نكبر ونودع الكثيرين، كبارا كانوا أو صغارا .. نودع كبيراً يموت، ألفنا وجوده بيننا واعتدنا على التحدث معه، بل ألفنا الحياة معه. نودع أبا عشنا في كنفه، أو أستاذاً تربينا على يده، أو زميلا تعلمنا منه وعاشرناه، أو قريبا نفرح عند لقائه وزيارته، أو جارا لا ننسى وقفاته. غادرونا لكبر سنهم أو بسبب مرض ألم بهم، غادرونا تاركين خلفهم فراغاً ومكانا لا يمكن إشغاله، نقف أمام هذا الفراغ حزانى لا نملك إلا أن نقول: رحمكم الله.
ونودع صغاراً كنا لهم الجمال والخيل، يصعدون على ظهورنا وضحكاتهم تملأ البيت، كانوا معنا كل لحظة والآن نبحث عن لحظة نراهم فيها. لقد انطلقوا إلى تحصيل العلم أو دخلوا إلى مضمار العمل والكفاح، أو غابوا عنا بزواج مبارك هو مطمح كل ابن و بنت. مشاعرنا حينها تجمع بين السعادة بهم والحزن لغيابهم. فرحة تجاه بداية مهمة في حياتهم، ودموع نذرفها لوداعهم، فالطفل الذي ظل ملتصقا بك على مدى سنوات باتت بينك وبينه مدن أو ربما دول وبحار واسعة.
ونودع أناساً انتهت فترة وجودهم بيننا. خادمة كانت بمثابة فرد من أفراد الأسرة، وسائق تجاوز دوره مهمة النقل و(المشاوير) إلى التربية والاهتمام بالأبناء والبنات، وزميل وجد فرصة أفضل في موقع آخر أو مدينة أخرى، أو عامل في مقر العمل أو آخر كان يعمل في بقالة الحي، أو حلاق كان يراسلك بين حين وحين.
بعد الأربعين تتزايد وتيرة الوداعات .. نودع أناساً عرفناهم وعرفونا ونستقبل أناساً لا نعرفهم ولا يعرفوننا، فرحماك يا رب بقلب أنت خالقه من وداع يجعل دمع العين ينهمر، ومن حزن يستوطن الأفئدة ويستولي على النفوس المرهفة المشفقة.
المصدر: صحيفة عاجل
كلمات دلالية: بعد الأربعين
إقرأ أيضاً:
د. إبراهيم نجم يكتب: في وداع البابا فرانسيس خادم الإنسانية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
برحيل البابا فرانسيس، فقد العالم صوتًا استثنائيًا وحضورًا مضيئًا تجاوز الحدود الدينية والثقافية. لقد كان البابا فرنسيس، الذي غادر عالمنا مؤخرًا، أكثر من مجرد زعيم ديني؛ كان خادمًا حقيقيًا للإنسانية جمعاء، ونموذجًا نادرًا في التفاني والتواضع والشجاعة الأخلاقية.
بصفتي مستشارًا لفضيلة مفتي الديار المصرية، لطالما أُعجبت بقدرة البابا فرنسيس الفريدة على توحيد الشعوب المختلفة تحت راية واحدة هي راية المحبة والتعاطف والاحترام المتبادل. ففي زمن طغت عليه مشاعر الريبة والانقسامات، كان رسالته البسيطة والقوية تذكّرنا دائمًا بإنسانيتنا المشتركة ومسؤوليتنا تجاه الفئات الأكثر ضعفًا في مجتمعاتنا.
لم يتردد البابا فرنسيس يومًا في مواجهة حقائق عالمنا الصعبة، مثل الفقر المدقع والهجرة القسرية والنزاعات المسلحة وأزمة المناخ. كانت أفعاله نابعة من إيمان عميق وليس مجرد واجب أخلاقي فرضته عليه مكانته. لقد جسّد بحق معنى الرحمة للعالمين التي أشار إليها القرآن الكريم في وصف النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) بقوله تعالى: “وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين”. كان البابا فرنسيس يُعبّر بأقواله وأفعاله عن تلك الرحمة الإلهية التي تتجاوز كل الفوارق الدينية والثقافية والاجتماعية.
إن التزامه الراسخ بالحوار بين الأديان سيبقى من أبرز إنجازات عهده البابوي. لقد آمن البابا فرنسيس بقوة الحوار الحقيقي، ليس كعمل دبلوماسي أو بروتوكولي فحسب، بل كتجربة روحية أصيلة تقود إلى اكتشاف عمق الآخر وغناه الروحي. ولعل اللقاء التاريخي بينه وبين فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب وتوقيعهما معًا على “وثيقة الأخوة الإنسانية” في أبو ظبي عام 2019 هو خير دليل على هذا الالتزام العميق والأصيل بالسلام العالمي والإخاء الإنساني.
ويتوافق هذا النهج الروحي والإنساني مع الرؤية الإسلامية التي يدعو إليها القرآن الكريم، حين يوجّه المؤمنين قائلًا: “فاستبقوا الخيرات” (سورة المائدة: 48)، مؤكدًا أن التعددية الدينية ينبغي أن تكون مصدرًا للتعاون والتعارف، وليس سببًا للخلاف والشقاق.
بالإضافة إلى أفعاله العامة، تميز البابا فرنسيس بشخصية متواضعة وبساطة نادرة جعلته قريبًا من عامة الناس بعيدًا عن مظاهر الترف التي قد ترتبط أحيانًا بمنصبه. وقد جعلت هذه البساطة الحقيقية من البابا فرنسيس شخصية تحظى بالحب والاحترام ليس فقط لدى أتباع الكنيسة الكاثوليكية، بل لدى مختلف الشعوب والأديان.
واليوم ونحن نستذكر ذكراه العطرة، علينا أن نتأمل في إرثه العظيم الذي تركه للبشرية: تذكير مستمر بأن المحبة الحقيقية والاستماع الجاد والاحترام المتبادل هي أمور ليست ممكنة فقط، بل ضرورية لبناء مجتمع عادل ومسالم وإنساني.
رحيل البابا فرنسيس لا ينبغي أن يكون نهاية عصر، بل بداية جديدة لوعي مشترك حول واجبنا تجاه التضامن العالمي والتعايش الاجتماعي والتواصل الحقيقي بين أتباع الديانات المختلفة. ليكن مثاله مصدر إلهام مستمر لنا جميعًا، يدفعنا نحو مزيد من التعاطف والإنصات والوحدة الإنسانية.
فلتبقَ ذكراه منارةً تضيء لنا درب الأخوة والسلام والتعايش بين كل شعوب الأرض.