- إدغار ألن بو بين الشاعرية الفذة والأزمات النفسية على الشاشة.

- سرد فيلمي تختلط فيه جماليات الذات الشعرية الهائمة بالجريمة والخرافة.

- عذابات الشاعر في بيئة مسمومة لا تكترث لمشاعره وإبداعه.

في النسيج السردي، الروائي والسينمائي هنالك مساحات شديدة التأثير ونابضة بالفعل تجعل ذلك النوع من السرد في حالة من التماسك والرصانة ما يمكّن من بناء المزيد من الأحداث والوقائع، لا سيما عندما يقترن ذلك السرد بما هو شعري وفي فضاء من التداعيات النفسية التي تعصف بالذات الشعرية المرهفة.

على وفق هذه الأرضية يمكن النظر إلى هذا الفيلم للمخرج الأمريكي سكوت كوبر ( مواليد 1970 ) وهو الذي عرف كاتبا للسيناريو ومخرجا وها هو يقدم لنا فيلمه السادس بعد أفلامه، القلب المجنون والحشد الأسود والمعادون وغيرها، لكنه يقدّم هذا الفيلم مبنيا على رواية رائجة تحمل نفس العنوان للكاتب الأمريكي لويس بايارد.

ها هو يبدأ منذ المشاهد الأولى بالكشف عن البيئة – المكان في الولايات المتحدة – مقاطعة هدسون فالي ويعود بنا إلى العام 1830 ونؤخذ منذ البداية إلى قصة من قصص التحرّي حيث يتم استدعاء أوغسطس لاندور (الممثل كريستيان بايل) وهو رجل أرمل ومتقاعد ومطلوب منه أن يساعد الأكاديمية العسكرية الأمريكية آنذاك في إيجاد مجرم من داخل تلك الأكاديمية نفسها قام بقتل أحد متدربيها شنقا وليس ذلك فحسب فإن القاتل قد انتزع قلب الضحية من صدره.

هذه المقدمة الفيلمية والتمهيد هي التي سوف يتأسس عليها ذلك البناء السردي من خلال الوقائع المتعاقبة وسقوط ضحايا آخرين بنفس الطريقة وحيث لم يترك الفاعل أثرا سوى تلك القصاصة من الورق التي على التحرّي لاندور فك لغزها.

في أجواء جامدة يغلب عليها شتاء صعب ومناطق جبلية وغابات وثلوج كانت تجري كل أحداث الفيلم وكل الوقائع الكارثية التي كانت تقع تباعا في مزيج من الريبة والترقب والهلع والإحساس العميق بالتهديد رسخته الصور الدالّة وحركات الكاميرا المتقنة لمدير التصوير الياباني المتمرس تاكاياناغي وعلى خلفية الموسيقى التصويرية شديدة الإتقان التي وضعها هيوارد شور.

على أن ما يكمل المهمة ويكشف عن فصل آخر من فصول تلك الدراما الفيلمية هو تقديم شخصية الكاتب الأميركي اللامع إدغار ألن بو (الممثل البريطاني هاري ميلنغ ) الذي فيه بالفعل كثير من ملامح ألن بو الحقيقية.

ها هو إيقونة الشعر والقصة الأمريكية وإذا به متدرب في تلك الأكاديمية في فصل من فصول حياته الكارثية وحيث يغوص المخرج عميقا بضخ المزيد من شعرية السينما في المشاهد وكيف يلامس الشاعر الجراح والآلام كما يلامس الموت الزاحف حتى يغدو بالنسبة له –على مأساويّته- هو المكان المناسب للقاء ليا، تلك الفتاة التي انجذب إليها (الممثلة لوسي بينتون) فيما مكان اللقاء هو المقبرة وعندها يقول لها مباشرة، أن الموت هو أكثر ما يمجّده الشعر العظيم.

لكن ها هي ليا تسقط بين يديه، تضربها عاصفة من الصرع، ليضاف هلع جديد مما حوله، فهو بذكائه الثاقب يتمكن من قراءة ما تضمره الشخصيات ولهذا يتعمّق في عالم ليا العائلي الغريب وهو الذي يجعله في مواجهة دامية مع معجب بالفتاة ينافسه عليها.

واقعيا إنّ من لديه اطلاعا على حياة الكاتب الكبير إدغار ألن بو الذي توفي في سن مبكرة حيث لم يتجاوز 40 عاما، يدرك حجم العذابات التي كابدها، وها هو يدور في وسط عالم مسموم وعلى الرغم من إعجابه بالمحقق لاندور وتحالفه معه للبحث في مغاليق وأسرار عمليات القتل المتكررة إلا أن لاندور في حركة ما كرة منه يكاد يتهم "بو" بأنه هو القاتل لذلك الشاب الذي كان ينافسه على خطب ود ليا، لكن ها هو يجيب، "لو أنني قررت الانتقام وقتل كل أحد آذاني في هذه الأكاديمية لما بقي فيها إلا قليل لأن أغلبهم أشبعوني سخرية من ملامحي وعمري وسلوكي وأفكاري".

إنها عذابات الشاعر في بيئة مسمومة وحيث تتصاعد الدراما الفيلمية باتجاه مختلف تماما وغير متوقع وهو الارتباط ما بين الجرائم المرتبكة وبين علاقة مرتكبيها بالسحر الأسود وبذلك تدور على الشاعر المرهف دورة الهلع، ها هو يردد أمام ليا:

" لقد نزل الاضطراب الشديد بقلب حزين

في ليال طويلة العتمة

لفّت كل شيء ما عدا عينها الزرقاء الشاحبة

يا لها من ليلة كانت، ظلماء كالجحيم وقاتمة مثل الفحم".

يلتقي بو مع المحقق لاندور في نقطة محورية واحدة، وهي محنة الفقدان، وهما يدوران في فلكها، إدغار ألن بو يقول إن والدته التي فقدها وهو صغير ما تزال تزوره في منامه وهي التي تلهمه الشعر.

لاندور ما يزال يلف على كفّه الوشاح الحريري لابنته ما تيلدا التي قضت انتحارا بعد أن اغتصبتها ثلّة من طلاب الكلية العسكرية التي يحقّق عن الجرائم فيها.

هذه الخلفية الطاحنة يفاقمها ذلك الحبّ المعذّب الذي يصارع إدغار ألن بو من أجله، وهو الذي عاش شبابه متعطشا للحب بعد فقد الأم وغياب الأب والحياة في أسرة لا ينتمي إليها، يقول إنهم يريدونني أن أكون ثريّا وناجحا في التجارة بينما أنا أريد أن أكون شاعراً فحسب.

مجرد نظرته الثاقبة ويومياته وانطوائيّته كفيلة بالكشف عن روح الشاعر الهائمة وها هو مستعد أن يضحي بكل شيء من أجل ليا وها هي تخضعه لطقوسها الشيطانية وها هو ينتظر أن تنتزع له قلبه من صدره وتحتفظ به لنفسها لولا التحول في الدراما الفيلمية ومزيد من الحبكات الثانوية التي دفعت لاندور للركض سريعا باتجاه ذلك الكوخ الذي يشهد طقوس السحر الأسود وفي اللحظة الأخيرة ينقذ بو من موت محقق.

لا عذابات بو ولا عذابات لا ندور تكفي لرسم طريق مشترك لكليهما وها هو لاندور يعترف: "يا ليت الأقدار ساعدتني فجعلتك رجلا لابنتي، ولكنني قد أوفيت بعهدي لها وإني منذ زمن انتظر اليوم الذي سوف تسوقني فيه أنت إلى المحكمة".

لاندور مدبّر تلك الجرائم انتقاما لابنته وإدغار ألن بو بفطنته الفذة وحساسيته كشاعر يدرك تلك الخيانة وذلك التلاعب وأن من كان يرسل الرسائل الغامضة له ليس سوى صاحبه لاندور.

كلاهما يذرف دمعة وداع في صمت وينصرفان كلّ إلى طريق.

.....

بطاقة

الفيلم: العين الزرقاء الشاحبة، The Pale Blue Eye

إخراج: سكوت كوبر

سنة العرض: مطلع 2023

تمثيل: كريستيان بايل، هاري ميلنغ، لوسي بينتون وآخرون.

مدير التصوير: تاكا ياناغي

الموسيقى: هيوارد شور

إنتاج: شركات كروس غريك وستريم لاين و لو غريسبي

توزيع: نيتفلكس

الكلفة: 72 مليون دولار

التقييم: 6.6 of 10 IMDB

63% Rotten Tomato

75% metacritic

90% من مستخدمي موقع جوجل أعجبهم الفيلم

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

«أجيال المستقبل» في العين

هويدا الحسن (العين)

أخبار ذات صلة «نور وسلام».. معروضات تضيء على إبداعات الفنون والتاريخ «موسم دبي الفني 2025».. تجارب فنية وإبداعية متنوعة

تحت شعار «سنعنا زرعنا ثقافة مستدامة»، اختتمت جمعية محمد بن خالد آل نهيان لأجيال المستقبل، فعاليات برنامج أجيال المستقبل الوطني الشتوي 24 الذي أقيم خلال الفترة من 16 إلى 31 ديسمبر الماضي، بتوجيهات ورعاية الشيخة الدكتورة شما بنت محمد بن خالد آل نهيان رئيسة مجلس الإدارة. 
وركز البرنامج على محاور رئيسية تعكس رؤية القيادة، من أبرزها: تفعيل قرية إرث زايد التي تضمنت أنشطة متنوعة مثل حرفة النول والتلي والسنع، وفعاليات مدرسة القهوة والسنع.
كما تخلل البرنامج أياماً تخصصية مثل يوم الحرف الإماراتية، وثقافات الشعوب، ويوم التراث الإماراتي، ويوم الصحة والرياضة الذي شهد مشاركة مدربين من ﻧﺎدي أﺑﻮظﺒﻲ ﻷﻟﻌﺎب اﻟﻘﻮى وعيادات صحية مختلفة.
وفي إطار تعزيز ثقافة القراءة تم خلال البرنامج تقديم العديد من البرامج القرائية والاستمتاع بالقصص المعززة للهوية الوطنية والاستدامة في قاعات مكتبة أجيال المستقبل.

مقالات مشابهة

  • «أجيال المستقبل» في العين
  • الجماعة الإسلامية في لبنان تطالب بالإفراج عن عبد الرحمن القرضاوي
  • نقيب الفلاحين: البطاطس الزرقاء لها قيمة غذائية أعلى من الصفراء
  • 86 جريمة قتل ارتكبت في الأردن عام 2024
  • “غريبة الروح .. حكاية الشاعر الذي كتب وجعه بالحبر والحنين”
  • اشتباكات بين المقاومة والاحتلال في مخيم العين غرب نابلس
  • الآلاف يتوافدون على "المدينة الزرقاء" لقضاء عطلة رأس السنة الميلادية
  • الرئيس يعزّي في وفاة الشاعر والأديب سلطان الصريمي
  • الكتيابي وسيف الجامعة والحلنقي اجابات مسكتة لكنها غير مقنعة
  • اخلاء 7 اشخاص حاصرتهم المياه داخل مركبة بالزرقاء