المسرح في لتوانيا: الحرب في أوكرانيا تلقي بظلالها على المهرجان
تاريخ النشر: 10th, September 2023 GMT
لتوانيا دولة مجاورة لأوكرانيا وعضيدة لها وما كان من الممكن أن يمضي المهرجان دون انعطافه حانية عليها وتعاطف حميمي معها، خصوصا وأن الحرب في ذروة مجرياتها والنيران لم تخمد أوارها بعد في مايو 2023.
من هذا المنطلق استضاف المهرجان في كلايبيدا اللتوانية المسرحية الأوكرانية "يوميات مواطن مدني"، والمسرحية تتحدث بتفصيل شديد عن مواطن أوكراني يكتب يومياته عن أول 14 يوما من الحرب، وكما يذكر الكاتب بافلو آري وهو فنان مسرحي أن فكرة كتابة اليوميات هي فكرة سابقة للحرب عندما تعرض للضغوطات المهنية الحادة وتواصل مع طبيبة نفسية ليستشيرها، كانت أهم نصيحة قدمتها له هي أن يكتب كل ما يعن له وما يقلقه في يومه، لم يعبأ كثيرا بالنصيحة في حينها ولكن في اليوم الثاني للحرب وجد أن تلك النصيحة قد تكون مفيدة له في ظل توتر نفسي وخوف عميق وفزع تملكه وتملك كل أحاسيسه، فشرع يكتب وبحسه الفني قد أثمرت الكتابة عن عمل مسرحي.
يؤكد الكاتب أن نصه هو ذاكرة تاريخية توفر مساحة رحبة للأجيال أن تعي المواقف وأن تعرف حقيقة ما حصل، فالنص بهذا التوصيف يحمل قيمة تاريخية وأدبية في آن واحد. تخيلوا شعور مواطن مسالم يعيش في أمان يجد نفسه فجأة في أتون حرب طاحنة!!!، ارتبكت أحوالي وصرت لا أفهم ولا أعرف كيف أعيش، عندما تكون هنالك حرب في بلدك يعم الخوف وعدم معرفة المرء كيف يتعامل مع الوضع مما يخلق حالة من الفوضى، الفزع عم ليس فقط عندي وفي بلدي بل في أوروبا كلها.
"إنني ما أزال حيا"
ويضيف الكاتب، أردت أن أسجل الـ 14 يوما الأولى بكل مجرياتها المحيطة بي كي أشارك الجمهور فيها معي، عندما يصبح عالمك الحر المألوف والحبيب مختلفًا، عندما تخرج من حالة إنكار للوضع إلى حالة القبول بالأمر الواقع والتعامل معه، بكل معطيات أبجدياته المستحدثة من ألم فقد وخسارة، وعندما تتساءل تكرارا هل ستعود الحياة يوما إلى ما كانت عليه، أم أن الأمل في ذلك أضحى معدوما؟ عندها تغرق في بحر من الحيرة والأسى.
تبدأ المسرحية في يوم 24 فبراير 2022، بهاتف من الأم تصرخ "الحرب"، بطل العرض الذي بدا غير مستوعب للأمر ويحاول أن يهدئ الأم ونفسه ويخفف من هول الأمر بداية سرعان ما يستوعب هول الحدث ويشرع في معايشته لحظة بلحظة.
إن استدرار الجانب العاطفي مهم جدا في مثل هذا العرض المسرحي، فالعرض لا يصبو إلى متعة فكرية أو جمالية خالصة كما هو الحال في العرض المسرحي التقليدي، بل هو يريد أن يستنهض الجمهور إلى درجة الاستفزاز ليتعاطفوا مع قضيته المطروحة وهي قضية آنية حية صاخبة ملتهبة، فهو يتحدث عن جرح ينزف الآن في التو واللحظة لا عن ماض تليد أو قريب، لذا كان توظيف الأم ومشاعر الأمومة وخوفها الشديد على ولدها أداة فاعلة في تأجيج المشاعر خصوصا وأن الأم تسكن في مدينة، فييف، في الأطراف بعيدة عن العاصمة، فطوال الأيام اتصالات الأم لا تنقطع إطلاقا مع ولدها في إشارة بليغة عن حالة القلق التي انتابت كل الأمهات الأوكرانيات على أولادهن لاسيما أولئك الذين رفضوا الهجرة وآثروا البقاء في المدينة كبطل المسرحية.
وفي سياق آخر تصف المسرحية أحوال مدينة كييف العاصمة، فتتحدث عن أصوات الانفجارات والقنابل وإغلاق الطرق والمحلات التجارية عدا بعض البقالات التي ازدحم الناس أمامها في طوابير طويلة، وكيف أن قطارات الإخلاء امتلأت عن بكرة أبيها بالنازحين الذين يقضون ما بين عشرة إلى عشرين ساعة وقوفا حتى يصلوا إلى منطقة آمنة، وكيف أن مواقف السيارات الأرضية تحولت إلى ملاجئ لكل المواطنين حيث اكتظت بالأطفال والنساء والرجال في حالة يرثى لها.
يخبرنا بطل المسرحية كيف تواصل معه الأصدقاء عبر الفيس بوك من معظم دول العالم ليطمئنوا عليه وعلى بلده، فكتب عبارة واحدة لهم جميعا "إنني ما أزال حيا"، ثم كيف هو من تواصل مع زملائه وأصدقائه من الفنانين الروس ليستطلع مواقفهم، فإذا بهم جميعا يلوذون بالصمت الرهيب.
ويخبرنا كيف أن محطات التلفزة الإخبارية أضحت هي النافذة اليومية والأكثر أهمية لمعرفة تطورات الأحداث، ولكنها في ذات الوقت أضحت مصدر توتر وضغط نفسي هائل.
المسرح مغلق إلى أجل غير مسمى
أما الملاذ الحاني للكاتب المسرحي في تلك الأيام العصيبة فهو المسرح، بيته الثاني، المسرح الذي كان يعمل فيه، في زيارته الأولى للمسرح وجد في لوحة الإعلانات عبارة صريحة: "المسرح مغلق إلى أجل غير مسمى" أزعجته العبارة، ولكن ظل المسرح هو المكان الذي يتنفس فيه الصعداء، كلما ذهب إليه أحس بالارتياح والأمان، وهنا، لا شك، استنهاض عاطفي آخر لفئة الفنانين والمثقفين الذين يعنيهم أمر المسرح بشدة.
مسرحية "يوميات مواطن مدني" اعتمدت على السرد وهي أقرب إلى المونودراما، مسرحية الممثل الواحد، وقد بذل الممثل والمخرج جهودا حثيثة لتقديم العمل بصورة فنية لاسيما في استخدام السينما والمشاهد الفيلمية والوثائقية، وهذه السمات عموما هي الأوفق في المسرح السياسي منذ العهد البريختي، إلا أن هنالك فارقا جوهريا يظل قائما بين البريختية التي اعتمدت على التغريب وكسر الإيهام والجدل العقلاني تجنبا للاستغراق العاطفي بينما لعبت هذه المسرحية على الوتر العاطفي بإصرار وتعمد جليين، وقد لا نجانب الحقيقة إذا قلنا إن الجانب العاطفي الآني ظل هو المحرك الأساسي البارز لمنتجي المسرحية ولمشاهديها، فقد هيمن هذا الجانب هيمنة واضحة على العرض، وكان السؤال البديهي: لو أن هذه المسرحية عرضت بعد انتهاء الحرب بسنوات هل كانت ستلقى نفس الصدى والتجاوب الحالي؟ والسؤال الآخر الذي يطرح نفسه بإلحاح ألا يقتضي الفن المسرحي حدا فاصلا بين الحدث الواقعي ذات التوجه الانفعالي الأحادي والحدث الإبداعي الإشكالي؟ ذلك أمر يستدعي التأمل والتفكير.
العقار فخ الرأسمالية الحديث والمطورون أداته
آخر العروض المسرحية التي نود الحديث عنها في هذه الإطلالة على المسرح اللتواني هي مسرحية "الدراما العقارية" ولعلنا نورد أمرين هما أهم ما يميز هذا العرض، الأول إن كاتب المسرحية ومخرجها من أشهر الفنانين اللتوانيين وأنشطهم حراكا في المرحلة الراهنة، والثاني أن موضوع المسرحية "العقار" هو استجلاء لمساحة اجتماعية واقتصادية تلعب دورا حيويا فاعلا في حياتنا المعاصرة دون أن يولى هذا الدور الاهتمام الكافي.
السكن المناسب هو الأمان والاستقرار للفرد للأسرة وللمجتمع عموما، في كثير من المجتمعات المعاصرة أصبح حلما إن لم نقل حلما مستحيلا أو شبه مستحيل، الأراضي في معظم المدن المكتظة بالسكان أصبحت نادرة جدا، والبناء عملية معقدة قد تعود على الشخص بالخيبة وفقدان الأمل ما لم يملك الخبرة ويكون دقيقا وماهرا، كم منا يملك الخبرة والدقة والمهارة لبناء بيت العمر بالمواصفات التي يتطلع إليها ويملك المال اللازم لذلك، فيظل البديل السهل لنقص الخبرة الاستعانة بمقال واستشاري وشركة متابعة، إدارة المشاريع، وكل هؤلاء لا يضمنوا من الجودة شيئا ناهيك عن استنزاف مالي لا حدود له يرهق ذوي الدخل المحدود بل وحتى ذوي الدخل المعقول.
ذلك خطاب يجيد المطورون العقاريون استخدامه، وعلى الطرف الآخر تنبري البنوك فاردة عضلاتها بقروض ميسرة ولكنها شبه أبدية، وبين كماشة المطورين العقاريين والبنوك يقبع الفرد البسيط أسيرا لحلم منشود أغلقت دونه كل الأبواب إلا هاذين البابين، فما بالك وقد اجتاحت الكون جائحة عاصفة مبيدة مثل كورونا، التي ضاعفت القلق والخوف في النفوس وزادت الهم هما، فسارع الجميع في البحث عن خلاص عاجل، وجلهم ارتأوا أن السكن هو الخلاص والأمان، فهرعوا إلى البنوك واضعين كل مدخراتهم وقروضهم في خزنة مطوري العقار الذين لا يتوانون عن تقديم الصورة الزاهية الجذابة لمنزل المستقبل بكل امتيازاته العصرية والتي كانت في يوم من الأيام رفاهية أضحت اليوم احتياجات ضرورية.
بروح من الدعابة والحدة، ومن الجدية الساخرة لعبت المسرحية على ذلك الثالوث الرهيب الذي ما زال يحكم حياتنا المعاصرة، فشركات التطوير العقاري التي أضحت اليوم شريان حركة البناء في معظم مدن العالم، بغض النظر عما لها من إيجابيات وسلبيات، فإن جزءا كبيرا مما تبيعه للمستهلك هو الوهم، الإعلانات البراقة، والصور الخلابة، وأساليب التسويق المبتكرة تعمي البصر عن كثير من الحقائق، كالمغالاة في الأسعار والفوائد مثلا، وإلزام المستهلك بقسط الخدمات الباهظ مدى العمر بعد استلام العقار، وغيرها الكثير.
ولعل المسرحية تخلص إلى القول بأن شركات التطوير العقاري ما هي إلا غول الرأسمالية الحديثة، ووجه من أوجهها الجديدة التي تضاعف ثروات الأثرياء وتمعن في استغلال البسطاء.
بقي أن نقول إن المسرحية فازت بالجائزة العالمية للكتاب المسرحيين في عام 2021 في مهرجان هايدلبرغ (ألمانيا) المسرحي "Heidelberger Stückemarkt".
في تلك الإطلالة على المسرح في لتوانيا من خلال المهرجان المسرحي في مدينة كلايبيدا البحرية، يمكننا أن نجمل القول، بأن المسرح في لتوانيا يمتاز بالجدية والتنوع ويلعب دورا جوهريا في حياة الشعب وقضاياه وهمومه، وكان من الطبيعي للحرب في أوكرانيا أن تؤثر على عروض المهرجان والمهرجان بصفة عامة، كما أن جائحة كورونا لم تلملم آثارها بعد من أرصفة المدن.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
الخطاب السياسي الذي أشعل الحروب في السودان
الخطاب السياسي لدولة السادس والخمسين منذ مجيئها إلى حيز الوجود، قبل إعلان (الاستغلال) ببضعة أشهر ساهم في اندلاع جميع الحروب، ابتداء من حرب الجنوب الأولى – تمرد توريت – وانتهاء بالحرب القائمة الآن، دشن السياسيون الشماليون خطاباً عدائياً تجاه نخب الجنوب السياسية، وتمركز التوجه العام لهذا الخطاب حول الكراهية العرقية والدينية والفرز الجهوي، واشتغلت الأجهزة الإعلامية والصحفية على ترميز الجنوب والجنوبيين على أساس أنها شعوب بدائية لم تبلغ الحلم، وبالتالي لابد من وجود كفيل يقوم برعايتها، استمر ذلك الخطاب طيلة مدة اشتعال حروب الجنوب الثلاث، وتم تغييب وعي المجتمعات الشمالية، فتبنت السردية المجحفة بحق شقيقهم شعب الأبنوس الجميل، فالحروب بالشرق الأوسط وافريقيا تندلع بدوافع التباينات الجغرافية والدينية والعرقية، فأخذ الجنوبيون حظهم من الفرز الوطني بحجة أن غالبهم يعتنق المسيحية، فعمل الخطاب السياسي للشمال المسلم ما في وسعه لقطع صلات التلاقي الاجتماعي بين الجهتين، ولا يجب أن ننسى الدور الفاعل الملعوب من الإدارة البريطانية، وقرارها ببذر بذور الشقاق وسياسة فرق تسد والمناطق المغلقة، ولكن، ما كان يجب على النخبة الحاكمة بعد ذهاب "الخواجة" أن تواصل فيما خلّفه المستعمرون من سياسات ظالمة، وأيضاً لا يستقيم منطقاً أن يكون هذا مبرراً للفاشلين من الحكام لإخفاقهم في حل مشكلة الجنوب.
تمددت الحرب شمالاً وغرباً لذات السبب – الخطاب السياسي الرافض للآخر والمشيطن له، وجميعنا يستحضر خطاب الدكتاتور عمر البشير بعد انفصال جنوب السودان، ووصفه لفترة حكومة الوحدة الوطنية (بالدغمسة) – عدم الوضوح، في إشارة لانعدام الإرادة الوطنية من جانبهم لاستكمال اهداف اتفاق السلام الشامل، والدكتاتور في حقيقة قوله يعني خروج الجنوب المسيحي، وبقاء الشمال (المسلم) خالصاً لأهله لإقامة (دولة الخلافة الراشدة)، متناسياً المسيحيين المتبقين بالشمال، فالخطاب السياسي الداعم لخط الانحياز الديني أدى لتقطيع الوطن إلى جزئين، مختلفاً عن الخطاب الموجه للسودانيين بعد تمرد دارفور حيث دق إسفين العروبة والأفريقانية، بين المكونين الاجتماعيين اللذين عاشا ردحاً من الزمن، في تماسك اجتماعي واقتصادي وسياسي، أما الخطاب المدشن بعد اندلاع الحرب بين الجيش المختطف من الحركة الإسلامية وقوات الدعم السريع، لم يجد منظروه بداً من وصف أفراد القوة العسكرية الشقيقة بأنهم غزاة أجانب، في مهزلة مضحكة للطفل قبل الشيخ الهرم، إذ كيف لرمز سيادة البلاد أن يكون سيّداً وأجنبياً في آن واحد؟، فالخطاب الأخير جاء غير مقنع لقطاعات عريضة من المجتمعات السودانية، وفضح الجذر المتأصل للمأساة الممتدة من بدايات تأسيس دولة السادس والخمسين، والذي عمل مصدروه بكل جهد لتفكيك وحدة البلاد واستمراء المضي قدماً في ذات الاتجاه السالب.
الفشل الكبير للخطاب السياسي المركزي عبر الحقب، ظهرت آخر مخرجاته في القفز على الواقع الداخلي وإصدار التهم للدول الجارة والشقيقة، التي تضامنت مع السودانيين في محنهم، فبعد أن أكدت الحرب المشتعلة بين الجيشين على سقوط السيادة الوطنية، وخروج الدولة من الفاعلية الإقليمية والدولية، بفقدانها لنظام الحكم الشرعي الذي كان قبل انقلاب أكتوبر، اصبح الجيش المختطف من جماعة الاخوان يتأرجح مثل الذي يتخبطه الشيطان من المس، في نهاية منطقية للاستمرار في توجيه هذا الخطاب الفطير داخلياً، والمحاولة اليائسة لتسويقه خارجياً، لقد صنع هذا الخطاب كادر حزبي وعسكري لا يعي أهمية العلاقات الدبلوماسية ولا الروابط الودية بين الشعوب، فأساء هذا الكادر للوشائج الأزلية بين السودان وجواره العربي والإفريقي، وعمّق الأزمة الوطنية ودولها وأقلمها، فزيادة على كارثة الحرب التي ما يزال المواطنون يدفعون ثمنها الباهظ، خلق توترات حدودية ودبلوماسية لا مبرر لها مع بلدان مباركة لمساعي الحل السلمي التفاوضي، ولها أياد بيضاء في ساحة العمل الإنساني السوداني، ومارس فوضوية في خلط الأوراق لدرجة أن المراقبين والمحللين والمسهّلين دخلوا في حيرة من أمرهم، جراء هذه المهزلة الحكومية التي ألمت بالسودانيين، والتي آخرها تلعثم مندوب جيش الاخوان وهو يقدم دعواه الباطلة أمام محكمة العدل الدولية ضد دولة الإمارات.
إسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com