سودانايل:
2024-11-24@16:09:36 GMT

السير هارولد ماكمايكل (1882-1969): العبقري الشرير

تاريخ النشر: 11th, September 2023 GMT

(1)
أشتهر السير هارولد ماكمايكل في بوادي السودان بـ "مكميك، وهذا التحريف مرتبط بحادثة صدامية وقعت بينه وبين ناظر الكواهلة الشيخ عبد الله علي جاد الله، الذي كسر قلم السير ماكمايكل، عندما حاول هذا الأخير أن يمهر حكماً إدارياً يقضي بملكية عِدّ كجمر الواقع في شمال كردفان لصالح الكبابيش، وبذلك أضحى الناظر ود جاد الله يُعرف بـ "كسّار قلم مكميك"، كناية عن شجاعته وجُرأته السياسية.

وقد أتخذ الدكتور عبد الله علي إبراهيم هذا الحادث عنواناً رئيساً لسلسلة مقالات كتبها عن "هُوية الجعليين الكبرى"، أنتقد فيها أدبيات الموروث الإثنوغرافي الاستعماري-التبشيري، الذي أصَّل له ماكمايكل في كتابه عن "تاريخ العرب في السودان"، وأعطاه القس الأنجليكاني أسبنر ترمنقهام بُعداً دينياً في سفره المشهور بـ "الإسلام في السودان"، وبموجب ذلك وُصف إسلام أهل السودان بأنه "تأسلم"، وعروبة عربه بأنها "استعراب"، وبتلاقح هذين "الحظين المبخوسين" ولد مصطلح "الإسلاموعربية". ولا أود الخوض في غمار هذا المصطلح ومنعطفاته الفكرية، ولا في موقف الرأي والرأي الآخر منه، بل أود أن أعرض جوانب مهمة من شخصية السير هارولد ماكمايكل حسب اللوحة التي نُسجت لها في مخيلة العقلية السودانية، ومذكرات الإداريين البريطانيين، التي وصفته تارة بـ"الرجل الأبيض العظيم"، وتارة أخرى بـ "العبقري الشرير"، وبين هذه النعوت المتقابلة دلالات رمزية مرتبطة بتاريخ الرجل الإداري في السودان، وبعطائه المنبسط في بناء دولة الحكم الثنائي، وتوابعها من مؤسسات الإدارة الأهلية، التي بخس بعض الباحثين كفايتها الإدارية دون تدقيق وتمحيص، وطعنوا في ولائها الوطني، وعيَّرُوها بأنها صنيعة استعمارية.

(2)
تكمن عظمة هذا "الرجل الأبيض العظيم" في خلفيته الأسرية، وإعداده الأكاديمي في كلية ماجدولين بجامعة كمبردج ذائعة الصيت، وسِجل تأهيله الإداري المتفرد كسباً وعطاءً في السودان، وتنجانيقا (تنـزانيا)، وفلسطين، والملايو، ومالطة. ولد السير هارولد ماكمايكل في أكتوبر 1882م، في أسرة بريطانية عريقة الأصل، ومشهود لها بالكفاية السياسية، ونذكر من أعلامها البارزين خاله اللورد كيرزون، الذي تقلد مناصب عليا في الحكومات البريطانية المتعاقبة في الفترة بين 1885م و1924م، وشملت هذه المناصب السكرتارية الخاصة للورد سالزبري رئيس وزراء بريطانيا آنذاك، ووكالة وزارة شؤون الهند، ووزارة الخارجية البريطانية، وحكمدارية الهند العامة. فلا عجب أن هذا الواقع الأسري المتجذر في عمق العهد الفيكتوري قد مكَّن ماكمايكل من الدراسة في كلية ماجدولين، حيث حصل على درجة الشرف الأولى في التاريخ، ثم أصبح زميل شرف في جامعة كمبردج. وبعد تخرجه من كمبردج بدأ حياته العملية في خدمة السودان السياسية عام 1905م، حيث ترقى في مراتب العمل الإداري إلى أن شغل منصب السكرتير الإداري لحكومة السودان (1926-1934م)، وتنقل بين مديريات السودان المختلفة، حيث عمل في كردفان، ودارفور، والبحر الأحمر، والنيل الأزرق، وأخيراً استقر به المقام في الحاضرة الخرطوم. وبعد أن تقاعد عن خدمة حكومة السودان عام 1934م، عين حاكماً عاماً لتنجانيقا، ثم مندوباً سامياً لفلسطين والأردن، ثم مندوباً خاصاً للحكومة البريطانية في إقليم الملايو، وأخيراً أختتم هذا السجل الإداري الحافل بمفوضية الشؤون الدستورية في مالطة عام 1946م، وبعدها آثر الجلوس على كرسي الحياة المعاشية الآثر، إلى أن توفي عام 1969م.

(3)
وفوق هذا كله اهتماماته الأدبية بتاريخ السودان وتراثه الثقافي، حيث ألف جملة من الكتب المهمة، ونذكر منها: "قبائل شمال ووسط كردفان" (1912م)، و"وسوم الجمال التي تستعملها القبائل الكبرى في كردفان" (1913م)، و"تاريخ العرب في السودان" (1922م)، و"السودان الإنجليزي-المصري" (1934م)، و"السودان" (1945م). ويُعدُّ "تاريخ العرب في السودان" من أكثر كتب المترجم له التي وجدت رواجاً في السودان، لأن مُجلَّده الأول قام على فرضيَّة مفادها أن عرب شمال السودان خليط من العرب والنوبة، والثاني حوى جملة من مخطوطات النسَّابة السودانيين التي تعارض مفردات الفرضيَّة التي ذهب المؤلف نفسه إليها. ونلحظ أن هذه الفرضيَّة قد تبناها بعض الباحثين السودانيين أمثال: البروفسير يوسف فضل حسن، والبروفسير سيد حامد حريز، والدكتور حيدر إبراهيم؛ بيد أن الدكتور عبد الله علي إبراهيم قد شكَّك في صدقيتها، ووصفها بأنها فرضيَّة باخسة لنسب المجموعة الجعلية الكبرى، لأنها تقدح في شرعية أصلها العربي وانتمائها القرشي. إلا أن هذا الموقف الرافض لفرضيَّة السير هارولد ماكمايكل قد صُنِّف في دائرة خطاب الهُوية الأيديولوجي، ولم يحظ بتأييد نفر من دعاة الغابة والصحراء، ومن بينهم الأستاذ كمال الجزولي، الذي يتفق مع ما ذهب إليه ماكمايكل والذين تواضعوا على فرضيَّته في "حقيقة الهجنة العربية النوبية" في شمال السودان، التي يصفها بأنها حقيقة "ماثلة للعيان بقوة لا تحتمل المغالطة".

(4)
أما الجانب الآخر من شخصية السير هارولد ماكمايكل فيرتبط ببعض السياسات الإدارية التي صاغها أو اشترك في صياغتها عندما كان نافذاً في خدمة حكومة السودان، فلا عجب أن هذه السياسات كانت موطن قدْحٍ بالنسبة لبعض الإداريين البريطانيين والموظفين السودانيين، الذين نعتوه بـ "العبقري الشرير". وتأتي في مقدمة هذه السياسات مذكرته الشهيرة لعام 1930م، التي برر فيها قرار حكومة السودان القاضي بإنشاء مناطق مقفولة في الجنوب، "يكون قوام النظام فيها مرتكزاً على العادات المحلية، والتقاليد، والمعتقدات، بقدر ما تسمح به ظروف العدالة المحلية والحكم الصالح". وكانت هذه السياسة الانفصالية بلا شك واحدة من أمات الكبائر، التي عمَّقت جذور الفرقة وفقدان الثقة بين جنوب السودان وشماله. والخطيئة الثانية الكبرى، حسب وجهة نظر معارضيه، تتجسد في مناصرته الثابتة لسياسة الحكم غير المباشر (الإدارة الأهلية)، وتنفيذها على صعيد الواقع، فلا جدال في أن هذه السياسة كانت تهدف في المقام الأول إلى خلق ترياق معادٍ أو غدة واقية ضد "جرثومة الوطنية"، التي بدأت تنتشر في أوساط الطبقة المتعلمة من السودانيين. وقد مهد لتنفيذ هذه السياسة، بتآمره الحاذق والمدروس ضد السير جفري آشر، حاكم عام السودان (1926م)، الذي تم رفعه واستبداله بالسير جون مافي (1926-1934م)، وبذلك تحققت طموحات السير هارولد ماكمايكل وتطلعات تجاه تأسيس إدارة أهلية فاعلة، سُداها زعماء العشائر، وقوامها قلة الكُلفة المالية، وغايتها تحجيم نفوذ القيادات الوطنية المتعلمة من بث "سمومها الوطنية" في ربوع السودان الإنجليزي-المصري، لأن تلك القيادات الوطنية كانت تحمل قيماً معارضة لأجندة حكومة السودان وأتباعها في القيادات التقليدية.

ahmedabushouk62@hotmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: حکومة السودان فی السودان

إقرأ أيضاً:

الاحتلال ينهي استخدام الاعتقال الإداري بحق مستوطنين في الضفة

سرايا - أعلن وزير الحرب في الاحتلال الإسرائيلي يسرائيل كاتس، الجمعة، أنه قرر إنهاء استخدام الاعتقال الإداري بحق المستوطنين في الضفة الغربية المحتلة.

وقال كاتس في بيان إنه قرر "وقف استخدام مذكرات الاعتقال الإداري ضد المستوطنين في الضفة الغربية في واقع تتعرض فيه المستوطنات هناك لتهديدات خطيرة، ويتم اتخاذ عقوبات دولية غير مبررة ضد المستوطنين".

وأضاف: "ليس من المناسب لإسرائيل أن تتخذ خطوة خطيرة من هذا النوع ضد سكان المستوطنات".

أ ف ب





تابع قناتنا على يوتيوب تابع صفحتنا على فيسبوك تابع منصة ترند سرايا


طباعة المشاهدات: 1019  
1 - ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه. 22-11-2024 03:21 PM

سرايا

لا يوجد تعليقات
رد على :
الرد على تعليق
الاسم : *
البريد الالكتروني :
التعليق : *
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :
اضافة
موزة ملصقة بشريط بيعت بالملايين .. تعرف على من اشتراها بعد ماكدونالدز .. الجزر يتسبب بوفاة واحدة وعشرات الإصابات بأميركا أثناء عمله في قبو .. سباك يعثر على كنز "ذهبي" إيلون ماسك ينتقد قانونًا مقترحًا في أستراليا! "مسبوقة بالأمطار" .. موجة برد سيبيرية... أثناء اجتماعه بهوكشتاين .. هكذا تلقى نتنياهو خبر... الإدارة المحلية: 75% من موازنة البلديات رواتب... بوريل: دولتان أوروبيتان اعترضتا على مقترح تعليق... نواب أمريكيون يسعون لوقف بيع بعض الأسلحة للإمارات العراق يطلب دورة غير عادية لجامعة الدول العربية بعد...استشهاد ثلاثة أشخاص في غارات على جنوب لبناناختارها ترامب لتولي وزارة العدل .. من هي بام بوندي؟رئيس وزراء هنغاريا: سأضمن عدم تنفيذ مذكرة الاعتقال...مفاوضات لوقف إطلاق النار لمدة 42 يوماترامب يخطط لمعاقبة "الجنائية الدولية" بعد...وقف النار في لبنان .. هذا ما سمعه هوكستين من قادة...نحو 6200 لاجئ غادروا الأردن منذ مطلع العام لإعادة...كوريا الشمالية تحذر من حرب نووية إعلامي يكشف واقعة غريبة ليحيى الفخراني وفاة الفنان المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض زوج نوال الكويتية يبارك لها يوضح سبب نجاحها بعد وعكته الصحية .. أول ظهور لـ علي جابر في ”آرابز... مريم أوزرلي تعود إلى الشاشة بعد 11 عامًا بدور العشيقة ميسي ودي ماريا .. ناد أرجنتيني يخطط لصفقتين مفاجأة مدوية .. ميسي يعود إلى برشلونة غوارديولا يجدد عقده مع مانشستر سيتي لمدة عامين اللاعب العربي الأكثر تسجيلا للأهداف في عام 2024 الأردن يستضيف دورة الألعاب الرياضية العربية عام 2035 امرأة تقتل 14 صديقة بالسم .. هكذا كشف أمرها سيدة أميركية تتعرض لعملية احتيال .. ما علاقة إيلون ماسك؟ بمبلغ خيالي .. بيع "أغلى موزة في العالم" قتل والدته ووالده وأخته .. متهم يكسر جدار غرفة التحقيق ويحاول الهروب لا يوجد له علاج .. ما هو المرض الذي يعاني منه بيكهام؟ أثناء عمله في قبو .. سباك يعثر على كنز "ذهبي" بيع موزة وشريط لاصق بـ6.2 ملايين دولار مرض دماغي غامض يثير رعبا في كندا .. والسلطات تتدخل بطريقة دفنه .. البابا فرنسيس يتخلى عن عُرف استمر لقرون الملياردير الهندي جوتام أداني متهم في قضية رشوة بقيمة 265 مليون دولار

الصفحة الرئيسية الأردن اليوم أخبار سياسية أخبار رياضية أخبار فنية شكاوى وفيات الاردن مناسبات أريد حلا لا مانع من الاقتباس وإعادة النشر شريطة ذكر المصدر(وكالة سرايا الإخبارية) saraynews.com
الآراء والتعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها فقط
جميع حقوق النشر محفوظة لدى موقع وكالة سرايا الإخبارية © 2024
سياسة الخصوصية برمجة و استضافة يونكس هوست test الرجاء الانتظار ...

مقالات مشابهة

  • خطاب السلطة السودانية: الكذبة التي يصدقها النظام وحقائق الصراع في سنجة
  • مجددا .. محكمة القضاء الإداري تؤجل النظر بدعوى شرعية حكومة كركوك المحلية
  • أميركا تحذر إسرائيل بعد قرار وقف الاعتقال الإداري ضد المستوطنين
  • مسلسل البطريق يقدم درسا في تعاطف المشاهد مع الشرير
  • غليزان: إنحراف حافلة وتعطل حركة السير إتجاه وهران
  • الأمطار الغزيرة تغرق شوارع عدن وتشل حركة السير
  • بيان عاجل لـ فلسطين بعد إلغاء الاعتقال الإداري للمستوطنين
  • شاهد بالفيديو.. الكابتن التاريخي لنادي الزمالك يتغزل في المنتخب السوداني بعد تأهله للنهائيات: (السودان التي كتب فيها شوقي وتغنت لها الست أم كلثوم في القلب دائماً وسعادتنا كبيرة بتأهله)
  • الاحتلال ينهي استخدام الاعتقال الإداري بحق مستوطنين في الضفة
  • قرار إسرائيلي بوقف الاعتقال الإداري بحق المستوطنين في الضفة الغربية