رولان لومباردى يكتب: الإرث الخطير لبريجنسكى (1)
تاريخ النشر: 10th, September 2023 GMT
يعتبر زبيجنيو بريجنسكى (١٩٢٨ - ٢٠١٧) أحد أكثر الاستراتيجيين الأمريكيين شهرة فى العالم؛ فلقد وضع، قبل العقد الأول من القرن الحادى والعشرين، (من بين أمور أخرى) نظرية حول أهداف واشنطن القديمة المتمثلة فى فصل أوكرانيا عن روسيا وكذلك أوروبا عن الأخيرة، وبهدف إضعاف موسكو وبالتالى الحفاظ على الهيمنة العالمية الأمريكية.
يُعَد زبيجنيو بريجنسكى واحدًا من أكبر نجوم الفكر الاستراتيجى الأمريكى فى العقود الأربعة الماضية بالطبع مع هنرى كيسنجر. ومع ذلك، يمكن اعتبار الأخير «أبو السياسة» الواقعية الحديثة وزعيم فكر الحزب الجمهورى، حتى الثمانينيات، حيث كان مبدأ الواقعية هو الذى يطغى على السياسة الخارجية الأمريكية.. أما بريجنسكى، الذى يعتبر أكثر إيديولوجية وناشطًا من وزير الخارجية السابق فى عهد نيكسون وفورد، هو على نحو ما مختلف عن كيسنجر فى الحزب الديمقراطى. وهو أكاديمى بارز (مثل كيسنجر)، وأستاذ العلوم السياسية فى أرقى الجامعات فى الولايات المتحدة، ويتمتع بميزة كونه (مثل كيسنجر مرة أخرى) فهو رجل «العمل» وليس ذلك «المثقف» البسيط.
فى الواقع، كان مستشار الأمن القومى للرئيس جيمى كارتر من عام ١٩٧٧ إلى عام ١٩٨١. وخلال هذه الفترة، كان مهندسًا رئيسيًا لسياسة واشنطن الخارجية، حيث دعم سياسة أكثر عدوانية تجاه الاتحاد السوفييتى، مع تجاهل الانفراجة السابقة بين البلدين، والتركيز على إعادة التسلح الأمريكى واستخدام حقوق الإنسان ضد موسكو.. لقد كان مناهضًا بشدة للشيوعية، وكان فى عهد كارتر (مع السيناتور الديمقراطى تشارلز ويلسون) ضمن من مناصرى مبادرة «الفخ» الذى نصبه الاتحاد السوفييتى فى أفغانستان، لا سيما من خلال دعم وتسليح الميليشيات الجهادية.. وفى الواقع، قامت الخدمات الخاصة الأمريكية «بإطعام» أولئك الذين سيعضون أيديهم لاحقًا (بن لادن، طالبان)!
كانت توجهاته المناهضة للشيوعية ولروسيا (التى كانت مشروعة فى زمن الحرب الباردة، عندما كان الاتحاد السوفييتى يشكل التهديد الرئيسى الحقيقى للعالم الحر والولايات المتحدة) ترجع فى الأساس إلى أصوله البولندية وتاريخ عائلته. وفى دفاعه يمكننا أن نفهم ذلك بسهولة ونظرًا لأنه ولد فى عام ١٩٢٨ فى وارسو، وكان أجداد بريجنسكى وعائلته البولنديون ينظرون دائمًا إلى روسيا باعتبارها تهديدًا، وفى الواقع، عندما يذهب القوقازيون من الإمبراطورية القيصرية أو الجيش الأحمر للاتحاد السوفييتى إلى بولندا فإنهم لا يأتون من أجل مشاهدة المعالم السياحية!.. كل ذلك يكشف لنا أنه بعد فترة طويلة من سقوط الاتحاد السوفييتى، لا يزال بريجنسكى أعمى بإيديولوجيته وماضيه الشخصى وسوف تستمر كراهيته لروسيا وتشوه تحليلاته.
وعلى الرغم من أنه كان على حق فى عدم الاعتقاد على الإطلاق (على عكس بعض السذج الذين ما زالوا نشطين اليوم فى دوائر السلطة الغربية) بأن روسيا ما بعد الاتحاد السوفييتى سوف تصبح ديمقراطية على النمط النرويجى، إلا أنه لم يتمكن من إبراز نفسه فى المستقبل من خلال الكشف عن العدو الحقيقى والمستقبلى للقوة الأمريكية. وفى الواقع، فى كتابه الجيوستراتيجى الاستشرافى الذى يصف التهديدات المستقبلية للهيمنة الأمريكية، والذى كتبه فى عام ١٩٩٧ والذى أصبح مرجعًا للبعض منذ ذلك الحين، تحت عنوان «رقعة الشطرنج الكبرى»، يخصص بضع صفحات فقط لـ..الصين (مرحبًا بك يا صاحب الرؤى المستقبلية!).
والأسوأ من ذلك أنه سينظر فى هذا الكتاب ويعمق فكرة أن السيطرة على أوكرانيا تؤدى إلى السيطرة على الكتلة القارية لأوراسيا (قلب ماكيندر الشهير). وبالتالى، كان من الضرورى بكل الوسائل فصل أوكرانيا (ولكن أيضًا أوروبا!) عن روسيا، بما فى ذلك شبه جزيرة القرم الروسية منذ القرن الثامن عشر وكاثرين الثانية. وتم وضع الاستراتيجية بالفعل فى الثمانينيات (حتى قبل سقوط الاتحاد السوفييتي) بمساعدة وسائل الإعلام، وهى معروفة اليوم لدى عامة الناس، لدى وكالة المخابرات المركزية، والمنظمات غير الحكومية (التى غالبًا ما تمولها هذه الأخيرة)، والمؤسسات (خاصة سوروس ومؤسسة أوكرانيا التى لا تزال نشطة) والتى مولت العديد من الأنشطة المنشقة ومجموعات المجتمع المدنى فى كييف (ولكن أيضًا فى أوروبا الشرقية وبولندا وجمهورية التشيك وغيرها).. لدينا هنا عملية كلاسيكية من نوع تغيير النظام، أتقنتها الأجهزة الأمريكية ببراعة معينة ونفذتها فى مناسبات متعددة فى أماكن أخرى، مع ما يسمى بالثورات «الملونة» القائمة على التلاعب بالقوة الاحتجاجية للسكان وهى عبارة عن مجموعة من العمليات النفسية والسياسية والاقتصادية والإنسانية، وما إلى ذلك.
فى الواقع، بالنسبة لمستشار كارتر السابق، والذى يذكر ذلك فى كتابه عام ١٩٩٧، كانت روسيا تمثل كل المخاطر، وكان لا بد من فصلها بشكل نهائى عن أوكرانيا، وإخراجها من القوقاز وآسيا وبالتالى لن تتحكم روسيا فى تصدير المواد البترولية والهيدروكربونية فى هذه المناطق.. وعندما تصبح جمهوريات شمال القوقاز مستقلة، فإن هذه المناطق المكونة من مجموعات عرقية صغيرة ستترك «الحظيرة» الروسية، وبالتالى ستضعف الإمبراطورية الروسية القديمة فى النهاية وسيكون التوازن الجيوسياسى العالمى أكثر ملائمة لواشنطن.
ومع ذلك، فى نهاية حياته، وربما فى مواجهة الصعود الحتمى لقوة الصين، التى أصبحت فى هذه الأثناء المنافس العالمى الحقيقى للولايات المتحدة، والتى أهملها مع ذلك لفترة طويلة، أدرك بريجنسكى أن هذا قد حدث. وكان من الخطأ أن نرغب بشكل أعمى وبصوت عال، فى عهد بيل كلينتون ثم جورج دبليو بوش، فى ضم أوكرانيا، وبالتالى شبه جزيرة القرم، والقاعدة الروسية فى سيفاستوبول، إلى حلف شمال الأطلسى، وأنه كان من الذكاء أن نجعل أوكرانيا دولة حرة ولكن محايدة عسكريا.. مثلما حدث فى النمسا إبان الحرب الباردة؛ لكنه لم يتمكن من تصحيح السياسة الأميركية فى هذه النقطة.. إنها «دوامة كارثية أخرى كان من الممكن تجنبها» كما قال مسبقا هوبير فيدرين.
لقد أصبح الوقت متأخرا جدا بالنسبة لهولاء! لأن بريجنسكى، صاحب النفوذ الكبير، يمكن اعتباره أب فكر المحافظين الجدد الأمريكيين.. لقد غرست «رؤيته» كل المحافظين الجدد فى واشنطن، الجمهوريين والديمقراطيين على وجه الخصوص. علاوة على ذلك، دعونا نتذكر، كما كتبت فى فبراير الماضى، أنه «خلافًا لما يريد اليسار الفرنسى منا أن نعتقده غالبًا، فإن المحافظين الجدد ليسوا محافظين جدد أو رجعيين خطرين ومولعين بالقتال. بل كانوا فى الأصل يساريين يدافعون عن حقوق الإنسان، وجدوا أنفسهم على يسار الحزب الديمقراطى، وانتقدوا واقعية نيكسون أو كيسنجر، على سبيل المثال، المتمثلة فى التفاوض مع «الوحش السوفيتى». وبالنسبة لهؤلاء «الصقور»، كان من الضرورى قبل كل شيء عدم المناقشة، بل على العكس من ذلك، القتال بكل الوسائل مع الاتحاد السوفييتى باسم «الحرية» ومع مرور الوقت، سينزلق «المحافظون الجدد» ويجدون أنفسهم على اليمين من الحزب الجمهورى ومبادئه.
لكن اليوم، انضم جميع هؤلاء المحافظين الجدد الجمهوريين تقريبًا، الذين أصيبوا بخيبة أمل وإحباط بسبب الواقعية الخالصة والقاسية لدونالد ترامب، وتحولوا إلى المعسكر الديمقراطى منذ ٢٠١٩-٢٠٢٠ ومع وصول جو بايدن إلى المكتب البيضاوى، جاءت العودة المظفرة لهؤلاء الأيديولوجيين إلى قمة السياسة الخارجية الأمريكية، ومع الحرب فى أوكرانيا منذ فبراير ٢٠٢٢، نشهد بالتالى، مشاركة صارخة من واشنطن وحلف شمال الأطلسى فى الصراع لتحقيق رؤية بريجنسكى واستراتيجيته! وهذا يعد انتصارا حقيقيا لهذا الاستراتيجى الشهير بعد وفاته.
معلومات عن الكاتب:
رولان لومباردى رئيس تحرير موقع «لو ديالوج»، حاصل على درجة الدكتوراه فى التاريخ.. وتتركز اهتماماته فى قضايا الجغرافيا السياسية والشرق األوسط والعلاقات الدولية وأحدث مؤلفاته «بوتين العرب» و«هل نحن فى نهاية العالم» وكتاب «عبدالفتاح السيسى.. بونابرت مصر».. يكتب افتتاحيته لهذا العدد حول زبيجنيو بريجنسكى أحد أهم الفكر الاستراتيجى فى العالم.. والذى يمكن اعتباره أب فكر المحافظين الجدد الأمريكيين.
المصدر: البوابة نيوز
إقرأ أيضاً:
مؤمن الجندي يكتب: عميد في الزنزانة
نعيش في عالمٍ يتنازع فيه الضوء والظل، وحيث تتكاثر الخلافات كأمواجٍ لا تهدأ، تقف الأرواح العظيمة على مفترق الطريق بين الكبرياء والمصلحة، بين الخصومة والمغفرة.. هناك، في زاوية عميقة من الروح، يُدرك الإنسان أن الوطن أكبر من نزاعات الأفراد، وأن في التسامح عظمة تُنير القلوب قبل أن تَعبُر إلى العالم، لإنها لحظةٌ تتجسد فيها الحكمة، حين يختار العاقل أن ينحي سيوف الصراع جانبًا، ويمد يدًا بيضاء لمن كان في يومٍ ما خصمًا، ليدرك الاثنان أن عبور هذه الجسور معًا هو الطريق الوحيد لتُزهر الأرض، ولترتفع رايات السلام التي تعانق السماء.
مؤمن الجندي يكتب: مسرحية بلا فصل أخير مؤمن الجندي يكتب: كأس مها سلامةمن منا لا يتذكر فيلم "حب في الزنزانة" الذي جسد صراعًا ينشأ داخل السجن، ومعه تعلو ثنائية الأمل واليأس، حيث يمكن أن تكون قصة هذا الفيلم مرآة لمشهد العلاقة المتوترة بين حسام حسن، المدير الفني للمنتخب المصري الأول، وهاني أبو ريدة، الرئيس المرتقب لاتحاد الكرة المصري بعد الانتخابات المقبلة، ولكن هذه المرة بعنوان "عميد في الزنزانة".
إن حسام حسن، بجرأته وأسلوبه الصريح، كان قد أدلى بتصريحات ناقدة تجاه أبو ريدة سابقًا، وها هو اليوم، وهو يقود المنتخب المصري بنجاحات واضحة حتى الآن، كمن وجد نفسه حبيسًا في "زنزانة العميد"، حيث يبدو أن هذه النجاحات على أرض الملعب لن تكون كافية لمنع محاولات إبعاده عن المشهد، خاصة مع تولي أبو ريدة للمنصب المتوقع.
فهل سيستطيع حسام حسن كسر قضبان "الزنزانة" واستمرار نجاحاته؟، أم أن الانتقادات السابقة والتوترات التي أوجدها العميد بنفسه! ستجعل من وجوده على رأس المنتخب محط تهديد؟ تشابه هذه القصة في بعض أبعادها مع قصة فيلم عادل إمام، حيث الصراع بين التطلعات الشخصية ومصير العلاقات المعقدة، في انتظار ما سيكشفه القادم من أحداث في ساحة الكرة المصرية.
نجاح أو فشل العلاقات بعد هجوم أحد الأشخاص على الآخر يعتمد على عوامل عديدة تلعب دورًا حاسمًا في تحديد مستقبل هذه العلاقة.. فالهجوم، سواء كان لفظيًا أو فكريًا، يترك آثارًا عميقة قد تكون جسيمة على الطرف الآخر، خاصة إذا كان الهجوم علنيًا أو أمام أطراف أخرى، هذا النوع من الانتقاد قد يُشعر الشخص المستهدف بالإهانة ويخلق حاجزًا من عدم الثقة والاحترام، وهما عنصران أساسيان لاستمرار العلاقات الصحية.
ورغم ذلك، يمكن لبعض العلاقات تجاوز الهجوم إذا توفرت الإرادة والوعي لدى الطرفين لمعالجة الأسباب الكامنة خلف الخلاف.. فالحوار الصادق والاستعداد لتحمل المسؤولية من قبل الشخص الذي قام بالهجوم قد يسهمان في إعادة بناء الجسور المقطوعة، خاصة إذا أُرفق باعتذار صادق ورغبة في تصحيح المسار.
ومن واقع تجاربي في الحياة أو تحديدًا مع الوسط الرياضي، رأيت حالات تفشل فيها العلاقات في الصمود أمام الهجوم، ويصبح من الصعب إصلاح ما تهدم.. في هذه الحالة، قد تتعمق الجروح وتتحول العلاقة إلى صراع دائم أو قطيعة، حيث يجد الطرف المستهدف أنه من الصعب التعايش مع من أساء إليه أو استهان بكرامته.
في النهاية، نجاح أو فشل العلاقة بعد هجوم يعتمد على نضج الطرفين ورغبتهما في تجاوز الخلافات، وقدرتهما على تقبل الاختلافات الشخصية، والالتزام بالقيم التي تُعزز من استمرارية أي علاقة، سواء كانت علاقة عمل أو صداقة أو حتى شراكة رياضية كما في حالة حسام حسن وهاني أبو ريدة، لأن مصر أكبر من أي شخص!.
للتواصل مع الكاتب الصحفي مؤمن الجندي اضغط هنا