بعد قمَّة بريكس التي عُقدت في جنوب إفريقيا من 22- 24 آب ـ أغسطس، والاهتمام العالَمي بانضمام ستِّة أعضاء جُدد وآفاق توسُّعها وازدياد أهمِّيتها على السَّاحة الدوليَّة عُقدت قمَّتان مهمَّتان في آسيا ألْقَتَا مزيدًا من الأضواء على الحسابات الداخليَّة لحضور هذه القِمم والأهداف المرتجاة من التأثير بهذه التكتُّلات المهمَّة.
وعلّ خِطاب الرئيس الإندونيسي جوكو ويدودو الذي يرأس مجموعة آسيان العشرة لهذا العام أمام قمَّة آسيان في جاكرتا يعطي فكرة واقعيَّة عن أبعاد التنافس القائم، حيث حذَّر، وأيَّدته دوَل أخرى في جنوب شرق آسيا، من «تنافس مُدمِّر» بَيْنَ القوى العظمى في إشارة إلى التوتُّر بَيْنَ الصين والولايات المُتَّحدة والذي يضع آسيا كُلَّها في خطر. وأضاف في كلمته الافتتاحيَّة: «كلُّنا نتحمَّل مسؤوليَّة عدم خلق نزاعات جديدة وتوتُّرات جديدة وحروب جديدة. سيتمُّ تدمير العالَم إذا ما نُقلت النزاعات والتوتُّرات من مكان إلى آخر، وسيكُونُ التعاون والتعدديَّة في خطر لِيحلَّ محلّها حُكم القوي». وفي سياق مُشابهٍ حذَّر رئيس وزراء الصين من حرب باردة جديدة كما حذَّر من خطر الاصطفافات في أيِّ نزاع. بَيْنَما صرَّح مسؤول في البيت البيض أنَّ: «الولايات المُتَّحدة تتشارك المصلحة مع آسيان في حماية «النظام الدولي المعتمد على القواعد» في وجْه ادِّعاءات الصين البحريَّة وغير الشرعيَّة وأعمالها الاستفزازيَّة». وتصرُّ الولايات المُتَّحدة على هذه العبارة «النظام الدوَلي» لِتشيرَ إلى النظام الذي أرسته الولايات المُتَّحدة والدوَل الأوروبيَّة التابعة لها بقوَّة الحروب والعقوبات والحصار والنزاعات الغربيَّة التي لا تنتهي مع كُلِّ دوَل العالَم.
قمَّة G20 قال عَنْها رئيس وزراء بريطانيا جوردن براون في عام 2009 إنَّها «تبشِّر بنظام عالَمي جديد، حيث تلتقي الدوَل الغنيَّة والفقيرة لوضع حدٍّ لعدم المساواة التي أفرزتها العولمة». وتوقَّع عصرًا جديدًا من التعاون الدوَلي. ولكن غياب الرئيس الصيني شي جين بينج عن قمَّة العشرين والتي انعقَدت عَبْرَ شعار «أرض واحدة، عائلة واحدة، مستقبل واحد» يُري بشكل واضح أنَّ الصين تنأى بنَفْسِها عن هذا التجمُّع أو ترفض أن تعطيَه الزخم المطلوب لصالح تكتُّلات أخرى تؤدِّي الصين فيها دَوْرًا حيويًّا، بَيْنَما يظهر دَوْر الهند كقطب ثالث إلى جانب الولايات المُتَّحدة والصين وخصوصًا أنَّها تُوازن بَيْنَ مكانتها في مجموعة (بريكس) ومكانتها في الـG20 وقَدْ تظهر أبعاد هذا التنافس الآسيوي بَيْنَ الصين والهند بشكلٍ أكبر وأوضح في المستقبل القريب مستفيدة من مكانتها في عدم الانحياز وجاذبيَّتها لدوَل العالَم الثالث. ومن ناحية أخرى فإنَّ غياب الرئيس الصيني عن هذه القمَّة يُظهر أنَّ الأهمِّية القادمة ستكُونُ للدوَل الآسيويَّة والإفريقيَّة واللاتينيَّة والتي تحرص الصين على أن تكُونَ معها بَيْنَما حرصت ألَّا تكُونَ مع الـG20 كَيْ لا تعطيَها ثقل الصين.. ولا شكَّ أنَّ في هذا خسارة للمكانة التي تتمتع بها G20 ويؤثِّر حتمًا على أهمِّيتها ودَوْرها المستقبليَّيْنِ.
فشعار القمَّة «عائلة واحدة، مستقبل واحد» غير واقعي في ضوء الانقسامات والمنافسات الدائرة والتوتُّرات والحروب والعقوبات التي تشنُّها الولايات المُتَّحدة والدوَل الغربيَّة ضدَّ كُلِّ شعوب ودوَل العالَم كالصين وروسيا والدوَل العربيَّة والإفريقيَّة. ولا شكَّ أنَّ الصين قصدت في غياب رئيسها عن القمَّة أن تنتزعَ الأهمِّية التي اعتادت قمَّة G20 التحلِّي بها في القِمم السَّابقة، كما يؤكِّد عزم الصين على خلق نظامها العالَمي مع دوَل نامية في منظَّمات مختلفة من (بريكس) إلى آسيان وشنغهاي وغيرها لمنافسة النظام العالَمي القائم على الحروب والتوتُّرات المتواصلة الذي تقوده الولايات المُتَّحدة وحلفاؤها.
إنَّ حرص المسؤولين الأميركيِّين أو الصينيِّين على إثبات نقاط قوَّة في حضور أو غياب هذه القِمم دليل لا لَبْسَ فيه على أهمِّية التكتُّلات في تشكيل عالَم اليوم والغد. فكُلُّ العوامل السِّياسيَّة التي نتابعها في كُلِّ أنحاء العالَم تشي بأنَّ المستقبل سيكُونُ للتكتُّلات النَّافذة وأنَّ التنافُس الحقيقي اليوم هو لضمان مكانة مهمَّة في صلب هذه التكتُّلات والتأثير بمساراتها وإنجازاتها. فقَدْ أدرك الجميع في عالَم اليوم أنَّه لا يُمكِن لبلد واحد مهما عظُمت قوَّته أن يغيِّرَ مسار التاريخ وأنَّ القوي هو الذي يمتلك تحالفات أكثر، وولاءات أعمق، ومشاركات حقيقيَّة في الرؤى والأهداف مع أكبر عددٍ من الدوَل، ووفق هذا المعيار تحسب الدوَل مواقفها السِّياسيَّة واصطفافاتها وحتَّى إعلان موقفها من أيِّ قضيَّة مطروحة.
لقَدْ أدرك الغرب في وقت مبكِّر أهمِّية التحالفات، فبنَى أُسُس قوَّته على هذه التحالفات من جهة، وعلى تفكيك تحالفات الآخرين من جهة أخرى. فهناك التعاون عَبْرَ الأطلسي (الناتو) والاتِّحاد الأوروبي والتحالف الثلاثي الأمني (أوكس) بَيْنَ الولايات المُتَّحدة وبريطانيا وأستراليا والذي أُعلن عَنْه في 15 أيلول 2021 لمنطقة الهادئ والهندي ولمساعدة أستراليا في الحصول على غوَّاصات نوويَّة، وطبعًا هدَفُ هذا التعاون هو خلق المزيد من التوتُّر في العلاقات الدوليَّة عَبْرَ الوقوف في وجْه الصين أو خلق مجال يهدِّد قوَّتها، كما خلقت عَبْرَ الناتو التوتُّر المتفاقم في أوروبا مع روسيا ومحاولة توريطها بحروب ومحاصرتها بدوَل معادية لها، فيما تستمرُّ عَبْرَ صنيعتها الكيان الأبارتيد الصهيوني بتوتير الشرق العربي كُلِّه من أفغانستان إلى إيران إلى العراق وسوريا ولبنان من خلال دعمها غير المحدود للاحتلال الإسرائيلي للأرض العربيَّة في فلسطين وسوريا ولبنان.
وحين تمَّ الادِّعاء بنهاية الحرب الباردة بَيْنَ الولايات المُتَّحدة والاتِّحاد السوفييتي كان أوَّل ما قامت به الولايات المُتَّحدة هو العمل على تفكيك حلف وارسو والذي كان يخلق نوعًا من التوازن في العالَم مع حلف الناتو. وكانت اللغة الأميركيَّة البرَّاقة في ذلك الوقت أنَّه في هذا العصر الجديد من التعاون والتشارك ليس ثمَّة داعٍ لوجود هكذا تحالفات، وأنَّ الولايات المُتَّحدة ستقوم أيضًا بتفكيك حلف الناتو، وتعهَّدت تعهُّدًا قاطعًا بعدم قَبول أعضاء جُدد في الناتو، وها نحن وإلى حدِّ اليوم نشهد أنَّ الناتو يتمدَّد جغرافيًّا ويوسِّع عضويَّته كان عدد أعضاء الناتو لدى تأسيسه 12 دَولة واليوم أعضاؤه 31 دَولة؛ لأنَّ الغرب يعْلَم عِلْم اليقين أنَّ هذه التحالفات هي التي تُمكِّنه من فرض سيطرته وهيمنته وهي وسيلته لِيكُونَ ذراعه هو الأقوى في فرض ما يريد على القوى الأخرى في العالَم، وخصوصًا نهب ثروات الشعوب عَبْرَ فرض الدولار الورقي على العالَم.
الجديد اليوم أنَّ الصين أدركت أهمِّية هذه التحالفات، وأنَّ كُلَّ ما تقوم به اليوم، سواء حضورًا أو غيابًا، يهدف في جوهره إلى تعزيز التجمُّعات التي تقودها الصين أو التي تؤدِّي بها دَوْرًا محوريًّا مع الحرص على غياب دَوْر مؤثِّر للغرب في هذه التكتُّلات، والحرص على استقطاب أكبر عددٍ ممكن من الدوَل النامية. من هذا المنظور أيضًا يُمكِن قراءة القمَّة الإفريقيَّة الروسيَّة، والاهتمام الروسي والصيني بإفريقيا وأميركا اللاتينيَّة. وهذا يعني أنَّ العالَم اليوم في مرحلة لاحقة للعولمة وللـG20، وفي مرحلة تُعِيد الدوَل العظمى تموضعها ليس في محيطها فقط ولكن على السَّاحة الدوَليَّة أيضًا، وفي هذا الإطار أصبح مكان انعقاد القِمم والمسؤولون الحاضرون أو الغائبون مؤشِّرات مهمَّة لأهمِّية التعاون الذي تهدف هذه القِمم إلى إرسائه. نحن أمام عصر جديد من المنافسة على النفوذ الجيوسياسي والاقتصادي والتقني بَيْنَ الدوَل الكبرى، وكُلُّ ما نأمل به هو أن تبقَى هذه المنافسة سلميَّة، وأن تبقى نتائجها لصالح أغلبيَّة البَشَر على هذا الكوكب، وليس لصالح حفنة ضئيلة من الذين يعملون على تعزيز تهديدهم المتواصل للشعوب بالمزيد من الحروب والعقوبات، وفرض هيمنتهم على ثروات الشعوب ونهبها.
أ.د. بثينة شعبان
كاتبة سورية
المصدر: جريدة الوطن
كلمات دلالية: الولایات الم ت هذه الق العال م التی ت ة التی الدو ل
إقرأ أيضاً: