لجريدة عمان:
2024-09-17@04:07:11 GMT

الوجه الآخر للسكين

تاريخ النشر: 11th, September 2023 GMT

كانت طريقته في حمل سكّينه مدهشة لطفلة في سنواتها الست؛ إذ كان يودع السكّين في غمد جلدي بني اللون فصَّله خصيصا لها، ثم يُدخلها بغمدها ما بين رقبته ودشداشته من الخلف. حارت الطفلة كثيرا في ثبات السكّين هناك من دون أن تسقط! وراحت تتخيّل دشداشته بجيب -ولا شك- يبدأ من فتحة الرقبة مباشرة كي تستقرّ السكّين فيه.

أطلق عليها اسم «سمّ الموت» لحدّة نصلها الذي ما كانت بسببه تعجز عن قطع شيء مهما بدا قطعه مستحيلا، أو هذا ما راج عنها من حكايات كان مصدرها الأساس الاسم الذي اشتهرت به. لازمته السكّين طوال عمره من دون أن تفارقه حتى في ساعات نومه، بل كان يخرجها من مخبئها خلف رقبته ويضعها إلى جواره قبل أن ينام، ولم يكن أحد ليتجرأ على استخدام سكّينه بدلا منه، ولا التفكير في استعارتها منه فضلا عن سرقتها، فقد بدا أن اسمها لم يكن قاطعا وحسب، وإنما كان تميمة ترهب من يفكر فيها بسوء.

كان يكفي أن تكون «سمّ الموت» موجودة في البيت القديم ليحسّ أفراده بالأمان، وكان كافيا أن يحملها معه ليكون آمنا من الدوابّ وهوامش الليل. وإذا نزلت بأحدهم نازلة يكفي أن يسأل عن «سمّ الموت» وصاحبها ليدرك الحاضرون أن أمرا جللا قد حدث يستدعي استخدام الأيقونة التي اقترنت به.

أما هو فقد كان، بخلاف سكّينه، رجلا وادعا ومسالما وكثير التبسّم قليل الكلام، لا سيما إذا كان محدّثه لا يضطرّه للكلام. ولكن حركته وهو يستلّ سكّينه من خلف رقبته إذا ما دعت الحاجة لا تختلف عن فارس يستلّ سيفه، فيظهر فجأة صاحب «سمّ الموت» كما يليق بسكّين دارت حولها الأساطير.

لم تكن «سمّ الموت» أداة شرٍّ بعد كل شيء، فهي لم تفعل أكثر من قطع ما لا ينقطع -أو هكذا كنا نظن- أو قتل دابة أو هامشة أو أفعى بضربة واحدة لا ثانية لها، حتى أوشكنا على الاعتقاد بأنها تعرف هدفها وتراه، حتى لو صُوّبت نحو الهدف الخطأ فإنها قادرة على تغيير مسارها تجاه هدفها الذي تعرفه. ولكن ما يغفله الكبار قصدا أو عمدا أنها كانت تجلب لنا الفرح نحن الصغار، فبها حصلتُ على كثير من الدمى الخشبية التي ينحتها لي بسكّينه هذه، فقد نحت لي مرة حصانا خشبيا وفارسا وسيما وضعه على ظهر الحصان، وأحاط رقبة الحصان بخطام من الخوص الرفيع المسفوف، ووصله بيد الفارس الراكب على ظهره. كنت سعيدة بالهدية المنحوتة بعناية رغم أنها لم تكلّفه وقتا طويلا. كان يكفي أن يجلس الطفل منا إلى جواره أسفل شجرة الليمون الكبيرة في حوش بيته حتى يبادر إلى إخراج سكّينه بحركة الفرسان تلك وينحت دمية له بـ«سمّ الموت»، كما يحدث كثيرًا أن يقطع بها جريد النخل في مزرعته التي تحيط بالبيت، ويجدله ليصنع منه قفرانًا وأشكالًا لا نهائية من الجِمال والقطط والأواني الخوصية الصغيرة. كان رقيقا وفنانا، ولكن أحدا لم يُعر اهتماما لما كان يصنعه من أشكال بالغة الدقة والرهافة عدانا نحن الصغار، كانوا جميعا مشغولين بالوجه الآخر للسكّين.

ولكن حارسته الأمينة «سمّ الموت» لم تستطع أن تحلّ مشكلة استطالة طريقه من البيت إلى المزرعة التي اشتراها على بعد خمسة كيلومترات. مسافة كان يقطعها بادئ الأمر في عشر دقائق فقط، تساعده في ذلك نحافته وخفة وزنه وسرعة ساقيه، ولكن الأمر مع الوقت بدأ يسير بشكل لم يعهده من عرفوه، حتى وصلت المدة التي يقضيها بين البيت والمزرعة ساعتين بتمامهما وكمالهما. يتأخر في كل يوم عن البيت مدة أطول عن اليوم الذي قبله، حتى أجهده المرض وأقعده عن الذهاب إلى المزرعة التي نمت فيها الحشائش الزائدة فزاحمت «جلب» القت «البرسيم». لمدة طويلة لم يكن مقتنعا أن ما به يحتاج إلى طبيب أو مستشفى، فقد تجلّد وتحامل على نفسه حتى بلغ الغاية التي لا رجوع منها. في سرير المستشفى كان لا ينفك يسأل عن «سمّ الموت» التي أزالها الأطباء من خلف رقبته، ولكن سرعان ما تعاوده الطمأنينة عندما يجدها إلى جواره؛ وكأنها الشيء الوحيد الذي يجعل البقاء ممكنا في مكان لا يطيقه.

أما موته فيشبه النهايات المفتوحة التي تأتي بأكثر من صيغة محتملة، وأولى تلك الصياغات كانت محض إشاعة لم تفعل أكثر من تأخير المحتوم يومين أو ثلاثة من دون أن تغيّر في تفاصيله كثيرا، ولكنها مهلة كانت كافية لأمّي التي بكت في المرة الأولى لاعتقادها أن أباها قد غادر الحياة قبل أن تصل إلى المستشفى، وعندما وجدته ما يزال يتنفّس تنفّست هي معه، وقرّرت ألا تتركه أبدا، وأنها ستقيم إلى جوار سريره حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولا.

في الصيغة الثانية- قبل أن يجيء الموت صدقا- طلب منها جرعة ماء، فسقته حتى ارتوى، وأسلم الرّوح بين يديها. بكت موته للمرة الثانية ولكنّها كانت راضية هذه المرة. أما «سمّ الموت» فلم يعد يتذكّرها أحد، فقد كانت موجودة بوجوده هو، وعندما غادر غادرتها أساطيرها، وزهد فيها وارثوها، وعادت سكّينا أقصى ما تستطيعه أن تقطع تفّاحة أو حبّة مانجا.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

قصة قصيرة: إثنان والعربة

بقلم / عمر الحويج

(1)
يتململ في مقعده، يمدّ عنقه، تصطدم نظراته بأشعة لمبات النيون، المنعكسة على شارع الأسفلت المسهوك، يقطب جبينه: شارع الأسفلت هذا، أصبح لا يبعث الطمأنينة في نفسه، دائماً يذكره بالعربات التي أصبحت لا تحصى، وقد امتلأت بها شوارع المدينة. قال له يوماً أحد الركاب، وهو يضحك ساخراً.. أن الدولة أصبحت تهدي، عامليها.. العربات الفارهة، وغير الفارهة.. مكافأة لجهدهم المبذول في العمل.. هاهاها..!!، سوقهم كسد. هكذا تمتم.. منذ ساعات وهو يلف ويدور بعربته، غير الفارهة.. حتى صوته بحّ من النداءات المتكررة… نفر.. نفر يا زول، ولكن لا أحد غير هذا القابع في الركن الخلفي، إنه لا يدري ما بهم هؤلاء الناس.. هو لا يعلم سبباً، غير أنهم، طواعيةً قد اعتزلوا العودة إلى منازلهم ليلاً، وأصبحوا يفضلون المبيت حيث هم.. ابتسم في خبث لهذه الخاطرة، فرقع بأصابعه على عجلة القيادة.. إنه يعرف على الأقل، أحدهم: إنه صاحب العربة الملاكي، كان يعمل معه سابقاً.. أحاله يوماً للعمل نهاراً، وجعل زميله الآخر، متفرغاً لعمل الليل. والبحث له، عن الذين انطفأ في عيونهم وأجسادهم، بريق الذكورة.. هيه.. حتى زوجته -أعني صاحب العربة الملاكي- لا تعرف، سألته يوماً: كم ليلة يستطيع أن بيتها بعيداً عن بيته.. مسكينة، لا تعرف أنه متخم. يضرب بيده على عجلة القيادة، بشدة.. وفي غيظ.. ها.. ماشي يا سيد.. ينادي على أحد المارة.. ولكن الآخر، لا يلتفت إليه، يلعنه في سره.. ويواصل نداءاته.. نفر.. نفر.. يا زول.

( 2 )

ظلَّ رأسه، خارجاً قليلاً، عبر النافذة، هواء الليل يداعب شعر رأسه المنكوش.. يحكّ ظهره، قميصه ملتصق بلحمه.. لا يزال يحس بالأكولة، الناجمة عن عرق النهار، المتجمد في جسده. في البداية، حاول أن يراقب السائق، ولكن بعد فترة، انتابه السأم من تلك البحلقة، في قفا شخص لا يعني له شيئاً، أخذ بعدها ينظر تحته إلى عجلات العربة، التي تأكل الأسفلت. وإن يكن في بطء ممل، إلا أنه أحس بالدوار. ترك كل هذه الانتقالات التي رأى أنها فارغة.. والتي هي أيضاً بلا معنى.. رفع رأسه قليلاً.. مد بصره: على البعد، رأى أشباحاً متحركة، جذبت هذه الأشباح أنظاره.. دقق النظر، امرأة وعربة تحوم حولها.. ابتسم ساخراً.. لم كل هذا؟، وكل منهم يعرف غرض صاحبه جيداً.. فكر: ربما يريدانها مغامرة أكثر تشويقاً.. هيه.. تذكر: الآخر، سماعة التلفون في يده -هو لا يفهم كثيراً في مسائل التلفونات هذه- ولكن بحدسه، خمن.. أو بالتاكيد: أنه يتحدث إلى فتاة في الطرف الآخر.. فماذا يعني التصاق سماعة التلفون التي يكاد يحشرها، حشراً داخل طبلة أذنه، غير نعومة الصوت.. تناسى في البداية ما أتى لأجله.. أصابته الدهشة، لطاقة هذا الرجل.. عيونه تبحلق في شبق، في انفراجة ساقي سكرتيرته الجالسة في الركن القصي من المكتب المقابل.. ويده ترسم، بخطوط رديئة، تفاصيل جسد لامرأة شبه عارية، وهناك بالطبع، وإن لم يكن بالتخمين.. نعومة الصوت الهامس، الذي يأتيه، عبر سماعة التلفون.. ترك كل هذا، وتذكر ما جاء لأجله، طأطأ رأسه في مسكنه، وكأنه يعتذر للآخر عن تدخله في ما لا يعنيه.. وأمل كالسراب في الوظيفة، لن يتحقق. تمنى أن تحدث له -يعنى ذلك الذي يحوم بعربته حول فريسته- واحدة من تلك المفاجآت المفجعة.. مثل أن يجدها.. آه.. ولكن لا داعي.. ملعون أبوك.. يهش حشرة، حاولت اقتحام أنفه قسراً.. تذكرها، ألحّت عليه، أن يعطيها عنوانه، وفي إحدى لحظات سأمه، لم يتردد أن يعطيها عنوانه الحقيقي -الشارع العام، المحطة الوسطى- لم يصدق حين استلامه تلك، “الرسالة “.. “أنا مشتاقة ليك”.. جالت عيناه كثيراً في هذه العبارة.. لم يحس بطعمها من قبل.. ربما، كان معها يمارس هذا الشوق الرايع بكثرة.. يشتاق إليها للحظة، فيراها اللحظة التي تعقبها.. حتى فقد هذا الإحساس.. وجوده، الموجود أصلاً.. آه.. ولكن هنا، بعيداً عنها.. بعيداً عنهم.. آه.. لو تعرف شوقه قد وصل حد الشذوذ الشوقي: البعر، المعجون بالطين.. ورائحته التي تزكم أنفه، وهو يلف هذه الخلطة بشريط ليربطها، بضرع البهيمة، حتى لا ترضعها صغارها إلى حين، لتدرّ اللبن غزيراً.. هيه.. أصبح هنا لا يستنشق غير رائحة دخان عوادم العربات.. وسيجارة البرنجي، وهي في إحدى دوراتها على الصحاب.

( 3 )

أدار عجلة القيادة، ليصل إليهم، هؤلاء أربعة، زائداً.. القابع في الركن القصي من العربة، يكونوا قد أكملوا العدد المطلوب.. إذن يكون قد تحصل على مبلغ محترم.. إضافة إلى البعض الآخر من “الفَكّة” التي ترقد في الدرج، في انتظار الغد لممارسة نشاطها، غير المرغوب فيه.. أصلو أنت يا زول عايز تسحبنا.. بعدها، تعلو ضحكاتهم العربيدة، يلعنهم.. ولكن ليس في سره هذه المرة.. ربما هي الآن تصرخ، زوجته.. ربما قد أتاها الطلق.. ما من سبيل للحصول على ركاب.

( 4 )

قال له، أن يأتي غداً.. ذلك الرجل الطاقة.. ربما أراد أن يتخلص منه، ليكمل نصف دينه.. بالرابعة. ولكنه قرر أن لا يعود إليه.. فقد اتخذ قراره.. سيعود إليها.. “أنا مشتاقة ليك”.. سيعمل في الأرض، وسينظر إلى السحب المتجمعة، ويدعو الله أن لا تأتي الرياح لتحملها بعيداً عنهم.. وسيعجن الطين مع البعر، ويستنشق بملء رئتيه رائحة روث البهائم.. وحينها لن يعود إلى بلد “…” ولكنه يتوقف، تلفت انتباهه، قطة، خارجة لتوها من أحد المطاعم، تأملها.. وقفت تقضي حاجتها.. أطال النظر إليها، وهي تدفن بقاياها.. واصل، وكأنه يكمل عبارته.. كبارها، لا يدفنون عفوناتهم.. اتفو.

( 5 )

صوت البوري، والعربة الأخرى، المحاذية.. تتوقف: تسمح يا أستاذ تنزل، عشان تركب تلك العربة.. يتردد بعض الشيء، يستجيب.. يفتح باب العربة، يفكر قليلاً.. يتحسس “الشِّلن” القابع أسفل جيبه. منذ البداية ما كان له أن يستغل تاكسياً.. فغداً يوم آخر. يغلق باب العربة وراءه.. ووسط الظلمة المحاطة، بجدارات الضوء المنبعث من أشعة أنوار العربتين المتحاذيتين يسير: السائق، يهز كتفيه، في استغراب، يضغط على دواسة البنزين بقوة، وخيال.. لصدى صراخ زوجته، التي ربما أتاها الطلق، يجعله يزيد من سرعته.
***

omeralhiwaig441@gmail.com  

مقالات مشابهة

  • ”إما أنتِ أو شقيقك!”.. جريمة ابتزاز تهز اليمن وتكشف الوجه المظلم للحوثيين
  • عاجل. الرئيس الإيراني: لا عداء مع الولايات المتحدة لكننا لسنا الطرف الذي يقوم بتهديد الآخر وفرض العقوبات
  • مواعيد وأسعار قطارات النوم لـ «الوجه القبلي»
  • الحرب على غزة مستمرة.. ولكن!
  • ناهد الحلبي: والدتي كانت الزوجة الـ12 لأبي الذي كان يكبرها بنصف قرن
  • قصة قصيرة: إثنان والعربة
  • الثقيل: يغضب من يغضب ويرضى من يرضى ولكن الحقيقة أن الهلال مختلف
  • بعد اكتشافه على كوكب المريخ.. 9 معلومات عن هيكل الوجه المبتسم
  • جريمة تهز اليمن .. مدمن كحول يقتل طفلته بضربها حتى الموت بعد شكواها لمدير الأمن الذي تجاهل مأساتها
  • ‏الشهري: الأهداف التي تلقاها النصر كانت من أخطاء في بناء الهجمة.. فيديو