فيلم العين الزرقاء الشاحبة، صورة الشاعر متحريا عن الجرائم
تاريخ النشر: 10th, September 2023 GMT
- إدغار ألن بو بين الشاعرية الفذة والأزمات النفسية على الشاشة.
- سرد فيلمي تختلط فيه جماليات الذات الشعرية الهائمة بالجريمة والخرافة.
- عذابات الشاعر في بيئة مسمومة لا تكترث لمشاعره وإبداعه.
في النسيج السردي، الروائي والسينمائي هنالك مساحات شديدة التأثير ونابضة بالفعل تجعل ذلك النوع من السرد في حالة من التماسك والرصانة ما يمكّن من بناء المزيد من الأحداث والوقائع، لا سيما عندما يقترن ذلك السرد بما هو شعري وفي فضاء من التداعيات النفسية التي تعصف بالذات الشعرية المرهفة.
على وفق هذه الأرضية يمكن النظر إلى هذا الفيلم للمخرج الأمريكي سكوت كوبر ( مواليد 1970 ) وهو الذي عرف كاتبا للسيناريو ومخرجا وها هو يقدم لنا فيلمه السادس بعد أفلامه، القلب المجنون والحشد الأسود والمعادون وغيرها، لكنه يقدّم هذا الفيلم مبنيا على رواية رائجة تحمل نفس العنوان للكاتب الأمريكي لويس بايارد.
ها هو يبدأ منذ المشاهد الأولى بالكشف عن البيئة – المكان في الولايات المتحدة – مقاطعة هدسون فالي ويعود بنا إلى العام 1830 ونؤخذ منذ البداية إلى قصة من قصص التحرّي حيث يتم استدعاء أوغسطس لاندور (الممثل كريستيان بايل) وهو رجل أرمل ومتقاعد ومطلوب منه أن يساعد الأكاديمية العسكرية الأمريكية آنذاك في إيجاد مجرم من داخل تلك الأكاديمية نفسها قام بقتل أحد متدربيها شنقا وليس ذلك فحسب فإن القاتل قد انتزع قلب الضحية من صدره.
هذه المقدمة الفيلمية والتمهيد هي التي سوف يتأسس عليها ذلك البناء السردي من خلال الوقائع المتعاقبة وسقوط ضحايا آخرين بنفس الطريقة وحيث لم يترك الفاعل أثرا سوى تلك القصاصة من الورق التي على التحرّي لاندور فك لغزها.
في أجواء جامدة يغلب عليها شتاء صعب ومناطق جبلية وغابات وثلوج كانت تجري كل أحداث الفيلم وكل الوقائع الكارثية التي كانت تقع تباعا في مزيج من الريبة والترقب والهلع والإحساس العميق بالتهديد رسخته الصور الدالّة وحركات الكاميرا المتقنة لمدير التصوير الياباني المتمرس تاكاياناغي وعلى خلفية الموسيقى التصويرية شديدة الإتقان التي وضعها هيوارد شور.
على أن ما يكمل المهمة ويكشف عن فصل آخر من فصول تلك الدراما الفيلمية هو تقديم شخصية الكاتب الأميركي اللامع إدغار ألن بو (الممثل البريطاني هاري ميلنغ ) الذي فيه بالفعل كثير من ملامح ألن بو الحقيقية.
ها هو إيقونة الشعر والقصة الأمريكية وإذا به متدرب في تلك الأكاديمية في فصل من فصول حياته الكارثية وحيث يغوص المخرج عميقا بضخ المزيد من شعرية السينما في المشاهد وكيف يلامس الشاعر الجراح والآلام كما يلامس الموت الزاحف حتى يغدو بالنسبة له –على مأساويّته- هو المكان المناسب للقاء ليا، تلك الفتاة التي انجذب إليها (الممثلة لوسي بينتون) فيما مكان اللقاء هو المقبرة وعندها يقول لها مباشرة، أن الموت هو أكثر ما يمجّده الشعر العظيم.
لكن ها هي ليا تسقط بين يديه، تضربها عاصفة من الصرع، ليضاف هلع جديد مما حوله، فهو بذكائه الثاقب يتمكن من قراءة ما تضمره الشخصيات ولهذا يتعمّق في عالم ليا العائلي الغريب وهو الذي يجعله في مواجهة دامية مع معجب بالفتاة ينافسه عليها.
واقعيا إنّ من لديه اطلاعا على حياة الكاتب الكبير إدغار ألن بو الذي توفي في سن مبكرة حيث لم يتجاوز 40 عاما، يدرك حجم العذابات التي كابدها، وها هو يدور في وسط عالم مسموم وعلى الرغم من إعجابه بالمحقق لاندور وتحالفه معه للبحث في مغاليق وأسرار عمليات القتل المتكررة إلا أن لاندور في حركة ما كرة منه يكاد يتهم "بو" بأنه هو القاتل لذلك الشاب الذي كان ينافسه على خطب ود ليا، لكن ها هو يجيب، "لو أنني قررت الانتقام وقتل كل أحد آذاني في هذه الأكاديمية لما بقي فيها إلا قليل لأن أغلبهم أشبعوني سخرية من ملامحي وعمري وسلوكي وأفكاري".
إنها عذابات الشاعر في بيئة مسمومة وحيث تتصاعد الدراما الفيلمية باتجاه مختلف تماما وغير متوقع وهو الارتباط ما بين الجرائم المرتبكة وبين علاقة مرتكبيها بالسحر الأسود وبذلك تدور على الشاعر المرهف دورة الهلع، ها هو يردد أمام ليا:
" لقد نزل الاضطراب الشديد بقلب حزين
في ليال طويلة العتمة
لفّت كل شيء ما عدا عينها الزرقاء الشاحبة
يا لها من ليلة كانت، ظلماء كالجحيم وقاتمة مثل الفحم".
يلتقي بو مع المحقق لاندور في نقطة محورية واحدة، وهي محنة الفقدان، وهما يدوران في فلكها، إدغار ألن بو يقول إن والدته التي فقدها وهو صغير ما تزال تزوره في منامه وهي التي تلهمه الشعر.
لاندور ما يزال يلف على كفّه الوشاح الحريري لابنته ما تيلدا التي قضت انتحارا بعد أن اغتصبتها ثلّة من طلاب الكلية العسكرية التي يحقّق عن الجرائم فيها.
هذه الخلفية الطاحنة يفاقمها ذلك الحبّ المعذّب الذي يصارع إدغار ألن بو من أجله، وهو الذي عاش شبابه متعطشا للحب بعد فقد الأم وغياب الأب والحياة في أسرة لا ينتمي إليها، يقول إنهم يريدونني أن أكون ثريّا وناجحا في التجارة بينما أنا أريد أن أكون شاعراً فحسب.
مجرد نظرته الثاقبة ويومياته وانطوائيّته كفيلة بالكشف عن روح الشاعر الهائمة وها هو مستعد أن يضحي بكل شيء من أجل ليا وها هي تخضعه لطقوسها الشيطانية وها هو ينتظر أن تنتزع له قلبه من صدره وتحتفظ به لنفسها لولا التحول في الدراما الفيلمية ومزيد من الحبكات الثانوية التي دفعت لاندور للركض سريعا باتجاه ذلك الكوخ الذي يشهد طقوس السحر الأسود وفي اللحظة الأخيرة ينقذ بو من موت محقق.
لا عذابات بو ولا عذابات لا ندور تكفي لرسم طريق مشترك لكليهما وها هو لاندور يعترف: "يا ليت الأقدار ساعدتني فجعلتك رجلا لابنتي، ولكنني قد أوفيت بعهدي لها وإني منذ زمن انتظر اليوم الذي سوف تسوقني فيه أنت إلى المحكمة".
لاندور مدبّر تلك الجرائم انتقاما لابنته وإدغار ألن بو بفطنته الفذة وحساسيته كشاعر يدرك تلك الخيانة وذلك التلاعب وأن من كان يرسل الرسائل الغامضة له ليس سوى صاحبه لاندور.
كلاهما يذرف دمعة وداع في صمت وينصرفان كلّ إلى طريق.
.....
بطاقة
الفيلم: العين الزرقاء الشاحبة، The Pale Blue Eye
إخراج: سكوت كوبر
سنة العرض: مطلع 2023
تمثيل: كريستيان بايل، هاري ميلنغ، لوسي بينتون وآخرون.
مدير التصوير: تاكا ياناغي
الموسيقى: هيوارد شور
إنتاج: شركات كروس غريك وستريم لاين و لو غريسبي
توزيع: نيتفلكس
الكلفة: 72 مليون دولار
التقييم: 6.6 of 10 IMDB
63% Rotten Tomato
75% metacritic
90% من مستخدمي موقع جوجل أعجبهم الفيلم
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
العين على لبنان.. لكن لا تنسوا غزة
أنظار العالم اتجهت إلى لبنان والعدوان الإسرائيلي عليها، خاصة بعد التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار فيها، وبدء انسحاب القوات الإسرائيلية، ثم إعادة بناء البنية التحتية التي دمرتها الضربات الإسرائيلية.
ومن المؤسف أن تصبح جبهة غزة على حالها، فلا يوجد حديث جدي عن هدنة أو تهدئة وسط انشغال العالم بما يجري في لبنان، ووسط تساؤلات عمّا ينقص القطاع المنكوب لجذب انتباه العالم بجدية أكبر؟أهالي قطاع غزة يدفعون ثمن المعاناة المستمرة دون أن ينظر إليهم أحد؛ أصبحوا بلا طعام ولا وقود ولا مياه ولا كهرباء ولا إنترنت مع تواصل القصف العنيف كل ليلة. ومع تحوّل أنظار العالم إلى جنوب لبنان، يخشى سكان غزة أن يصيروا في طي النسيان، فما الذي قد يحدث لمحنتهم بعد أكثر من عام من الحرب التي دمرت حياتهم وأفقدتهم الأهل والأبناء وشردتهم في مناطق الإيواء؟
والآن، يشعر سكان غزة بالرعب من تحول الاهتمام الدولي، والتخلي عنهم من قبل جميع الأطراف، وأن تصبح الظروف البائسة في غزة دائمة. فبعد تخلي حماس عنهم ووضعهم على فوهة بركان الحرب، يخاف أكثر من مليون ونصف مليون مواطن فلسطيني من نسيانهم من قبل الدول الوسيطة في ملف المصالحة، خاصة مع تزايد العدوان الإسرائيلي تجاههم وتوحش هجمات الاحتلال ضدهم في مناطق الإيواء، وكذلك منعهم من كل مناحي الحياة وخاصة الأساسيات التي تعينهم على البقاء أحياء وسط كل هذا الدمار والخراب.
الوضع الحالي مأساوي بعد أن حل الشتاء وأكثر أهالي القطاع في العراء، وفي خيام غير آدمية تكشف أكثر مما تستر، إذ تم تدمير نحو 80 في المائة من البنية التحتية أو تضررها بشدة. الوضع الراهن يجعل الجميع، خاصة الأطفال وكبار السن، عرضة لأمراض الجهاز التنفسي وغيرها، وعدم قدرتهم على التعامل مع الأجواء الباردة التي باتت تسيطر على حالة الطقس في الأيام الماضية، ما يتطلب مزيدا من الاحتياجات الطبية والشخصية للأشخاص الذين يعيشون في هذه الظروف اللاإنسانية. والجميع يعلم عجز القطاع الطبي والمنظومة الصحية في القطاع.
وتشير الأرقام إلى أن الهجوم العسكري الإسرائيلي على غزة تسبب خلال 13 شهراً، بمقتل وجرح 150 ألف فلسطيني بينهم كذلك معاقون ومدفونون تحت الأنقاض، وأن 70 في المائة من القتلى نساء وأطفال. ويوجد أيضاً من بين القتلى 17 ألف طفل، 700 منهم لم يبلغوا عامهم الأول. كما تيتم عشرات الآلاف وبترت أطراف أعداد كبيرة من المدنيين.
ومع تركيز الاحتلال على التسوية مع لبنان وتفادي خطر اندلاع حرب شاملة مع حزب الله، لا يزال الأهالي ينتظرون حلا للتسوية في غزة، رغم تضاءل الآمال في التوصل إلى اتفاق مع فقدان الولايات المتحدة، الوسيط الرئيسي في المحادثات، قدرتها على التأثير على أقرب حلفائها، فلا تظهر رؤية واضحة لمستقبل غزة حتى الآن.
وإذا اعتبرنا أن سبب الانصراف عن غزة هو عدم انتباه حركة حماس لأهمية الوحدة ولملمة البيت الفلسطيني والانضواء تحت لواء منظمة التحرير حتى لا تبقى الحركة وحيدة تغرد خارج السرب في ظل مؤامرة تحاك ضد الشعب الفلسطيني، فقد سقطت رهانات حماس على حزب الله أو الحوثيين أو إيران، وبات الشعب الفلسطيني يعيش وحيدا في ظروف سيئة. فالمطلوب من حماس الآن هو المضي نحو تسليم الملف بأكمله إلى منظمة التحرير الفلسطينية. ما جرى في لبنان هو أن حزب الله سلم الملف بالكامل للدولة اللبنانية، وهو ما يجب على حماس فعله على جبهة غزة.
أرجوكم، لا تنسوا أهل غزة فهم يحتاجون إلى انتباه العالم، فالحرب الإسرائيلية والتضييق عليهم مازال مستمرا، في ظل مجاعة شديدة تفتك بهم وشح شديد في إمدادات الغذاء والماء والدواء والوقود. ومع نزوح نحو مليوني فلسطيني من سكان القطاع إلى الخلاء، ولم تظهر بعد أيّ مؤشرات على توقف الهجوم الإسرائيلي في غزة عليهم. والأخطر من كل ذلك ليس في كون التركيز الإعلامي قد انتقل إلى لبنان، ولكن في الحقيقة أنه لا يوجد من يتحدث عن صفقة أو عن وقف إطلاق نار، وهذا يمنح إسرائيل الحرية لاستكمال تنفيذ مخططاتها وعمليتها العسكرية في قطاع غزة وإبادة ما تبقى، فمن ينقذ هؤلاء الأهالي المحاصرين والمشردين منذ أكثر من عام؟