كى تعرف عظمة سيد درويش ودوره المذهل فى تطوير الموسيقى المصرية والعربية، عليك بالإنصات إلى المطربة التونسية حبيبة مسيكة التى رحلت عام 1930، حيث سجلت هذه المطربة الموهوبة عدة أغنيات لخالد الذكر. أى أن موسيقى الرجل عبرت الحدود قبل أكثر من قرن من الزمان، ليرددها مطربون آخرون، وتنفعل بها وتستمتع شعوب عربية غير مصرية.
فى 15 سبتمبر 1923 رحل سيد درويش، وليس 10 سبتمبر كما هو مدون فى شبكة الإنترنت، ودليلى فى صحة تاريخ الوفاة الذى ذكرته أن المخرج أحمد بدرخان سجله فى نهاية فيلمه (سيد درويش) الذى عرض فى 5 أكتوبر 1966، وأظن أن الفيلم وثيقة أكثر دقة، خاصة وأنه تم كتابة الفيلم وتنفيذه وإنتاجه وكثير من رفاق سيد درويش كانوا على قيد الحياة، أمثال محمد عبدالوهاب، والأهم بديع خيرى الصديق الشخصى لسيد درويش. صحيح أن بديع رحل قبل عرض الفيلم بعدة أشهر، لكن هذا لا يمنع أن بدرخان استعان به فى جمع الكثير من المعلومات عن صاحب (قوم يا مصري).
أما حبيبة مسيكة، فقد ولدت فى تونس عام 1893 (هناك معلومة على الإنترنت تزعم أنها مولودة فى 1903، وأظنها غير دقيقة)، لأنها شاركت بالغناء والتمثيل فى عدة فرق تونسية منذ سنة 1911، حتى رحيلها المأساوى.
المهم أن أغنيات سيد درويش أبهجت حبيبة مسيكة وأسعدتها وهى قابعة هناك فى تونس، فقررت غناء الكثير منها، وبالفعل استمعتُ إلى صوتها الجميل وهى تشدو بأعمال خالدة للشيخ سيد مثل (يا عزيز عينى وأنا نفسى أروّح بلدي)، و(زورونى كل سنة مرة)، و(طلعت يا محلا نورها)، وغيرها (توجد تسجيلات لأغنيات سيد درويش بصوت حبيبة مسيكة فى اليوتيوب).
لا ريب فى أن سيد درويش حرر الموسيقى الشائعة فى عصره من سجن الرتابة والملل، كما أخرجها من برودة الصالونات وسأم القصور، ثم ابتكر أنغامًا جديدة استلهمها من الميادين والشوارع والحارات الضاجة بحيوية الشعب المصرى ونضارته وإقباله على الكفاح والعمل. ولا شك أيضًا فى أن ثورة 1919 ضد الاحتلال الإنجليزى لعبت الدور الأهم فى تأجيج الموهبة الموسيقية لهذا الشاب العبقرى، حتى أن عبدالوهاب قال عن موسيقاه حين سمعها لأول مرة: (إنها موسيقى عِشَريّة... موسيقى بنت حلال... موسيقى لها أب ولها أم)، وقد قطع الشاب عبدالوهاب المسافة بين نادى الموسيقى بقلب القاهرة حتى بيته بباب الشعرية ركضًا من فرط انبهاره بموسيقى الشيخ السيد عندما صافحت أذنيه للمرة الأولى عام 1917 تقريبًا.
أذكر أننى شاهدت فى منتصف التسعينيات ضمن عروض مهرجان القاهرة السينمائى الدولى الفيلم التونسى (رقصة النار) عن حياة حبيبة مسيكة، وكم أحزننى أن عشيقها الذى هجرته أشعل النار فى جسدها وهى نائمة، فماتت!
وأذكر أيضًا كم ابتهجت وأنا أنصت إلى شدوها بأغنية سيد درويش الخالدة (زورونى كل سنة مرة... حرام تنسونى بالمرة).
تخيل... 100 عام على رحيل سيد درويش... ومازالت موسيقاه تبهجنا وتشجينا.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: سيد درويش الموسيقى المصرية سید درویش
إقرأ أيضاً:
الترند.. و"حرمة البيوت"
كاميرا أى موبايل محدود الإمكانيات، تستطيع من خلالها الانتقال إلى عوالم من التفاعل مع أناس لا تعرفهم، وحصد الملايين من المشاركات والإعجاب بما تقدمه، وبالتالي حصد الملايين من الجنيهات بل والدولارات أيضا، وهو ما تابعناه خلال السنوات الأخيرة من "ربات بيوت" محدودات الإمكانيات، وقد تحولن إلى سيدات "ثريات" يسكنّ الفلل ويتنقلن بالسيارات الفارهة ويستقدمن الخادمات، كل ذلك بفضل فضاء السوشيال ميديا الذى أصبح الكثيرون يلهثون وراءه.
فوضى السوشيال ميديا التى أصابت الكثيرين بـ"الهوس" لم يقتصر تأثيرها على صانع المحتوى الذى استباح خصوصيات حياته وحرمة بيته ونشرها على الملأ، رغبة فى جني المزيد من الأموال، ولكنها أثرت أيضا على المتلقي الذى أدمن المشاهدة واعتاد عليها بعد أن تسللت كالمخدر إلى عقله وسيطرت عليه وعملت شيئا فشيئا على تفتيت الثوابت والقيم، منذ فترة تابعت صفحات بعض السيدات وكانت فى البداية عبارة عن استعراض مهارات الطبخ، ولكن مع تتابع الحلقات وزيادة عدد زوار الصفحات تطور الأمر بكثير منهن، وتطرقن إلى موضوعات ومسائل شخصية غاية فى الخصوصية، وهو ما دفعني إلى الغاء المتابعة لكل تلك الصفحات التى تمر أمامي على الفيسبوك من دون أن أبحث عنها.
للأسف الظاهرة يبدو أنها تحولت إلى النخبة من أصحاب المهن ومنهم الأطباء، ولعل ما أثارته طبيبة كفر الدوار من جدل بسبب طريقتها "الفاحشة" فى الحديث عن خصوصيات مرضاها، والتى أقسمت على الحفاظ عليها بحكم وظيفتها، جدد الحديث من جديد حول هذا "الجنون" الذى أصاب البعض جريا وراء الأرباح المادية، وهو هدفها ولا شيء غيره، ومن ثم فلا أتفق مع الرأى القائل إن الطبيبة لم تذكر أسماء ولكنها تحدثت عن واقع موجود بالفعل، وهو أمر مرفوض بالطبع، فإذا كانت تهتم بالتوعية فليست السوشيال ميديا مكانا مناسبا، وخاصة فى مثل هذه الأمور الدقيقة.
الأرباح الخيالية التى يحققها هؤلاء "اليوتيوبرز" يبدو أنها أصابتهم بالهوس، فاستباحوا خصوصياتهم لنشرها على الملأ، غير عابئين بتأثير ذلك على حياتهم الشخصية، ولا انعكاسات ذلك على الآخرين، فالمال هو المبتغى والمراد ومن أجله يهون كل شيء.
ظاهرة اليوتيوبرز بدأت فى مصر منذ عدة سنوات، لكنها أصبحت منتشرة على نطاق واسع خلال الآونة الأخيرة، ورأينا كيف حقق عدد كبير منهم وباختلاف المحتوى الذى يقومون بتقديمه، شهرة واسعة حتى تخطى المليون متابع على حساباتهم بالمنصات المختلفة، كما حققت القنوات الخاصة بهم عبر اليوتيوب ملايين الأرباح، ووفقا للأرقام المعلنة حقق زوجان أكثر من 92 مليون مشاهدة خلال شهر واحد فقط، بأرباح وصلت الى 4 ملايين و400 ألف دولار، وآخر وصلت أرباحه لما يزيد على 200 مليون مشاهدة خلال شهر واحد، وربحا سنويا بلغ 9 ملايين و600 ألف دولار.
بالتأكيد فإن خللا ما قد أحدث هذه الحالة الجديدة على مجتمعنا والتى أسهمت مواقع التواصل الاجتماعي فى الوصول إليها.. وبالتأكيد أيضا أن هوس الميديا فى بعض الاحيان والترند فى أحيان أخرى، أفقد البعض "اتزانهم النفسي"، وغيب الحكمة والعقلانية من تصرفاتهم، فأصبحوا مادة للفضائح والنميمة وكشف "الستر، وهو ما يستوجب وقفة مع النفس أولا ثم بإجراءات تقنين مسئولة تحد من هذا "الغثاء القاتل".