كانت طريقته في حمل سكّينه مدهشة لطفلة في سنواتها الست؛ إذ كان يودع السكّين في غمد جلدي بني اللون فصَّله خصيصا لها، ثم يُدخلها بغمدها ما بين رقبته ودشداشته من الخلف. حارت الطفلة كثيرا في ثبات السكّين هناك من دون أن تسقط! وراحت تتخيّل دشداشته بجيب -ولا شك- يبدأ من فتحة الرقبة مباشرة كي تستقرّ السكّين فيه.
كان يكفي أن تكون «سمّ الموت» موجودة في البيت القديم ليحسّ أفراده بالأمان، وكان كافيا أن يحملها معه ليكون آمنا من الدوابّ وهوامش الليل. وإذا نزلت بأحدهم نازلة يكفي أن يسأل عن «سمّ الموت» وصاحبها ليدرك الحاضرون أن أمرا جللا قد حدث يستدعي استخدام الأيقونة التي اقترنت به.
أما هو فقد كان، بخلاف سكّينه، رجلا وادعا ومسالما وكثير التبسّم قليل الكلام، لا سيما إذا كان محدّثه لا يضطرّه للكلام. ولكن حركته وهو يستلّ سكّينه من خلف رقبته إذا ما دعت الحاجة لا تختلف عن فارس يستلّ سيفه، فيظهر فجأة صاحب «سمّ الموت» كما يليق بسكّين دارت حولها الأساطير.
لم تكن «سمّ الموت» أداة شرٍّ بعد كل شيء، فهي لم تفعل أكثر من قطع ما لا ينقطع -أو هكذا كنا نظن- أو قتل دابة أو هامشة أو أفعى بضربة واحدة لا ثانية لها، حتى أوشكنا على الاعتقاد بأنها تعرف هدفها وتراه، حتى لو صُوّبت نحو الهدف الخطأ فإنها قادرة على تغيير مسارها تجاه هدفها الذي تعرفه. ولكن ما يغفله الكبار قصدا أو عمدا أنها كانت تجلب لنا الفرح نحن الصغار، فبها حصلتُ على كثير من الدمى الخشبية التي ينحتها لي بسكّينه هذه، فقد نحت لي مرة حصانا خشبيا وفارسا وسيما وضعه على ظهر الحصان، وأحاط رقبة الحصان بخطام من الخوص الرفيع المسفوف، ووصله بيد الفارس الراكب على ظهره. كنت سعيدة بالهدية المنحوتة بعناية رغم أنها لم تكلّفه وقتا طويلا. كان يكفي أن يجلس الطفل منا إلى جواره أسفل شجرة الليمون الكبيرة في حوش بيته حتى يبادر إلى إخراج سكّينه بحركة الفرسان تلك وينحت دمية له بـ«سمّ الموت»، كما يحدث كثيرًا أن يقطع بها جريد النخل في مزرعته التي تحيط بالبيت، ويجدله ليصنع منه قفرانًا وأشكالًا لا نهائية من الجِمال والقطط والأواني الخوصية الصغيرة. كان رقيقا وفنانا، ولكن أحدا لم يُعر اهتماما لما كان يصنعه من أشكال بالغة الدقة والرهافة عدانا نحن الصغار، كانوا جميعا مشغولين بالوجه الآخر للسكّين.
ولكن حارسته الأمينة «سمّ الموت» لم تستطع أن تحلّ مشكلة استطالة طريقه من البيت إلى المزرعة التي اشتراها على بعد خمسة كيلومترات. مسافة كان يقطعها بادئ الأمر في عشر دقائق فقط، تساعده في ذلك نحافته وخفة وزنه وسرعة ساقيه، ولكن الأمر مع الوقت بدأ يسير بشكل لم يعهده من عرفوه، حتى وصلت المدة التي يقضيها بين البيت والمزرعة ساعتين بتمامهما وكمالهما. يتأخر في كل يوم عن البيت مدة أطول عن اليوم الذي قبله، حتى أجهده المرض وأقعده عن الذهاب إلى المزرعة التي نمت فيها الحشائش الزائدة فزاحمت «جلب» القت «البرسيم». لمدة طويلة لم يكن مقتنعا أن ما به يحتاج إلى طبيب أو مستشفى، فقد تجلّد وتحامل على نفسه حتى بلغ الغاية التي لا رجوع منها. في سرير المستشفى كان لا ينفك يسأل عن «سمّ الموت» التي أزالها الأطباء من خلف رقبته، ولكن سرعان ما تعاوده الطمأنينة عندما يجدها إلى جواره؛ وكأنها الشيء الوحيد الذي يجعل البقاء ممكنا في مكان لا يطيقه.
أما موته فيشبه النهايات المفتوحة التي تأتي بأكثر من صيغة محتملة، وأولى تلك الصياغات كانت محض إشاعة لم تفعل أكثر من تأخير المحتوم يومين أو ثلاثة من دون أن تغيّر في تفاصيله كثيرا، ولكنها مهلة كانت كافية لأمّي التي بكت في المرة الأولى لاعتقادها أن أباها قد غادر الحياة قبل أن تصل إلى المستشفى، وعندما وجدته ما يزال يتنفّس تنفّست هي معه، وقرّرت ألا تتركه أبدا، وأنها ستقيم إلى جوار سريره حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولا.
في الصيغة الثانية- قبل أن يجيء الموت صدقا- طلب منها جرعة ماء، فسقته حتى ارتوى، وأسلم الرّوح بين يديها. بكت موته للمرة الثانية ولكنّها كانت راضية هذه المرة. أما «سمّ الموت» فلم يعد يتذكّرها أحد، فقد كانت موجودة بوجوده هو، وعندما غادر غادرتها أساطيرها، وزهد فيها وارثوها، وعادت سكّينا أقصى ما تستطيعه أن تقطع تفّاحة أو حبّة مانجا.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
الوجه الاخر للجالية السودانية بلندن
الوجه الاخر للجالية السودانية بلندنكل عام ترذلون! السودانيون في بريطانيا واسقاطات التدهور الفكري والأخلاقي في الوطن الام
بالأمس أعلنت الجالية السودانية بلندن تأجيل انعقاد جمعيتها العمومية التي كان من المقرر انعقادها يوم الاحد 9 فبراير . ذلك اثر ورود تنبيه و نصيحة من السلطات الرسمية ببريطانيا بضرورة تأجيل اجتماع الجمعية العمومية للجالية لتوقعها لامكانية حدوث أعمال شغب و عنف من بعض المجموعات السودانية بلندن و ايضاً ورود تحذير من ن ادارة القاعة بالغاء الاجتماع حال حدوث اى شغب او تخريب داخل القاعة يهدد الممتلكات و السلامة العامة.
التهديد يبدوا من الجماعة التي سبق لها ان تحرشت بالذين حضروا ندوة حمدوك في اكتوبر الماضي حين قامت بالتحرش اللفظي ضد الحضور حاملين العصي امام القاعة لمنع دخول حمدوك و رفاقه مما استدعي تدخل الشرطة البريطانية ! .
هذه المجموعة رغم محاولاتها تسديد اشتراكات اكبر عدد من الاشخاص لتأهليهم لحضور الجمعية العمومية و بالتالي أحقيتهم في التصويت ، إلا انه يبدوا انها قد اكتشفت ان عدد المؤيدين لها لا يجلب لها الفوز في انتخابات الجالية فاتخذت القرار بمنع انعقاد الجمعية عن طريق البلطجة و العنف !!
قبل ان يكون للجالية السودانية بلندن مهاجرين من السودان كانت تشرف علي شؤونهم جمعيات واتحادات الطلبة والمبعوثين ، و كانوا وقتها من الصفوة .
في عام ١٩٩٣ عندما زاد عدد المهاجرين وتناقص عدد المبعوثين ( نتيجة لظروف الحكم في السودان ) ، تكون مجلس ادارة للجالية من المهاجرين المقيمين برئاسة المرحوم د عمر يوسف العجب ونائبه احمد بدري . ثم آلت الرئاسة لاحمد لعدة دورات . كانت وقتها مجالس الجالية بعيدة عن ساس يسوس . و كان المجتمع معافا من الحقد و الضغينة ويسود الاحترام بين الجميع .
للأسف الان اصبح التناطح الحزبي و العصبية الايدلوجية و العرقية تفرض وجودها علي العمل الاجتماعي و النفعي في كل مناحي الحياه . كما ان طرق التعبير عن الرأي اتخذت منحي مختلف حيث ساد العنف و انحدر مستوي الخلاف الفكري الي درك سحيق لا يتماها مع قيم البلد التي يقيمون فيها ، بلد تعتبر ام الديموقراطيات في العالم
كيف حدث ذلك لهذا للسودان و لاهله المتسامحين ؟ و ما سبب هذا التغير ؟ لماذا ساد خطاب الكراهية و التخوين ؟ !
علينا دراسة هذه الظواهر و اجتثاثها . كما علينا البحث عن سببها ، الإعلام ام الحكومات ام التربية ام ماذا ؟
حقيقة ان السودان الذي ترعرعنا في كنفه لم نشاهد فيه مثل هذا السلوك الذي يبدوا دخيلا و نامل ان يكون عارضا و لا يصبح سمة لهذا الشعب الطيب .
يحضرني قول مأثور للسيدة اليانور روزفلت زوجة الرئيس الأمريكي الأسبق روزفلت و كانت سياسية و عضو مجلس النواب حين قالت :-
العقول العظيمة تناقش الافكار
و العادية تناقش الاحداث
اما الصغيرة تناقش الاشخاص
الان اري ان الميديا تشخصن القضايا و تعمل علي قتل شخصية الخصوم السياسين كما ساد التنابذ و القدح في الخصوم دون التطرق للأفكار ! فهل اصبحنا من اصحاب العقول الصغير ؟ .
gafargadoura@hotmail.com