رسالة إلى القيادة الصينية
تاريخ النشر: 11th, September 2023 GMT
رسالة إلى القيادة الصينية
يجب أن تقال كل الحقائق للقيادة الصينية ولا يمنع ذلك اعتبارها صديقة أو إقامة علاقات تعاون اقتصادية معها أو الوقوف ضد أمريكا في صراعها مع الصين.
شراء الصين لشركة تعنى بالاستيطان، والموقف من المقاومة الفلسطينية، ومن الدولة القومية اليهودية، يشكل كارثة، ويخالف القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة.
إذا كانت الصين لأسباب تخصها لا تقبل بالطرح الفلسطيني، فهذا لا يمنع أن تقوم علاقات صداقة وتعاون بين الصين وشعب فلسطين، والشعوب العربية والإسلامية.
تاريخ الصين مع قضية فلسطين مرّ بمرحلة صداقة حميمة، تأييداً للقضية ودعماً للمقاومة، وكان موقفها الأفضل عالميا حتى اندلاع الثورة الإسلامية في إيران عام 1979.
يجب ألاّ تتدخل الصين في الضغط للتسوية، وحلّ الدولتين، لأنه في هذه الحالة تدخل في شأن داخلي، وإثارة نقاط خلاف تسيء لما يمكن أن يقوم ويطوّر من علاقات صداقة وتعاون.
صدر من الصين ما يفيد بالمضي نحو رعاية مفاوضات تسوية مما يشير لاحتمال قوي أنها قطعت شوطاً بهذا التوجه مع حكومة نتنياهو، وإلاّ ما كانت لتعلن عن رغبتها استنادإ لموافقة رسمية فلسطينية فقط.
* * *
كما كان متوقعاً منذ أن صدرت إشارة رسمية من الحكومة الصينية بإبداء الاستعداد لرعاية مفاوضات تسوية على الساحة الفلسطينية، فإن الصين ستواصل الإعداد لهذه الخطوة.
وقد تأكد ذلك من خلال الزيارة التي أعدت لها لرئيس م.ت.ف محمود عباس، لزيارة الصين خلال الأسبوع الفائت، وذلك بعد أن أخذت موافقته على تحركها بهذا الاتجاه.
وقد صدر من الصين ما يفيد بأنها ماضية ضمن هذا التوجه، الأمر الذي يشير إلى احتمال قوي بأنها قطعت شوطاً بهذا التوجه مع حكومة نتنياهو، وإلاّ ما كانت لتعلن عن رغبتها، بالاستناد إلى الموافقة الرسمية الفلسطينية فقط.
وهنا يمكن أن يُستنتج الأمر نفسه إذا ما أُخذ بعين الاعتبار استمرار التباعد بين الرئيس الأمريكي جو بايدن ونتنياهو، مما قد يدفع الأخير للعب بالورقة الصينية، رداً على هذا التباعد.
تاريخ الصين مع قضية فلسطين مرّ بمرحلة صداقة حميمة، تأييداً للقضية ودعماً للمقاومة، وكان موقفها الأفضل عالميا حتى اندلاع الثورة الإسلامية في إيران عام 1979.
ثم بدأ بالتراجع النسبي إلى أن انتهى بعودة الاعتراف بدولة "إسرائيل"، وتبني أخيراً مشروع "حلّ الدولتين"، مع علاقات اقتصادية وسياسية قوية مع الكيان الصهيوني.
وقد وصلت تلك العلاقات الأوج في الآونة الأخيرة، من حيث الاتفاقات الاقتصادية والتعاون التكنولوجي، وشراء شركة صهيونية لـ"تحسين مظهر المستوطنات"، كما اعتبار المقاومة عمل تخريبي، أو تأييد سياسة "إسرائيل" كوطن قومي ليهود العالم.
هذا كله يفترض بفصائل المقاومة، ولا سيما الرافضة لاتفاقيات أوسلو أو لحلّ الدولتين، أن تدخل مع الصين بمحادثات جادّة، بعيداً من المجاملة، وذلك لإيضاح الحق الفلسطيني على كامل أرض فلسطين، كما الحق بتحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وباعتماد استراتيجية المقاومة، كما رفض حلّ الدولتين، أو حلّ الدولة الواحدة.
وهذا الحلّ يعطي للمستوطنين شرعية الوجود في فلسطين، والتفاوض على حق تقرير مصيرها، وذلك عندما يعطي حق المواطنة المتساوية، وهو المستوطن الاقتلاعي الإحلالي غير الشرعي.
ليس ثمة فارق بين تمسك الصين بحقها الكامل في تايوان، وتمسّك الفلسطينيين بحقهم الكامل في فلسطين. وأما الفارق، فبقاء تايوان صينية، ولم تفقد هويتها الصينية، فيما فلسطين احتُلت من مستوطنين، غزاة غرباء، جاء بهم الاستعمار البريطاني، ومكّن لهم من اقتلاع ثلثي الشعب الفلسطيني، والحلول مكانه، وإقامة كيان يستهدف تهويد فلسطين بالكامل، وإفقادها لهويتها، الأمر الذي يجعل التمسّك بالحق الفلسطيني أشدّ إلحاحاً، وواجباً وضرورة.
وإذا كانت الصين لأسباب تخصها، لا تقبل بالطرح الفلسطيني، فهذا لا يمنع أن تقوم علاقات صداقة وتعاون بين الصين والشعب الفلسطيني، والشعوب العربية والإسلامية، ولكن شريطة ألاّ تتدخل الصين في الضغط للتسوية، وحلّ الدولتين، لأنه في هذه الحالة يعدّ تدخلاً في الشأن الداخلي، وإثارة نقاط خلافية تسيء لما يمكن أن يقوم ويطوّر من علاقات صداقة وتعاون.
هنا تجب الإشارة عند تناول موضوع العلاقات والمستقبل، إلى أن موقف الدول العربية وأغلب الدول الإسلامية يختلف عن موقف الشعوب العربية والإسلامية، ويختلف عن موقف فصائل المقاومة والشعب الفلسطيني، لأن الدول سبق لها وتراجعت عن الحق الفلسطيني والعربي والإسلامي في فلسطين، وتخلت عن عدم الاعتراف بما تمّ من اقتلاع وإحلال، وما هو قائم من ظلم فادح للقضية الفلسطينية.
من هنا فإن موقف الدول العربية والإسلامية، كما السلطة الفلسطينية، سوف يتغير بالنسبة لقضية فلسطين، مع نهوض الشعوب وتحرّرها ووحدتها، وهو أمر آتٍ لا محالة.
الظاهر في الموقف الصيني هو الدعوة لحلّ الدولتين، أما مسألة شراء الصين للشركة التي تعنى بالاستيطان، والموقف من المقاومة الفلسطينية، ومن الدولة القومية اليهودية، فيشكل كارثة، من ناحية مخالفة القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة.
كما يتناقض مع سقف الدول العربية والإسلامية، وحتى دول العالم، فكيف بالنسبة إلى الشعوب. لذلك يجب التراجع عن هذه السياسات، لأنها تضر بالعلاقات الجيدة والمستقبلية، وتفرض أن يُعاد النظر فيها، بالنسبة للسياسة الصينية عموماً.
صحيح أن المقاومة الفلسطينية وحركة التحرّر العربي، وعدد من البلدان الإسلامية تقف ضد أمريكا، في ما يجري من صراع ومواجهة بين الصين وأمريكا أو بين روسيا وأمريكا، وذلك بسبب المظالم الكثيرة التي لحقت بالشعوب العربية والإسلامية من الاستعمار الغربي، ولا سيما البريطاني والفرنسي والأمريكي، كما بسبب السياسات الغربية والأمريكية الراهنين.
وهو موقف لا نقايض عليه، حتى لو قامت سياسات صينية أو روسية في غير مصلحة قضية فلسطين كما هو حادث الآن، فالموقف هنا، والحالة هذه، سيكون ضد أمريكا والغرب..
ولكن على الصين أن تعلم أن موقفها من شركة تجمّل المستوطنات، موقف مخالف للقانون الدولي، ولميثاق هيئة الأمم لأن الاستيطان غير مشروع من حيث أتى.
وكذلك موقفها من المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال من خلال عدم اعتبارها مشروعة وحقاً للشعب الفلسطيني، وهذا ما ينصّ عليه القانون الدولي، وميثاق هيئة الأمم، بل وقرارات صادرة عن الجمعية العامة، بإعطاء الشعب الفلسطيني الحق باستخدام السلاح والمقاومة ضدّ الاحتلال.
أما الاعتراف بحق "إسرائيل" بالتحوّل إلى دولة قومية ليهود العالم، فبدوره يشكل دعماً لحالة استعمار استيطاني اقتلاعي إحلالي، ولا حق لها حتى بالوجود على أرض فلسطين؛ لأن كيانها غير شرعي حتى بموجب قرار التقسيم المخالف للقانون الدولي الذي يعطي الشعب الذي كان يسكن فلسطين ساعة دخول الاستعمار، حقاً حصرياً في تقرير مصيرها.
كما أن ميثاق هيئة الأمم المتحدة لا يعطي الجمعية العمومية صلاحية أو حق تقرير مصير أي بلد من بلدان العالم، وهذا الذي خالفته الجمعية العامة بإصدار القرار 181 لعام 1947 بحق فلسطين.
بل حتى عضوية "دولة إسرائيل" في هيئة الأمم كان مشروطاً بإعادة اللاجئين (قرار 194) وبالعودة إلى حدود قرار 181 لعام 1947، وهما لم يطبقا، بل وتوسعت دولة إسرائيل أكثر حتى احتلت كل فلسطين، وتبنت سياسة عدم الاعتراف بحق العودة للاجئين الفلسطينيين.
وبالمناسبة، إن حكومات الكيان الصهيوني منذ 1948 حتى اليوم، لم تعترف بأيّ قرار من قرارات هيئة الأمم المتحدة، بما فيها المجحفة بالحق الفلسطيني، لأن استراتيجية وسياسات المشروع الصهيوني في فلسطين يهدف إلى اقتلاع كل الفلسطينيين من فلسطين واعتبارها "أرض إسرائيل" بالكامل، ويجب أن تتهود وتكون وطناً قومياً ليهود العالم.
هذا المشروع هو الذي يفسّر استحالة قبول الكيان الصهيوني بحلّ الدولتين، رغم إجحافه بالحق الفلسطيني حتى المعطى من قبل القرار 181 لعام 1947، والخاص بتقسيم فلسطين. وقد أُعلن قيام دولة إسرائيل بموجبه دون الاعتراف به كاملاً (نص إعلان بن غوريون لقيام دولة إسرائيل).
بكلمة، يجب أن تقال كل هذه الحقائق للقيادة الصينية دون أن يمنع ذلك من اعتبارها صديقة، أو يمنع إقامة علاقات تعاون اقتصادية معها، أو يحول دون الوقوف ضد أمريكا في صراعها مع الصين.
هذا ويمكن أن يقال لروسيا الشيء نفسه، مع لفت انتباهها إلى خطورة نقل السفارة الروسية إلى القدس، سواء في شرقها أو غربها.
*منير شفيق كاتب ومفكر وسياسي فلسطيني
المصدر | عربي21المصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: الصين فلسطين إسرائيل مبادرات محمود عباس حل الدولتين الكيان الصهيوني المقاومة الفلسطینیة العربیة والإسلامیة الأمم المتحدة دولة إسرائیل هیئة الأمم ضد أمریکا فی فلسطین
إقرأ أيضاً:
من حق الشعب الفلسطيني أن يفرح باتفاق وقف الحرب
قبل أكثر من ستة شهور، وفي صباح السبت 13 تموز/ يوليو 2024، كتبت ونشرت مقالا في هذا المكان نفسه، عن احتمالات عقد صفقة وقف النار في «غزة»، قلت فيه ببساطة؛ إنه لا فرصة لاتفاق من هذا النوع، إلا مع أجواء تنصيب دونالد ترامب رئيسا في 20 كانون الثاني/ يناير 2025، ولم أكن وقتها أقرأ الرمل ولا أضرب الودع، بل كان التوقع مبنيا على سلوك بنيامين نتنياهو رئيس وزراء العدو، وعلى فرصه المتاحة للمناورة مع ساكن البيت الأبيض المنصرف جو بايدن. كان بايدن وقتها قد لقي هزيمة مخزية في المناظرة الأولى مع ترامب، وكانت الأصوات تتعالى لإخراجه واستبداله في سباق الرئاسة، وكان بايدن في وضع «البطة العرجاء» بل المشلولة تماما.
وفي عام الرئاسة الأمريكية الأخير كالعادة، يصعد نفوذ اللوبي الصهيوني ـ «الأيباك» وأخواتها ـ إلى أعلى ذراه، وهو ما يفهمه جيدا نتنياهو، الذي صعد دوره إلى درجة إذلال إدارة بايدن، مع استغلال طموح ترامب لنيل رضا «اللوبي الصهيوني» ونتنياهو شخصيا، وبالغ ترامب على طريقته الفجة في إبداء المحبة والولاء لكيان الاحتلال الإسرائيلي، ولقي نتنياهو استقبالا حافلا عامرا بمئات نوبات التصفيق خلال خطابه في الكونغرس، بمجلسيه يوم 24 تموز/ يوليو 2024، وبدا كأنه سيد البيت الأبيض الأول، إضافة لرئاسته حكومة «إسرائيل» الفرعية في تل أبيب.
ومن موقع القوة المتضخمة، واصل نتنياهو تنفيذ خطته، أي (استمرار الحرب في غزة، وربما مدّ الحرب إلى لبنان، حتى يأتي ترامب إلى البيت الأبيض) كما كتبت حرفيا في مقال 13 تموز/ يوليو الماضي، ونفذ ما أراد، ذهب إلى الحرب البرية مع «حزب الله»، وإن لم يتمكن من جلب صورة «نصر ساحق» كان يحلم بها.
واضطر للموافقة على «اتفاق هدنة»، وواصل بشراسة حرب الإبادة الجماعية على غزة، ولم يتمكن هنا أيضا من تحقيق أهداف حربه المجنونة، وإن أعاق التفاوض مرات حول اتفاق وقف النار وتبادل الأسرى، وتصدى بصلف وعجرفة لكل رغبات إدارة بايدن، ولكل اقتراحاتها الإسرائيلية أصلا.
وأطاح بما عرف بعنوان «صفقة بايدن» المعلنة مساء 31 أيار/ مايو 2024، ولترجمتها الحرفية في قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2735، ولكل مسودات اتفاقات التفاوض في باريس والقاهرة والدوحة، التي شارك وضغط بها كل مبعوثي إدارة بايدن، وأولهم مايكل بيرنز مدير المخابرات المركزية الأمريكية، وكان الاتفاق المطروح في كل هذه الجولات، هو نفسه الذي اضطر أخيرا للموافقة عليه، بعد أن تغيرت معادلة التفاعل مع البيت الأبيض بعد فوز ترامب على نحو ساحق في الرئاسة والكونغرس، فبعد أن ظل نتنياهو لشهور آمرا مطاعا يخضع له بايدن وترامب معا، انقلبت الموازين إلى صيغة أخرى، يتحكم بها ترامب وحده، ويخضع له بايدن ونتنياهو معا، وبدا ظل ترامب حاضرا في اتفاق هدنة لبنان وأكثر في مفاوضات اتفاق غزة.
وربما تنطوي القصة على مفارقة ظاهرة، فقد بدأ ترامب سيرته مع قصة غزة على نحو مختلف، وأطلق تهديدا بالذهاب إلى «جحيم»، تصوره ضاغطا على «حماس» وأخواتها في التفاوض، وبدا التهديد وقتها مثيرا للسخرية، فما كان بوسع حكومة «إسرائيل» في واشنطن أن تفعل أكثر، وهي شريك كامل الأوصاف في حرب الإبادة الجماعية، وفعلت كل ما بوسعها من «جحيم» عبر نحو 16 شهرا من الحرب البربرية، ومن دون أن يتحقق شيء من الأهداف المعلنة والضمنية للعدو الأمريكي «الإسرائيلي»، اللهم إلا مضاعفة التوحش في إبادة الحجر والبشر والشجر، ووضع أهل غزة في عذاب أسطوري.
ولكن من دون أن يخفت صوت المقاومة الأسطورية، التي زادت في تحديها البطولي لقنابل وحمم متفجرات بلغت زنتها نحو مئة ألف طن، ألقيت على رأس غزة، وقتلت وأصابت وقطعت أشلاء نحو مئتي ألف فلسطيني معلوم ومفقود، أغلبهم من النساء والأطفال الأبرياء، في أبشع مجزرة ومحرقة شهدتها الحروب، فقتلت الأبرياء بالقصف والتجويع والتجمد في الصقيع، وحرمت الضحايا من كل إغاثة طبية بالتدمير شبه الكامل للمرافق والمستشفيات والمدارس والبيوت وحرق الخيام، ومنع فرق الإسعاف المدني من الوصول إلى المصابين والشهداء، وترك الجثث في الخلاء تنهشها الكلاب الضالة.
المقاومون من حماس وأخواتها، يبدعون على نحو مذهل، ويعيدون تدوير قذائف العدو.
وقتل النازحين في كل مكان يذهبون إليه، حتى في الأماكن الموصوفة كذبا بالآمنة، ورغم كل هذا الهول الأفظع، كانت قوات الاحتلال تتلقى الهزائم المتلاحقة في ميادين القتال المتلاحم، وكان المقاومون من «حماس» وأخواتها، يبدعون على نحو مذهل، ويعيدون تدوير قذائف العدو التي لم تنفجر، ويضيفون زادا جديدا إلى ورش التصنيع الحربي الذاتي، ويدبرون الكمائن المميتة لنخب قوات الاحتلال من شمال غزة إلى جنوبها، ويفشلون «خطة الجنرالات» الهادفة للتطهير العرقي الشامل في جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون شمال مدينة غزة، وإلى حد دفع العدو الأمريكي «الإسرائيلي» إلى حافة جنون، عبر عنه أنتوني بلينكن وزير خارجية بايدن، بإعلانه قبل أيام، أن قوات «حماس» عادت إلى حجمها الأول صباح 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وأن آلافا متكاثرة جرى تجنيدها من قبل «حماس» وأخواتها.
بينما ذهب الجنرال جيئورا آيلاند إلى إعلان فشل «خطة الجنرالات» التي وضعها بنفسه، وقال؛ إنه لا أمل في تنفيذها، وإنه لا بديل عن الانسحاب «الإسرائيلي» بالكامل من غزة، وكان ترامب وإدارته يتابعون حقائق الميدان عن قرب، وأدركوا أن حرق «حماس» وأخواتها في الجحيم غير ممكن ومحض وهم، فالمقاومة تنمو وتتوالد ذاتيا، ودونما حاجة إلى مدد لم يأت عبر الحدود، وأن استنزاف قوات العدو ماض إلى نهايته، وهو بعض ما دفع ترامب البراغماتي إلى وجهة أخرى، تضغط على نتنياهو لتجرع سم اتفاق وقف النار، بعد أن ثبت مرارا وتكرارا أن القوة الأمريكية «الإسرائيلية» الإبادية، لم ولن تفوز أبدا في المنازلة النارية مع الشعب الفلسطيني ومقاومته.
وأنها لن تنجح في تهجير الشعب الفلسطيني إلى خارج أرضه المقدسة، رغم كل هذا العذاب الأسطوري، وأنه لا سبيل لاجتثاث حركات المقاومة الأسطورية، وأن ما أخفقوا في إحرازه بقوة السلاح قد يكون أيسر في التحقق، لو تحولوا إلى السياسة، وانتقلوا إلى اتفاق ثلاثي المراحل لوقف الحرب، تدور عناصره الأساسية، كما صمم عليها المفاوضون الفلسطينيون، حول التدرج في وقف النار من الموقوت إلى المستديم، وحول فتح سبل إغاثة الشعب الفلسطيني وإعادة الإعمار اللاحقة، وإطلاق سراح آلاف من الأسرى الفلسطينيين، وانسحاب قوات الاحتلال من غزة على مراحل، وفتح معابر الإمداد الإنساني، وإعادة كل النازحين الفلسطينيين من جنوب «غزة» إلى سكناهم في الشمال، وهذه هي الملامح الكبرى للاتفاق الجديد القديم، الذي دأبت حكومة الاحتلال على رفضه وإعاقته لثمانية شهور مضت، ثم يخضع له اليوم ترامب ونتنياهو معا، ربما على أمل الاستعاضة عن فشل حرب غزة، والانتقال إلى حرب العصف بالضفة الغربية، وعقد اتفاقات «إبراهام» جديدة مع دول عربية مضافة.
ومع وقف النار في حرب غزة، وضعف الثقة في ضمانات تنفيذ أي اتفاق مع كيان الاحتلال، إلا أن تكون المقاومة على الموعد في أحوال الإخلال الإسرائيلي الوارد طبعا، وفي كل الأحوال، فجولة الحرب الأخيرة لم تكتب كلمة النهاية، ولم يحقق العدو فيها نصرا بأي معنى، رغم كل ما جرى من دمار وقتل، وهذه هي الخاتمة ـ التي صارت معتادة ـ لكل حرب تخوضها «إسرائيل» مع المقاومة الجديدة، وفي صورة حروب غير متناظرة، يملك فيها العدو ما لا تملكه المقاومة، والعكس بالعكس، لكن النتائج تظل كما هي.
فالعدو ينهزم حين لا تتحقق أهدافه، والمقاومة لا تهزم حين لا تفنى، وحين تثبت قابليتها للتجدد، رغم قسوة الظروف، فبقاء المقاومة يعني المقدرة على استئناف المواجهات الحربية، وبقاء المقاومة يعني تجدد الأمل في نصر كامل، تستعاد به الحقوق المقدسة للشعب الفلسطيني المظلوم، الذي أثبت مقدرته اللانهائية على الصبر وتحمل التضحيات بغير حدود، فقد أثبتت تجربة الحرب بعد «طوفان الأقصى»، أن بوسع الشعب الفلسطيني المحاصر أن يتفوق ويهتدي بتجارب كفاح الجزائريين والفيتناميين، وأن يواصل الاستمساك بمقاومته العنيدة حتى تعود النجوم إلى مداراتها، ويستعيد حقه كاملا في الحياة والحرية، مهما بلغت التضحيات وتضاعفت العذابات، ومهما خذله المتخاذلون، ومن حق الشعب الفلسطيني اليوم أن يفرح بالاتفاق الجديد، وأن يفخر بدماء الشهداء التي هزمت سطوة وجبروت سيف العدو، وأن يحلم بالنصر الكامل في قابل الأيام والحروب.
القدس العربي