سودانايل:
2025-02-02@12:32:11 GMT

حليمة عبد الرحمن (النيزك العابر)

تاريخ النشر: 11th, September 2023 GMT

لم يكن للكتاب والصحفيين في هذا الاسبوع حديثا ا غير الحديث عن ايقونة الصحافة السودانية الاستاذة حليمة محمد عبد الرحمن التي امنت بمهنة الصحافة وخدمتها في ظروف عصيبة كانت تعتبر الصحافة ركيزة أساسية في بناء المجتمع الديمقراطي، وكانت تؤمن بقوة الكلمة في تغيير العالم. لذلك، كانت تكتب بشغف وتعطي كل قصة حقها ومستحقها عبرت بلاط الصحافة كنيزك عابر أشعل حياتنا نورا واشتعل ليبدد ظلماتنا ويجمل حيواتنا بكل ما هو جميل وعظيم
حدثني الاخ الامير جعفر علي دينار المقيم حاليا في المملكة العربية السعودية انها كانت تتصل بهم لتنقل اخبار دارفور الي منصات الاعلام المختلفة ابان محنتها في بداية الالفية فكتبت عن الابادة التي حدثت لأهل دارفور من قبل قوات الجنجويد وقوات الحكومة وذكر ان الحكومة السعودية قررت انهاء عقودات مجموعة من الناشطين من ابناء دارفور وكنا مهددين بالترحيل ولم يدافع عنا احد غير حليمة التي انتفضت بقلمها ودافعت عنا دفاعا مستميتا حتي الغي قرار ترحيلنا من المملكة فهي بحق صحفية صادقة كانت تعبر عن للمهمشين والمستضعفين كنا ندعوها لنحضر اجتماعات روابطنا المحلية واكاد اجزم ان ما قدمته حليمة لأهل دارفور من خلال تفاعلها وكتاباتها لا يدانيه فيها اي شخص فقد مسحت عنا الغبن وسوء الفهم وامتصت خطاب الكراهية التي بثته الحكومة السودانية واعلامها الكذوب عن طبيعة الصراع في دارفور وحاولت نعته بالقبلنة والجهوية وحاولت الايقاع بيننا واخوتنا ابناء البحر فكم ساعدت كتاباتها علي نشر الوعي بين السودانيين وكانت تعبر عن آرائها بشجاعة وصدق ولم اكن اعلم بمرضها والحديث الامير جعفر حتي وجدت نعيك في حائطك علي الفيس بوك لها الرحمة والمغفرة بقدر ما قدمت لشعبها واهلها كانت شجاعة لا تعرف الخوف ولا تتراجع عن الحق كانت مثالًا يحتذى به في عالم الصحافة، وستبقى ذكراها حية في قلوبنا
كان اول تعارف بيني وحليمة يرجع تاريخه الي العام الفين وخمسة عبر صفحة سودانيس اونلاين شدني الي معرفتها قوة ونصاعة محرراتها وانتاجها الرفيع ونصاعة حجتها وايمانها الراسخ بمفاهيم الحكم الراشد والتداول السلمي للسلطة في السودان فرغم السهام النابلة التي كانت ترميها بها سفهاء الحكومة وحملة مباخرها الا انها كانت تفحمهم بالحجة الدامغة وترميهم بشرر كالقصر تحرق منسأتهم وتزهق باطلهم وتنفش عهنهم وتنقض غزلهم وتدك حصونهم فيهربوا من صياصيهم يعضون بنان الندم ويلعقون مر الهزيمة
كان في عكاظ سودانييس اونلاين مجموعة من الصحفيين الذين يستخدمون اسماء مستعارة يتوارون خلفها ويكيلون لها التهم والسباب ويصفونها بأقذع الالفاظ لكنها كانت صلبة المراس تلغم كل سفيه بحجر يناسب فمه واذكر انها ذات مرة حكت لي عن احد الصحفيين الذي يعملون بالمملكة والذي اتصل بها ووعدها بعقد ثمين ووظيفة تناسب مؤهلاتها ان هي تراجعت عن مواقفها الداعمة للمعارضة السودانية فردت له بعبارة ساخرة (انك قد اخطأت الطريق واخترت عنوان البريد الخطأ لرسالتك هذه)
ان جرأة قلم حليما قد جلب لها متاعب جمة وهموم ثقيلة سبب لها متاعب في حياتها فقد كان قلمها نصيرا لقضايا المرأة السودانية التي افترستها طغيان الذكورية المتدثر بثياب السلطة والجبروت كتبت عن عوضيه سمك وحواء جنقو وفاطمة احمد ابراهيم وخنساء سوار الذهب ونضالات زينب بدر الدين وعن امل هباني وصمودها كتبت عن الاستاذة عائشة موسي زوجة الدكتور المرحوم محمد عبد الحي وصبرها ومعاناتها معه بعد ان اقعدته المرض وكتبت عن سمية هندوسة وتناولت في عدد من المقالات قضية مريم يحي اسحق ابراهيم التي حكمت عليها المحكمة بالإعدام لأنها ارتدت عن الاسلام واعتنقت المسيحية وقد اثارت مقالاتها ضجة عالمية حول التدخل السافر للحكومة السودانية في قضايا هي تدخل ضمن قضايا المعتقدات وقد اثارت هذه القضية شعورا متباغضا في اوساط المجتمع السوداني حتي اضطرت المحكمة الغاء قرار عقوبة الاعدام واطلاق سراحها وكتبت بتفاصيل عن سروال لبني الحسين في كبريات الصحف الاوربية والتي لولا قلمها لما عرف العالم عن معاناة المرأة السودانية شروي نقير
يعود الفضل للأستاذة حليمة انها اول صحفية تحدثت عن التهجير القسري والنزوح في حرب دارفور اهلتها لذلك علاقاتها الحميمة مع مجموعة من ابناء دارفور وانتجت قصصا صحفية بعنوان يوميات نازحة تناولت فيها معاناة المرأة في معسكرات النزوح وانهن كن يقضين يوما كاملا في الاحتطاب واثناء عودتهن يتعرض للمطاردة والاغتصاب فيتضاعف معاناتهن
وطالما ان الشيء بالشيء يذكر فقد كان لي شرف استضافتها في راديو دبنقا في برنامج ملفات سودانية فقد كانت آول امرأة سودانية تتحدث للبرنامج واذكر ان محاور الحلقة كانت عن معاناة ابناء المغتربين والقوانين المجحفة التي فرضها عليهم الحكومة السودانية وعدم مساواتهم مع رصفائهم وزملائهم في الداخل السوداني تمتعت حليمة بقدرات اخري تفوقت بها علي رصفائها ممتهني مهنة الصحافة فقد كنا نتواصل مع بعض وتحكي لي الكثير عن القبائل السودانية والعلاقات المتشعبة والمتداخلة بينهم فقد كانت علامة انساب وراوية احساب حدثتني عن اهلها الجموعية وعلاقاتهم الاسرية بينهم والسر وراب وعن حواكيرهم في الخرطوم وشمال امدرمان فهي حافظة للكثير من ادب الجموعية وثقافتهم الشفاهية واشعارهم وفرسانهم ونجوم الهمباتة وسطهم كانت ترجز بأهازيجهم كانت تحفظ الكثير من اغاني البنات واحاجي الحبوبات حكي لي مرة ان احد اجدادها يتوسد الثري في مدينة كتم في وادي هشابة ومازال قبره شاهدا حتي الان حليمة تتكون مضغتها من مجموعة القبائل السودانية ولهم جذور ونسب مع قبائل جنوب السودان البعيدة
خيالها الشعبي يحتشد بأغاني دق المحلب ودق الريحة ودق العيش واهازيج ضرايات العيش ومهرجانات الختان وسيرة وداع الجوع في مواكب الفرعون عمركسافروك ومهرجانات القلقمة والكشرندو في شرق دارفور والقلدي قزنق و عرس البرتقال والقريب عند الفور وطقوس البديات في شقيق كارو
كل عبقريات هذه المجتمعات كنت قد عرفتها عنها وانا بن دارفور وبن بيئتها فقد ظننت أنى اكثر معرفة بثقافتها حتي وضعت حليمة حدا لغروري وجعلتني اتواضع امامها
عرفتني حليمة بزوجها مصدق الصاوي وهو أحد مهندسي الري القلائل في السودان وله اهتمامات صحفية يكتب عن الشأن السوداني وازماته التي حاقت به فهو من ارومة كريمة فهو حفيد اللواء خلف خالد اول وزير دفاع في حكومة الازهري وجده حاج خالد كان أحد قيادات الدولة المهدية واحد حاملي راياتها
عرفتني بابنها البكر خالد الذي درس الصحافة في ماليزيا ويعمل الان بالدوحة في إحدى الصحف القطرية الناطقة بالإنجليزية وكنت قد حاولت جهدي ان يجد خالد فرصة للعمل بالسودان ولكن فشلت جهودي ودخل حتى المعاينات لكن ولكن فقد قيض الله له رزقا في الدوحة
ايضا بواسطة حليمة تعرفت علي الاخ عبد الرحمن الامين الصحفي الاستقصائي الالمع وهي التي قدمت لي الدعوة في قروب الصحفيون المتحدون ويعود الفضل اليها عرفتني بالأخت الكريمة نجوي حسين صديقتها وكاتمة اسرارها والاخت زهرة العلا والاخت اريج الحاج والاخت امال عوض والاخت الدكتورة ناهد محمد الحسن والدكتورة شيراز عبد الحي بواسطتها تعرفت علي اجيال ونجوم سودانية من مختلف المجالات فقد اضافت لي الكثير من المعارف والمبدعين ورموز المجتمع السوداني
كنت قد تحدثت معها قبيل رحيلها بأسبوع واكدت لي انها بخير بعد ان خرجت من مشفي غسيل الكلي وكانت تسألني عن اخبار السودان ومايدور هناك رغم اني بعيدا الا انها كانت تمني نفسها ان تسمع مني اخبارا تنهي هذه الازمة والدويهية التي المت ببلادنا بعدها افترقنا وودعتها وقالت لي كلمة اخيرة مازالت ترن في اذني مع السلامة يا محمد والعفو
لم أدرك مرامي تلك الكلمة الا بعد ان قرأت نعيها في صفحة الاخت سمية ابوكشوة عند الخامسة صباحا حاولت ان اكذبه وان ادخل لها في الماسنجر ولكن مرة اخري ظهر لي معي اخر وآخر فأيقنت ان محن الزمان حادثة وان لم تصب فكأن غدِ
هذا قليل من الفيض عن صحفية جملت حياتنا بمقالات وافكار باذخة حملت لنا نداوة واخضرارا في زمن جفت في الصدور ورفعت الاقلام فقد كانت صاحبة قلم راعف في بلاط صاحبة الجلالة
لها الرحمة والاخ مصدق الصبر وحسن العزاء والابن خالد ان امضي ولا تلتفت الي الوراء ولزملائها وعارفي فضلها لا اراكم الله مكروه في عزيز لديكم
واقول لصديقاتها نجوى حسين وزهرة العلا واريج وناهد وسائرة صديقاتها ان قلم حليمة الان توقف عن الرعاف وان غراطيسها مطويات بيمن قصرها وان عرش اميرتكم الان أصبح بلاسيف ولا ذهب
رحمة ربي تغشها فقد وهبت حياتها لشعبها وحملت هموم أهلها بجسارة وكبويا ء كانت دينار من الصك القديم
باريس 11/09/2023

ms.

yaseen5@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: فقد کان

إقرأ أيضاً:

في ذكرى جيلي عبد الرحمن

في ذكرى جيلي عبد الرحمن:
كيف حاول أن يعيش هذا الكون وأن ينظر إليه من منظار الوطن؟

بقلم: تاج السر عثمان

1
عاش جيلي حياة مليئة بالحيوية والنشاط، وكان مهموما بقضايا الوطن رغم غربته، وكان مفهوم الوطن عنده يتطور ويتحول مع عمق تجاربه في الحياة.
أذكر ونحن طلبة في المرحلة الثانوية والجامعية كنا نتداول باهتمام دواوين شعره مثل: "السيف والجواد المكسور"، و " قصائد من السودان" الذي أصدره الاشتراك مع الشاعر تاج السر الحسن، الخ.
جيلي معروف في الأوساط السودانية والعربية، ونشر أشعاره على صفحات المطبوعات الدورية في مصر ولبنان والبلدان الأخرى وصدرت في دواوين خاصة معروفة وتحظى بشهرة واسعة، هذا إضافة لنشاطه في النقد الأدبي، وأبحاثه في قضايا الأدب السوداني والعربي، فضلا عن نشاطه الأكاديمي كدكتور في الآداب.
من المهم جمع تراث جيلي عبد الرحمن في الشعر والنثر، وتجميع أبحاثه الأدبية في الأدب السوداني والعربي ونشرها. باعتبار ذلك هو الخطوة الأولى لدراسة ذلك التراث، ودراسة تطور الشعر السوداني والأدب السوداني خلال فترة تاريخية كاملة عاشها جيلي كانت مليئة والإخفاقات والنجاحات و التبدلات والتغيرات، كحلقة من حلقات كثيرة يجب المسك بها لدراسة تطور الأدب السوداني خلال تلك الفترة الممتدة من بداية الخمسينيات وحتى أوائل التسعينيات من القرن العشرين.
2
منذ ان كان طالبا في مصر في مطلع الخمسينيات دخل جيلي عالم الشعر وانخرط في الحياة الثقافية والسياسية، ومعلوم أن تلك الفترة كانت عاصفة، كان فيها الشعبان المصري والسوداني يطالبان بالتخلص من الاستعمار البريطاني، وانخرط جيلي مع الشخصيات الثقافية والكتاب والشعراء التقدميون بدور هام في التحركات المعادية للاستعمار، كما انخرط في حركة أنصار السلام المتصاعدة، يقول جيلي عن تلك الفترة:
" وأذكر التأثير الشديد الذي تركته قصيدة عبد الرحمن الشرقاوي" من أب مصري إلي الرئيس ترومان" على رفاق القلم والقراء الاعتياديين، لقد توجه الشاعر إلي رئيس الإدارة الأميركية آنذاك يطالب بالوقوف إلي جانب أطفال العالم وأمهات العالم في طموحهم إلي العيش في سلام ودون خوف من خطر الحرب، وكيف تجاوب الأدباء بحماسة مع انعقاد مؤتمر باندونغ، وهو حدث تاريخي شكل خطوة كبيرة نحو توطيد تضامن شعوب آسيا وأفريقيا في النضال من أجل السلام وسياسة الحياد الإيجابي".
وعندما وقع انقلاب عبود عام 1958، ناضل جيلي مع غيره من الأدباء التقدميين بسلاح الشعر ضد النظام العسكري الذي صادر الحريات الديمقراطية، بعد أن نال الاستقلال الوطني ، وفرض على الشعب المعونة الأمريكية المقترنة بشتى الشروط، كما ناضل مع غيره ضد ديكتاتورية انقلاب 25 مايو 1969 حتى سقوطها في انتفاضة مارس – ابريل 1985.
كان جيلي يرى أن الفن ولاسيما الفن الشعري يستوعب الواقع بوسائله الجمالية الخاصة، ولكى تولد القصيدة، على الشاعر أن يصوغ تجربته انطباعاته الحياتية بعد أن ينصهر في بوتقة روحه، بحيث ينعكس العالم مجددا في الشعر عبر التعبير والصور والرؤى والأحلام والخيال.
كما كان يرى أنه لايمكن أن نعيش الأنواع الفنية كلها مقياس واحد المسرحية مثلا: أكثر ملموسية وتحديدا من الشعر العاطفي، والشاعر العاطفي يمكن أن يتغزل بجمال المرأة أو زهرة، ويمكن أن يعبر عن لحظة معينة، قد تكون شروق الشمس او غروبها، وليس ثمة موقف مفترض نحشر فيه السياسة حشرا.
3

كان جيلي يرى إن أي ظاهرة إنما هي لحظة انسانية، لحظة تاريخية يحتوى فهمها حتما على جانب فلسفي، ومهما كانت الذرائع الفلسفية التي يلجأ لها دعاة "الفن للفن" سواء اكتسبت صوت النخبوية أو صوت العزلة والتجريد، وأن الحقيقة تبقى حقيقة. أذ أن الإنسان لايستطيع أن يعيش خارج المجتمع. هذا لا يعنى أنني أفترض في الفن موقفا سياسيا مباشرا، ولكن الفن شكل من أشكال الوعي الاجتماعي يعبر بطرائقه الخاصة عن الجوانب الهامة في محيط الإنسان الطبيعي والاجتماعي، وفي هذا التعبير موقف سياسي شئنا أم أبينا.
كان جيلي يكتب في شعره عما يتعين عليه أن يعيشه ويشعر به ، وكان الجنين إلى الوطن الذي اضطر لتركه مبكرا ولفترة طويلة أحد أهم مصادر شعره والتي غذت إبداعه.
من أشكال الحنين إلي الوطن الصغير نذكر قصيدته عبري التي يقول فيها:
أحن اليك يا عبري
حنينا ماج في صدري
ويتشابك الحنين للوطن في شعر جيلي مع حب الناس البسطاء وحياتهم البسيطة، هذا إضافة إلي أن شعره عكس التحولات الاجتماعية التي مرّ بها السودان وغيره من بلدان العالم الثالث ، بإشارته إلي موضوع التناقض بين القرية والمدينة الرأسمالية التي وأن كانت أكثر "تمدنا"، إنما تمزقها تناقضات اجتماعية حادة.
4
ومع تراكم خبرة جيلي الحياتية والسياسية والأدبية أصبح محتوى مؤلفاته الشعرية أكثر تنوعا، وانعكس تنقله الكثير في مختلف أنحاء العالم وزيارته لبلدان كثيرة، انعكس ذلك في شعره وتركت تلك الانطباعات بصماتها على شعره.
يقول جيلي " واليكم مثالا واحدا فقط إن طبيعة ادي النيل التي اعتدت عليها طبيعة بسيطة و هادئة، وتنطوى على شئ من الرتابة، وشهور السنة أو فصولها لا تكاد تختلف لاتكاد تختلف وهي تتعاقب عن بعضها البعض إلا بنزول كمية أكبر أو أقل من المطر، الا بدرجة حرارة أعلى أو أدنى بعض الشئ، ولكن في أماكن أخرى رأيت الطبيعة عظيمة وأحيانا أخرى رهيبة، تعرفت على فصول السنة حيث الخريف الذهبي يعقبه الشتاء الثلجي الذي يليه الربيع الأخضر الدفاق، وأصبحت مرارة فراق الوطن أكثر عمقا وتعقيدا من حيث المحتوى واغتنى التعبير الشعري عنها بألوان جديدة".
يواصل جيلي ويقول: " والشئ نفسه ينطبق على تنوع مظاهر الحياة الاجتماعية التي تعيّن علىّ التعرف عليها في مختلف البلدان ، فحاولت امتصاص هذا الشئ الجديد ممتزجا بتجاربي وذكرياتي القديمة، بالإضافة إلى مساهمتى العملية في معركة شعبي من أجل الحرية والديمقراطية ، وفي أشعاري شئ من حبي وغربتي وحنيني ، وشئ من الحماسة والنضال.الخ، فليس هناك موضوع محتكر أو مجتر أو مكرر، إنما أحاول على قدر طاقتي أن أعيش هذا الكون وأن أعبر عما تجيش به نفسي".
كان جيلي عميقا في كدحه الثقافي، امتلك صوته الشعري الخاص، ولم يكن لديه مثال أعلى ، ولكنه استمد الكثير من الكنوز الفنية للفن العربي المتنوع ، و بالدرجة الأولي من الشعر الكلاسيكي، ومن تراث شعراء الماضي العظام من أمثال: بشار بن برد وأبي نواس وابن الرومي والمتنبي، كما أنه تأثر بالموجة الشعرية الجديدة في العالم العربي التي شهد بعضها في الخمسينيات من القرن العشرين، وكان جيلي من الذين شاركوا في صياغة هذا التيار الذي كان من أبرز ممثليه: عبد الوهاب البياني، بدر شاكر السياب، شوقي بغدادي، والفيتوري. الخ.
كما تأثر جيلي أيضا بالأدب الروسي الذي انفتح أمام العالم العربي بعد الحرب العالمية الثانية والذي كان الأدباء العرب قليلا ما كانوا يعرفون عنه.بالتالي تعرف جيلي مع غيره بعمق أكثر على عوالم دوستوفسكي وتشيخوف وغوركي وماياكوفسكي.الخ، والذين كان أثرهم قويا عليه.
وكتب جيلي في ذلك الحين قصيدة" شوارع المدينة" التي قال عنها النقاد أنها متأثرة بجوركي.
وبعد ذلك عاش جيلي وعمل في الاتحاد السوفيتي وتعلم الروسية ، وقرأ الأدب الروسي والسوفيتي في مصادره الأساسية ، وامتزج بحياة الشعراء السوفيت والروس وساهم في ترجمة الكثير من الشعراء السوفيت أمثال: بوريس باسترناك، و يفغيني يفتوشينكو ورسول حمزتوف وبوريس روتشيوف وغيرهم.
وكان هذا الشعر كما يقول جيلي قد انتقل به نقلة واسعة من ناحية تكوين القصيدة أكثر تركيزا وتخلص من الزوائد والتفاصيل النثرية وبعيدة عن التقريرية والنهايات السعيدة التي كانت سمة لإنتاجه في الخمسينيات. كما تخلص من الفهم السطحي للواقعية من ناحية العلاقة بين الخاص والعام وانصهار هذه العلاقة في القصيدة، كما اغتنت إلي حد كبير وسائله الفنية، وكان في أيامه الأخيرة يلتجئ أكثر فأكثر إلي التراث الثقافي السوداني، وإلي بعض القيم الصوفية الإيجابية من أجل تحقيق درجة جديدة من التعبير.
5
كيف تناول جيلي الوطن والديمقراطية والفن؟
كان جيلي يرى أن كل إنتاج حي يولد في التربة الوطنية بكل سماتها وخصائصها، ولا يمكن أن يكتسب أهمية عالمية شاملة، إلا إذا عبر عن هذه الخصائص بوضوح وعمق يرفعانه إلى مستوى الانساني العام.
كما كان يرى أن عملية التفاعل المتبادل بين الآداب أخذت طابعا عالميا شاملا بالفعل، فلم يعد الفنان قادرا اليوم على الانطلاق في الأطر القومية الضيقة، ولايستطيع أن يتحول أيضا إلي "كوسموبوليتي" وأن يتجاهل الفوارق القومية التي يضيفها الإنسان في مكان معين إلي خريطة الانسانية بكاملها.
كما كان يرى أن الديمقراطية لازمة كالماء والهواء بالنسبة للإنسان والحيوان والنبات لازدهار الفن والشعر السوداني، وأن الشعراء السودانيين يقفون في المقدمة على الأقل للمستوى العربي ، على الرغم من أنهم ليسوا معروفين على نطاق واسع في البلدان العربية الأخرى، وهذا راجع لغياب الديمقراطية وخاصة خلال فترة الـ 16 سنة لنظام نميري الديكتاتوري الذي خنق الفكر الديمقراطي الحر وشجع انتشار الكتابات الرديئة.
ويرى أن ترسيخ الديمقراطية والحوار مع مختلف التيارات الأدبية والنقدية يرسخ ماهو جيد وايجابي وسليم.
للمزيد من التفاصيل ، راجع جيلي عبد الرحمن " احاول أن أعيش هذا الكون"، مجلة قضايا السلم والاشتراكية، أكتوبر 1987).

 

alsirbabo@yahoo.co.uk  

مقالات مشابهة

  • الاستاذ عثمان محمد عثمان وعبير الأمكنة
  • الصحة السودانية: مقتل وإصابة 212 شخصا في هجوم مسلح على سوق أم درمان
  • بالفيديو.. مسؤولون: الهليكوبتر التي تحطمت كانت ضمن وحدة استعداد في حالة هجوم على أمريكا
  • في ذكرى جيلي عبد الرحمن
  • العدل والمساواة السودانية تترحم على شقيق وزير التنمية الاجتماعية
  • ترامب: المروحية العسكرية التي اصطدمت بطائرة الركاب كانت تحلق على ارتفاع عالٍ جدا
  • حليمة ابنة القائد العام لكتائب القسام محمد الضيف تنعى والدها
  • مقال الرزيقي
  • وزارة الصحة السودانية تنعي نقيب الأطباء السابق خالد ياجي
  • مفيدة شيحة تبكي على الهواء : والدتي ظلت تنفق عليا عامين بعد طلاقي