الازدواجية الثقافية فى الواقع العربى المعاصر(5)
تاريخ النشر: 10th, September 2023 GMT
الدولة المدنية ورد الفعل الأصولى
-1-
ناقشت سابقًا كيف بدأ التحول الحداثى فى مصر بفرض نموذج «الدولة الوطنية» وكيف تم تمرير هذا النموذج وتثبيته على امتداد القرن التاسع عشر، بسلاسة نسبية تحت عين القوى التراثية التقليدية التى يمثلها الأزهر. فى هذه المرحلة المبكرة، حيث كان « النظام التراثي» فى لحظة تراجعه القصوى، لم ينتبه تمامًا لحجم التناقض مع المشروع الحداثي، ولم يبد حياله ردود أفعال مباشرة ذات طابع صدامى.
بوصفها مركز المشروع الحداثي، مثلت الدولة صلب الشاغل الأصولي، وعلى وقع الصدام معها ستتطور أشكال ومواقف الحركة الأصولية. ومن اللافت أن هذا التطور ظل يمضى تصاعديًا فى اتجاه أكثر سلفية، ومن ثم أكثر عنفًا وتصادمًا مع الفكرة المدنية.
-2-
على المستوى النظري، ولدت جماعة الإخوان المسلمين من رحم التيار التراثى المهجَّن الذى يمثله رشيد رضا. خاض هذا التيار معارك فكرية واسعة مع القوى التحديثية ذات التوجه العلمانى. ولأكثر من ثلاثة عقود شهدت مجلة «المنار» حوارًا ثقافيًا صاخبًا، برزت فيه أفكار مثل شمولية الإسلام وأسبقيته الحضارية، وفكرة الهوية الإسلامية الخاصة، والوحدة السياسية الجامعة. وهى الأفكار التى اشتغل عليها الأفغانى فى مناخات القرن التاسع عشر قبل سقوط الخلافة واستفحال النفوذ الاستعمارى الغربي، ومنها تشكلت صيغة جديدة من «الإسلام الثقافي» غير تقليدية من جهة الموضوع ولغة الطرح. وهى الصيغة التى التقطها حسن البنا لتصبح مادة الخطاب النظرى لجماعة الإخوان.
هذه الصيغة «حداثية» بمعنىً ما، من حيث هى ناتجة عن الاحتكاك السياسى والثقافى بالغرب. لذلك، ورغم تكوينها الأصولى السلفي، كانت واعية بحضور الحداثة وجاذبيتها الطاغية، وصممت آلياتها الاحتجاجية على أساس الحوار مع «الدولة المدنية» كأمر واقع قابل جزئيًا للتوافق مع مبادئ الإسلام. ومن هذه الزاوية يظهر الفارق النسبى بين السلفية الإخوانية المهجنة الموروثة من رشيد رضا، والسلفيات النقلية الصرف التى تجهل وجود التحدى الحداثى ( مثل النموذج الوهابى المبكر) أو التى تتجاهل الجدل معه ( مثل النماذج السلفية المتشددة التى ستظهر لاحقًا).
روَّج رضا لفكرة التفوق الإسلامي؛ فالإسلام ليس قادرًا على مقارعة أنظمة الدولة المدنية فحسب، بل سبق هذه الأنظمة إلى إقرار المبادئ والقيم التى تقوم عليها؛ فالديموقراطية مفهوم إسلامى منصوص عليه فى القرآن، وكما يشرح فى «تفسير المنار» « ليس بين القانون الأساسى الذى قررته هذه الآية على إيجازها وبين القوانين الأساسية لأرقى حكومات الأرض فى هذا الزمان إلا فرق يسير، نحن فيه أقرب إلى الصواب وأثبت فى الاتفاق منهم إذا نحن عملنا بما هدانا ربنا: هم يقولون إن مصدر القوانين الأمة، ونحن نقول بذلك فى غير المنصوص فى الكتاب والسنة كما قرر الإمام الرازي، والمنصوص قليل جدًا».
-3-
المشكل الذى يتجاهله هذا الطرح التوفيقي، يكمن فى نقطتين:
فى هذا الإطار يمكن فهم التضارب المنهجى حيال الدولة المدنية فى خطاب التيار الإخوانى. الذى يتأرجح بين مبادئه الأصولية الفقهية وأغراضه البرجماتية السياسية. وهو ما يشرح لماذا يظل هذا التيار عرضة للشك فى مصداقيته من قبل التيار المدني، وللطعن فى مشروعيته من قبل القطاعات الأصولية الأكثر سلفية. وهى القطاعات التى تعلن صراحة عن تناقضها الجوهرى مع فكرة الدولة المدنية، وسعيها لإزالتها كليًا، سواء عن طريق الدعوة «السلمية»، أو من خلال العنف والجهاد.
-4 -
يبدأ هذا التضارب الإخوانى من حسن البنا، الذى نقل عن رشيد رضا موقفه «السلفي» المتصالح «جزئيًا» مع الدولة المدنية؛ فالبنا، من ناحية، يؤكد على أن «السياسة الإسلامية نفسها لا تنافى أبدًا الحكم الدستورى الشورى. وهى واضعة أصله ومرشدة الناس إليه فى قوله تعالى « وأمرهم شورى بينهم» فالديموقراطية فيها الشورى وتبادل الرأي، وفيها إطلاق الحرية الفردية، فجعلها مشروطة بحقوق الجماعة وقيدها بذلك». (رسائل حسن البنا، رسالة مؤتمر طلبة الإخوان المسلمين 1939م).
يخلط البنا – بسذاجة- بين مفهوم الديموقراطية ومصطلح الشورى، فالديموقراطية «الحديثة» بحسب سياقها التاريخى لا تعنى «حكم الشعب» بالمعنى الذى يقابل الحكم الفردى ( الأوتوقراطي) فحسب، بل أيضَا بالمعنى الذى يقابل الحكم الدينى (الثيوقراطي). ولذلك فإن مشكل النظام الإسلامى مع النظام الدستورى الحديث لا يظهر فى المنطقة التى يتقاطع فيها النظامان وهى منطقة الشورى وتبادل الآراء لتقييد استبداد الحاكم الفرد بالسلطة، بل يظهر فى المنطقة التى يتعارضان فيها وهى منطقة التشريع التفصيلى التى ينظمها «القانون» والتى تسمح للمجتمع «بتغيير التشريعات» وفقًا لحاجاته المتغيرة بفعل التطور الضرورى.
حرفيًا، لا تعنى الشورى أكثر من «أخذ الرأي»، وهو معنى يتماهى مع نظام وثقافة الحكم الفردى الذى يختزل السلطة فى شخص الحاكم، حيث يجرى النقاش حول حدود الرأى ومدى إلزامه بالنسبة له. خلافًا للنظام الدستورى الذى يقوم ابتداء على فكرة توزيع السلطة بين مؤسسات الدولة بنوع من الفصل النظرى.
أما تاريخيًا وعلى مستوى النظرية السياسية، فلم يترجم نص الشورى فى التراث الإسلامى إلى أى صيغة «شعبية» تضمن مشاركة الجمهور فى «الحكم» أو تقييد سلطة الحاكم بشكل عملى. وتماشيًا مع الثقافة الاجتماعية السائدة « اختزل مفهوم الشورى فى مبدأ» أهل الحل والعقد» وهم بحسب النظرية مجموعة ضيقة لا يزيد عددها عن اثنين أو ثلاثة أفراد تسند إليهم مهمة اختيار الحاكم وإسداد النصح له، دون التزام منه بمضمون النصيحة. لكن الأهم هو أن النظرية عادت فنسفت هذا المبدأ نفسه من خلال إقرارها «بالتغلب» كآلية «مشروعة» لإسناد السلطة، ترجمةً لحالة الأمر الواقع.
تتعلق المسألة بخلفية الثقافة السياسية والاجتماعية السائدة فى العصر الوسيط الإسلامي، التى أنتجت هذا المفهوم الضيق للشورى، مقابل الخلفية الثقافية والاجتماعية الحديثة، التى أفرزت النسخة الراهنة من الديموقراطية والنظام الدستورى المدنى.
يتبع
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: الدولة المدنية الازدواجية الثقافية مصر الدولة المدنیة
إقرأ أيضاً:
كذبة الحقيقة في الإعلام
من حينٍ لآخر، تتسابق القنوات الإخبارية في الترويج لنفسها على أنها "ناقلة للحقيقة"، رافعة شعارات براقة مثل "الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة".
فعلى سبيل المثال، ترفع قناة سي إن إن شعارها الشهير "Truth First" أو "الحقيقة أولا". لكن هذا الشعار لا يتجاوز كونه لافتة دعائية، إذ لا يجد له صدى حقيقيا على أرض الواقع، خاصة إذا تذكرنا تغطية القناة لبدايات الحرب على غزة في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، عبر مراسلتها كلاريسا وورد (Clarissa Ward)، التي ظهرت في مشهدٍ تمثيلي وكأنها منبطحة على الأرض هربا من صواريخ مزعومة تستهدف إسرائيل، وفقا لما ورد في موقع "Reddit" تحت عنوان "The same Clarissa Ward that was caught faking stories in Israel" ، بينما أكدت وكالة رويترز لاحقا في تقرير نشر بتاريخ 11 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 بعنوان "Fact Check: Fake audio added to CNN video of Israel-Hamas war coverage " أن الصوت المرافق للفيديو كان مفبركا.
مثال آخر لسي إن إن: بتاريخ 23 تموز/ يونيو 2025. نشرت المحطة تقريرا يفيد بأن بعض قادة الحزب الديمقراطي الأمريكي لم يُبلغوا مسبقا بضربة على مواقع نووية في إيران، ثم اعتُرِفَ في التعديل بأن أحد القادة (Chuck Schumer) تمّ الاتصال به قبل الضربة، وليس بعد كما ورد في النسخة الأصلية.
وتعد المعلومات المضللة خطأ ارتكبته القناة لأنه يتعلق بتوقيت الإبلاغ وبشكل رسمي/سياسي حساس، ويُظهر كيف يمكن أن تغيّر تفاصيل "مَن أُعلم ومتى" منطق التغطية وتفسيرها.
لا يرتبط مفهوم الصحافة بمصطلح "الحقيقة"، فالمهنة في جوهرها تقوم على نقل الواقع من خلال معلومات دقيقة تشمل البيانات والأرقام والتصريحات والوثائق والصور والشهادات، وهي كلها أدوات قد لا تعكس الحقيقة الكاملة
وفي 17 كانون الثاني/ يناير 2025، حكمت هيئة محلفين في فلوريدا بأن سي إن إن قد قامت بتشويه سمعة المحارب الأمريكي السابق في البحرية زاكاري يونغ (Zachary Young) عبر تقرير نشرته الشبكة عام 2021 بشأن خدماته في إجلاء أشخاص من أفغانستان. بعدها وصلت سي إن إن إلى تسوية قانونية معه لتجنّب مرحلة المناقشة في العقوبات التأديبية في المحكمة.
من الناحية الأكاديمية، لا يرتبط مفهوم الصحافة بمصطلح "الحقيقة"، فالمهنة في جوهرها تقوم على نقل الواقع من خلال معلومات دقيقة تشمل البيانات والأرقام والتصريحات والوثائق والصور والشهادات، وهي كلها أدوات قد لا تعكس الحقيقة الكاملة.
فـ"الحقيقة" هي المعنى الكامن وراء هذه المعلومات، وغالبا ما تبقى بعيدة المنال؛ الوصول إليها مهمة تخص جهات أخرى -مثل القضاء- أكثر مما تخص الصحافة، رغم سعيها الدائم للاقتراب منها.
قمة الاحتراف في العمل الصحفي تكمن في نقل الحدث كما هو، بدقةٍ وتجرد، دون زيادة أو نقصان، ودون مشاعر أو آراء شخصية، مع عزو الخبر إلى مصدره الأصلي. غير أن هذا المبدأ الصارم يصعب تحقيقه، وتتعثر في تطبيقه معظم القنوات الإخبارية، التي تخضع أجنداتها التحريرية لميول سياسية أو تمويلية تنعكس على مضمونها فتشوه الصورة أمام المشاهد.
ويبقى السؤال: ما الحقيقة؟
مصطلح فضفاض يختلط فيه الرأي بالمعلومة، والصحيح بالمغلوط. يقول الصحفي الأمريكي الشهير آندي روني: "الناس بشكل عام يقبلون الحقائق على أنها حقيقة فقط إذا كانت الحقائق تتفق مع ما يؤمنون به بالفعل".
ختاما، جوهر الصحافة لا يقوم على "البحث عن الحقيقة"، بل على نقل ما يحدث كما هو، بموضوعية ومهنية. أما ما عدا ذلك، فليس من الصحافة في شيء، وإنْ تجمّل بشعارٍ رنانٍ اسمه "الحقيقة".