حرب من هذه؟ وما هو هدفها؟ خراب سوبا «2»
تاريخ النشر: 11th, September 2023 GMT
• “إذا كذَّبت كذبة كبيرة، وردِّدتها بكثافة، وعلى مدى طويل، فسوف يصدقك الكثير من الناس”.
• “لا تعترف أبدا بالخطأ. لا تقبل اللوم. ركز على عدو واحد وحمله مسؤولية كل ما يحدث. ستجد الناس عاجلا أم آجلا يرددون ما تقول دون وعي”.
(جوزيف غوبلز)
خلصنا في الحلقة الأولى من هذه السلسلة إلى أن هذه الحرب هي حرب الكيزان دون أدنى شك.
وبدل أن تثير هذه الحرب غضب المثقفين تجاههم، فيحملونهم المسؤولية الأخلاقية والقانونية والسياسية على إشعالها، ويُصرُّون على معاقبتهم عليها، والاقتصاص منهم، وفق الحق والعدل، ليدفعوا ثمن خسائرها كاملا من أرواحهم وأجسادهم وحريتهم وأموالهم، نجد بالعكس تماما. فبكل أسف هناك من المثقفين من يسير في ركبهم فيها كتفا بكتف، مُتوَكِّئين على تنظير لا يستقيم، ملئ بالثقوب والتناقضات والارتباك،مما سنفرد له حلقة قادمة. أما الكيزان وجيشهم وجحافل مجاهديهم فيسيرون في حربهم المدمرة تحت رايات الكذب ونظريات الخداع النازية التي يلخصها المقتبسان أعلاه.
تلاميذ غوبلز
وجوزيف غوبلز هو وزير الدعاية النازي. وقد جاء في وصفه في الويكيبيديا على أنه “رجل دقيق الجسم، كبير الرأس، أعرج، تنقص إحدى رجليه بوصتين عن الأخرى، عالي الصوت، عديم الضمير”. وهو صاحب تقنية “الكذبة الهائلة” التي أوردنا نصوصها أعلاه. وقد ظللنا نقرأ ونستمع خلال هذه الحرب المدمرة لمجموعة من كتاب الكيزان، تلاميذ غوبلز النجباء، ومحلليهم وخبرائهم (الاصطراطيجيين) الذين تعرفهم بسيماهم “ولتعرفنهم في لحن القول”. أولئك الذين كانوا يبشروننا بالنصر على “التمرد” في سويعات، ثم تدرجوا في البشارة بالحسم في يوم واحد، ثم يومين، ثم ثلاثة، تمددت لبحر أسبوع، فأسابيع، ثم عندما تبخرت جميعها في الهواء أصيبوا “بهاء السكت”، بحسب تعبير الروائي بشرى الفاضل، فصمتوا عن النصر القريب، و”صبر الساعة” وانخرطوا في تبريرات غبية، لتأخر النصر المزعوم، لا تجوز على من له ذرة من عقل. هؤلاء استحقوا لقب “هبنقة” بامتياز لدرجة صاروا معها أضحوكة للشعب رغم نكبته، مما يذكرنا بقول المتنبي في هجاء كافور: “ومثلك يؤتى من بلاد بعيدة ليضحك ربات الحداد البواكيا”.
الكيزان والسردية الغوبلزية الكاذبة
رَكَّز الكيزان على فرض سردية معينة للحرب مبنية على تقنية “الكذبة الهائلة” لغوبلز. وصاروا يرددونها مع شيطنة قوى الحرية والتغيير، وتسميتها “قحط” والتركيز عليها كعدو واحد يحملوه مسؤولية كل الشرور، وبالفعل وجدوا أناسا كثيرين، بما في ذلك بعض الجذريين وبعض لجان المقاومة، يرددون ما يقولون دون وعي، حتى أصبحت كلمة “قحط” و”قحاطة” جزءا من مفردات بعض من ينتمون للثورة. أما أركان هذه السردية الكاذبة فهي:
• أن الاتفاق الإطاري هو سبب الحرب. وأن المُحَرِّض الأساسي للحرب هي قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي التي “وسوست”، عن طريق ياسر عرمان، في أذن حميدتي ليفض تحالفه مع عسكر الكيزان ويتمرد عليهم، وينفذ انقلابا عسكريا نيابة عن الحرية والتغيير.
• أن الدعم السريع هو الحليف الاستراتيجي، وأحيانا يصفونه بالجناح العسكري لقوى الحرية والتغيير. وأنه هو الذي بدأ الحرب بتحريك قواته لمروي.
• أما هدف الحرب وفق السردية الكيزانية فهو استفراد القوى الموقعة على الاتفاق الإطاري بالسلطة وإقصاء (الآخرين) -يعنون أنفسهم- و(تفكيك الجيش السوداني) -يعنون إصلاحه- وإحلال الدعم السريع محله.
نجاح محدود
وبكل أسف فقد جازت هذه السردية كليا أو جزئيا على البعض، خصوصا أصحاب الميول الإسلاموية، والمحافظين، وأنصاف المتعلمين، وأشباه الأميين الذين تمتلئ بهم وسائط السوشيال ميديا. وقد أوكلت مهمة ترديد الكذبة ونشرها، لدرجة إغراق الفضاءات الإعلامية بها، لمتحدثيهم الذين حُشِدُوا حشدا، وملأوا شاشات الجزيرة والعربية الحدث وسكاي نيوز، وأغرقوها بهذه السردية الكاذبة المضللة. وبالطبع تولى الذباب الالكتروني الكيزاني من قطاع الطرق الإسفيرية أمر الترويج للأكذوبة والتربص بمن يأتي بما يناقضها بتكتيكات معروفة منها النقاش الانصرافي الديماغوجي ومنها التهاتر والسباب وقلة الأدب.
محاولة طمس الحقائق والأدلة الدامغة
هذه السردية بالطبع تحاول طمس حقيقة أن هذه الحرب حرب الكيزان وأنهم هم الذين أشعلوها وورطوا بقية الجيش فيها، وأن هدفها هو هزيمة ثورة ديسمبر واستعادة فردوسهم المفقود. فجميع الوقائع الموضوعية تثبت أن الكيزان هم من بدأ الحرب بهجومهم على قوات الدعم السريع في أرض المعسكرات بسوبا، لقطع الطريق على لقاء البرهان بحميدتي صباح الجمعة ١٥ أبريل الذي رتبته الوساطة المكونة من أعضاء في الحرية والتغيير وبعض أطراف اتفاقية جوبا. وأكبر الشواهد على ذلك هو وقوع قادة الجيش الكبار في أسر قوات الدعم السريع وهم في طريقهم لدوامهم الروتيني. مما يدلل على أنهم لم يتخذوا قرار الحرب، وأن من اتخذ القرار لم يحفل حتى بتنويرهم بها مجرد تنوير. وهناك شواهد أخرى مهمة منها دفعهم للبرهان بالتراجع عن الاتفاق الإطاري، ومطالبتهم المفاجئة بدمج الدعم السريع في الجيش والتحرش به بالصوت العالي خلال إفطارات رمضان التي اتخذوها منابرا إعلامية، وظهر فيها قادتهم المتطرفون وهم يرسلون التهديدات للجميع، ويقرعون طبول الحرب.
وأخيرا قطعت جهيزة قول كل خطيب. فبالأمس القريب، وتحديدا يوم الخميس ٧ سبتمبر، ظهر تسجيل للقيادي بالحركة الاسلامية وبالمؤتمر الشعبي د. محمد بدرالدين، في قروب (نقاشات فكرية) ضمن حوار داخلي بين قيادات إسلاموية. وقد جاء في هذا التسجيل اعتراف صريح وواضح بتنفيذ الكيزان لانقلاب ٢٥ اكتوبر ٢٠٢١، وكذلك إشعالهم الحرب في ١٥ ابريل ٢٠٢٣. يقول الدكتور محمد بدر الدين إن الضباط الاسلاميين في الجيش وكتائب الظل هم من أطلق الرصاصة الأولى، برغم اعتراض بعضهم. ويضيف قائلا أنه عندما طالب هذا البعض بإيقاف الحرب بعد أن بدأت، كان رد الصقور والمجاهدين “الحصة حرب “، أي لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، و “بَلْ بَسْ”.
هذه هي الحقيقة البسيطة الناصعة التي يراها كل من لا ينكر ضوء الشمس من رمد. بيد أن سردية الكيزان المخادعة المضللة تقلب الحقائق رأسا على عقب وتُزَوِّر التاريخ. والكيزان يبنون على تلك الأكاذيب حملتهم الداعية إلى تأييد الجيش ودعمه في هذه الحرب “المقدسة” لاستعادة “الكرامة الوطنية”، و”هيبة” (قواتنا المسلحة)، وسلامة شرفها الرفيع من الأذى الذي يريدوننا أن نريق على جوانبه الدم. ولذلك فالحرب يجب أن تستمر إلى أن يستسلم الدعم السريع استسلاما كاملا أو يحطم تحطيما شاملا. وأن أي مطالبة بوقف الحرب هي خيانة للجيش، وتُعتَبر تأييدا للدعم السريع، يُهَدَّّد أصحابها بالويل والثبور وعظائم الأمور. وهم لن يوقفوا الحرب “حتى لو حُرِق السودان كله” كما صرح بذلك الفريق فتح الرحمن القائد السابق للقوات البحرية. هذه هي سرديتهم المخادعة. وهذا هو زعمهم الكذوب. ونحن ندرك أن حربهم في حقيقتها تهدف لاستعادة فردوسهم المفقود، وحكمهم الذي تَفَلَّت من بين أيديهم. يريدون أن يُنيخوا هذا الشعب كالبعير، وأن يضعوا على ظهره سرجا وثيرا، وعلى فمه لجاما محكما، ويركبونه من جديد لعقود أخرى عديدة، وهيهات.
وعلى كل حال فهذه هي السردية الكيزانية المضللة التي تمتلئ بها الفضائيات وتعج بها منصات السوشيال ميديا، ويقيم لها المنتديات التي تنظمها مراكز البحوث التي يسيطرون عليها، مثل المركز العربي لدراسة السياسات في الدوحة، ويحاولون عبرها أن يكسبوا الأكذوبة وقارا أكاديميا، على طريقة مؤتمرات القذافي الأكاديمية لدراسة الكتاب الأخضر. وأكبر من عبر عن هذه السردية تعبيرا خاما هو كبير الجاسوسية الكيزانية السابق صلاح قوش، والعميد صلاح كرار (المشهور بصلاح دولار) عبر تسجيلات صوتية. والآن يروج لها الكيزان وعدد من السياسيين والكتاب المتحالفين معهم. فبالإضافة لكتابهم المعروفين خريجي مدرسة ألوان “الفاتية” أمثال عادل الباز وعبد الماجد عبد الحميد، وضياء الدين بلال، والطاهر ساتي، والطاهر التوم، هناك من جمعتهم بهم المصالح أمثال عائشة الماجدي وأردول وحسن إسماعيل (الشهير بحسن طرحة). ويقف وراء هذه الكتيبة من تلاميذ غوبلز النجباء أبوهم الروحي مفتي الدم عبد الحي يوسف صاحب الفتوى الإجرامية بقتل ثلث الشعب أو نصفه.
استحقار الكيزان لقوى الحرية والتغيير
في أيام صبانا كنا نقول عبارة “حقيرتي في بقيرتي” عندما يكون أحد الصبية دائم التحرش والتعدي على صبي آخر، وهو في مأمن من العقاب. وعادة ما يكون الصبي المُتُحَرَّش به أصغر سنا أو أضعف بنية من غريمه، وغالبا ليس له من يحميه. و”حقيرتي” تصغير لكلمة “حقارة”، و”بقيرتي” تصغير بقرة. والمثل يعني أن يَستذِل شخصٍُ شخصا آخرَ، فيُستَذلُّ له ويستكين كما تستكينُ البقرة الزلول لحالبها. وعند أهلنا الرباطاب مثل مشابه مستمد من بيئتهم هو “شديرتي القصيرة المتعود طلوعها”. وشديرتي تعني “شُجَيرتِي” تصغير شجرة، وهي النخلة القصيرة التي لا يمثل طلوعها بغرض تلقيحها أو جني ثمارها تحديا كبيرا.
وتحميل الكيزان مسؤولية الحرب لقوى الحرية والتغيير من باب استحقار هذه القوى والتحرش بها دون سبب، أو بأسباب واهية. فهم يدركون أن بإمكانهم تلطيخ هذه القوى والاعتداء عليها دون أن يطالهم أي أذى، ولو بكلمة نابية. فهي قوى مدنية عزلاء لا تحمل السلاح ولا تمارس العنف حتى على مستوى الخطاب، لذلك تمادوا في التحرش بها وتحقيرها والاستهانة بها، وإرسال التهديدات تجاهها، كما سمعنا مرارا وتكرارا من متحدثيهم، وآخرهم أنس عمر الذي كان يردد عبارة “ما في أرجل من المؤتمر الوطني في البلد دي”، على بؤس هذه العبارة المتخلفة التي تجرد النساء من قيم الشجاعة والبطولة. أما عجيبة العجائب في سردية الكيزان فالقول بأن انشقاق المكون العسكري قد أحدثته هذه القوى. فهم يرددون ليل نهار أن قوى الحرية والتغيير حرضت حميدتي أن يتمرد على الجيش وأن يرفض خطة “الدمج السريع” التي رمى بها البرهان فجأة ودون مقدمات لتُسَوٍّغ له “النطة” والتراجع عن الاتفاق الإطاري.
فلكي نقبل هذه السردية المعتلة يتسنى علينا أن نلغي عقولنا. فهي تفترض أولا أن حميدتي ليس له أدنى إرادة أمام قوى الحرية والتغيير، وأنه خاضع لها تماما ورهن إشارتها، وأنه من الممكن أن يخوض حربا نيابة عنها يتحمل هو تكلفتها وجميع نتائجها دون دوافع ذاتية، يعني “مَحَرَّش”. وأهلنا يقولون “المَحَرَّش ما بكاتل”. وبطبيعة الحال هذا أمر ظاهر البطلان. وثانيا تفترض السردية أن قائد الجيش لم يكن ضمن الموقعين على الإطاري. وهذا أيضا غير صحيح.
أما حقيقة الأمر فهي أن البرهان بعد أن وقَّع على الإطاري تَعَرَّض لضغوط كبيرة من الكيزان ليتراجع عنه، وخضع لتلكم الضغوط، وطلب من حميدتي أن يتراجع معه، ولكن الرجل رفض التراجع عن الاتفاق الإطاري وتمسك به لمصلحته الذاتية وليس نيابة عن قوى الحرية والتغيير. لذلك أفشل الكيزان ورشة الترتيبات الأمنية، وأمروا ضباطهم بالانسحاب من جلسة التوصيات بقاعة الصداقة في نهاية مارس هذا العام، ثم شرعوا في التحرش به. لقد فضَّ حميدتي تحالفه مع البرهان بعد أن استبان له أن البرهان مُرتَهَن بالكامل لدي الكيزان، لا يملك مخالفتهم. لذلك لم يكن أمامه سوى خيار واحد فقط، وهو التمسك بالاتفاق الإطاري، مما يضعه في صف الحرية والتغيير.
شروط القبول في المعية الكيزانية
أدرك حميدتي الشروط المطلوبة منه بواسطة شريكه البرهان، وحاضنته السياسية التي تمثل الكيزان والكتلة الديمقراطية، ومجموعة أهل السودان التي اتخذت من الطيب الجد راعيا لها. هؤلاء يريدون الدعم السريع أن يظل كما كان، منذ أيام البشير وحتى انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر ٢٠٢١، كلب حراستهم الأمين، وهراوتهم الغليظة المرفوعة فوق رأس الشعب وخاصة شباب الثورة. فعندما كان يكيد معهم ضد الثورة، ويشاركهم في قمع الثوار، مثلما حدث في مجزرة الثامن من رمضان ٢٠١٩، وفي مجزرة القيادة العامة في نهاية ذات الشهر الفضيل “وقبايل العيد”، وعندما كان يتآمر معهم على حكومة حمدوك ويُمَوِّل لهم اعتصام الموز، ويوفر لهم لحوم الحاشي والمحاشي، ويغلق معهم الميناء، ويشاركهم في الانقلاب، كانوا يدافعون عنه، ويمدحونه، ويبررون جميع أفعاله. بل وحتى أخوات نسيبة، احتفلن به، وتغزلن فيه، وأَدِنَّ الحملات التي اعتبرنها تشوه صورته، وقلن عنه بالحرف إن “الكنداكات صرن آَمِِنَاتِ في خدورهن بفضله “.
وأكثر من ذلك فقد صبر الكيزان وعسكرهم على إذلاله لضباط الجيش العظام، وتمريغ كرامتهم في التراب عندما كان لازما غرزهم. فهم لم يقولوا “بغم” عندما جلد أفراد من قواته بعض ضباط الجيش الكبار بالسياط أمام جنودهم، وجردوا البعض الآخر من نجومهم و”دبابيرهم”، وسخروا منهم، واعتقلوهم وربطوهم بالحبال، وألقوا بهم في حديد السيارات الخلفي كالخراف، وذهبوا بهم إلى جهة غير معلومة. بل وأضافوا الملح على الجرح بإهانة المحكمة العسكرية التي شُكِّلَت لمحاسبتهم ورفضوا حتى المثول أمامها. صبر الكيزان وعسكرهم على كل ذلك الذل والهوان ونسوا شرف الجيش وكرامته وتغاضوا عنها، وهم الذين ما فتئوا يبررون تنكيلهم بالثوار بحجة استفزازهم للجيش. فلكأن إلقاء الثوار حجرا على أبوطيرة أو هتافهم “العسكر للثكنات والجنجويد ينحل” أكثر استفزازا للجيش من جلد ضباطه في وضح النهار وعلى ملأ من الناس. إن هذه المفارقات العجيبة تثبت لنا المرة بعد الأخرى أن الكيزان يجسدون في مسالب البشر أكثرها خسة وانحطاطا، ألا وهي الاستقواء على العزل المسالمين، والازورار والخنوع أمام الأقوياء المسلحين.
أما عندما “حرن” حميدتي لأسباب تخصه، وأبى أن يظل كرباجا في أيدي البرهان والكيزان الى الأبد، وقرر مفارقة خطهم المتآمر على الثورة، وأعلن تأييده للاتفاق الإطاري وعدم رغبته في التراجع عنه، أصبح فجأة عقبة يجب أن تزاح عن الطريق.
الفرق بين أن تكون ود حلال أم ود حرام في نظر الكيزان
ولكننا لا نعجب عندما ندرك أن الثمن الأساسي لقبولهم الذلة والإهانة من حميدتي هو أن يبقى نصيرا لهم، يقمع لهم الشعب ويتآمر معهم على الثورة، ويرتكب معهم الجرائم، ويهين لهم الشباب في الشوارع. وما زالت الذاكرة حية بصور توقيف الشباب في الطرقات وإنزالهم من الحافلات وإجلاسهم على الأرض وحلق رؤوسهم بالسونكي.
إذن كان الشرط الأساسي لاستمرارية مشروعية حميدتي في نظر البرهان والكيزان، هو تآمره على ثورة الشعب وتنكيله بالثوار. فإذا حقق لهم هذا الشرط اعتبروه ابنا شرعيا حبلت به المؤسسة العسكرية بالحلال، في زواج اكتملت أركانه، وأُشهِرت وثيقة عقده أمام مئات العمائم والجلاليب البيضاء الناصعة المضمخة بالعطور الباريسية الفاخرة، من داخل المجلس الوطني. ثم حبلت به أمه وحملته في رحمها وهنا على وهن، حتى ولدته بشرا سويا اختارت له اسم “الدعم السريع”. وبطبيعة الحال لم يكن يشغل بال أحد من الكيزان وعسكرهم حكاية “الدمج السريع أو البطيء” لقواته في الجيش. أما الآن وقد شب الولد عن الطوق، وخرج عن الطوع، وقال للكيزان لا، تَحَوَّل على التو لابن سفاح يجب أن يُزَاح فورا، ويُدفَن بعيدا في الظلام، ليصبح نسيا منسيا.
أما عجيبة العجائب فهي أن يتوقع الكيزان منا، كشعب، أن نقبل سرديتيهم الإثنين معا حول الدعم السريع، أي نقبل الشيء ونقيضه، وأن ننتقل معهم من حال إلى حال وكأنهم هم السحرة، ونحن المسحورون. فلماذا يا ترى يتوقعون منا ذلك الأمر الذي يستحيل على كل من يحترم عقله؟ الإجابة ببساطة لأنهم يعتبروننا شعبا غبيا، “يُُصرفه المُُضَلِِّّل كيف شاء”. فنحن في ظنهم شعب من الأنعام يمكن سوقها للمسلخ وهي تتقافز لعبا. ويا له من ظن خائب. فالشعب الذي أطاح بكم في واحدة من أعظم الثورات في العالم المعاصر، شعبٍ عظيم، واع وحصيف. لا “يؤثر بهتانكم” فيه ولا “ينطلي زوركم” عليه.
نقلا عن صحيفة التغيير
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: قوى الحریة والتغییر الاتفاق الإطاری الدعم السریع هذه الحرب هم الذین
إقرأ أيضاً:
“هآرتس”: صور الحشود التي تعبر نِتساريم تُحطّم وهم النصر المطلق
الثورة نت
أشار المحلل العسكري في صحيفة “هآرتس الإسرائيلية” عاموس هرئيل إلى أن صور الحشود الفلسطينية التي تعبر سيرًا على الأقدام من ممر “نِتساريم” في طريقها إلى ما تبقى من بيوتها في شمال غزة، تعكس بأرجحية عالية أيضًا نهاية الحرب بين “إسرائيل” وحماس، مؤكدًا أن الصور التي تم التقاطها، يوم أمس الاثنين، تحطم أيضًا الأوهام حول النصر المطلق التي نشرها رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو ومؤيدوه على مدى أشهر طويلة، وأكمل بالقول: “معظم فترة الحرب، رفض نتنياهو مناقشة الترتيبات لما بعد الحرب في قطاع غزة، ولم يوافق على فتح باب لمشاركة السلطة الفلسطينية في غزة، واستمر في دفع سيناريو خيالي لهزيمة حماس بشكل تام. والآن، من يمكن الاعتقاد أنه اضطر للتسوية على أقل من ذلك بكثير”.
ورأى هرئيل أن رئيس حكومة العدو، هذا الأسبوع، قد حقق ما أراده، إذ إن حماس وضعت عوائق في طريق تنفيذ الدفعات التالية من المرحلة الأولى في صفقة الأسرى، لكن نتنياهو تمكن من التغلب عليها، على حد تعبيره، موضحًا أنه: “حتى منتصف الليل يوم الأحد، تأخر نتنياهو في الموافقة على عبور مئات الآلاف من الفلسطينيين إلى شمال القطاع، بعد أن تراجعت حماس عن وعدها بالإفراج عن الأسيرة أربيل يهود من “نير عوز””، ولكن بعد ذلك أعلنت حماس نيتها الإفراج عن الأسيرة، وفق زعمه، فعلّق هرئيل: “حماس وعدت، والوسطاء تعهدوا، أن يهود ستعود بعد غد مع الجندية الأخيرة آغام برغر ومع أسير “إسرائيلي” آخر، والدفعة التالية، التي تشمل ثلاثة أسرى “مدنيين” (من المستوطنين)، ستتم في يوم السبت القادم”. لذلك، قاد تعنّت نتنياهو – ومنعه عودة النازحين الفلسطينيين – على تسريع الإفراج عن ثلاثة أسرى “إسرائيليين” في أسبوع، على حد ادعاء الكاتب.
تابع هرئيل: “لكن في الصورة الكبيرة، قدمت حماس تنازلًا تكتيكيًّا لإكمال خطوة استراتيجية، أي عودة السكان إلى شمال القطاع”، مردفًا: “أنه بعد عودتهم إلى البلدات المدمرة، سيكون من الصعب على “إسرائيل” استئناف الحرب وإجلاء المواطنين مرة أخرى من المناطق التي عادت إليها حتى إذا انهار الاتفاق بعد ستة أسابيع من المرحلة الأولى”، مضيفًا: “على الرغم من نشر مقاولين أميركيين من البنتاغون في ممر “نِتساريم” للتأكد من عدم تهريب الأسلحة في السيارات، لا يوجد مراقبة للحشود التي تتحرك سيرًا على الأقدام، من المحتمل أن تتمكن حماس من تهريب الكثير من الأسلحة بهذه الطريقة، وفق زعمه، كما أن الجناح العسكري للحركة، الذي لم يتراجع تمامًا عن شمال القطاع، سيكون قادرًا على تجديد تدريجي لكوادره العملياتية”.
وادعى هرئيل أن حماس تلقت ضربة عسكرية كبيرة في الحرب، على الأرجح هي الأشد، ومع ذلك، لا يرى أن هناك حسمًا، مشيرًا إلى أن هذا هو مصدر الوعود التي يطلقها “وزير المالية الإسرائيلي” بتسلئيل سموتريتش، المتمسك بمقعده رغم معارضته لصفقة الأسرى، بشأن العودة السريعة للحرب التي ستحل المشكلة مرة واحدة وإلى الأبد، ويعتقد هرئيل أن: “الحقيقة بعيدة عن ذلك، استئناف الحرب لا يعتمد تقريبًا على نتنياهو، وبالتأكيد ليس على شركائه من “اليمين المتطرف”، القرار النهائي على الأرجح في يد الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ومن المتوقع أن يستضيف الأخير نتنياهو قريبًا في واشنطن للاجتماع، وهذه المرة لا يمكن وصفه إلا بالمصيري”.
وأردف هرئيل ، وفقا لموقع العهد الاخباري: “ترامب يحب الضبابية والغموض، حتى يقرر، لذلك من الصعب جدًّا التنبؤ بسلوكه”، لافتًا إلى أنه وفقًا للإشارات التي تركها ترامب في الأسابيع الأخيرة، فإن اهتمامه الرئيسي ليس في استئناف الحرب بل في إنهائها، وأكمل قائلًا: “حاليًا، يبدو أن هذا هو الاتجاه الذي سيضغط فيه على نتنياهو لإتمام صفقة الأسرى، وصفقة ضخمة أميركية – سعودية – “إسرائيلية” وربما أيضًا للاعتراف، على الأقل شفهيًّا، برؤية مستقبلية لإقامة دولة فلسطينية”.
وقال هرئيل إن “نتنياهو، الذي أصرّ طوال السنوات أنه قادر على إدارة “الدولة” (الكيان) وأيضًا الوقوف أمام محكمة جنائية، جُرّ أمس مرة أخرى للإدلاء بشهادته في المحكمة المركزية، رغم أنه يبدو بوضوح أنه لم يتعاف بعد من العملية التي أجراها في بداية الشهر، واستغل الفرصة لنفي الشائعات التي تفيد بأنه يعاني من مرض عضال، لكنه لم يشرح بشكل علني حالته الصحية”، مشددًا على أن نتنياهو الآن، من خلال معاناته الشخصية والطبية والجنائية والسياسية، قد يُطلب منه مواجهة أكبر ضغط مارسه رئيس أميركي على رئيس وزراء “إسرائيلي”.