لجريدة عمان:
2025-01-26@07:35:03 GMT

حشيمة «بش محود إلون».. وداعا

تاريخ النشر: 11th, September 2023 GMT

يصعب على المرء التعبير عن الحزن ووقعه، فما بالك بمن فقد أمه التي أرضعته وربته وساهمت بشكل أو بآخر في بناء ذاته وذاكرته وشخصيته، ففي مجتمع الرعاة تكون لدى الطفل في الغالب أمٌ أخرى غير أمه البيولوجية، إذ جرت العادة عند الرعاة أن ترضع الأمهات طفل المرأة التي تغيب عن طفلها أو تنشغل بظروف الحياة الاجتماعية والاقتصادية التي يكابدها الرعاة المتنقلون وخاصة رعاة الإبل، إذ يحملون أمتعتهم على ظهورهم ويتنقلون بين الأودية والهضاب في مسالك جبلية وعرة يندر وجود الماء فيها ناهيك عن الطعام، ويكاد يكون الحليب هو المشروب المغذي الوحيد الذي يحصلون عليه في أغلب أيام السنة.

ينتج عن اختلاط الرعاة وتعاون الأمهات في إرضاع الأطفال علاقات من الأخوة تُنسج بين الأسر والأهالي. إن عادة إرضاع الأطفال منتشرة في الظروف التي تنشغل فيها المرأة عن طفلها سواء في المجتمعات الزراعية أو المجتمعات القائمة على الترحال والتنقل، وهي أيضا عادة عربية قديمة، فقد رضع النبي- صلى الله عليه وسلم- من حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية، وبعد غزوة حنين حين قسمت الغنائم على المسلمين خرج زهير بن صرد من بني سعد يطلب من النبي العفو عن الأسرى ففيهن عماته وخالاته وحواضنه اللاتي كن يكفلنه، كما ورد في السير.

إن الأم المرضعة التي فقدتها منذ يومين وأجدني عاجزا عن التعبير عن رحيلها أو ما تمثله في حياتي هي المرحومة حشيمة بنت محمد سهيل متكي العمري (بش محود إلون)، فعند ذكرها تختلط عليّ العبارات والعبرات في التعبير عنها وعن والدها المرحوم (محود إلون) المشهور بالكرم وإيواء الجياع، وقد أشرت له سابقا في أكثر من مقال، ومهما كتبت عنه فلن أوفيه حقه، فهو الوحيد الذي أشعر تجاهه بحب وتقدير من نوع خاص، ليس لأننا مدينون له بالكثير، ولكن لأنه كان الشخص الذي رمت أمي بقايا حبلي السري خلفه لكي أحمل صفاته كما جرت العادة في الميثولوجيا القديمة، إذ تُرمى سُرر الأطفال خلف الناس الذين يرغب الآباء أن يتشبّه بهم أطفالهم، وللحبل السري قيمة في ثقافة الشعوب القديمة، إذ يُعتقد أنه يحمل سر حياة المولود لهذا يُدفن الحبل السري للأطفال خوفا من وقوعه بين أيدي السحرة أو من يريدون إلحاق الأذى بالمولود، وأحيانا يوضع الحبل السري مع الذهب أو النقود اعتقادا بأن الطفل يُمكن أن يُحاط بالمال والذهب، ولدينا في ظفار مثل يقول «فلان ضاع حبله السري هناك» حينما يرون شخصا مرتبطا بمكان ما أو موضوع ما.

لكني شخصيا خالفت ناموس الميثولوجيا القديمة فلم أصبح راعيا للإبل، ولم يشهد الناس لي بالمعرفة والبراعة في شؤون الرعي وتدبير قطاع النوق، فكيف ضاعت سُرتي خلف الرجل في معطان الإبل؟!

أخذني السرد بعيدا عن فقدان أمي المرضعة، مع أنني في الواقع قد فقدتها منذ سنوات حين محا الزهايمر ذاكرتها وأدخلها في غيبوبة لعدة سنوات، الزهايمر ذاته الذي محا (باري) من ذاكرة عبدالله، بطلي رواية «ورددت الجبال الصدى» للكاتب والطبيب الأفغاني الأمريكي خالد حسيني، إذ لم يتعرف عبدالله على شقيقته باري، هو الذي عاهد نفسه على ألا ينسى شقيقته التي كان بمثابة الحارس الشخصي لها. لكن لا الزهايمر ولا النسيان قادران على محو أمي حشيمة من ذاكرتي، فما أن يمر ذكرها على البال حتى أرى وجه المرأة الحليبي المغطى بالثوب النيلي وابتسامتها الشهيرة، وشهرتها في تقديم العون والمساعدة، وتدبير خِدرها الذي يضرب به المثل في الترتيب والتنظيم وسعته للناس، وذكر لي صديق الوالد المرحوم مبارك سالم باعويضان- من تجار سدح- أنه حين يقبل الخريف ويغلق البحر أمام المراكب، يذهب إلى الجبل عند والدي الذي يكون وقتها مع إبله مخالطا بيت محود إلون، حيث (خدار) الأم حشيمة وبهجة الرعاة وسرورهم وأجواء الخريف.

لم تكن أمي من الرضاعة تحكي لنا الكثير من القصص فهي مشغولة دائما إما بجلب الماء على ظهرها من مسافات بعيدة وإما بالبحث عن ناقة مفقودة أو مساعدة أسرة أخرى انتقلت إلى مكان آخر، فتقدم العون طوال وقتها لمن يحتاجه.

حين طالعت وجهها قبل تكفينه بدقائق طافت بي الذاكرة في الأمكنة الجميلة التي رأيتها فيها، وتذكرت أن والدها رحل أيضا في شهر سبتمبر 2002، وقبل أن يغطي الكفن الأبيض وجه أمي تذكرت بيت المتنبي الشهير:

«صَلاةُ اللَهِ خالِقِنا حَنوطٌ

عَلى الوَجهِ المُكَفَّنِ بِالجَمالِ

وَلَو كانَ النِساءُ كَمَن فَقَدنا

لَفُضِّلَتِ النِساءُ عَلى الرِجالِ

وَما التَأنيثُ لِاِسمِ الشَمسِ عَيبٌ

وَلا التَذكيرُ فَخرٌ لِلهِلالِ»

رحم الله وجوها كانت معنا وفارقتنا، ورحم الله أمهات أرضعننا مع الحليب حب الآخرين وسيرهم العطرة.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

الخوف الذي لا ينتهي إلا بالرحيل!

لم أكن أعلم أن ثمة خوفًا جبارًا يترسخ في الذات الإنسانية، يعصف بالقلب والعقل وسائر الجسد مدى الحياة، هذا الخوف كان حاضرًا في مسارات الحياة جليا في عيون «أبي وأمي»، كنت كغيري من الأطفال الذين ينزعجون كثيرا من المراقبة الشديدة للخطوات والعثرات، ومن الحصار المطبق أينما توجهنا في سيرنا البطيء والتوجيه المستمر بالنهي والشدة، وأحيانا قسوة العتاب الذي لا يغيب عن البيت يوما واحدا، لكن عندما يداهمني المرض أجد أن لدي طاقمًا طبيًا وتمريضيًا يحيط بي من كل جانب، اهتمام لا يوصف وحلقة مترابطة تشد بعضها البعض من أجل العناية بي.

كان أبي مولعًا بجلب عصير البرتقال المعلب، كان حباته بمثابة حبوب أتناولها عند المرض، وأمي تشدد على ضرورة احتسائي لبعض المشروبات الساخنة كالزنجبيل والليمون وغيرها معتبرة كل هذه المحفزات أمرا ضروريا لطرد المرض الذي يتربص بي وبصحتي.

فلا تكاد أي وعكة صحية تمر بي، إلا وأجد «أبي وأمي» بجانب رأسي يراقبون الوضع عن كثب، وتفاصيل وجوههم تفضح ما يسرون في أعماقهم من قلق وخوف خاصة عندما تهاجمني الحمى بشدتها، أو تنهار مصادر القوة التي تعينني على الحركة بسهولة من آثار المرض.

هذا الخوف لم أحس بقوته وسطوته إلا عندما أصبحت في مكانهم، فالأطفال هم الدم الذي يسري في شرايين الجسد، والأم والأب هما الشموس التي تنثر خيوطها وضياءها في أركان المنزل والأماكن بشكل عام، وعندما تغرب شمس الضياء وترحل هذه الكواكب التي تحيط بنا تتهاوى أركان المنازل شيئا فشيئا وكأن الريح هي التي تعصف بكوخ أرهقته السنين وفقد الحياة برحيل من كان فيه، لا يموت الخوف إلا عندما يموت أصحابه.

فكم من منازل كانت عامرة بالحب والحياة؛ لأن أركانها كانت متينة وصلبة أمام التغيرات التي تحدثها السنين، المنازل التي كنا نحسبها بأنها صامدة أمام عجلة الزمن تهاوت عندما لم يعد هناك عائل يخاف على أطفاله.

لأول مرة أوقن بأن الخوف هو شيء إيجابي، رغم أن الصورة القديمة التي أحفظها له أنه شيء مرعب ومحزن، فكلما كان هناك خوف من الفقد كان هناك اهتمام بالغ يشعرنا بأننا نعيش الحياة بوجه مختلف.

الأجيال تسلم بعضها البعض... حقيقة لا جدال فيها، فهناك ترافق وتتالٍ ما بين جيل وآخر، الآباء والأمهات خوفهم يمتد منذ ولادتنا وحتى لحظة الفراق، البيت الذي تنطفئ فيه شمعة الأب أو الأم أو كليهما هو بيت مظلم لا حياة فيه ولا بقاء لسكانه.

سنوات من العمر تمضي ويزداد الخوف على الأبناء حتى وإن كبروا لا ينقص من حبهم وخوفهم يوما، أطفالنا لا يشعرون بمدى القلق الذي ننزفه كل لحظة حزن وألم نمر بصحرائها نحن الأمهات والآباء، هم لا يدركون بأننا نتمنى أن يبقوا ونحن من يرحل، لا يعرفون أننا نموت ونحيا معهم في كل عارض صحي أو نفسي أو اجتماعي أو أي خطر يحدق بحياتهم.

أطفالنا الصغار يكبرون أمام أعيننا ولا نزال نحس بأنهم لا يزالون صغارا حتى وإن تغيرت ملامحهم، رائحتهم القديمة، وتفاصيل مراحل أعمارهم لا تزول من أنوفنا، حتى وإن بلغوا من العمر ما بلغوا، بل تظل أشياؤهم معنا تتجدد كنهر يتدفق كل صباح ومساء ولا ينبض إلا عندما تجف ينابيع الحياة في أجسادنا التي ستبلى مع الزمن.

مقالات مشابهة

  • البخيتي يشبه السعودية بالقط الذي يحب خناقه
  • بالصورة.. شاهد الإرهاب الحقيقي الذي ينهش العالم
  • شباب الصراحة، ومليشيا الوقاحة!!
  • محاسنُ الشَّريعة العِلمُ الذي سَكَت لما نَطَق
  • هاشم: اجبار الاسرائيلي على الانسحاب اولوية لجنة المراقبة
  • إصابة شخصين أمام سوبرماركت... ما الذي حصل معهما؟
  • وداعا للسرقة.. جوجل تطلق ميزة عظيمة لحماية هواتف أندرويد
  • وداعا جامع العايب.. وداعا لنا بالتدريج!
  • الخوف الذي لا ينتهي إلا بالرحيل!
  • وداعا لجوع ما بعد منتصف الليل.. دليل شامل للتخلص من هذه المشكلة المزعجة