هزة ارتدادية جديدة بالمغرب تعيد الهلع إلى شيشاوة
تاريخ النشر: 11th, September 2023 GMT
شيشاوة- رجع عدد من مواطني مدينة شيشاوة إلى منازلهم بعدما أتعبتهم ليلتان في العراء بعد أكثر من 24 ساعة من وقوع زلزال إقليم الحوز (جنوب غربي مراكش) الكارثي، لكن فجأة عاد هلع الليلة الأولى صباح أمس الأحد.
السكان يتركون منازلهم مجددا ويهرعون نحو حديقة وسط المدينة الصغيرة، وصراخات إنذارية من هنا وهناك تحذر الناس من البقاء داخل الأبنية أو بالقرب منها.
وتحدّث مرصد الزلازل الأورومتوسطي، بعد لحظات من الهلع، عن هزة أرضية بقوة 4.5 درجات على سلم ريختر، مشيرا إلى أنها حدثت على بعد 80 كيلومترا جنوب غرب مراكش، في حين لفت المعهد المغربي للجيوفيزياء إلى أن "الهزات الارتدادية متواصلة، لكن هذه أقواها ومنفصلة عن سابقاتها".
"كنا ننتظر وجبة الإفطار في لمة عائلية، فإذا بالأواني تتساقط على والدتي، هرعت من المطبخ، وأخذت الأرض تتحرك"، بهذه العبارة وصف محمد لحظة وقوع الهزة الارتدادية القوية، وأضاف للجزيرة نت "كانت لحظة مروعة، ركضنا جميعنا إلى الشارع من جديد".
ملجأ بسيط
الهلع نفسه عاشته أسرة يوسف أيضا التي لم تخرج من المنزل في تلك اللحظة، قبل جمع حاجيات تمكن من إنشاء ملجأ بسيط يقيها الحر ويلم أفرادها، كما فعلت العديد من العائلات التي فرت إلى الحديقة بعد الهزة الجديدة، أما إبراهيم فقال للجزيرة نت في تلك اللحظة كان يحمل المفتاح، وعلى وشك فتح باب المسكن، قبل أن يقفل عائدا من روع الهزة، ويبعد أهله عن المكان.
رشيدة مواطنة من مدينة أغادير (جنوب البلاد)، تحكي للجزيرة نت "عدنا إلى البيت الساعة الخامسة صباحا، لكن ما حدث بعد ساعات قليلة كان مرعبا"، وتسترسل بنبرة تبدي خوفا "لا يمكن أن أسلم أطفالي إلى التهلكة، لن نعود اليوم قبل أن تردنا تطمينات رسمية تؤكد نهاية هذا الكابوس".
تعود بنا رشيدة إلى الساعات الأولى للزلزال في شيشاوة، الوقت الذي كان يحتشد فيه العشرات من السكان أثناء حفل موسيقي بمهرجان يُنظم سنويا في المدينة، وتقول "جئت مسافرة من أكادير إلى شيشاوة لزيارة عائلتي وحضور المهرجان، لم أتوقع المكوث هنا طويلا"، فجأة تحول المكان من ساحة مرح إلى ملجأ كئيب يقصده المواطنون هربا من زلزال مدمر.
(الجزيرة) تجمعات عائلية
ظهيرة يوم الأحد، رصد مراسل الجزيرة نت في المكان نفسه عددا من الخيام، والتجمعات العائلية الصغيرة المتسترة خلف أغطية وبطانيات تحجبها عن الأنظار، أوقد معظمها نار الطبخ لتحضير وجبة الغداء، في مشهد تراجيدي تتخلله ضحكات أطفال لم يستسلموا لهول الفاجعة.
في إحدى زوايا هذه الحديقة التم مجموعة من الشباب حول طاجين مغربي (وجبة شعبية)، تقدم من بينهم شاب عشريني يدعى هشاما، وروى هو الآخر للجزيرة نت شيئا مما مرت به مدينته في بداية الزلزال، "كان الجميع مبتهجا وفي ثوان قليلة انتشر الهلع وبدأ الجميع بالركض في اتجاهات مختلفة، قبل العودة في لحظات للاحتشاد في نفس المكان"، ويسترسل قائلا "كانت ليلة مروعة وللأسف تكررت أيضا بعد عودتنا إلى المنازل".
قرى معزولةعلى بعد حوالي 43 كيلومترا من المدينة، تقع دائرة إمنتانوت التابعة لإقليم شيشاوة على سفوح جبال الأطلس، هناك صادفْنا عددا من السكان يتطوعون للانطلاق باتجاه دواوير بين تضاريس جبلية صعبة، من أجل إيصال المساعدات التي يجمعها أهالي المنطقة.
يقول ياسين أحد الشباب المتطوعين لنقل المؤونة والمواد الأساسية إلى قرية حدو يوسف "إن هناك عددا من القرى بين الجبال أصبح أهاليها مشردين جراء سقوط منازلهم، ونحن نتحرك صوبهم الآن من منطلق التضامن الأخوي بين أفراد شعبنا".
وبجانب أحد أرصفة مركز المدينة أوقف حسين سيارته ليشحنها رفقة زملائه في مهنة التعليم، قبل الانطلاق إلى قرية أخرى بالتنسيق مع بعثات من أماكن مختلفة في إمنتانوت، وسيقضي هؤلاء المتطوعون الليلة الثالثة بعد الزلزال في تلك القرى الجبلية نظرا لخطورة التضاريس ليلا.
"تألمت كثيرا بالأمس وأنا أسابق الزمن من أجل فتح طريق القرى أمام سيارات الإسعاف، أرى أمامي أكواما من الحجارة وذهني مع العالقين خلفها"، هكذا يروي عبد الرحمن للجزيرة نت قصة إزالة العوائق التي تسبب بها الزلزال، وهو سائق جرافة انطلقت من إمنتانوت منذ الساعة 8:30 صباحا على الطريق المتجهة صوب الدواوير المجاورة من أجل فتحها بعدما شلت الحركة إثر الانهيارات الصخرية.
ويلفت في حديث مع الجزيرة نت إلى أن عمله لم ينته حتى الساعة 4:30 من مساء نفس اليوم، لتنطلق عندها سيارات الإسعاف والمساعدات صوب حوالي 10 قرى تنتظر النجدة، مشددا على وجود أضرار متفاوتة الخطورة سواء على مستوى القرى التي سقط فيها عدد من المنازل، أو الطريق التي عرفت تشققات بالجبال إضافة إلى الإصابات بين السكان.
وأشار عبد الرحمن إلى أن الطريق كانت سيئة قبل الفاجعة التي زادتها سوء، حيث بعد حوالي 11 كيلومترا قبل الوصول إلى القرى تصبح الطريق الجبلية أكثر خطورة.
وفي الوقت نفسه تحدثت مصادر للجزيرة نت من بعض الدواوير في ضواحي دائرة إمنتانوت عن استمرار عزلتها لليوم الثاني على التوالي بسبب طرق مازالت مسدودة جراء تساقط الحجارة، لافتة إلى تفاقم معاناة أهاليها كلما تأخر وصول آليات الإنقاذ والمساعدات الإنسانية.
يذكر أن وزارة الداخلية المغربية أعلنت مساء الأحد ارتفاع عدد ضحايا الزلزال الذي ضرب البلاد إلى 2122 وفاة -201 منها في إقليم شيشاوة- و2421 إصابة.
وتتواصل عمليات الإنقاذ في المناطق التي ضربها الزلزال ولا سيما المناطق الجبلية والنائية، وتصعّب طبيعة المناطق المتضررة عمل فرق الإنقاذ بسبب الوعورة وبعد المسافات وصعوبة إيصال المعدات اللازمة.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: للجزیرة نت من أجل إلى أن
إقرأ أيضاً:
حين تعيد الصين تشكيل النظام العالمي
ترجمة - نهى مصطفى -
في أوائل فبراير، وبينما كان على متن طائرته الرئاسية محلقًا فوق المسطح المائي الذي أعاد تسميته حديثًا بـ«خليج أمريكا»، أعلن الرئيس دونالد ترامب عزمه فرض رسوم جمركية على جميع واردات الصلب والألمنيوم. وبعد أسبوعين، أصدر مذكرة رئاسية تتضمن إرشادات جديدة لفحص استثمارات الشركات الصينية في الولايات المتحدة واستثمارات الشركات الأمريكية في الصين. طوال الأسابيع الأولى من إدارته، شدد ترامب على ضرورة إعادة التصنيع إلى الداخل، مؤكدًا أن الطريقة الوحيدة لتجنب الرسوم الجمركية هي تصنيع المنتجات داخل الولايات المتحدة.
مع فرض الرسوم الجمركية، والحمائية، وقيود الاستثمار، والتدابير المصممة لتعزيز الإنتاج المحلي، بدت السياسة الاقتصادية لواشنطن فجأةً أقرب إلى نهج بكين خلال العقد الماضي، وكأنها «السياسة صينية، ولكن بطابع أمريكي». لطالما قامت استراتيجية الولايات المتحدة تجاه الصين على افتراض أنه كلما اندمجت الصين في النظام العالمي القائم على القواعد، زادت احتمالية أن تصبح أشبه بالولايات المتحدة. على مدى عقود، لم تتوقف واشنطن عن مطالبة بكين بالتخلي عن الحمائية، وفتح أسواقها أمام الاستثمار الأجنبي، والحد من استخدام الدعم الحكومي والسياسات الصناعية، لكن نجاحها في ذلك كان محدودًا. ومع ذلك، كان التوقع السائد أن يؤدي هذا التكامل إلى تقارب بين البلدين.
حدث تقارب، لكن ليس كما توقعه صانعو السياسات الأمريكيون. بدلًا من أن تصبح الصين أشبه بالولايات المتحدة، بدأت واشنطن تتصرف بأسلوب بكين. قد تكون أمريكا صاغت النظام الليبرالي القائم على القواعد، لكن الصين رسمت ملامح مرحلته التالية: الحمائية، الدعم الحكومي، وقيود الاستثمار الأجنبي، والسياسات الصناعية. لم يعد النظام الاقتصادي العالمي كما أنشأته واشنطن، بل بات أقرب إلى رأسمالية الدولة القومية الصينية.
في التسعينيات وبداية الألفية، بدا أن الصين تتجه نحو التحرر الاقتصادي. منذ أواخر السبعينيات، انفتحت على الاستثمار الأجنبي، وأعادت هيكلة الشركات الحكومية، وسرّحت عشرات الملايين من العمال، مما مهد لانضمامها إلى منظمة التجارة العالمية. اعتقد البعض أن هذا الانفتاح سيؤدي إلى تحرر سياسي، لكن هذا الافتراض كان خاطئًا. لم تُظهر بكين أي نية للإصلاح السياسي، ومع ذلك، كان تقدمها الاقتصادي مذهلًا:
• الناتج المحلي الإجمالي ارتفع من 347.77 مليار دولار عام 1989 إلى 1.66 تريليون دولار عام 2003، ثم قفز إلى 17.79 تريليون دولار عام 2023 (البنك الدولي).
• ساهمت العولمة في انتشال أكثر من مليار شخص من الفقر، لكنه تقدم لم يُوزع بالتساوي، إذ دفع بعض العمال في الدول الصناعية ثمن صعود الآخرين.
مع تولي هو جين تاو ثم شي جين بينج، أصبح واضحًا أن مسار الصين الاقتصادي لم يكن خطيًا، ففي عهد هو، زاد تدخل الدولة عبر دعم «أبطال وطنيين» في القطاعات الاستراتيجية بدلًا من مواصلة تحرير السوق، بينما أدى تدفق الواردات الصينية الرخيصة إلى تسريع إزالة التصنيع في الولايات المتحدة، مما جعل الصين مركز التصنيع العالمي، متجاوزة اليابان وألمانيا، حيث ارتفعت حصتها من القيمة المضافة للتصنيع عالميًا من 9% عام 2004 إلى 29% بحلول 2023 وفقًا للبنك الدولي. واصلت واشنطن الضغط على بكين لإصلاح اقتصادها، مطالبةً بفتح الأسواق، وخفض الرسوم الجمركية، والسماح بالاستثمار الأمريكي الحر دون نقل التكنولوجيا قسريًا، كما دعت لإنهاء الدعم الحكومي الصيني للإنتاج والتصدير، لكن هذه المطالب قوبلت بتجاهل. وفي عام 2009، قادت إدارة أوباما جهود إنهاء جولة الدوحة بسبب مخاوف من منح الصين مكانة دائمة كدولة نامية، مما يمنحها امتيازات تجارية دون التزامات صارمة، ورغم الانتقادات، كان واضحًا أن الممارسات الاقتصادية الصينية ستؤدي إلى اضطرابات في النظام التجاري العالمي.
دفعت المخاوف من السياسات الاقتصادية الصينية إدارة أوباما إلى السعي وراء اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ (TPP)، التي ضمت 12 دولة والتزمت بحماية حقوق العمال والبيئة، والحد من الدعم الحكومي، وفرض قيود على الشركات المملوكة للدولة، وحماية الملكية الفكرية، لكن بحلول 2015، أصبحت الاتفاقيات التجارية مثار جدل داخلي، مما أدى إلى انسحاب الولايات المتحدة.
ومع تولي شي جين بينج السلطة عام 2012، أنهى فعليًا مرحلة «الإصلاح والانفتاح»، وركز على الهيمنة على التقنيات الحيوية، والإفراط في الإنتاج، والاعتماد على النمو القائم على التصدير، ووفقًا للخبير براد سيتسر، أصبحت صادرات الصين تنمو بمعدل يفوق التجارة العالمية بثلاثة أضعاف. وفي قطاع السيارات، تنتج الصين ثلثي الطلب العالمي، كما تستحوذ على أكثر من نصف الإنتاج العالمي من الفولاذ والألمنيوم والسفن.
وواجهت الشركات الأمريكية في الصين سياسات عدائية مثل سرقة الملكية الفكرية، وإجبارها على نقل التكنولوجيا، وتقييد وصولها إلى السوق لصالح الشركات المحلية، ومع غياب المعاملة بالمثل، تدهورت العلاقات، وتصاعدت المواقف الأمريكية والأوروبية المناهضة لبكين. وبعد فشل واشنطن في إقناع الصين بتعديل سياساتها أو إنشاء كتلة تجارية بديلة، لجأت إلى تبني النهج نفسه، فرفع ترامب الرسوم الجمركية على الواردات الصينية من 3% إلى 19% خلال ولايته الأولى، مما أثر على ثلثي الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة، وحافظ بايدن على الرسوم وأضاف أخرى على معدات الحماية الشخصية والمركبات الكهربائية والبطاريات والصلب. ثم فرض ترامب في ولايته الثانية رسومًا إضافية بنسبة 20% على جميع الواردات الصينية، متجاوزًا قراراته السابقة وإجراءات بايدن مجتمعة، كما شددت الولايات المتحدة قيود الاستثمار، فانخفض الاستثمار الصيني السنوي في أمريكا من 46 مليار دولار عام 2016 إلى أقل من 5 مليارات عام 2022.
وفي تحول آخر، تبنت سياسات دعم صناعي مشابهة للصين خلال إدارة بايدن، حيث خصصت 1.6 تريليون دولار عبر حزم تحفيزية مثل قانون الاستثمار في البنية التحتية والوظائف لعام 2021، وقانون CHIPS والعلوم لعام 2022، وقانون خفض التضخم لعام 2022. وإذا واصلت الولايات المتحدة تبني النهج الصيني، فقد تلجأ إلى إلزام الشركات الصينية المستثمرة بالخارج بإقامة مشاريع مشتركة مع الشركات المحلية ونقل التكنولوجيا إليها. مما قد يعزز الصناعة الأمريكية واقتصادات الدول المتضررة من الإنتاج الصيني الفائض، مثل الدول الأوروبية، ويعد قطاع الطاقة النظيفة مثالًا واضحًا على ذلك، حيث تهيمن الصين على 60% من مبيعات السيارات الكهربائية عالميًا بفضل إنتاج أرخص وأفضل جودة من نظيراتها الأمريكية.
ومع أن السيارات الصينية محظورة تقريبًا في أمريكا بسبب الرسوم الجمركية والقيود التنظيمية، إلا أن أوروبا تواجه توسعًا صينيًا متزايدًا، إذ ارتفعت حصة السيارات الكهربائية الصينية في السوق الأوروبية من 0% عام 2019 إلى 11% بحلول يونيو 2024، وقد فرض الاتحاد الأوروبي رسومًا جمركية أواخر 2023 لإبطاء التوسع الصيني. لكن ذلك ليس حلًا كافيًا لحماية صناعة السيارات الأوروبية، وللحفاظ على الوظائف والتصنيع، تبدو أوروبا مستعدة لقبول الاستثمارات الصينية في إنتاج السيارات الكهربائية، لكن مستقبل السياسة الأمريكية لا يزال غير واضح. بينما قد تضطر أوروبا إلى تبني استراتيجية الصين، بفرض مشاريع مشتركة ونقل التكنولوجيا، لتجنب أن تصبح مجرد محطة تجميع للسيارات الصينية.
لا يزال الجدل قائمًا حول مدى نجاح سياسة بايدن الصناعية خارج بعض القطاعات الرئيسية. صحيح أن الاستثمار الأمريكي في التصنيع شهد ارتفاعًا، لكن النتائج ليست حاسمة بعد. وكما أشار الاقتصادي جيسون فورمان في الشؤون الخارجية مطلع هذا العام، فإن نسبة القوى العاملة في التصنيع تواصل الانخفاض، ولم تشهد أي ارتفاع ملحوظ، كما ظل إجمالي الإنتاج الصناعي المحلي راكدًا. ويعود ذلك جزئيًا إلى تأثير السياسات المالية التي دفعت إلى ارتفاع التكاليف، وقوة الدولار، وزيادة أسعار الفائدة، مما شكل رياحًا معاكسة لقطاعات التصنيع غير المشمولة بالدعم الحكومي.
بغض النظر عن نتيجة هذا النقاش، هناك أمر واحد مؤكد: حتى في القطاعات التي تلقت دعمًا حكوميًا، مثل أشباه الموصلات والطاقة الخضراء، فإن استعادة القيادة العالمية ستظل طريقًا طويلًا ومليئًا بالتحديات. تعتمد الولايات المتحدة الآن على سياسات الحماية التجارية، ولكن من المحتمل أن تؤدي هذه السياسات إلى ارتفاع التضخم، وزيادة تكاليف المعيشة، وفقدان الوظائف في القطاعات المتضررة من ردود الفعل الانتقامية من الدول الأخرى.
يعتمد ترامب على فكرة أن جدار التعريفات الجمركية، إلى جانب حالة عدم اليقين بشأن فرضها أو إلغائها في أي لحظة، سيدفع الشركات إلى نقل إنتاجها إلى الولايات المتحدة، حيث يمكنها التأكد من عدم تعرض سلعها لهذه التعريفات. لكن في الواقع، تفضل الشركات بيئات سياسية مستقرة وقابلة للتنبؤ، لا أنظمة تعريفات متقلبة قد تتغير من صباح إلى مساء. ومن المرجح أن تؤجل الكثير من الشركات قراراتها الاستثمارية، منتظرة وضوح الصورة بشأن التعريفات التي ستُطبق، وعلى أي دول؟ وإلى متى؟
تشير الدراسات إلى أن فعالية الرسوم الجمركية في تعزيز قطاع التصنيع الأمريكي ليست حاسمة، إذ لم تحقق سياسات ترامب الجمركية منذ 2018 الأهداف المرجوة. فقد وجدت دراسة أجراها باحثا الاحتياطي الفيدرالي، آرون فلاين وجاستن بيرس عام 2024، أن زيادة الرسوم ارتبطت بانخفاض القوى العاملة في قطاع التصنيع الأمريكي وارتفاع أسعار المنتجين، كما أدت إلى فقدان 75 ألف وظيفة مباشرة، فضلًا عن خسائر غير مباشرة بسبب الرسوم الانتقامية التي فرضتها الدول الأخرى. وفي قطاع الصلب، أظهرت دراسة للخبيرين بن ستيل وإليزابيث هاردينج أن الإنتاجية تراجعت بعد فرض ترامب رسومًا بنسبة 25% على واردات الصلب في مارس 2018، حيث انخفض الإنتاج في الساعة بصناعة الصلب الأمريكية بنسبة 32% منذ عام 2017، في حين شهدت قطاعات صناعية أخرى زيادات في الإنتاجية. ورغم أن ترامب يعوّل على هذه السياسات لإعادة الإنتاج إلى الولايات المتحدة، فإن نجاح هذا النهج يعتمد أيضًا على السماح للشركات الأجنبية بالاستثمار في السوق الأمريكي، وهو ما يتناقض مع المواقف السياسية لكل من بايدن وترامب، اللذين رفضا استحواذ شركة نيبون ستيل اليابانية على يو إس ستيل، بل وما زالت واشنطن تناقش ما إذا كان ينبغي السماح لصندوق الاستثمارات العامة السعودي بالاستحواذ على حصة مسيطرة في جولة بي جي إيه، وهي الجهة المنظمة لبطولات الجولف الأمريكية، رغم أن هذا القطاع ليس حيويًا بأي حال من الأحوال.
ما يحدث اليوم ليس مجرد منافسة اقتصادية، بل تحول في النموذج الاقتصادي الأمريكي نفسه. فمع نجاح الصين غير المتوقع في قطاع السيارات الكهربائية والتكنولوجيا النظيفة، اضطرت الولايات المتحدة إلى تقليد سياسات بكين، لا بسبب الإيمان بأهميتها، بل بسبب فعاليتها الواضحة. لم يكن صعود الصين قائمًا على تحرير السوق، بل على تدخل الدولة في الاقتصاد لتحقيق أهداف قومية. واليوم، تتحرك الولايات المتحدة نحو نموذج يشبه إلى حد كبير «رأسمالية الدولة القومية»، التي تتسم بالحمائية، وقيود الاستثمار الأجنبي، والدعم الحكومي، وسياسات صناعية موجهة. في صراع تحديد قواعد اللعبة الاقتصادية، يبدو أن المعركة قد حُسمت لصالح الصين، على الأقل في الوقت الراهن.
مايكل ب. ج. فرومان، محامٍ أمريكي، والرئيس الحالي لمجلس العلاقات الخارجية.
نشر المقال في Foreign Affairs