السير هارولد ماكمايكل (1882-1969): العبقري الشرير
تاريخ النشر: 11th, September 2023 GMT
(1)
أشتهر السير هارولد ماكمايكل في بوادي السودان بـ "مكميك، وهذا التحريف مرتبط بحادثة صدامية وقعت بينه وبين ناظر الكواهلة الشيخ عبد الله علي جاد الله، الذي كسر قلم السير ماكمايكل، عندما حاول هذا الأخير أن يمهر حكماً إدارياً يقضي بملكية عِدّ كجمر الواقع في شمال كردفان لصالح الكبابيش، وبذلك أضحى الناظر ود جاد الله يُعرف بـ "كسّار قلم مكميك"، كناية عن شجاعته وجُرأته السياسية.
(2)
تكمن عظمة هذا "الرجل الأبيض العظيم" في خلفيته الأسرية، وإعداده الأكاديمي في كلية ماجدولين بجامعة كمبردج ذائعة الصيت، وسِجل تأهيله الإداري المتفرد كسباً وعطاءً في السودان، وتنجانيقا (تنـزانيا)، وفلسطين، والملايو، ومالطة. ولد السير هارولد ماكمايكل في أكتوبر 1882م، في أسرة بريطانية عريقة الأصل، ومشهود لها بالكفاية السياسية، ونذكر من أعلامها البارزين خاله اللورد كيرزون، الذي تقلد مناصب عليا في الحكومات البريطانية المتعاقبة في الفترة بين 1885م و1924م، وشملت هذه المناصب السكرتارية الخاصة للورد سالزبري رئيس وزراء بريطانيا آنذاك، ووكالة وزارة شؤون الهند، ووزارة الخارجية البريطانية، وحكمدارية الهند العامة. فلا عجب أن هذا الواقع الأسري المتجذر في عمق العهد الفيكتوري قد مكَّن ماكمايكل من الدراسة في كلية ماجدولين، حيث حصل على درجة الشرف الأولى في التاريخ، ثم أصبح زميل شرف في جامعة كمبردج. وبعد تخرجه من كمبردج بدأ حياته العملية في خدمة السودان السياسية عام 1905م، حيث ترقى في مراتب العمل الإداري إلى أن شغل منصب السكرتير الإداري لحكومة السودان (1926-1934م)، وتنقل بين مديريات السودان المختلفة، حيث عمل في كردفان، ودارفور، والبحر الأحمر، والنيل الأزرق، وأخيراً استقر به المقام في الحاضرة الخرطوم. وبعد أن تقاعد عن خدمة حكومة السودان عام 1934م، عين حاكماً عاماً لتنجانيقا، ثم مندوباً سامياً لفلسطين والأردن، ثم مندوباً خاصاً للحكومة البريطانية في إقليم الملايو، وأخيراً أختتم هذا السجل الإداري الحافل بمفوضية الشؤون الدستورية في مالطة عام 1946م، وبعدها آثر الجلوس على كرسي الحياة المعاشية الآثر، إلى أن توفي عام 1969م.
(3)
وفوق هذا كله اهتماماته الأدبية بتاريخ السودان وتراثه الثقافي، حيث ألف جملة من الكتب المهمة، ونذكر منها: "قبائل شمال ووسط كردفان" (1912م)، و"وسوم الجمال التي تستعملها القبائل الكبرى في كردفان" (1913م)، و"تاريخ العرب في السودان" (1922م)، و"السودان الإنجليزي-المصري" (1934م)، و"السودان" (1945م). ويُعدُّ "تاريخ العرب في السودان" من أكثر كتب المترجم له التي وجدت رواجاً في السودان، لأن مُجلَّده الأول قام على فرضيَّة مفادها أن عرب شمال السودان خليط من العرب والنوبة، والثاني حوى جملة من مخطوطات النسَّابة السودانيين التي تعارض مفردات الفرضيَّة التي ذهب المؤلف نفسه إليها. ونلحظ أن هذه الفرضيَّة قد تبناها بعض الباحثين السودانيين أمثال: البروفسير يوسف فضل حسن، والبروفسير سيد حامد حريز، والدكتور حيدر إبراهيم؛ بيد أن الدكتور عبد الله علي إبراهيم قد شكَّك في صدقيتها، ووصفها بأنها فرضيَّة باخسة لنسب المجموعة الجعلية الكبرى، لأنها تقدح في شرعية أصلها العربي وانتمائها القرشي. إلا أن هذا الموقف الرافض لفرضيَّة السير هارولد ماكمايكل قد صُنِّف في دائرة خطاب الهُوية الأيديولوجي، ولم يحظ بتأييد نفر من دعاة الغابة والصحراء، ومن بينهم الأستاذ كمال الجزولي، الذي يتفق مع ما ذهب إليه ماكمايكل والذين تواضعوا على فرضيَّته في "حقيقة الهجنة العربية النوبية" في شمال السودان، التي يصفها بأنها حقيقة "ماثلة للعيان بقوة لا تحتمل المغالطة".
(4)
أما الجانب الآخر من شخصية السير هارولد ماكمايكل فيرتبط ببعض السياسات الإدارية التي صاغها أو اشترك في صياغتها عندما كان نافذاً في خدمة حكومة السودان، فلا عجب أن هذه السياسات كانت موطن قدْحٍ بالنسبة لبعض الإداريين البريطانيين والموظفين السودانيين، الذين نعتوه بـ "العبقري الشرير". وتأتي في مقدمة هذه السياسات مذكرته الشهيرة لعام 1930م، التي برر فيها قرار حكومة السودان القاضي بإنشاء مناطق مقفولة في الجنوب، "يكون قوام النظام فيها مرتكزاً على العادات المحلية، والتقاليد، والمعتقدات، بقدر ما تسمح به ظروف العدالة المحلية والحكم الصالح". وكانت هذه السياسة الانفصالية بلا شك واحدة من أمات الكبائر، التي عمَّقت جذور الفرقة وفقدان الثقة بين جنوب السودان وشماله. والخطيئة الثانية الكبرى، حسب وجهة نظر معارضيه، تتجسد في مناصرته الثابتة لسياسة الحكم غير المباشر (الإدارة الأهلية)، وتنفيذها على صعيد الواقع، فلا جدال في أن هذه السياسة كانت تهدف في المقام الأول إلى خلق ترياق معادٍ أو غدة واقية ضد "جرثومة الوطنية"، التي بدأت تنتشر في أوساط الطبقة المتعلمة من السودانيين. وقد مهد لتنفيذ هذه السياسة، بتآمره الحاذق والمدروس ضد السير جفري آشر، حاكم عام السودان (1926م)، الذي تم رفعه واستبداله بالسير جون مافي (1926-1934م)، وبذلك تحققت طموحات السير هارولد ماكمايكل وتطلعات تجاه تأسيس إدارة أهلية فاعلة، سُداها زعماء العشائر، وقوامها قلة الكُلفة المالية، وغايتها تحجيم نفوذ القيادات الوطنية المتعلمة من بث "سمومها الوطنية" في ربوع السودان الإنجليزي-المصري، لأن تلك القيادات الوطنية كانت تحمل قيماً معارضة لأجندة حكومة السودان وأتباعها في القيادات التقليدية.
ahmedabushouk62@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: حکومة السودان فی السودان
إقرأ أيضاً:
إحالة 3 موظفين ليبيين بقنصلية صفاقس للتحقيق الإداري، على خلفية تحقيق تلفزيوني تونسي
طالب مدير مكتب التفتيش والرقابة بوزارة الخارجية لدى حكومة الوحدة الوطنية مفتاح التيح 3 موظفين بالقنصلية الليبية في صفاقس بالحضور إلى المكتب بشكل عاجل جدا.
وجاء هذا الإجراء بعد تسريبات تناولها أحد البرامج التونسية المتلفزة تظهر سداد مرتبات الموظفين التونسيات بالدينار التونسي عوضا عن الدولار.
وبحسب التسريبات فإن المرتبات تأتي من الخارجية الليبية بالدولار، فيما يستلم الموظف بالعملة المحلية.
وأثارت التسريبات موجة من الجدل داخل أروقة مواقع التواصل والإعلام في تونس.
المصدر: ليبيا الأحرار
القنصلية الليبية في صفاقسرئيسيصفاقسمكتب التفتيش والرقابة بوزارة الخارجيةوزارة الخارجية Total 0 Shares Share 0 Tweet 0 Pin it 0