بوابة الوفد:
2025-04-07@06:02:33 GMT

الازدواجية الثقافية فى الواقع العربى المعاصر(5)

تاريخ النشر: 10th, September 2023 GMT

الدولة المدنية ورد الفعل الأصولى

-1-

ناقشت سابقًا كيف بدأ التحول الحداثى فى مصر بفرض نموذج «الدولة الوطنية» وكيف تم تمرير هذا النموذج وتثبيته على امتداد القرن التاسع عشر، بسلاسة نسبية تحت عين القوى التراثية التقليدية التى يمثلها الأزهر. فى هذه المرحلة المبكرة، حيث كان « النظام التراثي» فى لحظة تراجعه القصوى، لم ينتبه تمامًا لحجم التناقض مع المشروع الحداثي، ولم يبد حياله ردود أفعال مباشرة ذات طابع صدامى.

لكنه سيشرع تدريجيًا فى إفراز تيار تراثى غير تقليدى (من خارج المؤسسة الفقهية) للدخول فى جدل نظرى مع الفكر التجديدى الذى صار حاضرًا بقوة خصوصًا بعد انهيار الدولة العثمانية وسقوط فكرة الخلافة. وعبر هذا الجدل سيتحول التيار التراثى النظرى إلى «حركة أصولية» منظمة موجهة بالأساس ضد الدولة.

بوصفها مركز المشروع الحداثي، مثلت الدولة صلب الشاغل الأصولي، وعلى وقع الصدام معها ستتطور أشكال ومواقف الحركة الأصولية. ومن اللافت أن هذا التطور ظل يمضى تصاعديًا فى اتجاه أكثر سلفية، ومن ثم أكثر عنفًا وتصادمًا مع الفكرة المدنية.

-2-

على المستوى النظري، ولدت جماعة الإخوان المسلمين من رحم التيار التراثى المهجَّن الذى يمثله رشيد رضا. خاض هذا التيار معارك فكرية واسعة مع القوى التحديثية ذات التوجه العلمانى. ولأكثر من ثلاثة عقود شهدت مجلة «المنار» حوارًا ثقافيًا صاخبًا، برزت فيه أفكار مثل شمولية الإسلام وأسبقيته الحضارية، وفكرة الهوية الإسلامية الخاصة، والوحدة السياسية الجامعة. وهى الأفكار التى اشتغل عليها الأفغانى فى مناخات القرن التاسع عشر قبل سقوط الخلافة واستفحال النفوذ الاستعمارى الغربي، ومنها تشكلت صيغة جديدة من «الإسلام الثقافي» غير تقليدية من جهة الموضوع ولغة الطرح. وهى الصيغة التى التقطها حسن البنا لتصبح مادة الخطاب النظرى لجماعة الإخوان.

هذه الصيغة «حداثية» بمعنىً ما، من حيث هى ناتجة عن الاحتكاك السياسى والثقافى بالغرب. لذلك، ورغم تكوينها الأصولى السلفي، كانت واعية بحضور الحداثة وجاذبيتها الطاغية، وصممت آلياتها الاحتجاجية على أساس الحوار مع «الدولة المدنية» كأمر واقع قابل جزئيًا للتوافق مع مبادئ الإسلام. ومن هذه الزاوية يظهر الفارق النسبى بين السلفية الإخوانية المهجنة الموروثة من رشيد رضا، والسلفيات النقلية الصرف التى تجهل وجود التحدى الحداثى ( مثل النموذج الوهابى المبكر) أو التى تتجاهل الجدل معه ( مثل النماذج السلفية المتشددة التى ستظهر لاحقًا).

روَّج رضا لفكرة التفوق الإسلامي؛ فالإسلام ليس قادرًا على مقارعة أنظمة الدولة المدنية فحسب، بل سبق هذه الأنظمة إلى إقرار المبادئ والقيم التى تقوم عليها؛ فالديموقراطية مفهوم إسلامى منصوص عليه فى القرآن، وكما يشرح فى «تفسير المنار» « ليس بين القانون الأساسى الذى قررته هذه الآية على إيجازها وبين القوانين الأساسية لأرقى حكومات الأرض فى هذا الزمان إلا فرق يسير، نحن فيه أقرب إلى الصواب وأثبت فى الاتفاق منهم إذا نحن عملنا بما هدانا ربنا: هم يقولون إن مصدر القوانين الأمة، ونحن نقول بذلك فى غير المنصوص فى الكتاب والسنة كما قرر الإمام الرازي، والمنصوص قليل جدًا».

-3-

المشكل الذى يتجاهله هذا الطرح التوفيقي، يكمن فى نقطتين:

فى هذا الإطار يمكن فهم التضارب المنهجى حيال الدولة المدنية فى خطاب التيار الإخوانى. الذى يتأرجح بين مبادئه الأصولية الفقهية وأغراضه البرجماتية السياسية. وهو ما يشرح لماذا يظل هذا التيار عرضة للشك فى مصداقيته من قبل التيار المدني، وللطعن فى مشروعيته من قبل القطاعات الأصولية الأكثر سلفية. وهى القطاعات التى تعلن صراحة عن تناقضها الجوهرى مع فكرة الدولة المدنية، وسعيها لإزالتها كليًا، سواء عن طريق الدعوة «السلمية»، أو من خلال العنف والجهاد.

-4 -

يبدأ هذا التضارب الإخوانى من حسن البنا، الذى نقل عن رشيد رضا موقفه «السلفي» المتصالح «جزئيًا» مع الدولة المدنية؛ فالبنا، من ناحية، يؤكد على أن «السياسة الإسلامية نفسها لا تنافى أبدًا الحكم الدستورى الشورى. وهى واضعة أصله ومرشدة الناس إليه فى قوله تعالى « وأمرهم شورى بينهم» فالديموقراطية فيها الشورى وتبادل الرأي، وفيها إطلاق الحرية الفردية، فجعلها مشروطة بحقوق الجماعة وقيدها بذلك». (رسائل حسن البنا، رسالة مؤتمر طلبة الإخوان المسلمين 1939م).

يخلط البنا – بسذاجة- بين مفهوم الديموقراطية ومصطلح الشورى، فالديموقراطية «الحديثة» بحسب سياقها التاريخى لا تعنى «حكم الشعب» بالمعنى الذى يقابل الحكم الفردى ( الأوتوقراطي) فحسب، بل أيضَا بالمعنى الذى يقابل الحكم الدينى (الثيوقراطي). ولذلك فإن مشكل النظام الإسلامى مع النظام الدستورى الحديث لا يظهر فى المنطقة التى يتقاطع فيها النظامان وهى منطقة الشورى وتبادل الآراء لتقييد استبداد الحاكم الفرد بالسلطة، بل يظهر فى المنطقة التى يتعارضان فيها وهى منطقة التشريع التفصيلى التى ينظمها «القانون» والتى تسمح للمجتمع «بتغيير التشريعات» وفقًا لحاجاته المتغيرة بفعل التطور الضرورى.

حرفيًا، لا تعنى الشورى أكثر من «أخذ الرأي»، وهو معنى يتماهى مع نظام وثقافة الحكم الفردى الذى يختزل السلطة فى شخص الحاكم، حيث يجرى النقاش حول حدود الرأى ومدى إلزامه بالنسبة له. خلافًا للنظام الدستورى الذى يقوم ابتداء على فكرة توزيع السلطة بين مؤسسات الدولة بنوع من الفصل النظرى.

أما تاريخيًا وعلى مستوى النظرية السياسية، فلم يترجم نص الشورى فى التراث الإسلامى إلى أى صيغة «شعبية» تضمن مشاركة الجمهور فى «الحكم» أو تقييد سلطة الحاكم بشكل عملى. وتماشيًا مع الثقافة الاجتماعية السائدة « اختزل مفهوم الشورى فى مبدأ» أهل الحل والعقد» وهم بحسب النظرية مجموعة ضيقة لا يزيد عددها عن اثنين أو ثلاثة أفراد تسند إليهم مهمة اختيار الحاكم وإسداد النصح له، دون التزام منه بمضمون النصيحة. لكن الأهم هو أن النظرية عادت فنسفت هذا المبدأ نفسه من خلال إقرارها «بالتغلب» كآلية «مشروعة» لإسناد السلطة، ترجمةً لحالة الأمر الواقع.

تتعلق المسألة بخلفية الثقافة السياسية والاجتماعية السائدة فى العصر الوسيط الإسلامي، التى أنتجت هذا المفهوم الضيق للشورى، مقابل الخلفية الثقافية والاجتماعية الحديثة، التى أفرزت النسخة الراهنة من الديموقراطية والنظام الدستورى المدنى.

 يتبع

 

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: الدولة المدنية الازدواجية الثقافية مصر الدولة المدنیة

إقرأ أيضاً:

نتنياهو الخسران الأكبر

وقفتنا هذا الأسبوع نتحدث فيها عما يتصل بأشقائنا الفلسطينيين الأحباب، بعد أن وصلت مشكلتهم لمفترق الطرق، فصبرهم هذا لا تتحمله الجبال، ولكن صبرهم ومقاومتهم الغراء أصبح نذير خير بقرب إعلان انتصارهم إن شاء الله ولِمَ لا وهو وعد الله الحق، من يصبر ينل.

فالصبر مفتاح الفرج، إن بعد العسر يسر، وأكاد أرى اكتمال نصر الله سبحانه وتعالى لهم يلوح فى الأفق، بعد إعلان خسارة نتنياهو وجيشه وعملائهم قريبًا إن شاء الله.

فهذا النتنياهو يغرق فى بحر رمال غزة كما يغرق العصفور فى بحر رمال صحراء الربع الخالى، وما يزال هناك الكثير لتبوح به معركة طوفان الأقصى التى بدأت فى السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ ومستمرة حتى الآن فى أطول معركة، يخوضها الصهاينة فى تاريخهم ولم يتبق إلا إعلان هزيمتهم برغم الدمار الذى أحلوه بغزة والضفة، ولكنه يبين حجم الفشل والمستنقع العميق الذى سقطوا فيه سقوطًا مدويًا.

لم يتبق لنتنياهو وعصابته إلا ما يفعله أي منهزم ألا وهو استخدام آخر كارت فاشل ألا وهو استخدام السلاح الذى لا يملك إلا غيره، ألا وهو سلاح الطيران الحربى ولكنه رغم أنه سلاح مدمر، ولكنه ليس كل شيء بل اقترب موعد حرقه، مع صبر أشقائنا فى فلسطين فلن تقبل أمريكا ودول أوروبا استمراره فى فشله، لأن لهم مصالح متوقفة فى منطقة الشرق الأوسط والبحر الأحمر لن يصبر معه داعموه كثيرًا، وسنرى انتصار الفلسطينيين قريبًا إن شاء الله.

إلى هنا انتهت وقفتنا لهذا الأسبوع أدعو الله أن أكون بها من المقبولين، وإلى وقفة أخرى الأسبوع القادم إذا أحيانا الله وأحياكم إن شاء الله.

ماكرون: قمة ثلاثية مع الرئيس السيسي والملك عبد الله لبحث الوضع بغزة

اليونيسف: منع دخول المساعدات إلى غزة يؤثر على أكثر من مليون طفل

مقالات مشابهة

  • مناقشة مشروع قانون المؤسسات المدنية بـ الشورى
  • نتنياهو الخسران الأكبر
  • مصادر تكشف تطورات مثيرة فى أزمة تجديد عقد زيزو .. تعرف عليها
  • تأجيل محاكمة 37 متهما في خلية التجمع بـ 17 مايو
  • المؤتمر: مصر قادرة على مواجهة التحديات والصمود في وجه محاولات تشويه الواقع
  • عمرو الليثي: الدراما التليفزيونية شهدت تزايدا ملحوظا في استخدام لغة السرسجية
  • متحف آثار ملوي بالمنيا يشارك فى يوم المخطوط العربي
  • متحف آثار ملوي يشارك في يوم المخطوط العربي
  • *«سخمت» نجمة يوم المخطوط العربي في متحف ملوي: رحلة عبر عظمة الحضارة المصرية القديمة
  • المجمع الثقافي ينظم معرضاً عالمياً للفن الماليزي المعاصر