الإعاقة واستراتيجية التمكين الاقتصادي «الجزء الأول»
تاريخ النشر: 10th, September 2023 GMT
سَيطرَت ولفترة طويلة في المجتمعات البشرية غربيةً كانت أو شرقيةً فكرة اقتصادية تَصِفُ الأشخاص ذوي الإعاقة بأنَّهم يكلِّفون دوَلهم ومُجتمعاتهم تكلفة (فرصة ضائعة opportunity lost) باهظة: فهم من جهة، لا يُسهمون في إنتاج الثروات على غرار مواطنيهم من غير الأشخاص غير المعوقين ويُكَبِّدونَ، من جهة أخرى مُجتمعهم وميزانيات دوَلهم تكاليف مرتفعة من حيث إنشاء البُنَى التحتية المناسبة لهم وحمايتهم الاجتماعية.
هذه الرؤية كانت مع الأسف أحد الأسباب الرئيسة في تَدَني نِسَب مشاركة إخواننا من ذوي الإعاقة في سُوق العمل، وتشير إحصائيات (الاسكوا ESCWA 2017) إلى أنَّ نسبة التشغيل للأشخاص ذوي الإعاقة من مجموع إجمالي عددهم في المملكة العربية السعودية كانت (18%)، دولة قطر (24%)، المملكة المغربية (20%)، المملكة الأردنية (23%)، وجمهورية مصر العربية (26%) هكذا نلاحظ وأنَّه في أحسن الحالات ثلاثة أرباع (75%) من الأشخاص ذوي الإعاقة غير فاعلين اقتصاديًّا.
كما هو في مجالات الحياة الثانية، شهدت العقود الأخيرة موجات من المكاسب التي حققها أصحاب القضية في الحقِّ في العمل ليظهر تيار فكري يطالب بهدم الفكر السائد القديم ليحلَّ محلَّه، يدعو هذا التيار إلى دمج الأشخاص ذوي الإعاقة وتسهيل انخراطهم في سُوق العمل كمحرك مُهمٍّ للدَّوْرة الاقتصادية، بخاصَّة أنَّهم يُمثِّلون نسبة مرتفعة من إجمالي سكَّان بلدانهم، ومن هنا يحتاج الأشخاص ذوو الإعاقة إلى إعادة تأهيل لمُقوِّماتهم المهنية والاستثمار فيهم كرأس مال بشري.
يرى المتبنُّون لهذا الفكر أنَّ التهميش الذي يتعرض له الأشخاص ذوو الإعاقة هو نتيجة غياب قواعد كافية لتنظيم مشاركتهم في سُوق العمل ممَّا يدفعهم إلى العمل في القطاعات غير المنتظمة أو الموازية.
لفهم هذا التيار الفكري كان وجوبًا علينا المرور ولو بسرعة على مقاربة عالم الاقتصاد والفيلسوف الهندي (أمارتيا سِن SEN ِAmartya) 1985؛ طوَّرَ هذا الأخير مقاربة خاصَّة في عِلم الاقتصاد (مقاربة القدرات capability approach) لتقويم المشاكل المتعلقة بقباس مستوى المعيشة ونوعية الحياة، وهي تسمح بمقاربة أفضل للإعاقة على المستوى النظري، يتمُّ تحديد قدرة الشخص على العمل بما يُمكِن أن يَفعَلَهُ بدلًا من قدرته على الحصول على مستويات عالية من الدخل أو المنفعة (utility ) وحسب صاحب المقاربة يَجِبُ التمييز(اقتصاديًّا) بين (الفرصة العمليَّة practical opportunity) و(الوظيفة function) فلا يتمُّ تعريف الإعاقة على أنَّها نقص في النشاط الجسدي أو العقلي وحسب، بل على أنَّها (الحرمان) بسبب عدم القدرة على الاستفادة من الفرص المتاحة بغية تحويلها إلى وظيفة؛ أي القدرة على تحقيق شيء ما، كنتيجة لتفاعل ثلاثة عناصر أساسية: السِّمات الشخصية، السِّلع (الفرص) المتاحة والعناصر البيئية. وبحسب هذا التعريف تشمل الإعاقة أيَّ شخص غير قادر على اغتنام التقاطع بين قوَّته الجسدية والفرص المتاحة بغية تحقيق رغباته. وبرغم تعدُّد المقاربات الاقتصادية للإعاقة نرى أنَّ المقاربة الأخيرة لعالِم الاقتصاد الهندي أمارتيا سِن هي الأقوى كأداة تحليلية نظرية تتماشى مع ما نمارسه ميدانيًّا في عملنا بمجال الإعاقة منذ عقود. لفهم جدواها نبسط تحليلها للقارئ الكريم؛ فالمبتغى منها هو شرح أنَّ الأشخاص ذوي الإعاقة سيكونون أكثر حظًّا في الحصول على دَوْر فاعل في الدَّوْرة الاقتصادية إذا ما تمَّ تنمية سِماتهم الشخصية؛ أي مساعدتهم على نيل ما أمكن من العِلم والتدريب المهني أو الحرفي، ثم كلَّما كانت البيئة التحتية مهيأة ومساعدة لهم، من طُرقات ومواقف وبنايات ومكاتب أو مصانع..
وكذلك المهن ذاتها التي كلَّما هيأناها بفضل ما توصلت إليه بحوث علوم الشغل والعمل والتكنولوجيا، نكون قد حطَّمنا نهائيًّا أسباب (الحرمان) التي تقف أمام إخواننا ذوي الإعاقة لتجعلهم يُنعَتُونَ بغير الفاعِلِينَ اقتصاديًّا.
وممَّا يثلج الصدر ويفتح أبواب الأمل ما رأيته عن شاب أميركي مبتور الساقَيْنِ يَعملُ سائقًا لإحدى الشاحنات الثقيلة ويتنقل بها آلاف الكيلومترات في بلده وإلى بلدان الجوار بكلِّ احترافية وإتقان، وكان من الكافي أن هُيِّئت شاحنته ببعض المرافق الإضافية مِثل رافعة الكرسي المتحرك الآليَّة (الأوتوماتيكية) ولوحة تحكُّم إلكترونية في رافعات الأغراض والحمولة بالشاحنة ليكونَ سائق شاحنة ثقيلة محترفًا، يتقاضى راتبًا محترمًا يُؤمِنُ له حياةً كريمةً ومُواطنَةً فَاعِلةً.
خصَّصنا هذه المساحة للغوص فيما يلزمنا كحدٍّ أدنى نظريًّا لتحليل علاقة الإعاقة بالاقتصاد.. وسنحاول ـ بحَوْلِ الله ـ في الجزء الثاني عرض بعض المقترحات العملية لدعم دمج إخواننا وأخواتنا ذوي الإعاقة في سُوق العمل العُماني دعمًا منَّا لأهداف رؤية (عُمان 2040) التي رَسَمت بتحقيق الرفاهية لكُلِّ العُمانيين بِدُونِ فرزٍ أو تمييز.
زوهير بن الحبيب بن عياد بن يحيى
خبير شؤون الإعاقة
benyahiazouhaier@yahoo.fr
المصدر: جريدة الوطن
كلمات دلالية: الأشخاص ذوی الإعاقة
إقرأ أيضاً:
بن مبارك يقود إجتماعاً مشتركاً بين الحكومة اليمنية والأمم المتحدة يخرج بنتائج هامة واستراتيجية
أقر اجتماع مشترك بين الحكومة اليمنية ترأسه رئيس مجلس الوزراء الدكتور أحمد عوض بن مبارك في العاصمة المؤقتة عدن
والأمم المتحدة " تشكيل لجنة تنسيق دائمة مشتركة تهدف إلى وضع إطار استراتيجي للتعاون بين الطرفين، بما يضمن توافق تدخلات الأمم المتحدة مع أولويات الحكومة اليمنية.
كما تم التأكيد على أهمية مراقبة الأداء العام، وتعزيز الارتباط بالعمليات التنموية على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، مع التركيز على التحول من المساعدات الإنسانية إلى التعافي والتنمية المستدامة لخدمة مصالح الشعب اليمني.
كما شهد اللقاء نقاشات مكثفة حول نتائج التنمية لعام 2024 وأولويات العام 2025، بهدف تنسيق الجهود بين الحكومة وفريق الأمم المتحدة القطري لمواجهة التحديات التمويلية المتوقعة وتعزيز التكامل في تنفيذ المشاريع التنموية.
وتم خلال الاجتماع اعتماد الشروط المرجعية لعمل اللجنة المشتركة لضمان مواءمة الاستراتيجيات الوطنية مع الأطر التنموية التي تتبناها الأمم المتحدة.
وفي كلمته، نقل رئيس الوزراء تحيات رئيس مجلس القيادة الرئاسي الدكتور رشاد العليمي وأعضاء المجلس للحاضرين، مشيراً إلى أهمية هذا الاجتماع كونه الأول من نوعه الذي يجمع الحكومة اليمنية ومنظمات الأمم المتحدة في عدن منذ الانقلاب الحوثي، والذي كان له تأثير سلبي على كافة جوانب الحياة في اليمن.
واعتبر رئيس الوزراء اللقاء فرصة لإعادة ضبط المسار وضمان توافق جهود المانحين مع الأولويات الوطنية وخطة الحكومة للتعافي الاقتصادي للعامين 2025-2026، بما يسهم في تحقيق التنمية المستدامة وتحسين مستوى معيشة المواطنين.
كما عبر الدكتور أحمد عوض بن مبارك عن تقديره لجهود الأمم المتحدة والمنظمات الدولية في التخفيف من الأزمة الإنسانية في اليمن، مثمناً العمل الذي قام به العاملون في المجال الإنساني رغم التحديات، خاصة في المناطق التي تسيطر عليها مليشيات الحوثي.
وأشار إلى الانتهاكات الخطيرة التي ارتكبتها المليشيات، بما في ذلك اعتقال وتعذيب العاملين في المنظمات الإنسانية وإصدار أحكام بالإعدام ضد بعضهم، وهو ما دفع الحكومة إلى تكثيف جهودها لمتابعة هذه القضية دولياً.
وأكد رئيس الوزراء مجدداً على ضرورة نقل مقرات منظمات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية إلى عدن، مشدداً على التزام الحكومة بتوفير الدعم اللازم لضمان انتقال سلس وآمن، مع ضمان استمرار تقديم المساعدات الإنسانية والتنموية لجميع اليمنيين دون تمييز.
كما أشار إلى أهمية التحول من العمل الإغاثي إلى المشاريع التنموية، لافتاً إلى أن الحكومة قد أنجزت خطة قصيرة المدى لتعزيز التعافي الاقتصادي وتسعى إلى حشد الدعم الدولي لتنفيذها.
وأوضح أن تدخلات المانحين عبر وكالات الأمم المتحدة تمثل فرصة لدعم جهود الحكومة في تحسين الوضع الاقتصادي، من خلال توجيه المشاريع نحو القطاعات الحيوية مثل الصحة والتعليم والبنية التحتية، مؤكداً التزام الحكومة بتوفير بيئة آمنة تسهم في تسريع العمل الإنساني والتنموي.
وفي ختام الاجتماع، شدد رئيس الوزراء على ضرورة استمرار الحوار والتنسيق بين الحكومة ومنظمات الأمم المتحدة لضمان تحقيق نتائج ملموسة، معتبراً أن هذا اللقاء يشكل بداية لسلسلة من الاجتماعات الدورية لتعزيز التعاون المشترك، بما يحقق الأثر المنشود على الأرض.