لماذا انتصر توكفيل على ماركس وريموند أرون على سارتر؟
تاريخ النشر: 11th, September 2023 GMT
لماذا إختفت أفكار ماركس في وسط النخب الفرنسية و أصبحت فرنسا توكفيلية؟
طرحنا هذه الأسئلة لأن النخب السودانية حتى غير الشيوعيين يظنون و هم على خطاء فادح أن الفكر الاشتراكي و نظام الحزب الواحد هو أقرب الطرق للتنمية كما ذكر الدكتور منصور خالد.
و بالمناسبة مقولة الدكتور منصور خالد رغم تأخرها تجعله يظل من أكثر السودانيين نباهة و تغيره لوجهة نظره تجعله على أقل تقدير يدرك و لو متأخر بأن الطريق الذي سلكه غير صحيح كما رأينا قوله بأن النخب كانت أيام اللوثة الجماعية تظن أن طريق الاشتراكية و الحزب الواحد هو أقرب الطرق الى خلق التنمية في دول العالم الثالث.
و هنا يظهر لك مجهود قاصري النظر من أتباع الحزب الشيوعي السوداني و هلوستهم عما يعرف بدولة ما بعد الاستعمار و في الحقيقة كلهم يمتاز عليهم الدكتور منصور خالد بأنه إنتبه بأن طريق الاشتراكية و الحزب الواحد ما هو إلا شرعنة لنظم الحكم و أنظمة الشمولية و هي لا تسلك الطريق الصحيح الى تغير المجتمع نحو اقتصاد الرفاة بل تكون أكبر تجمع للريادات الوطنية غير الواعية التي قد أوردت السودان الى موارد الهلاك.
ذكرنا منصور خالد و مقولته الخالدة لأنه يذكرنا بريموند أرون في فرنسا و لكن الفرق بين منصور خالد و ريموند أرون أن الأخير إنتبه منذ زمن مبكر أي منذ عام 1929 و هذا تاريخ بداية الكساد الاقتصادي العظيم أن هناك تمفصل للزمن أي أن فلسفة التاريخ التقليدية قد بدأت أشعة غروبها و ينبغي ترقب أشعة شروق فلسفة التاريخ الحديثة.
و لهذا السبب نجد أرون قد بدأ بحوثه عام 1930 و عندما جاء عام 1955 كان مستعد من ناحية الفكر لمنازلة الفكر الشيوعي و هذا قبل استقلال السودان و في زمن تكاد تكون كل نخب العالم تظن أن الشيوعية نظام فكر متكامل و لا يمكن الانتصار عليه من قبل فكر ليبرالي رميم. و من هنا تظهر عبقرية ريموند أرون في ظل إتفاق شبه كامل من أغلب النخب بأن الشيوعية نظرية متكاملة و لا يمكن تخطيها كما قال سارتر بأن الشيوعية أفق لا يمكن تجاوزه و لكن مع مفكر و فيلسوف مثل ريموند أرون لا شئ مستحيل.
لهذا وصف بأنه أي ريموند أرون بانه كان الأخلاقي الوحيد في مواجهة الأيدويولوجيين. مسيرة ريموند و عبر مجهوده الفكري ترشدنا لشئ مهم أن الشخصيات التاريخية يندر ظهورها و لكنها تستطيع ترجيح الكفة و التغلب على فكر القطيع مثلا أرون في ظل ظروف اعتقاد أن الشيوعية أفق لا يمكن تجاوزه كما قال سارتر لم تسد أمامه أفق التفكير بل كان يدرك أن المهمة التي يجب أن ينجزها مهمة شاقة و هائلة.
كانت جهوده الفكرية واسعة و إنتاجه قد جعله من أكثر النخب الفرنسية إنتاج للمعنى لأنه كما وصف بأنه لم ينخدع بماركسية ماركس و كانت كتبه و منها أفيون المثقفين من أجود ما كتب و هو ملئ بالثقة في أنه لا محالة منتصر و بفضله قد أصبحت فرنسا توكفيلية و قد إختفت فيها ماركسية ماركس. و بالمناسبة إحتلفت فرنسا قبل أيام بمرور ستة عقود على كتابه ماركسية ماركس و أكثر منها في جهده في ثمانية عشر درس في تشريح العلاقة بين الدول الليبرالية و الاتحاد السوفيتي و الاثنين تعتبر دول صناعية.
و عظمة ريموند أرون لأنه كان واحد ضد الكل في زمن كانت أغلب نخب العالم تظن بأن الشيوعية أفق لا يمكن تجاوزه إلا أنه كان كشخصية تاريخية يدرك بأن الأغلبية تقف في صف العقل الجمعي الكاسد و لهذا كان دوره تجاوز هذا الخطاء الفادح و من هنا تظهر عظمة عباقرة الرجال.
إختيارنا لريموند أرون و الكتابة عنه هي محاولة لتوطين فكره في مكتبتنا السودانية التي ما زالت أغلب نخبها منخدعة بفكر أتباع اليسار المتكلس الذي يمثله الحزب الشيوعي السوداني و قد نحجوا الى لحظة كتابة هذا المقال في ترسيخ فكرة أن الفكر الليبرالي فكر رميم مقابل فكر شيوعي سوداني لم يستطع مفكرونه إنتاج المعنى.
و بالمناسبة الكساد الفكري و نتائجه الماثلة في فشل النخب السودانية سببه غياب من يفتح الطريق أمام النخب السودانية و إيقاظها من نومها الدوغمائي العميق و تذكيرها بأن مستوى الفكر المتدني هو الذي يفتح الطريق الى أتباع الحركة الاسلامية السودانية في السودان بألا يتحرجون من الظهور في زمن أصبح فيه أن تكون من أتباع الحركة الاسلامية السودانية عار لا يمحى.
و قلنا قولنا هذا لأن فكر ريموند أرون يفتح الطريق لفكر ينتصر للديمقراطية الليبرالية ذات الصلة العميقة بمواثيق حقوق الإنسان و هي تجسد قيم الجمهورية التي يرفضها الكوز في عدم إيمانه بفكرة الدولة من الأساس كما يرفض الشيوعي السوداني فكرة الدولة من الأساس. لهذا نجد أن الكوز تتمثل دولته في سياجه الدوغمائي و الشيوعي السوداني دولته في حيز حزبه المقدس الذي يظن بأن دور الحزب أن يرفع من ثقافة العمال و الفلاحيين عبر نقابات العمال و إتحاد العمال الى مستوى العمل الثوري و هيهات.
لهذا نجد طرح الحزب الشيوعي السوداني في التغيير الجذري أكبر و أوضح من يفضح لنا كساد الشيوعي السوداني الفقير الى الفكر و بالتالي قد أصبح عملهم في الأونة الأخيرة عمل أخرق و خاصة في إسقاط حكومة حمدوك و قد وضعهم في مستوى واحد مع الكيزان و هم كذلك بسبب تدني مستوى وعيهم و سببه غياب الفكر الليبرالي من ساحتنا السودانية.
و هذا ما أريد الحديث عنه لأنه لا طريق غيره أي الفكر الليبرالي من إنقاذ النخب السودانية من أوهامها و خاصة الكوز و الشيوعي السوداني. الشيوعي السوداني ما زال في إعتقاد ماركس في عدم إيمانه بفكرة الدولة من الأساس و ما الدولة إلا أداة في يد الطبقة المهيمن لتحطيم بقية الطبقات و هذا وهم الشيوعي السوداني في طرحه للتغيير الجذري و لهذا نجد أن الحزب بالنسبة للشيوعي السوداني قد أصبح بديل للدولة و عمله رفع مستوى الثورية وسط العمال و الفلاحيين من أجل ثورة و نهاية تاريخ و غيرها من الاوهام.
و من هنا ننبه لأهمية حديثنا عن فكر توكفيل و ريموند أرون و إنتصاره للفكر الليبرالي و هذا ما سنحاول تناوله و خاصة في حديثه عن فكرة الصراع الطبقي و الفرق الهائل عن فكرة الصراع الطبقي عند الماركسية التي ما زالت الهادية للشيوعي السوداني. و بالمناسبة فكرة الصراع الطبقي عند كل من توكفيل و ريموند أرون تختلف عن فكرة الصراع الطبقي عند ماركس.
و هنا يكمن سبب كتابة هذا المقال لأن تفسير الصراع الطبقي عند توكفيل المنتصر على ماركس يختلف عن الصراع الطبقي عند ماركس و لهذا نجد ريموند أرون في الدروس التي كان يدرسها في جامعة السربون يفسر في دروسه الثمانية عشر و من بينها الصراع الطبقي كيف تسير فكرة الصراع الطبقي في المجتمعات الليبرالية و كيف تظهر في الاتحاد السوفيتي مع ملاحظة مهمة أن الاتحاد السوفيتي مجتمع صناعي مثل مجتمع الغرب الصناعي و كيف فسر ريموند أرون وفقا لفكر توكفيل خطاء ماركس و ماركسيته و فكرته عن الصراع الطبقي و نهاية التاريخ.
و من هنا أطلب من النخب السودانية و من أجل توطين الفكر الليبرالي فهم فكرة الصراع الطبقي عند كل ماركس و إختلافهما هو و توكفيل و هي عند توكفيل أي فكرة توكفيل عن الصراع الطبقي قد إنتصرت على فكرة ماركس و كذلك فكرة ريموند أرون قد إنتصرت على سارتر و هذا مهم جدا لأنه لم نجد له أي أثر في مكتبتنا السودانية.
لذلك نجد أن في جميع أنحاء العالم يحتفل العالم بإنتصار توكفيل على ماركس و ريموند على سارتر إلا في السودان فاذا عرف المثقف السوداني تفسير توكفيل لفكرة الصراع الطبقي يعرف الفرق بينه و ماركس الذي يريد تغيير العالم قبل أن يفهمه كما يقول ريموند أرون أن ماركس يريد تغيير العالم قبل أن يفهمه و هو يصر أن كل الفلاسفة يحاولون تفسير العالم و هويفكر في تغييره.
لهذا نقول للنخب السودانية أنتم تريدون تحول ديمقراطي و لكن عليكم فهم الفكر الليبرالي قبل طرح التغيير و أبسط قاعدة هي أن الديمقراطية ذات علاقة طردية مع الرأسمالية و الماركسية ذات علاقة عكسية مع الرأسمالية و لا يمكننا تحقيق تحول ديمقراطي في السودان بغير توطين الفكر الليبرالي الذي يفتح على الديمقراطية الليبرالية التي تؤمن و تفترض بأن الفرد أخلاقي و عقلاني و تسوقه معادلة الحرية و العدالة.
و هذا يطلب من النخب السودانيةعلى أقل تقدير فهم فلسفة التاريخ الحديثة و فهم التحول الهائل في المفاهيم على أقل تقدير في سير القرن الأخير من تجربة البشرية فيما يتعلق على صعد السياسة و الاقتصاد و الاجتماع. هذا ما إنتبه له ريموند أرون أي أن ماركسية ماركس و علم اجتماع دوركهايم و وضعية أوجست كونت و أستاذه سان سايمون قد ألغت أهم بعد و هي تضع علم الاجتماع في مرتبة أعلى من السياسة و الفلسفة السياسية و هذا بالضبط ما تعاني منه النخب السودانية و هذا ما أريد نقله و توطينه في الساحة السودانية و لهذ كان حديثنا على الدوام عن علم اجتماع ماكس فيبر و قد فضله ريموند أرون على الفلاسفة المذكوريين أعلاءه.
هذا ما حاوله ريموند أرون في مقارنته بين مجتمعيين صناعيين الاتحاد السوفيت و دول الليبرالية في أوروبا الغربية و كيف كان دور النخب في تفسير فكرة الصراع الطبقي في المجتمعات الليبرالية حيث أصبحت فكرة أن الطبقة الوسطى تتوسع في الدول الليبرالية و يقل الفقر و بالتالي تسير بإتجاه التقارب الطبقي و التضامن بين الطبقات و عليه يكون التصالح بين الطبقات عكس ما يزعمه ماركس بأن الرأسمالية بسبب الإستغلال للطبقات الفقيرة تزيد مساحة الفقر و بالتالي يصل المجتمع الى مرحلة الثورة التي تقضي على الرأسمالية و يتوج التاريج بدكتاتورية البروليتاريا. إلا أننا نجد أن التاريخ قد توج بتاريخ الليبرالية الذي لا يتوج بهاية و هذا عكس ما كان يسعى إليه ماركس في فكر لاهوتي ديني غائي.
المهم في الأمر محاولتنا لتوطين أفكار توكفيل و ريموند أرون هي محاولة قد سبقتها محاولتنا توطين فكر مدرسة الحوليات الفرنسية في مكتبتنا السودانية لأن المكتبة السودانية ترزح تحت بحوث مؤرخ سوداني تقليدي ما زال أسير الوثيقة المقدسة و أسير المنهجية التاريخية التي قد رفضتها مدرسة الحوليات كما رفض ريموند أرون الوضعية.
و بالتالي نجده أي ريموند أرون قد فضل علم اجتماع ماكس فيبر على علم إجتماع دوركهايم و نتمنى من النخب السودانية تجاوز المؤرخ التقليدي في وثيقته المقدسة كما نجده في بحوث محمد ابراهيم ابوسليم في وثائق المهدية و نجد يوسف فضل كمؤرخ تقليدي يحاول تلاميذه بصورة بائسة إلحاقه بهامش مدرسة الحوليات و حتى تلاميذه الذين يحاولون إلحاقه بهامش مدرسة الحوليات تفضحهم بحوثهم طيلة الأربعة عقود الأخيرة و تدل جهودهم و بحوثهم على أنهم مؤرخيين تقليديين و لا علاقة لهم بمدرسة الحوليات الفرنسية.
و أقصد بالتحديد أحمد ابراهيم أبوشوك في محاولته إلحاق يوسف فضل بمدرسة الحوليات إلا أن بحوثه خلال الثلاثة عقود الأخيرة لا توافقه الرأي في علاقة مزعومة له بمدرسة الحوليات الفرنسية لأن من المتأثرين بمدرسة الحوليات الفرنسية مثل محمد أركون لا تشبه بحوثه و كتاباته بحوث و كتابات أحمد ابراهيم ابوشوك كمؤرخ سوداني تقليدي و لا تشبه كتابات يوسف فضل و بقية المؤرخيين التقليديين السودانيين.
و ذكرنا المؤرخيين هنا لأن ريموند أرون كان مؤرخ و فيلسوف و عالم اجتماع و اقتصادي لذلك جاءت بحوثه متكاملة عندما جاء بفكر توكفيل من قلب النسيان و بالمناسبة عندما حاول ريموند أرون مكافحة ماركسية ماركس كان في ذلك الوقت قليل من النخب الفرنسية من كان ملم بفلسفة و أفكار توكفيل و من هنا تأتي أهمية المؤرخ غير التقليدي الذي يخدم توطين الفكر الليبرالي في السوداني كما فعل ريموند كمؤرخ و جاء بفكر توكفيل بعد معرفته بأن فلسفة التاريخ التقليدية قد أفلت و أن الليبرالية التقليدية قد غادرت لتحل محلها الليبرالية الحديثة التي لا نجد أفكارها في كتابات كل من أحمد ابراهيم أبوشوك و يوسف فضل كمؤرخيين تقلديين.
taheromer86@yahoo.com
/////////////////////
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الشیوعی السودانی فی السودان منصور خالد من هنا لا یمکن هذا ما عن فکر
إقرأ أيضاً:
الذاكرة السودانية: أحمد عبد الرحمن .. شتلة محنة مثال
أحمد عبد الرحمن .. شتلة محنة مثال
محمد الشيخ حسين
ارتبط الراحل أحمد عبد الرحمن محمد بحركة الإسلام السياسي في السودان منذ كانت جنيناً لم ير النور أو أملاً يلوح في الأفق، حين طلب طلاب سودانيون في مصر من مؤسس جماعة الاخوان المسلمين الإمام حسن البنا فى العام 1943، نشر الفكرة في السودان.
وبالفعل بعث البنا وفداً من جماعته إلى السودان برئاسة الطالب السودانى جمال الدين السنهوري، بهدف دراسة الوضع وفق تصور فحواه أن (جماعة الإخوان المسلمين أول دعوة تجديدية شاملة في التاريخ المعاصر). ومنذ ذلك الوقت وحتى لحظة انتقال روحه الطاهرة إلى باريها في القاهرة في اليوم العاشر من شهر فبراير 2025، ظل أحمد عبد الرحمن وفياً للفكرة التي آمن بها وللحركة التي ارتبط بها وللمبادئ التي عمل من أجلها.
بربر الخلوة
تقع مدينة بربر على ضفة نهر النيل الشرقية، وهي مدينة قديمة جداً، يعود تاريخها إلي العصر المروي. وكانت في عهد السلطنة الزرقاء معبراً لقوافل الحجيج من وإلى الأراضي المقدسة بالحجاز. واشتهرت حسب شهادة الرحالة السويسري يوهان بوركهارت الذي زارها عام 1813 بكثرة الخلاوي، حيث كان الكثير من الأسر في بربر يرسلون أبناءهم إليها لحفظ القرآن الكريم وتلقي دروس الفقه. وقد عرفت بربر نهضة تعليمية منذ القرن السادس عشر الميلادي، وكانت مقصد طلبة العلم من مختلف أرجاء السودان.
وينتمي إليها عدد كبير من علماء ومشاهير أهل السودان الذين ولدوا في بربر المدينة وشغلوا مناصب ومراكز متقدمة في الدولة والمجتمع، كان من بينهم أحمد عبد الرحمن.
عندما نرحل مع أحمد عبد الرحمن محمد إلى أقصى نقطة في الذاكرة، نعلم أنه ولد في بربر في العام 1933، من والد ينتمي إلى العبابدة من آل غندور الذين يقيمون في كوم أمبو في صعيد مصر، لكن الطقس السياسي الذي عاش فيه والده عبد الرحمن محمد أجبره على إخفاء هذا الجانب من النسب.
أما والدته سعدية محمد إبراهيم موسى، فهي من أسرة عريقة جدا من الركابية، وتنحدر من آل موسى الذين جاء ذكرهم في قصيدة التمساح لحاج الماحي حين قال (يا الزرق أولاد حاج موسى يالكمل ما فيكم دوسة. البلد الكانت محروسة حجر العوم والناس محبوسة).
قطع أحمد عبد الرحمن رحلة تعليمة عبر أربع مدن مختلفة، فأتاح له ذلك معايشة نماذج مختلفة من الناس، والتعرف على أنماط متعددة من العادات والتقاليد، والوقوف على ألوان متباينة من القيم والمثل. دخل الخلوة طفلا صغيرا، ثم التحق بكُتاب بربر التي حظي فيها بأساتذة أجلاء يهتمون بالطلاب والتدريس منهم: أحمد الأمين الغبشاوي، محي الدين راشد، والناظر عبد الواحد إبراهيم.
طبيعة عمل والد أحمد عبد الرحمن في سكك حديد السودان جعلته كثير التنقل بين المحطات والسندات. ولذا انتقل أحمد عبد الرحمن مع خاله الدكتور إبراهيم الصاوي إبراهيم موسي المحامي إلى أم درمان، حيث درس الصف الثاني بمدرسة العباسية.
بدايات الوعي السياسي
رغم أن السكن في حي بيت المال في أمدرمان كانت نقلة كبيرة جدا في حياة أحمد عبد الرحمن الاجتماعية، إلا أنها لم تستمر طويلا، إذ سرعان ما نقل خاله إلى مدرسة مدني الوسطى التي تعرف فيها على طلاب آخرين كان أبرز هؤلاء الطلاب الرئيس الراحل جعفر محمد نميري، وسبب العلاقة أن الأستاذ الصائم خال أحمد كان المشرف الرياضي على النشاط.
وفيما تمثلت نقلة أم درمان في حياة أحمد عبد الرحمن في توفير الرعاية الصحية والكشف الشهري الصحي على الطلاب والاهتمام الكبير بالتعليم، والتعرف على مجتمع العاصمة، قادته نقلة مدني إلى الاهتمام بالرياضة والشغف بالسباحة والتنس.
غير أن مدني شهدت بداية الوعي السياسي لأحمد عبد الرحمن، ببروز اهتمام الطلاب بالعمل الوطني، حيث شاهد وشارك وهو في سن صغيرة في النشاط الأولى لمؤتمر الخريجين. وكان نجم تلك الأحداث التي وقعت في العام 1942، بلا منازع هو الأستاذ أحمد خير المحامي
ويتذكر أحمد عبد الرحمن، أنهم كانوا يقومون بحفظ وترديد الأناشيد مثل (إلى العلا).
وفي مدني تعرف على عدد كبير من الناشطين في تلك الفترة السابقة لتكوين الأحزاب السياسية، منهم: أحمد خير، مصطفى الصاوي، إبراهيم الكاشف، وعبد الحميد يوسف.
العودة لبربر
كانت لمدينة مدني حيوية خاصة في حياة أحمد عبد الرحمن، فقد كان يتم إرسالهم كطلبة لحصاد القطن، وكان يجد متعة ولذة في الذهاب للحواشات والجلوس وسط المزراعين. لكن هذه الحيوية لم تستمر طويلا، إذ اضطر في أخر سنة من المرحلة الأولية للرجوع لبربر، لأن خاله الصايم كان قد هرب إلى القاهرة لدراسة القانون، لأن المستعمر كان لا يسمح بدراسته، و هنا يجدر الذكر أن الدكتور إبراهيم الصاوي إبراهيم موسي، هو أول من عمل بالمحاماة في السودان. وقد دخل أحمد عبد الرحمن ضمن أول دفعة قبلت بمدرسة بربر الوسطى، وكان ناظر المدرسة الأستاذ هاشم الكمالي الذي خصه بمعاملة خاصة بعد برقية خاله لناظر المدرسة حتى يهتم بتعليمه.
وكانت الجمعية الأدبية ذات طابع سياسي، لأن تفاعل الطلاب كان كبيراً مع قضايا الحركة الوطنية، خاصة بعد تعيين شيخ الدين جبريل مديرا لمدرسة بربر خلفاً لهاشم الكمالي.
قضى أربع سنوات في بربر الوسطى، ولوحظ وسط الأساتذة والطلاب أن الوعي السياسي لأحمد عبد الرحمن كان أكثر من زملائه الذين كان بينهم المرحوم أحمد عبد الرحمن الشيخ، السفير عبد الماجد الأحمدي، والسفير حسن المصباح.
شتلة محنة
عاد أحمد عبد الرحمن لأم درمان في عام 1949م حين قبل بمدرسة أم درمان الأهلية الثانوية. وكان يسكن مع جده ببيت المال جوار سوق الشجرة. وبعد أن غادر جده إلى شندي التي جاء منها. انتقل أحمد عبد الرحمن للإقامة مع عمه (بحي المظاهر) وكان حياً جديداً و كانت مدرسة أم درمان الأهلية ذات نشاط سياسي كبير في ذلك الوقت.
كانت مدرسة أم درمان الأهلية تعج بالنشاط السياسي بحكم أنها كانت مركزا لاتحاد الطلاب ووقتها كان يوجد المؤتمر الطلابي وكانت واجهة يسيطر عليها اليسار، إلى أن طرحت الحركة الإسلامية موضوع إنشاء الاتحاد العام للطلاب السودانيين الذي سحب به البساط من اليسار وتعرى تماما. وكان أحمد عبد الرحمن وزملاؤه قد انضموا للاتحاد العام للطلاب السودانيين باعتبارهم إسلاميين في العام 1951.
وكانت هذه بداية لخلية تشكلت بقناعة من القيادات، وكانت الأدبيات تأتي من مصر وتأثرت بكتب حسن البنا، ومحمد قطب، فيما كانت الجمعية الدينية هي المظلة التي تشتغل بها الحركة الإسلامية.
مواجهات كبيرة
دخل أحمد عبد الرحمن جامعة الخرطوم في منتصف الخمسينيات، وتميزت تلك الفترة بمواجهات كبيرة جداً لحركة الإخوان في مصر، وكان هناك موقف مؤيد من الحركة الإسلامية في السودان، فيما كانت الجمعية التأسيسية الأولى متجاوبة مع الأحداث في السودان، وهذا أثر في الاستقلال.
أما تأثير تلك الأحداث في مصر على استقلال السودان فتفسيره عند أحمد عبد الرحمن أن (الرأي العام السوداني أصبح ماعندو شهية للعلاقة مع مصر).
يضاف إلى ذلك التفسير أن الصراع كان محتدما جدا مع الحزب الشيوعي الذي وقف ضد اتفاقية 1953 التي مهدت لاستقلال السودان باعتبار أن هذا ليس هو الطريق، والطريق في رأيهم هو العمل السياسي مع مصر، بجانب التشكيك الشديد في منبر جامعة الخرطوم
الشاهد عند أحمد عبد الرحمن أن طلاب الحركة الإسلامية لعبوا دوراً في التهدئة باعتبار أن الصراع مع اليسار لا يوصل لنتيجة، وبدا هناك رشد وسط الطلاب قاده المرحوم دفع الله الحاج يوسف رئيس الاتحاد آنذاك. وبادرت قيادات من الحركة الإسلامية واليسار بتهدئة الأحوال.
ملامح السيرة
تخرج الراحل احمد عبد الرحمن في جامعة الخرطوم ويحمل درجة الماجستير في العلوم الإدارية من دولة هولندا. وبدأ حياته العملية ضابطاً إدارياً، وكان من مؤسسي معهد الإدارة العامة في السعودية. وعندما تقدم باستقالته من العمل في معهد الإدارة حرر خطاباً يعتبر نموذجاً في الوطنية حين برر الاستقالة لتلبية نداء الوطن والعمل في إطار المصالحة الوطنية في العام 1978. هذه الرسالة أوردها الشيخ عبد المحسن عبد العزيز التويجري المستشار في الديوان الملكي السعودي في كتابه القيم (رسائل خفت عليها من الضياع).
كان أحمد عبد الرحمن مقررا للجنة المصالحة الوطنية والتعويضات وعضو مجلس الشعب ووزير الشؤون الداخلية ووزير الرعاية الإجتماعية في عهد الرئيس جعفر نميري، ثم أصبح رئيسا للجنة الحكم الإتحادي بالمجلس الإنتقالي للمجلس الوطني.
وشغل الشيخ أحمد عبد الرحمن منصب الأمين العام لمجلس الصداقة الشعبية ثم رئيسا لمجلس إدارة جامعة السودان العالمية ورئيسا للجنة القومية للتوعية بمخاطر التبغ.
ويعتبر الشيخ أحمد عبد الرحمن رجل دولة من الطراز الأول وسياسياً بارعاً يجتمع عنده الخصوم وتلتئم بحكمته الجروح والشروخ ويرقد علي مستودع هائل من أرصدة العمل السياسي والوطني والمجتمعي.
الخبرة السياسية
خبرة أحمد عبد الرحمن السياسية تجعله يبتعد عن المناخات التي صاحبت حدوث المفاصلة بين الإسلاميين، و تقوده هذه الخبرة إلى الاستناج أن الانشقاقات التي حدثت في الأحزاب السودانية قد نالت منها، وأدى ذلك من زمن بعيد إلى شخصنة السلطة والركوض خلفها دون استصحاب برامج تقنع الشعب الذي يتوق للحكمة في إدارة شأنه.
وشهادة أحمد عبد الرحمن عن المفاصلة بين الإسلاميين لا تقلل من الأثر السلبي للخلافات، ولكنه يعتقد أن الخلافات عادية جداً. فإذا كان صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، لم ينجوا من الخلافات، فمن الطبيعي أن يحدث ذلك في الحركة الإسلامية، لكنه على يقين أنها فتنة سلطة ولا توجد خلافات موضوعية على أساس قضايا فكرية. ويصل إلى أن خلافات الإسلاميين تجاوزت المألوف، لأن الأحزاب والطوائف في السودان كلها اختلفت، ولكنها لم تكن بالحدة التي شهدها انشقاق الحركة الإسلامية. ويبدي أسفا فحواه أن الخلاف كان طابعه خلافاً شخصياً.
تصور الحركة الإسلاميَّة للشريعة الإسلامية أنها (منهج حياة)، لكن قناعة أحمد عبد الرحمن أن الحركة الإسلامية لم تأت بالشريعة للشعب السوداني بل وجدتها متجذرة فيه.
اللقاء التاريخي
من خفايا خبرة أحمد عبد الرحمن السياسية ذلك اللقاء التاريخي في منزله بين الدكتور حسن الترابي والأستاذ علي عثمان محمد طه، وقد تم هذا اللقاء قبل وفاة الدكتور الترابي بفترة قليلة.
وللحقيقة والتاريخ يقول أحمد عبد الرحمن إن (الترابي كان كالعادة متجلياً جداً في ذاك الاجتماع ولم يقف عند محطة الماضي كثيراً ولذلك تركز حديثه حول المستقبل والمهددات وحول وحدة السودان). وأضاف الترابي أنه (يخشى وهم أحياء أو أموات أن يتشظى السودان، بل وسيكون أفظع من الصومال إن لم نتدارك ذلك، لأن القبائل جميعها في السودان عربية وغيرها توفر لها السلاح وتوافرت فرص تدريب من بؤر الصراع التي من حولها، ولذلك لابد من أن يكون الأمن هو في مقدمة الأولويات).
ويتفق أحمد عبد الرحمن تماما مع حديث الترابي. ويضيف إليه أن (مكمن تخوفه ايضاً هو على الحركة الإسلامية والتي هي مواجهة الآن سواء كان في الشعبي أو الوطني وبالتالي ليست لديها أي خيار سوى لم الشمل حتى تستطيع أن تواصل المسيرة، وتمنى الترابي في حديثه أن يأتي من يحقق هذه الغاية.
وحديثه كأنما هو قد استشعر بأنه مفارق لهذه الحياة، وهو يعتقد أن هذه هي اللبنة الأولى في الإصلاح وجمع الصف الإسلامي الحركي بشقيه لتأتي الخطوة الثانية والتي هي أهل القبلة والثالثة الوطن كله).
يأتي رحيل الأستاذ أحمد عبد الرحمن محمد المر متزامنا مع عبثية الزمن السياسي السوداني، حيث تعلو المصالح الذاتية للأشخاص فوق كل الاعتبارات، وأيضا فوق كل القوانين. وهكذا تفتقد بلادنا الحكماء والنبلاء وأسياد الكلمة النجيضة. ألف رحمة ونور تنزل على قبره وأحسن الله العزاء لأسرته الصغيرة والكبيرة والممتدة ولأصاقائه ومحبيه وعارفي فضله.
إنضم لقناة النيلين على واتساب