البوابة نيوز:
2024-09-09@12:46:34 GMT

رولان لومباردى يكتب: الإرث الخطير لبريجنسكى (1)

تاريخ النشر: 10th, September 2023 GMT

يعتبر زبيجنيو بريجنسكى (١٩٢٨ - ٢٠١٧) أحد أكثر الاستراتيجيين الأمريكيين شهرة فى العالم؛ فلقد وضع، قبل العقد الأول من القرن الحادى والعشرين، (من بين أمور أخرى) نظرية حول أهداف واشنطن القديمة المتمثلة فى فصل أوكرانيا عن روسيا وكذلك أوروبا عن الأخيرة، وبهدف إضعاف موسكو وبالتالى الحفاظ على الهيمنة العالمية الأمريكية.

وعلى المدى القصير جدًا، مع إطلاق «العملية الروسية الخاصة» فى فبراير ٢٠٢٢، تعتبر هذه الاستراتيجية - أو على الأقل المرحلة الأولى منها - ناجحة فى الوقت الحالى ولكن بعد مرور عام ونصف، وكما تظهر لنا الأخبار كل يوم، فمن المحتمل أن تكون هذه الحرب الكامنة عبر أوكرانيا بين الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسى وروسيا، على المدى الطويل، بمثابة كارثة جيوسياسية حقيقية لإمبراطورية فى تراجع.
يُعَد زبيجنيو بريجنسكى واحدًا من أكبر نجوم الفكر الاستراتيجى الأمريكى فى العقود الأربعة الماضية بالطبع مع هنرى كيسنجر. ومع ذلك، يمكن اعتبار الأخير «أبو السياسة» الواقعية الحديثة وزعيم فكر الحزب الجمهورى، حتى الثمانينيات، حيث كان مبدأ الواقعية هو الذى يطغى على السياسة الخارجية الأمريكية.. أما بريجنسكى، الذى يعتبر أكثر إيديولوجية وناشطًا من وزير الخارجية السابق فى عهد نيكسون وفورد، هو على نحو ما مختلف عن كيسنجر فى الحزب الديمقراطى. وهو أكاديمى بارز (مثل كيسنجر)، وأستاذ العلوم السياسية فى أرقى الجامعات فى الولايات المتحدة، ويتمتع بميزة كونه (مثل كيسنجر مرة أخرى) فهو رجل «العمل» وليس ذلك «المثقف» البسيط.
فى الواقع، كان مستشار الأمن القومى للرئيس جيمى كارتر من عام ١٩٧٧ إلى عام ١٩٨١. وخلال هذه الفترة، كان مهندسًا رئيسيًا لسياسة واشنطن الخارجية، حيث دعم سياسة أكثر عدوانية تجاه الاتحاد السوفييتى، مع تجاهل الانفراجة السابقة بين البلدين، والتركيز على إعادة التسلح الأمريكى واستخدام حقوق الإنسان ضد موسكو.. لقد كان مناهضًا بشدة للشيوعية، وكان فى عهد كارتر (مع السيناتور الديمقراطى تشارلز ويلسون) ضمن من مناصرى مبادرة «الفخ» الذى نصبه الاتحاد السوفييتى فى أفغانستان، لا سيما من خلال دعم وتسليح الميليشيات الجهادية.. وفى الواقع، قامت الخدمات الخاصة الأمريكية «بإطعام» أولئك الذين سيعضون أيديهم لاحقًا (بن لادن، طالبان)!
كانت توجهاته المناهضة للشيوعية ولروسيا (التى كانت مشروعة فى زمن الحرب الباردة، عندما كان الاتحاد السوفييتى يشكل التهديد الرئيسى الحقيقى للعالم الحر والولايات المتحدة) ترجع فى الأساس إلى أصوله البولندية وتاريخ عائلته. وفى دفاعه يمكننا أن نفهم ذلك بسهولة ونظرًا لأنه ولد فى عام ١٩٢٨ فى وارسو، وكان أجداد بريجنسكى وعائلته البولنديون ينظرون دائمًا إلى روسيا باعتبارها تهديدًا، وفى الواقع، عندما يذهب القوقازيون من الإمبراطورية القيصرية أو الجيش الأحمر للاتحاد السوفييتى إلى بولندا فإنهم لا يأتون من أجل مشاهدة المعالم السياحية!.. كل ذلك يكشف لنا أنه بعد فترة طويلة من سقوط الاتحاد السوفييتى، لا يزال بريجنسكى أعمى بإيديولوجيته وماضيه الشخصى وسوف تستمر كراهيته لروسيا وتشوه تحليلاته.
وعلى الرغم من أنه كان على حق فى عدم الاعتقاد على الإطلاق (على عكس بعض السذج الذين ما زالوا نشطين اليوم فى دوائر السلطة الغربية) بأن روسيا ما بعد الاتحاد السوفييتى سوف تصبح ديمقراطية على النمط النرويجى، إلا أنه لم يتمكن من إبراز نفسه فى المستقبل من خلال الكشف عن العدو الحقيقى والمستقبلى للقوة الأمريكية. وفى الواقع، فى كتابه الجيوستراتيجى الاستشرافى الذى يصف التهديدات المستقبلية للهيمنة الأمريكية، والذى كتبه فى عام ١٩٩٧ والذى أصبح مرجعًا للبعض منذ ذلك الحين، تحت عنوان «رقعة الشطرنج الكبرى»، يخصص بضع صفحات فقط لـ..الصين (مرحبًا بك يا صاحب الرؤى المستقبلية!).
والأسوأ من ذلك أنه سينظر فى هذا الكتاب ويعمق فكرة أن السيطرة على أوكرانيا تؤدى إلى السيطرة على الكتلة القارية لأوراسيا (قلب ماكيندر الشهير). وبالتالى، كان من الضرورى بكل الوسائل فصل أوكرانيا (ولكن أيضًا أوروبا!) عن روسيا، بما فى ذلك شبه جزيرة القرم الروسية منذ القرن الثامن عشر وكاثرين الثانية. وتم وضع الاستراتيجية بالفعل فى الثمانينيات (حتى قبل سقوط الاتحاد السوفييتي) بمساعدة وسائل الإعلام، وهى معروفة اليوم لدى عامة الناس، لدى وكالة المخابرات المركزية، والمنظمات غير الحكومية (التى غالبًا ما تمولها هذه الأخيرة)، والمؤسسات (خاصة سوروس ومؤسسة أوكرانيا التى لا تزال نشطة) والتى مولت العديد من الأنشطة المنشقة ومجموعات المجتمع المدنى فى كييف (ولكن أيضًا فى أوروبا الشرقية وبولندا وجمهورية التشيك وغيرها).. لدينا هنا عملية كلاسيكية من نوع تغيير النظام، أتقنتها الأجهزة الأمريكية ببراعة معينة ونفذتها فى مناسبات متعددة فى أماكن أخرى، مع ما يسمى بالثورات «الملونة» القائمة على التلاعب بالقوة الاحتجاجية للسكان وهى عبارة عن مجموعة من العمليات النفسية والسياسية والاقتصادية والإنسانية، وما إلى ذلك.


فى الواقع، بالنسبة لمستشار كارتر السابق، والذى يذكر ذلك فى كتابه عام ١٩٩٧، كانت روسيا تمثل كل المخاطر، وكان لا بد من فصلها بشكل نهائى عن أوكرانيا، وإخراجها من القوقاز وآسيا وبالتالى لن تتحكم روسيا فى تصدير المواد البترولية والهيدروكربونية فى هذه المناطق.. وعندما تصبح جمهوريات شمال القوقاز مستقلة، فإن هذه المناطق المكونة من مجموعات عرقية صغيرة ستترك «الحظيرة» الروسية، وبالتالى ستضعف الإمبراطورية الروسية القديمة فى النهاية وسيكون التوازن الجيوسياسى العالمى أكثر ملائمة لواشنطن.
ومع ذلك، فى نهاية حياته، وربما فى مواجهة الصعود الحتمى لقوة الصين، التى أصبحت فى هذه الأثناء المنافس العالمى الحقيقى للولايات المتحدة، والتى أهملها مع ذلك لفترة طويلة، أدرك بريجنسكى أن هذا قد حدث. وكان من الخطأ أن نرغب بشكل أعمى وبصوت عال، فى عهد بيل كلينتون ثم جورج دبليو بوش، فى ضم أوكرانيا، وبالتالى شبه جزيرة القرم، والقاعدة الروسية فى سيفاستوبول، إلى حلف شمال الأطلسى، وأنه كان من الذكاء أن نجعل أوكرانيا دولة حرة ولكن محايدة عسكريا.. مثلما حدث فى النمسا إبان الحرب الباردة؛ لكنه لم يتمكن من تصحيح السياسة الأميركية فى هذه النقطة.. إنها «دوامة كارثية أخرى كان من الممكن تجنبها» كما قال مسبقا هوبير فيدرين.
لقد أصبح الوقت متأخرا جدا بالنسبة لهولاء! لأن بريجنسكى، صاحب النفوذ الكبير، يمكن اعتباره أب فكر المحافظين الجدد الأمريكيين.. لقد غرست «رؤيته» كل المحافظين الجدد فى واشنطن، الجمهوريين والديمقراطيين على وجه الخصوص. علاوة على ذلك، دعونا نتذكر، كما كتبت فى فبراير الماضى، أنه «خلافًا لما يريد اليسار الفرنسى منا أن نعتقده غالبًا، فإن المحافظين الجدد ليسوا محافظين جدد أو رجعيين خطرين ومولعين بالقتال. بل كانوا فى الأصل يساريين يدافعون عن حقوق الإنسان، وجدوا أنفسهم على يسار الحزب الديمقراطى، وانتقدوا واقعية نيكسون أو كيسنجر، على سبيل المثال، المتمثلة فى التفاوض مع «الوحش السوفيتى». وبالنسبة لهؤلاء «الصقور»، كان من الضرورى قبل كل شيء عدم المناقشة، بل على العكس من ذلك، القتال بكل الوسائل مع الاتحاد السوفييتى باسم «الحرية» ومع مرور الوقت، سينزلق «المحافظون الجدد» ويجدون أنفسهم على اليمين من الحزب الجمهورى ومبادئه.
لكن اليوم، انضم جميع هؤلاء المحافظين الجدد الجمهوريين تقريبًا، الذين أصيبوا بخيبة أمل وإحباط بسبب الواقعية الخالصة والقاسية لدونالد ترامب، وتحولوا إلى المعسكر الديمقراطى منذ ٢٠١٩-٢٠٢٠ ومع وصول جو بايدن إلى المكتب البيضاوى، جاءت العودة المظفرة لهؤلاء الأيديولوجيين إلى قمة السياسة الخارجية الأمريكية، ومع الحرب فى أوكرانيا منذ فبراير ٢٠٢٢، نشهد بالتالى، مشاركة صارخة من واشنطن وحلف شمال الأطلسى فى الصراع لتحقيق رؤية بريجنسكى واستراتيجيته! وهذا يعد انتصارا حقيقيا لهذا الاستراتيجى الشهير بعد وفاته.
 

معلومات عن الكاتب: 
رولان لومباردى رئيس تحرير موقع «لو ديالوج»، حاصل على درجة الدكتوراه فى التاريخ.. وتتركز اهتماماته فى قضايا الجغرافيا السياسية والشرق األوسط والعلاقات الدولية وأحدث مؤلفاته «بوتين العرب» و«هل نحن فى نهاية العالم» وكتاب «عبدالفتاح السيسى.. بونابرت مصر».. يكتب افتتاحيته لهذا العدد حول زبيجنيو بريجنسكى أحد أهم الفكر الاستراتيجى فى العالم.. والذى يمكن اعتباره أب فكر المحافظين الجدد الأمريكيين.

 

 

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: موسكو کان من

إقرأ أيضاً:

أشرف غريب يكتب: في مئوية ميلاد فؤاد المهندس

لم يكن الفنان فؤاد المهندس الذي نحتفل بمئوية ميلاده هذه الأيام مجرد ممثل كوميدي استطاع أن يرسم البسمة على وجوه عشاق فنه، وإنما كان حالة خاصة ومهمة في تاريخ فن التمثيل الكوميدي في مصر، كان أقرب إلى الحلقة الوسطى بين مرحلة أستاذه نجيب الريحاني وتلميذه عادل إمام، وصاحب مدرسة اعتمدت على الأداء الراقي بعيدا عن الابتذال والترهل، وليس من شك في أن جانبا كبيرا من إرث فؤاد المهندس الفني كان نتاج هذه الثنائية الناجحة التي كونها مع رفيقة مشواره في الفن والحياة الفنانة شويكار، وهو ثنائي تمتع بمميزات خاصة لم تتحقق لغيرهما.

أولاً: هذا هو الثنائي الكوميدي الوحيد الذي عرفته السينما المصرية وليس المسرح فقط، فرغم أنها عرفت ظاهرة الثنائيات الفنية منذ منتصف الأربعينات تقريباً بتقاسم كل من أنور وجدي وليلى مراد بطولة أفلامهما، إلا أن كل هذه الثنائيات غلب عليها الطابع التراجيدي أو الاستعراضي كحال فاتن حمامة وعماد حمدي، شادية وكمال الشناوي، سامية جمال وفريد الأطرش، هدى سلطان وفريد شوقي، ميرفت أمين وحسين فهمي.

ثانياً: هما حالة فريدة ليس لهذا فقط وإنما لأنهما أيضا الثنائي الوحيد الذي لم تصنعه السينما مباشرة، وإنما كان سابق التجهيز على خشية المسرح، أي إنه جاء إلى السينما يحمل مخاطرة كبرى إذا ما تعرض للفشل، ومن ثم كان من الممكن -حال حدوث ذلك- أن يخسر الرصيد الذي كان قد جمعه مسرحيا.

ثالثاً: من حيث الكم.. هذا هو أنجح ثنائي فني عرفته السينما المصرية إذ قدما معا 26 فيلما متفوقا على الثنائي شادية وكمال الشناوي الذي قدم 25 فيلما، بينما اجتمع فريد شوقي وهدى سلطان في 19 فيلما، ومن حيث طول التجربة فإنها امتدت حتى سنة 1990 عندما جمع المخرج ياسين إسماعيل ياسين بين فؤاد وشويكار في فيلم «جريمة إلا ربع» ما يعني أن هذا الثنائي ظل مطلوبا حتى مطلع التسعينات.

رابعاً: الأنجح لأنه الثنائي الوحيد الذي امتد أثره بعيداً عن شاشة السينما حيث استمر سينمائياً مع وجوده الطاغي لسنوات طويلة على خشبة المسرح بمسرحيات أصبحت محفورة في الوجدان، ليس هذا فقط، وإنما تزامنت أيضاً مع نجاحاته الإذاعية المدوية حتى أصبح فؤاد وشويكار -ولفترة طويلة- من الطقوس الرمضانية المعتادة.

خامساً: على مستوى المضمون ورغم أن بناء أفلام هذا الثنائي بدا وكأنه يعتمد تقريباً على تيمة الرجل الساذج طيب القلب والفتاة الجميلة التي تجذبه إليها إما بجمالها وإما بقوة شخصيتها أو بالاثنين معاً فتقوده بشكل كامل إلى ما تريده، فإنه لم يكن يخلو داخل هذا الإطار من بعض التنويعات، فقدم الكوميديا الاجتماعية والبوليسية والعاطفية والاستعراضية، بل والكوميديا السوداء والفلسفية أيضاً، كما حاول الثنائي تسييس بعض أفلامهما أو تحميلها بعض المفاهيم الوطنية في فترة كانت شديدة الحرج والحساسية في تاريخ مصر المعاصر أعقاب هزيمة يونيو 1967، حيث زادت نبرة الانتصار على الغرب والأمريكان بالذات حتى لو كان في قالب هزلى، فشاهدنا فؤاد المهندس في «مطاردة غرامية» يفضل الفتاة المصرية «شويكار» على كل جميلات الغرب، وتلقى الشرطة المصرية القبض على مستر إكس في «أخطر رجل في العالم»، وتوقع بعصابة التجسس في «العتبة جزاز» وعصابة التخريب والتهريب في «شنبو في المصيدة»، فضلاً عن الخط الوطني الواضح في «فيفا زلاطا»، ولا أظن أنها مجرد مصادفة أن يصبح طرف الصراع دائماً في أفلام الثنائي شويكار وفؤاد هو الغرب، وأن تنتصر الطيبة المصرية والذكاء الفطري على عناصر الشر مهما كانت قوتها، وأغلب الظن أن القائمين على توجيه الرأي العام آنذاك وجدوا في شعبية الثنائي فؤاد وشويكار فرصة لتحميله هذه المضامين السياسية والرسائل المهمة.

مقالات مشابهة

  • رونالدو يسحر الأسكتلنديين و مودريتش يكتب تاريخ كرواتيا وإسبانيا تتألق برباعية نارية
  • اليمن يكتب نهاية عصر الطائرات الأمريكية (MQ9)
  • الدكتور سلطان القاسمي يكتب: حقيقة تاريخ عُمان
  • أحمد ثابت يكتب: ترجملي شكرًا
  • أشرف غريب يكتب: في مئوية ميلاد فؤاد المهندس
  • مدير الاستخبارات الأمريكية: مخاوف استخدام روسيا أسلحة نووية ضد أوكرانيا لاتزال قائمة
  • الاتحاد الأوروبي يخصص 300 مليون يورو لفرنسا من دخل الأصول الروسية لأجل أوكرانيا
  • د. عبدالله الغذامي يكتب: المرايا
  • قرار عاجل من «الاتحاد الأوروبي» لـ أوكرانيا (تفاصيل)
  • عبدالفتاح علي يكتب: 11 سنة ومصر جزيرة جهنم