ثمَّة تقاليد صحفيَّة طريفة، بل ومفيدة، لَمْ تزَلْ عالقةً في ذاكرتي وذاكرة أبناء جيلي، بكُلِّ تأكيد. وهي تقاليد لَمْ تكُنْ لِتخلوَ مِنْها أيَّة مجلَّة، بل وأيَّة صحيفة عربيَّة: فكانت تظهر للمتصحِّف «زوايا» التعارف وكتابات القرَّاء على الصفحات الأخيرة، ذلك أنَّ الصفحات الأولى من الصحف والمجلَّات غالبًا ما كانت حكرًا على المحرِّرين المحترفين الذين يستثمرونها لتسجيل أفكارهم وعرض آرائهم أو للدعاية والإعلان التجاري أو السِّياسي.
زوايا التعارف هذه كانت ظاهرة صحفيَّة عربيَّة بامتياز، خصوصًا عَبْرَ عقدَي الخمسينيَّات والستينيَّات، وغالبًا ما كانت تظهر الأسماء مع صورة فوتوغرافيَّة للشخص الراغب «بالتعارف»، زيادة على تعريف مختزل به وبتحصيله العلمي مرفقًا بعنوانه الكامل كَيْ تتيسرَ عمليَّة المواشجة بَيْنَه وبَيْنَ مَن يجد فيه أو فيها مرشَّحًا مناسبًا للتعارف وللصَّداقة: وكان هناك مَن يعلن أنَّ هوايته هي: «المراسلة»، ثمَّ هناك مَن يكتب أنَّ هوايته جمع الطوابع، ناهيك عن هؤلاء الذين يتمسَّكون بـ»التعارف» و»المراسلة» كهواية بحدِّ ذاتها. زِدْ على ذلك الهوايات التي كانت تعكس ميولات وشغف الشبيبة والنشء حقبة ذاك، من نوع هواية السِّباحة وهوايات السَّفر وهواية جمع وتبادل الطوابع. وتجدر الإشارة إلى أنَّ المحرِّرين كانوا يخصُّون القرَّاء الموهوبينَ ببضع صفحات لنَشْرِ كتاباتهم على سبيل التشجيع، وهي ظاهرة صحفيَّة اختفت منذ زمن كذلك! لقَدْ خدمت زوايا التعارف إيَّاها في مجلَّات مِثل (الموعد) المصريَّة و(والشَّبكة) اللبنانيَّة و(المتفرِّج) العراقيَّة كقنوات تواصل وتوائم ومَحبَّة بَيْنَ الشبَّان والشابَّات العربيَّات دُونَ تجاوز حدود اللياقة والمَحبَّة البريئة. ومن غرائب الصحافة العربيَّة، من المحيط إلى الخليج، هي ظاهرة خفوت وانكماش زوايا التعارف تدريجيًّا حتى اختفائها تمامًا، كما نلاحظ ذلك اليوم، ربَّما بسبب طغيان السِّياسة على روح الأخوَّة الحقَّة التي كانت سائدة آنذاك. وربَّما كان تطوُّر وسائل الاتِّصال السريعة والفوريَّة سببًا وراء تغييب «ركن التعارف»، زِدْ على ذلك التغيُّرات النوعيَّة في الأمزجة والذَّائقة العامَّة عَبْرَ مُجتمعاتنا العربيَّة المتغيِّرة على نَحْوٍ متواصل. أمَّا الخلافات السِّياسيَّة الحكوميَّة العربيَّة/العربيَّة، فقَدْ أدَّت دَوْرًا مُهمًّا في تقطيع خيوط التواصل بَيْنَ الشبَّان العراقيِّين وإخوانهم السوريِّين والمصريِّين في مراحل تاريخيَّة معروفة، على سبيل المثال لا الحصر. في عراق الستينيَّات، على سبيل المثال، كان يندر أن تجدَ شابًّا في مرحلة الدراسة الثانويَّة أو الجامعيَّة دُونَ «دفتر عناوين الأصدقاء»، حيث يضمُّ هذا الدفتر أسماء وربَّما صورًا لأصدقائه وصديقاته من المغرب أو السودان، لبنان أو الأردن. بَيْدَ أنَّ هذا الاتِّجاه الاجتماعي والذَّوقي سرعان ما أخذ ينكمش لبالغ الأسف، خصوصًا بعدما طرأ من توافر وتيسير لسُبل النقل والسَّفر، ناهيك عن التطوُّرات والتقنيَّات المعقَّدة في وسائل الاتِّصال الصوتي والصوري، حيث استحال العالَم العربي إلى «قرية» عربيَّة صغيرة بسبب هذه الخدمات والتقنيَّات الحديثة.
أمَّا زوايا وأبواب «كتابات القرَّاء»، فهي تنكمش الآن وفي طريقها إلى الزوال، خصوصًا بعد تسييس الإعلام في العديد من الدوَل.
أ.د. محمد الدعمي
كاتب وباحث أكاديمي عراقي
المصدر: جريدة الوطن
إقرأ أيضاً:
41 شهيدا بغزة بينهم صحفي والاحتلال يستعد لضم مناطق جديدة
قالت مصادر طبية فلسطينية للجزيرة إن 41 فلسطينيا على الأقل بينهم أطفال استشهدوا خلال 24 ساعة في قطاع غزة. كما استشهد الصحفي الفلسطيني محمد البردويل وزوجته وأطفالهم الثلاثة إثر قصف إسرائيلي استهدف منزلهم غربي خان يونس جنوبي القطاع.
يأتي ذلك في وقت ذكرت فيه وسائل إعلام إسرائيلية أنه تم اعتراض صاروخ أطلق من القطاع في غلاف غزة الشمالي.
كما أفادت هيئة البث الإسرائيلية بأن جيش الاحتلال يستعد لتوسيع سيطرته على مناطق في غزة وضمها للحزام الأمني.
ونقل موقع أكسيوس عن مسؤول إسرائيلي أن الجيش سيوسع نطاق عمليته البرية في القطاع لاحتلال ربع مساحته خلال أسبوعين أو ثلاثة.
وأضاف أن العملية جزء من حملة ضغوط قصوى لإجبار حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على الموافقة على الإفراج عن مزيد من الأسرى، وأن خطة الجيش هي توسيع المنطقة العازلة في القطاع.
قصف خيام
وأفاد مراسل الجزيرة بسقوط ثلاثة شهداء -بينهم طفلة- وإصابة عدد آخر في قصف إسرائيلي استهدف خيام النازحين غربي مدينة خان يونس.
كما أفاد بسقوط 10 شهداء، بينهم ثلاثة أطفال، في غارة إسرائيلية استهدفت منزلا في شارع يافا بحي التفاح شرق مدينة غزة. وقد نقل الجرحى إلى مستشفى المعمداني في غزة.
إعلانكما استشهد 3 فلسطينيين في قصف إسرائيلي استهدف خيمة تؤوي نازحين غرب الزوايدة شمال مدينة دير البلح وسط قطاع غزة، ونُقل الشهداء لمستشفى شهداء الأقصى بالمدينة.
وأفاد مراسل الجزيرة بإصابة 3 فلسطينيين في قصف مدفعي إسرائيلي على المناطق الشمالية لمخيم النصيرات وسط القطاع.
عاجل | استشهاد الصحفي محمد صالح البردويل وزوجته وأبنائه جراء استهداف طائرات الاحتلال لشقته في مدينة خان يونس، جنوب قطاع غزة. pic.twitter.com/R7MEXsevQS
— شبكة قدس الإخبارية (@qudsn) March 31, 2025
استشهاد صحفيمن ناحية أخرى، استشهد الصحفي محمد البردويل الذي يعمل مذيعا في إذاعة الأقصى المحلية، وزوجته وأطفاله الثلاثة وعدد من أفراد عائلته، إثر قصف جوي إسرائيلي على منزله بمنطقة حي الأمل غربي مدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة.
وأفاد مراسل الجزيرة بأن الشهداء نقلوا أشلاء إلى مجمع ناصر الطبي بالمدينة، في حين واصلت فرق الدفاع المدني البحث أسفل ركام المنزل المستهدف عن عدد من المفقودين.
ومنذ بدء العدوان على غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، قتلت إسرائيل 209 صحفيين بعضهم مع عائلاتهم، وأصيب العشرات، وفق مكتب الإعلام الحكومي في غزة.
وبدعم أميركي مطلق ترتكب إسرائيل، منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، إبادة جماعية في قطاع غزة خلفت أكثر من 164 ألف شهيد وجريح من الفلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 14 ألف مفقود، فضلا عن أزمة إنسانية وصحية غير مسبوقة، وفق تقارير أممية ودولية.