ثمة عوامل كثيرة تؤثر على قدرة الدولة على البقاء، إلا أن الأمر الرئيسي هو قدرة الشعب على مقاومة الضغوط، وقدرة النخبة على تجنب هذه الضغوط.

وأعني بالضغوط في البيئة الراهنة الانخفاض الحاد في مستويات المعيشة.

سيؤدي الانهيار المتوقع لهرم الديون العالمي إلى إعادة تشكيل جميع تدفقات السلع ورؤوس الأموال، وسيتم معادلة جميع الاختلالات، بما فيها الاختلالات في التجارة الخارجية.

فالبلدان التي تستهلك حاليا أكثر مما تربح، والتي تستورد أكثر مما تصدر، سوف تخفّض وارداتها إلى قيم تساوي صادراتها، فيما ستكون المرحلة التالية هي التضخم المفرط بسبب نقص السلع، ما يعني زعزعة الاستقرار السياسي مع عواقب لا يمكن التنبؤ بها.

إقرأ المزيد لقاء بوتين وأردوغان: نهاية سياسة المناورات؟

باختصار، ولمعرفة مدى صعوبة الأمر بالنسبة لبلد ما أثناء الأزمة، لا تحتاج إلى النظر حتى إلى نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي (فالأذكى والأشجع سيرفض سداد الديون)، ولكن إلى مؤشرات التجارة الخارجية أو رصيد الحساب الجاري (التجاري + ميزان المدفوعات). ويهدد الخطر الدول ذات رصيد الحساب الجاري بالسالب.

من بين الدول العربية، شهدت الدول التالية أرصدة حسابات جارية سلبية أكثر من السنوات الإيجابية منذ عام 2000 حتى يومنا هذا:

مصر، المغرب، سوريا؟ (الإحصائيات غير مكتملة، قبل أزمة 2008 كان الميزان إيجابيا)، السودان، تونس، الأردن، لبنان، اليمن، فلسطين، موريتانيا.

كما تضم القائمة السوداء أيضا اقتصادات كبيرة مثل الهند وفرنسا وإيطاليا وتركيا والمكسيك وكندا وأستراليا وإسبانيا وجنوب إفريقيا والبرازيل وباكستان.

كما تدرج كذلك الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا في هذه القائمة، علاوة على أنهما الأسوأ على الإطلاق، فمنذ عام 2000، شأنهما في ذلك شأن لبنان، لم تشهدا عاما واحدا بميزان إيجابي.

وعلى الرغم من كل الأحاديث الدائرة عن أننا نرى في الغرب النظام التكنولوجي القادم الأكثر تقدما، حيث حلت الخدمات محل التصنيع، وتهيمن على الإنتاج، إلا أن تلك الخطوة، في واقع الأمر هي خطوة لأسفل، لا لأعلى.

فاقتصاد الخدمات يتجه نحو الداخل، وكلما كان اقتصاد الدولة هو اقتصاد خدمات، كلما زاد احتمال أن يكون لدى البلاد رصيد حساب جار سلبي، وستحتاج إلى جهات مانحة خارجية. في حين أن الاقتصاد القائم على إنتاج السلع الأساسية والصناعة والزراعة جزئيا يميل إلى التصدير، ويكون ميزان الحساب الجاري، في كثير من الأحيان، إيجابيا.

واسمحوا لي بالتأكيد مرة أخرى على أن هذه المؤشرات لا تعكس مستوى المعيشة، بقدر ما تعكس مدى قدرة الاقتصاد والبلد على البقاء خلال الأزمة. وذلك مع الوضع في الاعتبار أن هذا ليس المؤشر الوحيد الضروري للمرور بالأزمة، ومع ضعف التنويع الاقتصادي ونقص الغذاء، فإن الميزان الإيجابي هو الآخر قد لا ينقذ.

إقرأ المزيد بوتين وشي جين بينغ يدفنان مجموعة العشرين

ولتوضيح فكرتي، سأذكر روسيا، وهي بأي حال من الأحوال ليست أغنى دولة، إلا أن رصيد حسابها الجاري كان إيجابيا في كل السنوات دون استثناء، من عام 2000 وحتى اليوم. لذلك، لم أتفاجأ شخصيا بقوتها الهائلة في البقاء ومقاومة العقوبات الاقتصادية الغربية.

وفي الغالبية العظمى من الحالات، تحدث الفجوة في ميزان المدفوعات بسبب استيراد المواد الخام، وفي مقدمتها وقبل كل شيء، موارد الطاقة.

وهنا بالمناسبة، دعونا نلقي نظرة جديدة على "الطاقة الخضراء" في الغرب، باعتبارها محاولة لتحسين قدرة الغرب على البقاء بشكل جذري من خلال التخلي عن واردات الطاقة وتحسين ميزانه التجاري.

والآن دعونا نعود إلى مجموعة الدول العشرين G20 و"بريكس".

في الجدول التالي سنجد على اليمين البلدان الأعضاء في G20 التي ظل رصيد حسابها الجاري سلبيا لأكثر من نصف السنوات منذ عام 2000. وعلى اليمين البلدان التي تتمتع بميزان إيجابي طويل الأجل.

مجموعة الدول العشرين G20 بدون روسيا والصين، وبين القوسين مؤشرات الحساب الجاري لعام 2022 (مليار دولار).

worldbank.org

إجمالي الرصيد السلبي لمجموعة الدول العشرين G20 في عام 2022، إذا استثنينا روسيا والصين يبلغ 888.1 مليار دولار.

(المصدر: البنك الدولي)

ولا آخذ في الاعتبار هنا ميزان الاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي بوصفهما عضوين جماعيين في المجموعة.

وإذا ما تحولت بقايا مجموعة العشرين إلى كتلة تقودها الولايات المتحدة، فإن احتمالات البقاء الجماعي لهذه الدول ستكون أقل من الصفر.

والآن لنأخذ "بريكس":

worldbank.org

إجمالي رصيد الحساب الجاري الإيجابي لمجموعة "بريكس" لعام 2022 يبلغ 690.5 مليار دولار.

إن الفرق بين مجموعة الدول العشرين ومجموعة "بريكس" واضح. فأولا، يوجد في مجموعة العشرين عدد أكبر بكثير من "مصاصي الدماء التجاريين" من ذوي الرصيد السلبي مقارنة بالمانحين، بمعنى أن المنظمة ليست مكتفية ذاتيا. لذلك، فهي غير قادرة ماديا على دعم أعضائها في حالة حدوث انهيار اقتصادي عالمي، ولن تكون هناك موارد كافية حتى لو استنزفت الجهات المانحة.

إقرأ المزيد ما الحاجة إلى "بريكس"؟ وهل تشكل تهديدا للولايات المتحدة؟

ثانيا، وهو الأهم، فإن أكبر مصاصي الدماء في مجموعة العشرين هم القادة، الأنغلوساكسونيين، الذين لا زالوا يمتصون الموارد من الشركاء المانحين الصغار، في حين أن دماء هؤلاء لا تكفي حتى للقادة أنفسهم، ناهيك عن الشركاء الصغار الآخرين مثل البرازيل أو الأرجنتين.

أما في دول "بريكس" فإن الوضع هو العكس، فالصين (+401.9) وروسيا (+233) من الدول المانحة، وسيكون إجمالي الموارد للدول الأعضاء كافيا لعدد أكبر بكثير من البلدان المدرجة حاليا في المنظمة. وبطبيعة الحال، لا بد أن يكون لدى الجهات المانحة مصلحة سياسية في دعم الأعضاء الآخرين، وهو ما يعني ضمنا، على الأقل، مصالح مشتركة مهمة أو حتى تحالفات.

وليس من قبيل الصدفة أن تكون الهند أكبر مشتر للنفط الروسي، وفي الأشهر الأخيرة شهدت صادرات المنتجات النفطية الروسية إلى البرازيل نموا سريعا. وليس ذلك موقفا سياسيا بقدر ما هو مصلحة اقتصادية، حيث تبيع روسيا السلع بسعر مخفض، باعتبارها الجهة المانحة للمساعدات لهذه الدول، التي في المقابل تتجاهل العقوبات الغربية المفروضة على روسيا. والمنفعة المتبادلة هي الأساس الأكثر موثوقية للتعاون.

إقرأ المزيد على محمد بن سلمان أن يقرر ما إذا سيكون لـ "أوبك+" جيشها الخاص

والآن، فيما يخص المملكة العربية السعودية، التي كانت لسنوات عديدة البقرة الحلوب للأنغلوساكسونيين، وفقا للمخطط الموصوف أعلاه، حيث دعمت عجز الحساب الجاري الأمريكي والبريطاني بفائضها. ولا يعني ذلك أنها لم تتلق أي شيء في المقابل. إلا أن شهية الأنغلوساكسونيين، كما أوضحت في الجدول، أو بالأحرى جوعهم، وصل إلى أبعاد فلكية، والولايات المتحدة الأمريكية تحتاج إلى المزيد والمزيد، ولم تعد المملكة العربية السعودية قادرة على التنازل عن الكثير دون عواقب سياسية داخلية خطيرة. بل إن المملكة ولو حتى قدمت كل شيء للولايات المتحدة، فلن تغطي عجزها، لأن أمريكا محكوم عليها بتدهور مستويات المعيشة وزعزعة الاستقرار السياسي، ولن تكون التضحيات السعودية مبررة. وكل الشعارات على غرار "لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى"، والحرب الأهلية الباردة في الولايات المتحدة هي أعراض مرض فتاك، وطريق مسدود. وكانت القشة الأخيرة التي قصمت ظهر البعير التضخم المرتفع في الدولار، الذي بدأ يبخر الاستثمارات السعودية في الولايات المتحدة. بعدها، بدأ السعوديون في سحب الأموال من السندات الأمريكية.

لهذا فمن الأفضل الهروب من الأزمة مع شريك مكتف ذاتيا، أو الأفضل من ذلك، مع من يمكنه مساعدتك. وهذا هو سر رغبة عدد كبير من الدول في الانضمام إلى "بريكس"، رغم أن أحدا لا يفهم حتى الآن نوع هذه المنظمة. إلا أن الشيء الرئيسي هو أن الجميع يرى أن مجموعة العشرين تضم مصاصي دماء، وأن مجموعة "بريكس" تضم مانحين.

المحلل السياسي/ ألكسندر نازاروف

رابط قناة "تليغرام" الخاصة بالكاتب.

المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتب

المصدر: RT Arabic

كلمات دلالية: كورونا مصر المغرب سوريا السودان تونس الأردن لبنان اليمن فلسطين موريتانيا الهند فرنسا تركيا المكسيك كندا أستراليا إسبانيا جنوب إفريقيا البرازيل باكستان الولايات المتحدة الأمريكية بريطانيا روسيا مجموعة الدول العشرين G20 بريكس ألكسندر نازاروف ألكسندر نازاروف بريكس شي جين بينغ عقوبات اقتصادية عقوبات ضد روسيا فلاديمير بوتين مؤشرات اقتصادية مجموعة العشرين محمد بن سلمان مجموعة الدول العشرین الولایات المتحدة مجموعة العشرین الحساب الجاری إقرأ المزید عام 2000 إلا أن

إقرأ أيضاً:

ماذا يعني حصول سيتي بنك الأمريكي على رخصة تأسيس مكتب في السعودية؟

حصل بنك سيتي جروب الأمريكي على الموافقة لتأسيس مكتبه الإقليمي في العاصمة السعودية الرياض، ضمن مساعي السعودية لجذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية وتوسيع قاعدة الشركات العالمية العاملة في المملكة.

وأصدرت المملكة مؤخرًا حزمة من القوانين التي تُلزم الشركات الأجنبية بفتح مكاتب إقليمية داخل السعودية إذا كانت ترغب في الحفاظ على العقود الحكومية المربحة.

وفي حال عدم الامتثال، قد تواجه الشركات فقدان الفرص التي قد تصل قيمتها إلى مئات المليارات من الدولارات.

ويأتي هذا القرار في وقت حساس حيث تسعى السعودية إلى تعزيز مكانتها كمركز اقتصادي عالمي في الشرق الأوسط.


ويعد بنك سيتي جروب، أحد أكبر البنوك الأمريكية وأشهرها في وول ستريت، ويمثل علامة فارقة في هذا المسعى، إذ حصل على الموافقة من وزارة الاستثمار السعودية لفتح مكتبه الإقليمي في الرياض.

وأعرب الرئيس التنفيذي لسيتي جروب – السعودية فهد الدويش، في المذكرة عن سعادته بهذا الإنجاز، موضحًا أنه يمثل "قفزة كبيرة لفرعنا في السعودية"، مؤكدًا في الوقت ذاته أنهم يتطلعون إلى الاستمرار في النمو في المملكة.

وتأسيس سيتي جروب لمكتبه الإقليمي في الرياض يأتي في وقت يتزايد فيه عدد الشركات العالمية التي تتخذ من السعودية مركزًا إقليميًا لها، وقد سبق وأن حصلت شركة جولدمان ساكس على رخصة مماثلة في أيار/ مايو الماضي لإنشاء مقرها الإقليمي في الرياض.

وتُعتبر هذه الخطوات جزءًا من التوجه العام الذي يهدف إلى تعزيز الاقتصاد السعودي وجذب المزيد من الاستثمارات، بالإضافة إلى توفير فرص عمل وتحفيز الابتكار المحلي.

مقالات مشابهة

  • ليبيا تشارك في «منتدى التنمية الصيني العربي»
  • السعودية.. الأمن العام يعلن القبض على مواطن ويمنيين في الرياض ويكشف السبب
  • مسئول أمريكي يحذر الدول التي ستحاول اعتقال نتنياهو
  • اتهام مندوب السعودية بالتلاعب في نصوص مفاوضات كوب 29
  • مطار مرسى علم يستقبل 25 ألف سائح خلال الأسبوع الجاري
  • مدحت العدل: مساندة المقاومة الفلسطينية واجب أخلاقي وديني.. ولهذا السبب مصر مستهدفة
  • ماذا يعني حصول سيتي بنك الأمريكي على رخصة تأسيس مكتب في السعودية؟
  • خلال مؤتمر قصر القامة بالبرتغال.. "الأغا" يستعرض الخبرة السعودية لهرمون "النمو الأسبوعي"
  • إيران تقدم طلب انضمام إلى بنك مجموعة بريكس
  • مشاركة السيسي في قمة مجموعة العشرين بالبرازيل تتصدر نشاط الرئيس الأسبوعي