نوافذ: ظفار ويد المايسترو!
تاريخ النشر: 10th, September 2023 GMT
بقيتُ لعدّة أسابيع تحت تأثير الصور والفيديوهات التي تصلنا من هنا وهناك، كاشفة عن سحر محافظة ظفار الفاتنة، تلك الخضرة الخلابة التي تُذكرنا بأرياف أوروبا، والضباب الذي يلفّ هضابها بصحبة الرذاذ الخفيف المتناغم بصورة جذابة مع التنوع الجغرافي الهائل، من سهول وجبال خصبة إلى شواطئ رملية تمتد لمئات الكيلومترات.
وكنتُ أتوقُ لخوض تجربتي معها هذا العام على وجه الخصوص، لاسيما أنّ الأصداء كانت على غير ما اعتدنا، فقد كانت الآراء تشيد بالتغيرات اللافتة. ورغم الأيام القصيرة التي قضيتها هناك فإنّها كانت كفيلة بالتبصر بالتحولات التي لا يمكن لعين أن تُخطئها.
ليس علينا أن ننكر أنّ ظفار تبدت في حلّة جديدة، فلم يعد أكبر همنا الحصول على دورة مياه كما هو حالنا في السابق، كما أنّ صناعة الترفيه توزعت بشكل مريح لاستقطاب القادمين، وهو الحال مع الأكشاك والمطاعم والمقاهي التي امتدت على مد البصر لتحل معضلة أساسية. فقد كنا قبل ذلك نرى العوائل تجوب الجبال مُحملة بعدتها من علبة الكبريت حتى جرّة الغاز!
لفتني أيضا وجود خدمات الإنقاذ والسلامة في المواقع السياحية، ووجود مختبر متنقل لفحص الأغذية للتأكد من مطابقتها للمواصفات، و«باركود» لتقييم بعض الخدمات، كما أنّ التحول من مسمى خريف «صلالة» إلى خريف «ظفار» كان يُلقي بظلاله على الولايات العشر التي لا تقل إحداها عن الأخرى سحرا وفتنة.
لكن ورغم بهجتنا بما ذكرنا، إلا أن ذلك لا ينفي حاجتنا لاستعارة مفاهيم السياحة على مستوى يليق بعمر التجربة، لكي تتجذر ظفار في الوعي العام كمحافظة سياحية لا تقل عن مناطق العالم الرئيسة، فمن المؤكد أنّ المدن الغنية بالتراث المادي وغير المادي والمرافق ذات الطابع الجمالي والثقافي، تلك التي يمكن أن تنسج قصصها وأساطيرها، تصبح محط أنظار العالم، شريطة تفعيل البُنى التحتية الخادمة لها.
من الجيد -بطبيعة الحال- إعطاء الفرصة للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة وللعُمانيين بالدرجة الأولى، وبالفعل أحدثوا تغييرا مذهلا، لكن ذلك لا يُغني عن الاستعانة ببيوت الخبرة والاستثمارات الكبرى التي يمكن أن تقلب المحافظة رأسا على عقب. فرغم روعة ما شهدنا إلا أنّ الجهود بدت مُتشرذمة، وبحاجة إلى يد «مايسترو» عُليا تضبط إيقاع التحولات عن وعي ودراية بخصوصية كل شبر منها، لتظهر كل ولاية من الولايات العشر بشكل مُفارق للعادة عبر استراتيجية مدروسة أكثر من كونها مُرتجلة.
أزمة السكن -كما يبدو- ستحتاج وقتا أطول لتُحل، فإمّا الذهاب إلى الفنادق الكبيرة أو البقاء في حيز الشقق التي قلّما تمتلكُ مواصفات معقولة رغم المبالغة في أسعارها. من الضرورة بمكان أن تكون الشقق الفندقية ذات معايير صارمة من ناحية الخدمة والأسعار، كونها تعكس سمعة البلد بصورة أساسية.
ورغم توفر دورات المياه، فإنّها لم تستطع بعد أن تُغطي الضغط البشري الهائل عليها. أمّا المساجد فكانت في حالة يُرثى لها، ومن المُسيء حقا ترك بيوت الله بتلك الحالة المزرية دون وجود أيد عاملة كافية لخدمتها!
في السابق كان الرد الجاهز حول بطء الخدمات السياحية يُرجع إلى عدم تقبل المجتمع لتحول جبالهم ومراعيهم إلى السياح القادمين من بقاع شتى بقاع العالم. قرأتُ ذات مرّة بأنّ وعي المجتمعات وعي حي ومتحرك، غير ساكن أو قار فهو مرآة عاكسة للسلوك وللعقل الفردي والجمعي، وأمام انزياحات وعي المجتمعات يمكن أن تتشكل أنماط اقتصادية متغيرة من وقت لآخر، ولذا ينبغي أن تدرس المجتمعات بشكل عميق قبل أن يشرخ الاقتصاد والسياحة نسيجها.
يأتي الآخر إلينا من العالم الشاسع مُحملا بالفضول، ويمكنه أن يضخ المال في عصب اقتصادنا فيما لو تمكنا من تقديم أنفسنا بشكل مُحترف، مُنطلقين من محليتنا الأصيلة، الأمر الذي من شأنه أن يفتح لنا بوابة مهن وأفكار ومصادر رزق لم تكن موجودة من قبل، فالانفتاح على السياحة والاقتصاد، لا يعني بالضرورة انفصالنا عن جذورنا كما قد يظن البعض، بل يمكن لتجربة من هذا القبيل أن تجعلنا في حالة من التماس والتفاعل الدائم مع مفردات حياتنا وأنماطها.
هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
اعتزال ووعكة صحية.. هل كانت حالة محمد رحيم النفسية سر رحيله المفاجئ؟
أحدثت وفاة الفنان والملحن محمد رحيم المفاجئة موجة من الحزن والصدمة في الوسط الفني، حيث كان يتمتع بشعبية كبيرة ومكانة مرموقة بين زملائه وجمهوره.
ورغم إنجازاته الموسيقية التي أثرت الساحة الفنية، إلا أن معاناته النفسية وظروفه الصعبة في السنوات الأخيرة ألقت بظلالها على حياته، لتنتهي مسيرته بطريقة مؤلمة وصادمة.
وفاة محمد رحيموفاة محمد رحيمقبل أشهر من وفاته، أعلن محمد رحيم اعتزاله العمل الفني عبر حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي، قائلًا: "تعليق كل أنشطتي الفنية لأجل غير مسمى حتى إشعار آخر مع احتمالية اعتزالي المهنة والسفر خارج البلاد".
إلا أن محبيه وجمهوره تفاعلوا مع الخبر بشكل كبير، مطالبين إياه بالعودة عن قراره، وبالفعل، استجاب رحيم لهذه المطالب وكتب عبر حساباته: "بكيت بالدموع من كتر الإحساس اللي في الرسائل اللي بعتوهالي... خلاص يا جماعة أنا هارجع تاني علشان خاطركم".
وفي شهر يوليو الماضي، تعرض محمد رحيم لذبحة صدرية نُقل على إثرها إلى المستشفى، حيث أجرى عملية قسطرة ناجحة، وطمأن جمهوره لاحقًا من خلال فيديو نشره على "فيسبوك": "أجريت عملية بسيطة وبقيت زي الفل، ربنا شفاني وعدت على خير".
ورغم تعافيه جسديًا، إلا أن الضغوط النفسية والتجاهل الذي واجهه من الوسط الفني أثرا بعمق على حالته النفسية، وشعر رحيم بالمرارة بسبب تهميشه وعدم تقدير مساهماته، وهو ما انعكس على نفسيته الرقيقة، ليختار العزلة بدلًا من محاولة فرض وجوده.
وفاته المفاجئة أثارت صدمة في الوسط الفني، حيث عبر عدد كبير من الفنانين عن حزنهم البالغ لما مر به من ضغوط.
وكتب الشاعر بهاء الدين محمد كتب على "فيسبوك": "محمد رحيم ارتاح خلاص... تمن الضغط على الإحساس الموت".
للمرة الثانية.. زوجة محمد رحيم تعلن موعد جنازته أسرة الملحن محمد رحيم تتسلم جثمانه من مشرحة زينهم (صور)وأما المخرج محمد العدل فقد عبر عن حزنه الشديد، كاتبًا: "محمد مات من عدم التقدير... رغم أنه من أهم ملحنين العالم بجوائز عالمية، إلا أن الإعلام تجاهل إنجازاته، محمد مات من المحسوبية والمجاملات".
ورغم الظروف الصعبة التي عاشها في سنواته الأخيرة، إلا أن محمد رحيم ترك إرثًا فنيًا غنيًا سيظل محفورًا في ذاكرة الفن العربي، فقد أثرى الساحة الموسيقية بأعمال مميزة، وسيبقى اسمه حاضرًا رغم رحيله المبكر.
برحيل محمد رحيم، فقد الوسط الفني واحدًا من أكثر المبدعين حساسية وإبداعًا، وبينما تتوالى ردود الأفعال الحزينة، يبقى إرثه الموسيقي شاهدًا على موهبة فذة وإنسانية عميقة لم تُقدر كما تستحق.