ترجمة: أحمد شافعي -
خلال إقامتي الأخيرة في مدينة هايدلبرج الألمانية الخلابة، خضت حوارا ساخنا إلى حد ما مع عدد من باحثي الدراسات العليا الأفارقة والهنود والصينيين في جامعة المدينة التي ترجع إلى القرون الوسطى، تناول الحديث مجموعة بريكس وما إذا كان بإمكان أعضائها إنتاج حركة جديدة مماثلة لحركة عدم الانحياز في القرن الماضي.
لا يخلو من منطق قولهم إن العقدين الماضيين كانا جيدين على نحو غير عادي للبلاد النامية ومواطنيها الذين يغلب عليهم الفقر. فالواقع أن الخبير الاقتصادي الشهير داني رودريك من جامعة هارفارد قد أشار هو الآخر إلى أن اقتصادات البلاد النامية قد توسعت بمعدلات غير مسبوقة، مما أدى إلى انخفاض كبير في الفقر المدقع وتوسع كبير للطبقة المتوسطة.
ولقد كان الدافع إلى هذا الأداء الفائق ولم يزل - حسبما رأى شركائي في الحوار من بلاد العالم النامي - في المقام الأول هو الصين والهند ــ وهما البلدان اللذان يشكلان، بجانب روسيا والبرازيل وجنوب أفريقيا، مجموعة بريكس.
ما من شك في أن الطابع الرسمي المؤسسي لمجموعة بريكس قد ازداد على مدار العقد الماضي، إذ استضافت مؤتمرات قمة منتظمة وأنشأت كيانات جماعية. ولكن هل بوسعها أن تمثل تحديا لمجموعة السبع؟
شهدت قمة بريكس الخامسة عشرة التي عقدت أخيرا في جوهانسبرج دعوة ست دول جديدة، منها إيران والمملكة العربية السعودية، للانضمام إلى الكتلة في خطوة تشير إلى العلاقات متزايدة القوة بين الصين وروسيا في وقت تصل فيه التوترات مع الغرب إلى نقطة الغليان. بل إن من المقرر أيضا أن ينضم حلفاء راسخون للولايات المتحدة مثل الإمارات العربية المتحدة ومصر، بجانب الأرجنتين وإثيوبيا، إلى بريكس اعتبارا من أول يناير لعام 2024.
برغم العقوبات الشديدة التي فرضها الغرب على روسيا، كان من المفاجئ رؤية مجموعة بريكس تعقد حدثا جانبيا من نوع ما في موسكو - أطلق عليه اسم منتدى الابتكار الدولي للمدينة السحابية - حيث تحدث ممثلو حوالي ثلاثين دولة عن رؤيتهم للمدن في المستقبل وكيف يمكن دمج التكنولوجيا مع تصميمات المدن الحديثة. كان من المتحدثين بعض الحائزين على جائزة نوبل، أستاذ الاقتصاد محمد يونس (2006)، ومستشار الأمين العام للأمم المتحدة راي كوون تشونج (2007)، بالإضافة إلى المخرج السينمائي الصربي أمير كوستوريتشا وهو من معارف الرئيس فلاديمير بوتين القدامى. حضر المنتدى كبار الممارسين الحضريين من جميع أنحاء العالم ومنهم إيرول أوزجونر مدير تكنولوجيا المعلومات في بلدية إسطنبول الكبرى، وخالد العطار نائب وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في مصر، وعبد الرحمن إبراهيم من هيئة تطوير المدينة المنورة، وداودا جاي نائب عمدة داكار للتكنولوجيا، وقد ناقشوا قدرة التكنولوجيات الحديثة على المساعدة في تحسين نوعية الحياة وإيجاد حلول فعالة وضمان السيادة التكنولوجية. وبوصفي شخصا من مواليد يوغوسلافيا، فقد أثار الحدث ذكرى أيام مؤتمر باندونج، عندما وضع جوزيب بروز تيتو وجمال عبد الناصر وجواهر لال نهرو وسوكارنو أساس حركة عدم الانحياز.
تحرص كل من موسكو وبكين على بث حياة جديدة في كتلة بريكس ليظهرا للعالم وجود بدائل لنسيج التحالف والمؤسسات الذي تقوده الولايات المتحدة ويهيمن على الشؤون العالمية لعقود من الزمن. منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، نأت دول بريكس بنفسها عن الغرب. فلا تشارك الهند أو البرازيل أو جنوب أفريقيا أو الصين في العقوبات المفروضة على روسيا. وقد بلغت التجارة بين الهند وروسيا، واعتماد البرازيل على الأسمدة الروسية، مستويات توشك أن تكون تاريخية.
يشير أوليفر ستونكل إلى أن جميع أعضاء بريكس يرون أن ظهور التعددية القطبية أمر لا مفر منه ومرغوب فيه بشكل عام، ويرون الكتلة وسيلة للقيام بدور أنشط في صياغة نظام عالمي ما بعد غربي. وتشترك الدول الأعضاء في شكوك عميقة حول الأحادية القطبية التي تقودها الولايات المتحدة، وتعتقد دول بريكس أنها تزيد من استقلالها الاستراتيجي وقوتها التفاوضية عندما تستقل عن الغرب، وعن الولايات المتحدة بصفة خاصة. وعلى مدار العقد الماضي، ساعدت كل من الهند والصين إحداهما الأخرى في الصعود كقوة تكنولوجية ناشئة. فاستثمر عمالقة التكنولوجيا الصينيون مليارات الدولارات في أكبر الشركات الناشئة في الهند، في حين يهيمن صانعو الهواتف الذكية لديها على سوق البلد، كما توافد الهنود على التطبيقات الصينية مثل تيك توك.
فهل ينبغي النظر إلى تحالف بريكس باعتباره معارضا للغرب أو باعتباره منتدى لزيادة الفكر السيادي والمستقل؟ يعتمد هذا على التوجه الأيديولوجي لكل بلد. فبعض البلاد، من قبيل إيران والأرجنتين، تنضم إلى الركب لشعورها بوجود فرصة اقتصادية. وبعضها الآخر يعتبر مجموعة بريكس بمثابة محاولة، وإن تكن أولية، لإيجاد بديل للنظام العالمي القائم.
إن إمكانات التآزر بين دول بريكس هائلة. إذ تشكل دول بريكس، في شكلها الحالي، قرابة 31.5% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي عند تعديله بناء على تعادل القوة الشرائية. وتنتج حاليا دول بريكس الموسعة مجتمعة قرابة 26% من إنتاج النفط العالمي و50% من إنتاج خام الحديد المستخدم في صناعة الصلب. وتنتج حوالي 40% من إنتاج الذرة العالمي و46% من إنتاج القمح العالمي. والأهم من ذلك أن البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا تضم 3.2 مليار نسمة، أي 42% من سكان العالم. ففي واقع الأمر، تمتلك هذه البلاد 42% من أحد أهم الموارد على هذا الكوكب: أي البيانات الشخصية. إن الناتج المحلي الإجمالي في الصين أكثر من ضعف نظيره في دول بريكس الأربع الأخرى مجتمعة: إذ يقترب من 18 تريليون دولار مقارنة بالبرازيل (1.6 تريليون دولار)، وروسيا (1.8 تريليون دولار)، والهند (3.2 تريليون دولار)، وجنوب أفريقيا (400 مليار دولار). وقد كتب جوزيف دبليو سوليفان في مجلة فورين بوليسي عن كيفية تحقيق مجموعة بريكس في عام 2022 فائضا تجاريا قدره 387 مليار دولار - بفضل الصين في الغالب - وقال إن كل ما يجري من حديث عن صياغة تلك البلاد عملتها الخاصة قد لا يكون بعيد المنال على كل حال. وستكون مجموعة بريكس أيضا مؤهلة لتحقيق مستوى من الاكتفاء الذاتي في التجارة الدولية استعصى على اتحادات عملة أخرى، وذلك لأن بلاد بريكس لا تشترك في حدود إقليمية، ومن ثم فمن المرجح أن تنتج مجموعة من السلع أوسع من أي اتحاد نقدي قائم. وأخيرا، أصبح نصف سكان دول بريكس متصلين بالإنترنت بالفعل، وهو ما يسهم بشكل كبير في النشاط الاقتصادي المحلي والدولي. وتعمل هذه البلاد على الترحيب بالابتكار الرقمي والاستثمار بكثافة في قدراتها الرقمية، وصياغة أطر جديدة لحماية البيانات ومطالبة شركات التكنولوجيا بشكل متزايد بتخزين البيانات الشخصية في مواطن أصحابها. وتتبنى الصين النهج الأكثر طموحا، فتقوم باستثمارات كبيرة في شبكات الجيل الخامس، والذكاء الاصطناعي، والتصنيع عالي التقنية في محاولة لأن تصبح قوة تكنولوجية عالمية أكبر من التي تمثلها الآن بالفعل.
لقد قدمت روسيا والصين نفسيهما على نحو متزايد للدول النامية كبديلين اقتصاديين وعسكريين للغرب، ولن يربطا مطالب الديمقراطية أو حقوق الإنسان بالعلاقات الدبلوماسية. وتعمل كل من روسيا والصين على تصعيد الرهان لتجنيد هذه البلاد النامية غير المنحازة والمحايدة.
وبرغم أن روسيا قد تبدو بشكل متزايد شريكا محرجا، فإن معظم البلاد الآسيوية تختار بشكل عملي الحفاظ على علاقاتها معها لمجموعة من الأسباب الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية. فالجمع بين قوة التصنيع الصينية وبراعة الهند في مجال البرمجيات والخدمات يوفر قدرات شاملة. وقد لاحظ ديفيد موشيلا وروبرت أتكينسون أخيرا أوجه تشابه مذهلة بين اعتماد أمريكا على الصين في التصنيع واعتمادها على الهند في خدمات تكنولوجيا المعلومات.
في هذا السياق، ترى روسيا أهمية منتدى بريكس للابتكار بوصفه وسيلة لتعزيز العلاقات مع الأصدقاء والحلفاء في عصر التحولات الجيوسياسية الكبرى. وفي حين كان الكثيرون في الغرب يأملون أن يؤدي الغزو الروسي إلى حشد بلاد العالم النامي خلف النظام القائم على القواعد، فقد رفض الكثيرون في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط إلى حد كبير الأطر الغربية للصراع باعتباره معركة بين القوة والحق.
وعدم الانحياز ـ في هيئة مجموعة بريكس ـ يعد فينظر هذه البلاد أكثر راحة من تصنيفها باعتبارها جزءا من الموقف الغربي ــ أو باعتبارها في واقع الأمر جزءا من الموقف الشرقي.
هارون كارتشيتش صحفي ومحلل سياسي يغطي منطقة البلقان وتركيا.
ناشونال إنتريست
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: تریلیون دولار مجموعة بریکس هذه البلاد دول بریکس من إنتاج
إقرأ أيضاً:
ميديابارت: لماذا تريد السلفادور أن تصبح سجن الولايات المتحدة؟
قال موقع ميديابارت إن رئيس السلفادور ناييب بوكيلي عرض على الرئيس الأمريكي دونالد ترامب استقبال المجرمين المدانين في الولايات المتحدة في سجون بلاده، بعد فشل رهانه على العملات المشفرة، في محاولة للبحث عن نموذج اقتصادي جديد لبلاده.
ويسعى ناييب بوكيلي الذي اشتهر بتدميره قبضة العصابات وجعل السلفادور تحتل الصدارة عالميا في معدلات السجون، إلى استغلال سياساته القمعية -حسب الموقع- بجعلها خدمة اقتصادية تُقدّم للدول الأخرى، خاصة الولايات المتحدة.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 26 أسئلة توضح ما قد يحدث إذا تجاهلت إدارة ترامب قرارات القضاءlist 2 of 2ماكرون عن ترامب: لا تهُن أمامه ولا تعطه دروساend of listوقد قدم ناييب بوكيلي، الذي يحب أن يقدم نفسه باعتباره "الديكتاتور الأكثر برودة في التاريخ"، هذا العرض لوزير الخارجية الأميركية ماركو روبيو الذي قبله ووعد بدراسته، رغم أن هذا النهج يحول البلاد إلى "سجن عملاق" بدلا من تحقيق تنمية اقتصادية مستدامة، حسب ميديابارت.
وذكر الموقع -في تقرير بقلم روماريك غودين- بأن اقتصاد السلفادور يعتمد اليوم إلى حد كبير على التحويلات المالية من المهاجرين الذين يعيش أغلبهم في الولايات المتحدة، وقد شكلت تحويلاتهم المالية حوالي 26% من الناتج المحلي الإجمالي السلفادوري عام 2021.
الانحناء للعاصفة
ولذلك بدا وصول الملياردير إلى البيت الأبيض محفوفا بالمخاطر بالنسبة لناييب بوكيلي، لأن سياسته في مجال الهجرة تنذر بتسفير السلفادوريين من الولايات المتحدة، وتهدد اقتصاد البلاد، الذي كان يمر بفترة اقتصادية صعبة، السلفادور نتيجة سياسات بوكيلي المرتبطة بالعملات الرقمية التي أدت إلى فقدانه ثقة الأسواق العالمية واضطرته للجوء إلى صندوق النقد الدولي مقابل تنازلات قاسية، من بينها إنهاء اعتماد البيتكوين كعملة قانونية.
إعلانوعندما قرر بوكيلي العودة إلى السوق المالية في البلاد، كانت تكلفة السندات التي صدرت على مدى 6 سنوات باهظة، وفي النهاية اضطرها هذا الدين "السخيف" -على حد تعبير فايننشال تايمز- إلى إعلان الاستسلام لصندوق النقد الدولي.
وأعلن صندوق النقد الدولي التوصل إلى اتفاق مع الحكومة السلفادورية، وبالتالي يتعين على السلفادور أن تطبق سياسة تقشف صارمة لخفض العجز الأولي بنحو 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي في غضون 3 سنوات، مع التخلي عن مشاريع البتكوين، لتحصل على قرض بقيمة 1.4 مليار دولار يحميها مؤقتا من الإفلاس.
ولهذا وجدت حكومة السلفادور نفسها مضطرة لحماية العلاقة مع واشنطن، في انتظار أن تعمل على بناء نموذج اقتصادي جديد، ولتحقيق ذلك، يسعى بوكيلي، الذي تفاخر بأنه أنهى "العمل البيئي الأكثر طموحا وتأثيرا في تاريخ" البلاد، الآن إلى إعادة إطلاق النشاط لاستخراج الذهب.
لقد صنع بوكيلي اسمه من خلال ملاحقة العصابات باستخدام القوة. فمنذ عام 2021، تخضع البلاد لنظام استثنائي مستمر. واعتقل أكثر من 100 ألف شخص ولا يزالون محتجزين، وفي كثير من الأحيان دون محاكمة.
ولم يتم الإفراج إلا عن 8 آلاف منهم، وتمتلئ الصحافة الدولية بشهادات من عائلات لم تتلق أي أخبار عن أحبائها الذين اختفوا بعد الاعتقال.
التخصص في احتجاز المجرمينوقد حققت هذه السياسة القمعية مكاسب سياسية واضحة بالنسبة إلى ناييب بوكيلي، وهو رئيس الدولة الأكثر شعبية في العالم في بلاده، بعد أن وجد السلفادوريون الذين عاشوا في رعب دائم من عنف العصابات، الهدوء في الشوارع وهم ممتنون لرئيسهم.
ولكن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر إلى الأبد -حسب الموقع- لأن احتجاز 1.7% من سكانها في ظروف قاسية أمر مكلف من حيث البنية التحتية والأفراد، كما أن السكان مع العودة إلى الهدوء، سوف يطالبون بالمزيد، وخاصة بالتقدم الاقتصادي، ولكن أيضا بالحق في القدرة على الطعن في بعض القرارات.
إعلان
ومن أجل توفير المال، قرر الرئيس تحويل سياسته القمعية إلى نشاط، وهو يقترح على ترامب الاستعانة بمصادر خارجية لتنفيذ جزء من سياسته الأمنية في الولايات المتحدة، مقابل رسوم، وبهذا يأخذ الاقتراح المقدم إلى ترامب بتحويل السجناء معناه الكامل.
وخلصت ميديابارت إلى أن رئيس السلفادور يريد أن تختص بلاده في تصدير خدمات الاحتجاز للمجرمين الخطرين، وهذا من شأنه أن يسمح له بمواصلة سياسته الأمنية لضمان سلطته في بلاده، وهو يأمل إذا أثبتت التجربة نجاحها، في أن دولا أخرى قريبة من اليمين المتطرف الدولي سوف تستخدم خدماته.
ويعتبر هذا الاقتراح وسيلة للحصول على استقبال إيجابي من ترامب، كي يتم تجنيب السلفادوريين في الولايات المتحدة الطرد، وحتى الآن يتمتع مواطنو بوكيلي "بوضع الحماية المؤقتة" حتى سبتمبر/أيلول 2026، مما يمنع عمليات الطرد بسبب الوضع الداخلي في بلدان المنشأ الذي يهدد دونالد ترامب بإزالته.