حدق في الباب المقابل لسريره، تذكر جميع تلك الأبواب التي أقفلت في وجهه دون توقف، ودون رحمة، عاد طفلا صغيرًا يلعب في وسط الحارة، ما زالت رائحة الطعام في ظهيرة ذلك اليوم القائظ قابعة في روحه، شاهد صحن الأرز والدجاجة الكبيرة التي تتوسطه، سمع صوت الباب وهو يفتح، هرول في مشيته ليسبق خطوات الأطفال الذين شاركوه اللعب بكرة القدم، دخل الطفلان بينما تبقى جسده خارجًا بعد إغلاق الباب الحديدي في وجهه.
رفع قدميه قليلا عن مستوى الأرض، طرق الباب طرقًا خفيفًا جاء متناسبًا مع صغر سنه، وقصر قامته، كانت الأصوات والضحكات تصل إليه دون توقف، ورائحة الطعام تثير جوعه وشهيته، انتظر طويلا خلف الباب المغلق لكنه ظل مغلقًا لفترة طويلة.
وفي طريق عودته إلى بيتهم، تردد طويلا قبل فتح الباب، أرغمه صوت زوجه أبيه على الدخول نهرته بشدة لتأخره ورمت له صحنًا صغيرًا لا يحتوي إلا على الأرز، وقطعًا صغيرة من السمك المتروك بعشوائية فوق وجه الأرز.
شعر بالحزن حين شاهد الطبق المجاور له واللقمات الكبيرة التي توضع في أفواه أخوته، رغب بشدة في الاقتراب منهم، تراجع حين تذكر الصفعة الأخيرة التي تلقاها من يد زوجة أبيه، وجلس يتناول طعامه بتمهل ودون صوت كما كان يُردد على مسامعه دائمًا.
أغمض عينيه وحاول محو تلك الذكرى التي فرضت نفسها عليه بكل قوة، صوت الباب بكل صريره المزعج وهو يقفل عليه، بينما صراخه يشتد رغم الصفعات والضربات التي كان يتلقاها من أبيه الغاضب، كان يحلف ويقسم دون توقف، بينما وجه زوجة أبيه يقف أمامه مباشرة والشماتة بكل صورها تبدو واضحة عليه.
لم يفلح صراخه في استدرار عطف أبيه، فقبع في الغرفة المغلقة يومًا كاملا، حفظ خلالها معالم الباب والرسوم التي أصبحت باهتة، والشخبطات التي فضحت جهل صاحبها بطريقة الكتابة الصحيحة.
أصبح يخاف من الأبواب المغلقة، يترك الباب مواربًا حتى حين ينام، يراها تفصله عن العالم من حوله، وتدخله في عالم ضيق ينهكه ويقوض طاقته.
استمرت علاقته السيئة بالأبواب المغلقة تتفاقم وتأخذ حالة من التنافر، حين أقفل في وجهه باب مجلسهم الكبير الذي ضم رجال العائلة في عزيمة كبيرة، ولم يدخل معهم، ظل يرمق الباب الخشبي بكل أسى، وينصت للأحاديث والضحكات الصادرة عنه بكل حزن، شعر بالضآلة والتقزم، وأصبحت كل تلك الأحاديث فقاعات عدائية تخنقه وتسلبه القدرة على التنفس والبقاء.
جلس حزينًا ينتظر خروجهم من الغرفة، وحين فتح الباب وقف بعيدًا ينظر إلى الصحون التي بدت شبه فارغة، كان يتضور جوعًا غير أن الدموع التي نزلت على خده بلا توقف أجبرته على الرحيل بصمت.
تلك الأبواب لم تكن بقسوة ذلك الباب الذي أغلق دونه ودون جسد والدته المسجى بلا حراك، حاول التشبث بثوبها الفضفاض الذي أظهر نحالة جسمها، غير أن يد الخالة صفية منعته من الاقتراب من مكان التغسيل، ومن ثم أقفلت بابًا معدنيًا صدئًا لم يفتح له، رغم الطرقات الكثيرة والمتواصلة التي تناوبت عليه، شعر بالعجز والحيرة، وتمنى لو يتحول صوت الماء الذي يسمعه إلى نهر جارف يحطم الباب الذي يفصله عن أمه، وتمنى أكثر لو ترجع بابتسامتها المعهودة، وتضعه في حضنها، وتطعمه من صحن الأرز الذي تطبخه وهي تحدثه بلا انقطاع.
كره الباب المعدني، ورغم إزالته من مكانه منذ فترة ليست بالقصيرة، غير أنه ما زال يتذكر نقوشه ومعالمه ولونه بكل دقة.
انقلب فوق سريره وحرك جسمه تداخلت صورة أمه مع صورة مريم جارتهم التي سلبت قلبه وروحه، شاهد فيها صفاء وجه أمه وأسرته ضحكتها، وصل كلال ليله بكلال نهاره في شركة متواضعة تقبع في قلب الصحراء، كان يرى في كل مبلغ يضعه خطوة تقربه من مريم، بدأت صور الأبواب تصغر في ذاكرته، وأصبحت صورة مريم هي المسيطرة على تفاصيل حياته ينام عليها ويصحو بها.
في كل يوم كانت مريم تصبح جزءًا من حياته، يغلق عبرها كل تلك الذكريات التي تقض مضجعه، حتى الأبواب المغلقة تحولت إلى كيانات هشة ما تلبث أن تنهار بعد أن تبزغ صورة مريم كألف شمس في سماء روحه.
ما زال يتذكر تفاصيل كثيرة حين اكتمل المبلغ الذي ادخره بين حنايا روحه، لم يحاول أن يصرف إلا أقل القليل، وبقي معظم أوقاته قابعًا في غرفته خلف الباب المغلق.
عبر حدود غرفته رسم حياة فضفاضة من الفرح والسعادة محورها وجود مريم، ما زال يتذكر ذهابه مع والده لخطبة مريم، رمق باب بيتهم طويلا رغم أنه كان يحفظ كل نقش فيه وكل زخرفة، تنفس بصوت مرتفع ليخرج كل التوتر من صدره المكتوم، نظرات والده ضاعفت من إحساسه بالخوف والرهبة، شعر اليوم بحالة غريبة من التوجس، حاول بشتى الطرق بأن يجعل خطواته متماسكة واثقة، غير أن الخوف الذي تلبسه منذ الصباح ساهم في جعله يتخبط عبر الطرقات المؤدية لبيت مريم وأهلها.
حين جلس في المجلس برفقة أهل مريم، حاول أن ينظر إلى الباب المغلق، شعر بأن كل الأعين ترصد حركاته وسكناته، لم يأكل من صحن الفواكه الذي قدم لهم، كان ينتظر رد والدها بفارغ الصبر، غير أن عبارة: مريم محجوزة لابن عمها، التي انطلقت من حنجرة أبيها جعلته يصاب بحالة من الوهن، شعر بانكسار كبير يلفه، حاول التماسك، أصبحت الرؤية أمامه ضبابية غير واضحة المعالم، تناسى جميع ما مر به بعد نطق العبارة، لم يعد يتذكر سوى باب بيتهم المفتوح، وباب غرفته المغلق، والأرق الذي استبد به طوال ثلاث ليال، ودموع لم يذرفها منذ موت والدته.
في الأيام التي تلت حادثة زيارته لبيت مريم، تغيرت نظرته للأبواب المغلقة، أصبح يشعر بالسكينة لوجوده في غرفة مغلقة بين أربعة جدران، أحس بحالة من الاطمئنان والراحة، رغم التصدع الكبير الذي يحيط به. تقلب عدة مرات على سريره، في هذه المرة عبرت ذهنه مجموعة من الأبواب المتباينة، أغلق عينيه بقوة لطرد صورها الجاثمة على صدره، ولم يتبق سوى صورة باب غرفته الذي فصله عن ضوضاء وضجيج العالم من حوله.
أمل المغيزوية
كاتبة عمانية
المصدر: جريدة الوطن
كلمات دلالية: غیر أن
إقرأ أيضاً:
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى المبارك
الثورة نت/
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
وأفادت مصادر محلية وفقا لوكالة الانباء الفلسطينية ، بأن عشرات المستوطنين اقتحموا المسجد الأقصى على شكل مجموعات، ونفذوا جولات استفزازية في باحاته، وأدوا طقوسا تلمودية، وسط اجراءات مشددة من جنود الاحتلال على أبواب البلدة القديمة والمسجد الأقصى، وفرضت قيودا على دخول المصلين.
ومنذ بدء العدوان الإسرائيلي الشامل على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية، في أكتوبر 2023، شددت قوات الاحتلال من إجراءاتها عند أبواب المسجد الأقصى، ومداخل البلدة القديمة، حيث اقتحم أكثر من 68 ألف مستوطنا الأقصى.