبان يقطنون بلدة عوقد الواقعة على مقربة من صلالة التي تعد حاضرة ظفار والتي هي أقرب إلى البلدة الكبيرة مقارنة بمفهوم المدينة اليوم، فقد كانت ترى فيها شيئًا ما يختلف عن حياة الجبل والبادية؛ حيث المسجد والكتاتيب والسوق وغيرها.
طمحت الأم أن ترى ابنها الوحيد من بين الغلمان الذين يترددون على إمام المسجد يعلمهم القراءة والكتابة ويحفظهم القرآن.ولكن كيف لها ذلك مع قلة ذات اليد وقد باتت منفصلة عن زوجها ثم كيف لابن الجبل أن يرتاد الكتاتيب التي لا توجد إلا في المدينة.
مضت الأيام والليالي وهي تفكر في مخرج لتحقيق حلمها حتى توصلت إلى قرار يُعد من أصعب القرارات التي يمكن أن تتخذها امرأة ألا وهو العمل في منازل اللبان فالتحقت وابنها ذي الثمانية أعوام - بمعية عوائل ونسوة أخريات كما جرت العادة عندما بات العمل باللبان نمطا سائدا بين أهل ظفار في حينه - بقافلة اللبان المتجهة إلى الوديان الواقعة شمال منطقة المغسيل حاليا لتبدأ رحلتها في استخراج اللبان لعدة سنوات والمتاجرة به إلى أن تمكنت في نهاية الأمر من تحصيل مبلغ من المال اشترت منه دهليزا وهو بيت مناسب للسكن وتخزين البضاعة بمقياس تلك الأيام وعدد قليل قد لا يتعدى اثنتين أو ثلاثة من إبل مستهيل بن سعيد (حرقوز) بن أحمد الدعكري الكثيري "بنات إروهم" التي تعد من أفضل سلالات الإبل في ظفار والتي تكاثرت فيما بعد على يد ابنها، وما زالت متوارثة مع أحفادها إلى يومنا هذا وليستقر بها الحال كإحدى تاجرات اللبان في عوقد.
هكذا أرسلت الأم بعد ذلك ابنها ليتتلمذ على يد الشيوخ في البلدة الكبرى صلالة ومن شيوخه الذين عرفوا بالاسم الشيخ عبدالله شريم الذي يبدو واضحًا من اسمه أنه حضرمي؛ حيث كان جل أئمة المساجد إن لم يكن كلهم من أهل حضرموت ولعل المتتبع لأسماء المساجد القديمة في ظفار بشكل سريع تتبين له هذه الملاحظة ومنها على سبيل المثال مسجد باغيث، بادراج، باحدر، باقديرة، باحمران، بامزروع وكلها تبدأ بحرف الباء الذي يشير إلى أسماء كثير من القبائل الحضرمية إضافة إلى المساجد الأخرى التي تأسست على يد أهل العلم من مشايخ وهاشميين وغيرهم بطبيعة الحال على فترات تاريخية مختلفة.
ثمَّ لما شبَّ الطفل عن الطوق أكمل مسيرة العلم بنفسه متتبعا الفقهاء في حله وفي أسفاره وقد عرف عنه الحرص على العلم فبينما يتوجه الناس من الجبل إلى المدينة لبيع منتوجاتهم من سمن وحطب وماشية وغيرها ويشتروا بثمنها قوتهم واحتياجاتهم اليومية كان هذا الشاب، إضافة إلى السعي وراء لقمة عيشه يقدم من الجبال ليحضر دروسه ويتتبع شيوخ العلم للبحث في الجواب عن مسألة فقهية أو فتوى ما.
وهكذا ومع مرور الأيام أصبح لهذا الطفل شأن وبات يفد إليه أهل الجبل في السؤال عن أمور دينهم حيث كان يفقههم في أحكام الصلاة والصوم والزكاة والمواريث ويعقد لهم عقود الزواج ويحفظ الصغار والكبار القرآن الكريم ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.
عمّر الرجل طويلًا وقد عُرف عنه الورع والسماحة والبعد عن التشدد ونبذ الكثير من المعتقدات الدينية الخاطئة التي كانت سائدة آنذاك، وكان وضّاء الوجه طلق اللسان حسن الخلق لطيفًا بالضعفاء والأطفال والمساكين يختلف عن الآخرين في هيئته وملبسه تفوح منه رائحة العطر أينما حل وذهب وكان ذا مهابة ومكانة بين الجميع؛ فهو القاضي والفقيه ومعلم القرآن، يؤمه الناس ويتحلقون حوله ويتأثرون بتلاوته للقرآن وابتهالاته الدينية وحديثه ونصائحه التي تذكرهم بالآخرة وتقربهم إلى ربهم. وبات مضرب مثل في البر بأمه التي طال عمرها أيضاً، وكيف له ألا يبرها وهي صاحبة الفضل بعد الله في تفقهه وتدينه.
وعلى الرغم من أنه كان مِزواجًا وأنجب عددًا من الفتيات، لم تُكتب الحياة لأبنائه من الذكور؛ إذ كان الموت يفتك بالمواليد وأمهاتهم في معظم الأحيان ذلك الوقت، إلّا لأصغرهم الذي أسماه باسم لم يكن دارجًا بين أبناء جيله، لقد أسماه عبد الرحيم وهو من التعبد لله وطلب الرحمة منه. كما إنه أطلق على أبنائه الذين وافاهم الأجل صغارًا أسماءً ذات مسحة دينية وثقافة مجددة فسمّى: محمد الصادق وعقيل وحفيظ ومانع، بخلاف الأسماء التقليدية المتعارف عليها في المجتمع وقد استمر به الحال كقاضٍ وفقيهٍ في الجبل فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، دون مقابل؛ بل تطوعًا من تلقاء نفسه وتعبُّدًا لله، وباستقرار الناس في مدينة صلالة مع بداية السبعينيات، أوكلت إليه الإمامة والخطابة في مسجد "با قديره" الذي حمل اسمه مع مرور الأيام إلى أن كبر في السن ثم توفي رحمه الله في العام 1998.
هذه قصة أخرى من قصص اللبان في ظفار وهي تخبرنا عن امرأة عظيمة اختارت لابنها طريقًا آخر معاكسًا لما كان سائدًا في المجتمع حينها من ظلام وجهل، وموقف أب داعم لفكرة نيرة نبيلة في وقت عصيب أحوج ما يكون فيه الأب إلى ابنه، وخاصة إذا كان الابن الأكبر؛ ليصبح هذا الابن بمثابة مِشعل النور الذي يستضيء به الناس في حلالهم وحرامهم، ولتستمر بذرة الخير التي غرسها الأبوان بالكرم والصبر في علم ابنهما الذي نفع به الكثير ممن هم في حاجة إليه.
يتبقى أن أخبر القراء الكرام بأن اسم فقيهنا هو الشيخ علي بن مستهيل بن علي جوماع الشكل الكثيري المعروف بـ"ابن قحووت"، وأن أمَّه هي خيار بنت محمد بن سالم (العبعوب) شعفان بيت مسن الكثيري، وقد ترددتُ كثيرًا في كتابة هذا المقال تخوفًا من سهام النقد؛ ذلك أن الشيخ الذي نتحدث عنه هو جدِّي لأمي، وأن الكتابة عن الأقارب تُعد مخاطرة شديدة قد يُتهم فيها الكاتب بالمُحاباة، إلّا أنني نزلتُ عند إلحاح بعض القراء الكرام الذين طلبوا مني توثيق هذه القصة المليئة بالدروس والعبر، وذلك على ضوء مقالي الأخيرعن شخصية المهر ورأيت أنه من المناسب الإشارة إليها بالتزامن مع مشروع "مرويات اللبان" الذي يعدّه بعض الباحثين العمانيين من أبناء محافظة ظفار حاليًا.
****
هوامش:
سهل اللوب: سهل إتين حاليًا وكان مشهورًا بالخصوبة وكثافة الأشجار.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
إيدي.. كاهنة مصرية تفاجئ علماء الآثار في أسيوط
حتى بعد سنوات عديدة من العمل الميداني والخبرة، كان الأمر بمثابة حدث بارز بالنسبة لعالم المصريات الألماني يواخيم كال. فقد اكتشف فريق من الباحثين بقيادته الصيف الماضي مقبرة لكاهنة مصرية قديمة عمرها ما يقرب من 3900 عام ومحفوظة جيدا في أسيوط بصعيد مصر.
وقال كال، وهو أستاذ بجامعة برلين الحرة، لوكالة الأنباء الألمانية: "لم تكن النية على الإطلاق العثور على إيدي.. كان ذلك مفاجئا تماما".
وتقع المقبرة في جبل من الحجر الجيري يبلغ ارتفاعه حوالي 200 متر، ودُفن فيه حوالي 10 آلاف شخص في عصر الفراعنة، بحسب تقديرات كال.
وهناك كان يُجرى دفن الأثرياء على وجه الخصوص. وقد أغفل الباحثون قبر الكاهنة إيدي لعدة قرون. واعتبر كال هذا الاكتشاف ضربة حظ بحتة، حيث قال: "من النادر العثور على مقبرة في مصر اليوم بكامل محتوياتها نسبيا".
وإلى جانب التابوتين الخشبيين المتداخلين والمزينين برسومات ونصوص بالغة الدقة - وهي علامة على الرفاهية - عثر فريق البحث الدولي في حجرة الدفن على تماثيل وخنجر وأواني للأحشاء - والتي تسمى الأواني الكنوبية - من بين أشياء أخرى. وقال كال إن مومياء إيدي مزقها لصوص قبور من العصور القديمة، ولم تعد عظامها في التابوت، بل في زاوية بحجرة الدفن.
وكانت إيدي كاهنة للإلهة حتحور، وحملت لقب "سيدة البيت"، وهو ما يُثبِت أنها امرأة من عائلة ثرية. ويقدر العلماء أنها عاشت حوالي 40 عاما.
وتضمنت النصوص الطقسية المنقوشة على التابوت نصائح حول كيفية الانتقال بنجاح إلى الحياة الآخرة أو ألغاز اختبارية يتعين على إيدي اجتيازها، وفقا لمعتقد المصريين القدماء. أوضح كال قائلا: "على سبيل المثال: أنا الأمس. أنا أعرف غدا - ماذا يعني ذلك؟"، مضيفا أنه بالإضافة إلى ذلك تم رسم قائمة قرابين على الجزء الداخلي من غطاء التابوت لترافقها بشكل رمزي في طريقها إلى الآخرة، والتي شملت خبزا وجعة وزيتا وأقواسا وسهاما وألفي قيثارة، من بين أمور أخرى.
وتقع حجرة الدفن بجانب ممر رأسي بعمق 14 مترا داخل مقبرة والدها جفاي حابي الأول، والذي يعود تاريخه إلى حوالي عام 1880 قبل الميلاد.
وتم الإعلان عن الاكتشاف لأول مرة في أكتوبر الماضي. وتحتوي المقبرة على غرف يصل ارتفاعها إلى 11 مترا وعمقها إلى 28 مترا. وتم بناؤها على ارتفاع 70 مترا في الجبل. وقال كال: "هذه أكبر مقبرة غير ملكية في عصرها في مصر".
وأثناء التنقيب كان على عالم المصريات وزملائه الزحف عبر ممرات أفقية ضيقة. وتحدث كال عن عمل شاق في ظل درجات حرارة تصل إلى 40 درجة مئوية وهواء رطب، مضيفا أن العمل تطلب جرأة وكثير من الشغف.
وبحسب بيانات كال، يعمل حوالي 20 عالما وما بين 40 إلى 80 عامل تنقيب مصري في أسيوط كل عام في الفترة من منتصف أغسطس إلى منتصف أكتوبر. وتجرى أعمال التنقيب بالتعاون مع جامعة سوهاج (مصر) وجامعة كانازاوا (اليابان) والأكاديمية البولندية للعلوم.
وقال كال: "نحن نعيد بناء تاريخ هذه المدينة القديمة، بالاستعانة بكل ما نجده على الجبل"، موضحا أن أعمال البحث مستمرة منذ 21 عاما، والتي يرافقها كال هناك منذ البداية. وذكر كال أن الأمر يتعلق بحوالي 6 آلاف عام من التاريخ، منذ 4 آلاف عام قبل الميلاد حتى اليوم، مشيرا إلى أن مدينة أسيوط نفسها مبنية بالكامل فوق أطلال، مما يجعلها عصية على التنقيب والبحث، موضحا أنه يتم لذلك التنقيب في جبل في أسيوط. وبحسب كال، فإن الجبل لم يكن مجرد مقبرة للناس فحسب، بل كان أيضا مدفنا للحيوانات، وكان مقصدا للزيارات وموقعا للأديرة، مضيفا في المقابل أنه أصبح اليوم منطقة عسكرية، وقال: "لذلك نحن نعمل طوال الوقت تحت حماية الشرطة وبتواجد جنود على الجبل".
وذكر كال أن أسيوط لعبت دورا كبيرا في الذاكرة الثقافية لمصر القديمة. وفي المدينة الجنائزية - وهو الاسم الذي يطلق على مقبرة كبيرة مبنية على شكل مدينة - تم العثور على نقوش من الفترة المصرية الانتقالية الأولى (عصر الاضمحلال الأول) (2205 إلى 2020 قبل الميلاد) والدولة الوسطى (2020 إلى 1630 قبل الميلاد).
وعن مدى إثارة الاكتشاف الأخير بالنسبة له، قال كال: "من حيث المبدأ، فإن هذا الاكتشاف ليس أكثر ولا أقل من مجرد لبنة صغيرة لفهم تاريخ أسيوط بشكل أفضل"، موضحا في المقابل أن ما أثر فيه هو الصبغة الشخصية التي منحتها إيدي للاكتشاف، حيث قدمت النقوش والرسومات الكثير من المعلومات عنها، مضيفا أن أكثر ما يبهره في عمله هو استيعاب حضارة المصريين القدماء في مجملها.
وخلال الشهور المقبلة سيُجرى فحص اكتشافات غرفة الدفن من قبل خبراء في تحليل المواد الخشبية ومرممين وعلماء آثار وعلماء أنثروبولوجيا ومصورين وفنيي تنقيب وعلماء مصريات، كما سيتم فحص الممر الأفقي عن كثب. وعن مصير إيدي بعد اكتمال الفحوص، قال كال: "ستتم إعادتها إلى الجبل".