يصادف اليوم  10 سبتمبر تاريخ وفاة الموسيقار  "رياض السنباطي" عام 1981، الذي ولد في 30 نوفمبر 1906 فى مدينة فارسكور التابعة لمحافظة دمياط ، وكان والده مقرئ تعود الغناء في الموالد والأفراح والأعياد الدينية في القرى والبلدات الريفية المجاورة.

 ويعد أحد أبرز الموسيقيين العرب، والمتميز بتلحين القصيدة العربية، حيث بلغ عدد مؤلفاته الغنائية 539 عملاً في الأوبرا العربية والأوبريت والاسكتش والديالوغ والمونولوغ والأغنية السينمائية والدينية والقصيدة والطقطوقة والموال.

 بلغ عدد مؤلفاته الموسيقية 38 قطعة، وبلغ عدد شعراء الأغنية الذين لحن لهم 120 شاعراً، أبرز من غنوا من تلحينه أم كلثوم، ومنيرة المهدية، وفتحية أحمد، وصالح عبد الحي، ومحمد عبد المطلب، وعبد الغني السيد، وأسمهان، وهدى سلطان، وفايزة أحمد، وسعاد محمد، ووردة، وميادة الحناوي ونجاة، وسميرة سعيد، وابتسام لطفي وطلال مداح، وعزيزة جلال .

"التجديد في القصة القصيرة" ضمن نقاشات أمسيات الأدب بثقافة القليوبية السفر من واجهتي.. كتاب جديد عن المغامرات والترحال والوسائل المختلفة

 أم كلثوم و رياض السنباطي و لماذا أطلقت عليه لقب "العبقري" 

 كان اللقاء الاول في منتصف الثلاثينيات ، في أغنية «على بلد المحبوب وديني» التي قدمت عام 1935 ولاقت نجاحا كبيرا لينضم السنباطي الي جبهة الموسيقي الكلثومية والتي كانت تضم القصبجي و زكريا أحمد ، إلا أن السنباطي كان مميزا عن الآخرين فيما قدمه من ألحان لأم كلثوم بلغ عددها نحو 90 لحنا ، إلى جانب تميزه فيما فشل فيه الآخرون الا و هي القصيدة العربية التي توج ملكا على تلحينها ، سواء كانت قصيدة دينية أو وطنية أو عاطفية، و لذلك آثرته السيدة أم كلثوم من بين سائر ملحنيها بلقب العبقري .

 في أحد لقاءاته الصحفية روى رياض لقاءه بأم كلثوم فقال : ( بعد سبعة عشر عاما من لقائنا الأول في قرية "درينش" إحدى قرى الدقهلية ، التقيت بالفتاة أم كلثوم مرة أخرى ، بعد أن كان صيتها قد ملأ الآفاق في القاهرة ، وقتها كنت أحسد الذين يلحنون لها و كانت تتحرك في أعماقي ملكة التلحين ، تعبيرا عن عواطف جياشة يعيشها الشاب في مثل سني ، كنت أقيم في شقة لوحدي و طلبت تليفون كي يسهل علي أعمالي و اتصالاتي ، و في اليوم الأول الذي دخل فيه التليفون إلى الشقة ، سمعت أغنية لأم كلثوم من الراديو ، فتذكرت تعارفنا في محطة الدلتا ، و كنت قد عرفت رقم تليفونها من الإذاعة فاتصلت بها ، و عندما ذكرت لها اسمي تذكرت بأن والدها الشيخ إبراهيم كان يغني مع والدي في الأفراح ، و دار بيننا حديث قصير قالت لي في نهايته « ابقي خلينا نشوفك يا أستاذ رياض ، مادام أنت في مصر و أنا في مصر » ) .

 وبعد أغنية « على بلد المحبوب وديني » لحن رياض لأم كلثوم مونولوج « النوم يداعب عيون حبيبي » كلمات أحمد رامي ، و التي أعجبت بها أم كلثوم و قدمته في حفلها الشهري على مسرح قاعة ايوارت التذكارية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة ، و كان حفلا مذاعا ، و يعتبر من المنعطفات في حياة أم كلثوم و السنباطي معا ..

 ثم تأتي المحطة الأهم و الأشهر في حياة العملاقين عندما تلاقيا في اغنية الأطلال و هي الأغنية التي اعتبرها النقاد تاج الاغنية العربية وأروع اغنية في القرن العشرين ، كما يعدها الكثيرون أجمل ما غنت أم كلثوم و أروع ما لحن السنباطي ، و غنتها ام كلثوم عام 1966 وهي اجزاء من قصيدة الأطلال الاصلية بالإضافة الي اجزاء من قصيدة الوداع للشاعر إبراهيم ناجي .

 توفى الموسيقار رياض السنباطى فى 10 سبتمبر 1981 عن عمر ناهز 74 عاما.

 

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: رياض السنباطي هدى سلطان ة أم كلثوم عبد الغني السيد أم کلثوم

إقرأ أيضاً:

أم كلثوم شجرة والشيوخ جذورها

عاشت أم كلثوم حياتها تحت مظلة بطانة من المشايخ، تعهَّدوها بالرعاية، وحموها من كلاب السكك الذين أرادوا نهش لحمها الأخضر، وهي لا تزال فتاة صغيرة، لا تعرف أن الناس في المدن متوحشون، وماكرون، وقتلة.

كانت أم كلثوم شجرة والشيوخ جذورها، ولم تهتز مع رياح النميمة، أو أسافين منافسات العهد البائد، فلا شيء تخشاه، شرفها كالجنيه الذهب، وسمعتها فوق مستوى الشبهات، ولو قُدِّر لها أن تعيش ألف عامٍ لما تغيَّر شيء في الفتاة الريفية التي ظلَّت تحتفظ بها أسفل فساتينها «الشانيل».

فتحت عينيها على أبٍ يحب الناس والحيوانات والطيور، وقلبه يسع الدنيا وما فيها، ويغنِّي بصوت شجي رائع قصائد في حب النبي صلى الله عليه وسلم وآله، ويرفع الأذان في مسجد القرية، وحدَّثها أول ما حدَّثها عن ميلادها، وحكى لها قصة أسطورية، وقبل ولادتها دعا الله مرارًا وتكرارًا أن يهبه ولدًا، حتى يصبح يده وسنده، وحلُم بأن يعلِّمه غناء القصائد وترتيل الأناشيد، واصطياد الرزق في الأفراح والحضرات والموالد، وفكَّر كأي رجلٍ بسيط فيمن يتولى شؤون البيت إن حلَّ الأجلُ أبكر من موعده؟ مَن يحمي تلك الزوجة المخلصة الأمينة فاطمة المليجي لو حدث له مكروه؟ كان يهمس بخشوع: «يا رب أنت تعرف بالحال، يا رب امنحني الولد»، وفي ليلة وترية من ليالي رمضان توضأ، ثم سار خفيفًا كسحابة إلى المسجد، وأمضى وقتًا طويلًا في العبادة، وقبل الفجر بقليل، أسند رأسه على أحد الأعمدة وأخذته سِنة من النوم، ورأى امرأة ترفل في النور، وقالت إنها أم كلثوم بنت الرسول، ثم مدَّت يدها إليه بلفافة، وبشَّرته بهدية عظيمة، فتحها فوجد ماسة تتوهَّج كأنها شمس صغيرة، واستيقظ وقد غمرته سكينة لم يشعر بها، قبل ذلك، أبدًا.

في اليوم التالي رأى النسوة العجائز يُحِطن بزوجته، وأدرك من حالة الاستنفار أن لحظة الميلاد قد حانت، ولم يدرِ لماذا توقَّف عن التفكير في الولد؟! قال لنفسه لقد بشَّرته بنت الرسول بهدية عظيمة فماذا يمكن أن يطلب أكثر؟ ثم انتبه إلى أن وقتًا طويلًا قد مرَّ ولم تخرج إحداهن بالبِشارة، واتجه إلى الغرفة، ووجدهن مطرقاتٍ بأسى، وسأل بوجلٍ: ماذا يحدث؟ أجابت امرأة وكأنها تعتذر له: «المولود بنت»!، ولدهشتهن جميعًا فوجئن به يقول بسرور بالغ: «يا مرحبًا بأم كلثوم»!

لقد وصلت الهدية، يجب أن يحافظ عليها بعمره، وعاملها كأميرة، ودلَّلها، وأحاطها بحنانه البالغ، وحين جاء شقيقها خالد إلى الحياة أفهمه أن تلك الطفلة أمانة ربانية، وإن غاب جسده يومًا ما يجب أن يرعاها، وإنها لحمه، ودمه، وشرفه، ولا يجوز أن يغمض عينيه إلا وهي آمنة، ومبتسمة، ومطمئنة.

لم ينتبه الشيح إبراهيم أن تلك الطفلة «العفريتة» تستمع إليه وهو يدندن بالأناشيد، أو يحاول تحفيظ خالد قصيدة جديدة، ثم بدأت في تقليده، وتضع يدها على أذنه كما يفعل، وترفع صوتها، وتعيد وتزيد حتى تتسلطن، وتعمَّدت طوال الوقت ألا تغنِّي في حضوره، لكنه عاد إلى البيت ذات يوم ووقف خلفها، ولحسن الحظ لم تشعر به، ومضت تشدو، ياه، ما هذا الصوت الملائكي؟! ما تلك الهبة العُظمى؟! إن صوتها يكاد أن يحمله إلى سماء قريتهم «طماي الزهايرة»، ولقد تخيَّل أنه أورث حلاوة صوته لخالد، لكن الحلاوة كلها ذهبت إلى تلك الحورية، واحتضنها، وصفّق لها، وحملها على كتفيه وهو يكاد أن يُجنَّ من الفرح.

في الليالي الحارة طاب له أن يصعد بها إلى السطح بصحبة شقيقها وأمها، يجلسون على أشولة الدقيق والذرة والبلح المجفَّف، الأب يغني، والفتاة تتشجَّع فتغني معه، ثم يصمت فتكمل بمفردها، ويطبِّل لها على كفَّة ميزان نحاس صدئة، أو صفيحة جبنٍ فارغة، أو خشبة، بينما تصفق الأم بحماس، ووصل صوتها إلى الجيران فخلبهم، وكثَّفوا ظهورهم على الأسطح، لحضور حفلاتٍ مجانية، ويستمتعون فيها بهبوب النسمات اللطيفة، وفي الصيف القائظ، وبصوت أكثر سحرًا من صوت الشيخ إبراهيم.

وبمرور الوقت فكَّر الأب في جرِّها إلى الموالد، بصحبة خالد، لكنها رفضت بعناد طفولي، ورغبت في ألا تترك عالمها الصغير، والطيور التي تطاردها، والعجائز اللواتي تشدُّ أثوابهن، والأطفال الذين تهرول حافية معهم في الشارع، لكنه وعدها أنها لو سمعت كلامه سيغرقها في بحرٍ من الحلوى، ونجحت حيلته، وخرجت معه إلى حفلة شيخ البلد، وغنَّت، وانبهر الناس بصوتها، وصفقوا لها، ورأت الفرحة تكاد تنط من وجهَي أبيها وشقيقها، ولم تكن المرة الوحيدة التي رأتهما يهللان، ولقد أصبحت نجمة في الدلتا فمَن ينافسها؟

لكن النجاح أقلق الشيخ إبراهيم، صحيح أنها لا تتحرك خطوة إلا بصحبته، لكن تلك الأضواء الباهرة التي تجذبها لا تناسبهم، وإنهم عائلة محافظة، وتحبُّ الظل، وتنفر من الاختلاط الزائد عن الحد بالغرباء، لكنه طمأن نفسه، على الدوام، بقدرته على حمايتها، ثم إن شقيقها خالد صار فتى يافعًا، واخشوشن صوته، ونمت له أظافر، ولو اقترب منها أحدٌ لخلع عينيه، وفرح حين وجدها تناديه بالشيخ خالد، فهذا يعني أنها تراه رجلًا لا صبيًّا، ولم يحاول أن يثنيها عن تغيير الأسمال التي ترتديها، وبدت بالعقال على رأسها، والجاكت ذي الوبر الجملي كأنها صبي من البادية، لا فتاة من الريف، وهذا يطمئنه، فلن يطمع فيها الطامعون، لكن الحياة ادَّخرت له مفاجأة كبرى، بطلها شيخٌ آخر.

وقفت أم كلثوم ذات صباحٍ مشمسٍ ملتصقة بعامود محطة قطار السنبلاوين، تراقب الشيخين إبراهيم وخالد وأعضاء الفرقة، في انتظار قطارٍ يحملهم إلى إحدى قرى الدلتا. سمعتْ الشيخ إبراهيم يهتف: «الشيخ أبو العلا.. مش مصدق عيني»! كاد قلبها يرقص حين سمعت الاسم. هرولت بسرعة ناحيته. جذبته من طرف جلبابه، كأنها تتأكد أن المطرب العظيم الذي استمعت إلى أغنيته «أفديه إن حفظ الهوى أو ضيَّعا»، عشرات المرات، على فونوغراف العمدة بشر مثلهم من لحم ودم. سلَّم عليها بحفاوة ووضع يده على رأسها بأبوية. لم تكن وحدها المهتمة. الناس أيضًا على الرصيف أحاطوا به وتكاثروا عليه، كلُّ واحد يحاول أن يفوز منه بكلمة أو إيماءة أو سلام. وبحسِّها الطفولي أرادت أن تستأثر به لنفسها. لم تجد أمامها سوى جذبه من طرف الجلباب كالمرة الأولى. فطن الشيخ أبو العلا إلى غيرتها، فركَّز معها، وأحاط رقبتها بذراعه. ترجَّته أن يذهب معهم إلى الفرح، فقال ببساطة: «آجي عشان خاطر عيونك»! وهناك ذُهل بصوتها، وقال للشيخ إبراهيم أمام أعضاء التخت وهو يشير إليها: «دي حورية من حوريات الجنة!». فرحت بالإطراء، ثم قالت له بحماس: «الحورية بتقولك تعالى معانا على البيت!»، ولدهشتها ودهشة الشيخ إبراهيم قبِل ببساطة. بمجرد أن فتحت الأم الباب صاحت أم كلثوم: «ادبحي كل الحمام يا ماما عشان جالنا أحسن مطرب في الدنيا!».

اعتبرته يومًا لا يُنسى. الشيخ أبو العلا أراد أن يُسعِدها فاستجاب لكل أوامرها، إذا طلبت طقطوقة غنَّى، وإن طلبت موالاً غنَّى، وإن طلبت أغنية غنَّى، لكنه فجأة قال لها: «الله! أومال أنا هفضل أغني لوحدي يا عفريتة؟! أنا عايز اسمعك كمان!».

وبذكاء فطري غنَّت «أفديه إن حفظ الفؤاد أو ضيَّعا». اهتز قلب الشيخ أبو العلا، ولمعت عيناه، وصفَّق حين انتهت. أثنى عليها ثناء طويلاً، حتى أنها أطرقت خجلاً، ثم دبَّت الحماسة في عروقها حين التفتَ إلى أبيها وقال له فجأة: «لازم أم كلثوم تسافر القاهرة وتغني قدَّام جمهور أكبر وذوقه مختلف. بنتك يا شيخ إبراهيم نجمة حرام تدفنها هنا!»..

نظرت أم كلثوم إلى وجه أبيها فرأت التعبير الرافض المعتاد فكاد أن يستولي عليها اليأس، تمنَّت من أعماقها أن يستمر الشيخ أبو العلا في الإلحاح، أرادت أن تجذبه من جلبابه كما فعلت على المحطة لكنها تراجعت فقد أدركت أنها ستكون حركة مكشوفة لأبيها. ثم تحدَّث الأب وباح للشيخ أبو العلا بمخاوفه، وأغلبها يتعلق بتربيتهم المحافظة، التي تستوجب أن يكون تحركهم بحساب، وكلامهم بحساب، وتعاملهم مع الغرباء بحساب. لعب الوسواس في رأس الشيخ إبراهيم، صوَّر له ابنته وقد أضاعتها النجومية وأنستها أخلاق الريف. فكَّر في متاهة القاهرة وظنَّ أنها قادرة على أن تبتلعه هو وفاطمة وأم كلثوم وخالد وكل العائلة. فهِم الشيخ أبو العلا كلماته، وفطن إلى ظنونه، فقال بأبوية: «لا تقلق يا شيخ إبراهيم، بنتك هتفضل في الحفظ والصون بأخلاقها وتربيتها، وانت هتفضل قريِّب منها دايمًا، حرام تدفن موهبتها. دي جوهرة، كنز يا مولانا»..

استمر الجدال ساعة، جملة من الشيخ أبو العلا، وجملة من الشيخ إبراهيم، حتى ألقى الشيخ أبو العلا ثعبانه الأكبر قائلاً: «عندي الحل!» ونظر الاثنان إليه بدهشة، الأب وأم كلثوم، واستمعا له وهو يقترح عريسًا من أقربائه يتزوجها ويضعها في عينيه، وبهذا لا محلَّ للمخاوف التي تسيطر على هذا البيت الجميل. ثم قال: «أو حتى لو عايزني أكتب أنا عليها!». لان الأب، وبدأ التعبير الرافض على وجهه في الذوبان، وعاد قلب أم كلثوم ليرقص فرحًا، حين قال أخيرًا: «خلاص اللي تشوفه يا مولانا!». وبدلاً من أن تجري أم كلثوم ناحية الأب هرولت باتجاه الشيخ أبو العلا واحتضنته ببراءة وهي تقول: «شكرًا يا أحسن مطرب في الدنيا»!

جاءت إلى القاهرة فتاة بريئة غضَّة تتخيل أنها في قلب الأحلام، لكنها كلما غنَّت، وكلما كسبت أرضًا و»سمِّيعة» ومعجبين و»مهاويس» طالها الشرر، ومسَّتها الكراهية. لم تتركها منيرة المهدية ولا فاطمة قدري ولا بقية نجمات الزمن الغابر في حالها، سلَّطن عليها الكتبة. رشقوها بالمنجنيق، وبالسهام المسمَّمة. لم يتورعوا عن لمزها في شرفها، حتى أن الشيخ إبراهيم اتخذ قرارا بأن يحزموا حقائبهم ويعودوا إلى «طماي الزهايرة» فورًا. اتضح أن القاهرة ليست فقط مدينة الحب والجمال، لكنها كذلك مدينة الحقد والغيظ والخوض في الأعراض. نجت أم كلثوم من تلك النهاية لحسن الحظ، بفضل الله، ثم الشيوخ. سهروا لحراسة أحلامها، إن صوب أحدٌ عليها حجرًا ردوا عليه بصخرة. إن رماها بكلمة أتحفوه بخطبة. إن زام عليها زأروا في وجهه. ولحسن الحظ ظهر الشيخ زكريا مجددًا في حياتها. بدا لها منذ سنوات رجلاً كبيرًا، رغم أنه كان في بدايات العشرين، ورأت شاربه ضخما يليق بأستاذ مع أنه خفيف جدا ويبدو كأنه مرسوم بالقلم الرصاص. لم تشعر أبدا أن أباها وأخاها يتضايقان من وجوده، فهو يكمل بطانة المشايخ في البيت والشغل. إنها لا تزال فتاة صغيرة، أما هو فملحن ناجح، أمسك بخيط الأحلام الذهبي، مطاردا الأنغام في كل مكان. لا تنسى أبدا حين سحرته بصوتها، فصارت شمسه التي يتبعها أينما أشرقت. لمست قلبه وعاملته كأخٍ لها، لا يغيب أسبوع إلا ويطبُّ عليهم، يأكل ويتسامر ويغني معهم. وكان كلما نادى أبوها: «يا شيخ»، تضحك قائلة: «حدد أنهي شيخ؟! زكريا ولا خالد؟!». لم تعرف أن الجفوة ستفصل بينهما سنوات، لكنه سيعود إليها بنفس الحب الجارف، يحدثها عن حلمه الذي لن يتحقق بأن تختم القرآن على إيقاعٍ يصنعه لها بنفسه.

ورغم أن الشيخ إبراهيم غادر فجأة، وكسر قلبها، إلا أنها ألزمت نفسها بتعاليمه. لم تنسَ أبدا أنها ابنة الحقول، حتى وهي تهيمن على العالم العربي شرقا وغربا. كل خطوة لها كانت بحساب. حين عرضوا عليها فيلم «وداد» اشترطت عدم وجود قبلات، أو مشاهد غرامية، أو لقطات تمسُّ صورتها أو تتعارض مع التقاليد الشرقية. الصحافة سخرتْ منها وتندَّرتْ عليها، صوَّرتها كأنها امرأة رجعية ترتدي الجاكت فوق الفستان، لكنها لم تهتز، مضت تنفِّذ ما في رأسها، وما يناسب شخصيتها. حتى أنها حين رأت بعض العمال يفطرون في نهار رمضان، يتناولون الطعام ويدخنون بشكل فج، اعترضت، وطلبت من مسؤولي «استوديو مصر» احترام الشهر الفضيل، فهدَّدوا المفطرين بالخصم.

أحبَّت أم كلثوم الشيوخ وانجذبت إليهم. لسنوات كانت تذهب بصحبة أبيها، وأحيانا الشيخ زكريا أو أحمد رامي أو محمد القصبجي إلى مقرأة الشيخ محمد رفعت في السيدة زينب، تضع الطرحة على رأسها، وتجلس وسطهم. أحيانا تشارك في ترتيل حزبٍ يحددونه لها، وأحيانا تنتظر حتى ينتهوا من سكرتهم وتدور بينها وبين مولانا الشيخ رفعت مباراة حامية في التلاوة والغناء. هي تقرأ ما تيسَّر من قصار السور، وهو يغنِّي «زارني طيفك في المنام»، أو «طلع الفجر ولاح»، أو «أراك عصىَّ الدمع» أو «حقك أنت المُنى والطلب»! لو قُدِّر للناس، في تلك الأيام، أن يطَّلعوا على جلسات السمر تلك لجُنُّوا، فالشيخة هي أم كلثوم والمغني هو الشيخ رفعت وأحيانا الشيخ مصطفى إسماعيل!

حسن عبدالموجود صحفي وقاص مصري

اعتمد هذا المقال بشكل أساسي على كتاب «أم كلثوم وعصر من الفن» للدكتورة نعمات أحمد فؤاد

مقالات مشابهة

  • لماذا ثبت البنك المركزي سعر الفائدة ؟ .. تفاصيل
  • تفاصيل الغارات التي استهدفت صنعاء قبل قليل.. خسائر وضحايا
  • ضمن خطوات الثقافة لنشر التراث.. ليلة في حب أم كلثوم لمواهب الأوبرا بمعهد الموسيقى العربية
  • لماذا يصر جيش الاحتلال على استهداف النساء والأطفال في حرب غزة؟ تفاصيل
  • تفاصيل مثيرة.. إحباط تهريب مئات القطع الأثرية التي انتشلت من خليج أبو قير (شاهد)
  • ” الهُدهُد ” .. قصيدة من الشاعر محمد المجالي مُهداة لِلسجين الحُرّ الكاتب أحمد حسن الزّعبي
  • أحمد الخميسي: ضغط الدقائق الأخيرة كانت مرعبة
  • حصاد 2024.. أبرز الهواتف الصدفية القابلة للطي التي أطلقت خلال العام
  • أم كلثوم شجرة والشيوخ جذورها
  • السفير عبدالله الرحبي: اللغة العربية كانت دائمًا حاضرة بقوة في تاريخ عمان (صور)