همس الحروف – يا وزير التربية بـ«الشمالية» أرعى بقيدك .. – الباقر عبد القيوم علي
تاريخ النشر: 10th, September 2023 GMT
الشعب السواني في عزته يجد نفسه دائماً بين سطور معلقة عمر بن كلثوم ، فهو شعب أبي لا يقبل الذلة و لا يرضى بالدنيئة ، كريم ،معطاء ، و يقبل التحدي ، و يصبر على المكاره ، فهو شعب من أعز شعوب العالم نفساً ، و أنفةً و كبرياء ، وهذا ليس إدعاء أو إفتراء ، بل حقيقة مجردة يعرفها القاصي قبل الداني ، و يأتي فخر عمر بن كلثوم بقومه في موضع يشبه عزة السودانيين بأنفسهم ، و لذا نجدهم دائماً ينشدون هذه الأبيات :
بِأَنا المُطعِمونَ إِذا قَدَرنا
وَأَنّا المُهلِكونَ إِذا اِبتُلينا
وَأَنّا المانِعونَ لِما أَرَدنا
وَأَنّا النازِلونَ بِحَيثُ شينا
وَأَنّا التارِكونَ إِذا سَخِطنا
وَأَنّا الآخِذونَ إَذا رَضينا
وَأَنّا العاصِمونَ إِذا أُطِعنا
وَأَنّا العازِمونَ إِذا عُصينا
عندما نكتب عن وزير ما ، أو وزارة ما ، لا نقصد شخصنة الموضوع في شخص الوزير بتاتاً ، لأنه ليس هنالك أي أمر شخصي بيننا و بينه ، إلا في (الأمر العام) ، و يحق لنا أن نقول ما تمليه علينا ضمائرنا من أجل المصلحة العامة ، فنجد أن هنالك بعض الوزراء تنقصهم التجربة ، و لا تدركهم الحصافة في الأداء العام ، فيشخصنون المواضيع و يخرجون من المنطق و يدخلون في تحدي أعمى قد يصل بهم في بعض الأحايين إلى حد السفور ، أو الفجور في الخصومة ، حيث لا زالت ذاكرة الشعب السوداني تحتفظ لنا ببعض التحديات و العنتريات و النفخة الكذابة التي تتمثل في بعض العبارات (كلحس الكوع) و غيرها من تلك العنتريات التي تقال بين الفينة و الأخرى .
عندما ينقطع التيار الكهربائي عن المدينة تنطلق ألسنةُ الناس لتسبّ وزير أو مدير الكهرباء و العاملين فيها ، مع أن أصغر شخص في المدينة يعلم تمام العلم أن أزمة الكهرباء هي جزء لا يتجزأ من البنية التحتية الأساسية لكامل الدولة ، لا يخفف من حدّتها وزير فهيم و حصيف ، و كما لا يزيد فيها وزير أخرق ، و لكن حينما أجد نفسي في مبنى وزارة تعتبر هي العرين الذي تبني فيه العقول التي تدير البلاد في المستقبل ، فغرابة المظهر تصف الجوهر الذي يرفع حاجب الدهشة ، ففي مدخل مباني هذه الوزارة ببعد ليس ببعيد من باب المبنى الرئيسي نبات (العشر) ، فمثل هذه المناظر تصيبني بالغثيان ، و تضعني في موضع يستفز المشاعر و خصوصاً ان هذه النبتة لا تنمو إلا في مكان مهجور ، أو في بيت صاحبه ميت ، أو بيت (مسكون) لا يرعاه أحد ، و يعتبرالبعض أن نبتة (العشر) نبتة يسكنها (الجن) ، فحينها تختبئ في ذاكرتي صورة ذهنية مرعبة عن هذه الوزارة الموحشة ، و المليئة بالحشائش التي يتجاوز إرتفاعها المتر او يزيد ، و كأن أصحاب المكان موتى ، أو ليس له وجيع ، من لا يصدق ما أقول ، فعليه بزيارة وزارة التربية و التوجيه بدنقلا ، و من المؤكد من الباب سينتابك إحساس بالخوف الشديد من الدبيان ، و من تلك القصص التي يتعوز الإنسان عند سماعها من الخبث و الخبائث .
وزير هذه الوزارة كون لجنة من بعض المعلمين ليقوموا بما قام به حميدتي و جيشه لإخراج أناس مكلومين ضعفاء و في حاجة ماسة لترميم ما تم هدمه من نفسياتهم ، حيث أخرجوا من ديارهم بغير حق ، فلجأوا إلى هذا المكان الذي أشعرهم إسمه بالطمأنينة ، و كان عشمهم من بعد الله في سعة قلوب أصحاب هذا المكان أكثر من نظرتهم لسعة الأماكن ، و هذا الموقع يسمى (استراحة المعلم) ، إلا أن الحالة المزاجية للسيد الوزير لم تتحمل إستمرار وجود ضيوف هذه الولاية و نزلاء هذا المكان ، حيث هم بإخراجهم منه بحجة إسطوانة مشروخة نسمعها دائماً تسمى (الصيانة) ، و علماً أن نزلاء هذه الإستراحة يقومون بدفع القيمة المحددة للإيجار كاملة ، تواصلت مع السيد الوزير لأشرح له عمق المشكلة و لكنني وجدته متحمساً لإخراج هؤلاء الناس من هذا المكان أكثر من حماس أفراد مليشيا الدعم السريع حينما كانوا يخرجون الناس من منازلهم ، فعلمت حينها أن الإحساس بقضية الفارين من الحرب ينعدم عند هذا الرجل ، وخصوصاً حينما خاطبني بلغة الإستعلاء و قال لي بالحرف الواحد : كفاية ، نحن أوينا هؤلاء الناس أربعة أشهر أو يزيد ، و كأنه كان يأويهم في غرفة نومه الخاصة و قد نسى أو تناسى أن هذا المكان مدفوع الأجرة .
فيا سعادة الوزير أين كنت حينما كان فندق المعلم في أيدي لجنة التمكين ، و انت على رأس عملك (وزير) ، و الفندق لم يكن ملك لمؤسسات الحركة الإسلامية ، أو له علاقة بنظام الإنقاذ ، ألم تكن تعلم وقتها بأحقية وزارتك فيه مع النقابه و الإتحاد المهني للمعلمين ، أم نما إلى علمك هذا الأمر مؤخراً ، قل لي بربك ما هو الشيء الذي أخرسك طيلة هذه الفترة لتصمت زهاء ال3 سنوات محكاة للمثل القائل : (صمت دهراً و نطق كفراً) ، و اليوم تريد أن تكون بطلاً عليهم و تستعرض عضلاتك على ضعفاء ، و عزل و هم في الأصل كانوا أعزاء أقوام و لكن أذلتهم الحرب ، ألا تخجل من نفسك و أنت تتوعدهم بالإخلاء بحجة الصيانة ، أي صيانة هذه التي تتحدث عنها ؟ ، أم هي من ضروب تلك الحيل القديمة التي يستخدمها كباتن السماسرة من اجل رفع القيمه الإيجارية ، فيا سعادة الوزير إذا كانت نيتك فعلاً القضية الوطنية و من أجل ذلك جعلت أمر صيانة هذه الإستراحة أولوية على مصير ساكنيها من أفراد هذا الشعب ، فإني أشهدك بالله العظيم أن تهتم بصيانة وزارتك أولاً ، أو على أقل تقدير حاول أن تسعى في نظافتها فقط من أشجار العشر و الحشائش التي شوهت المظهر العام لهذه المؤسسة التي تعنى بالشأن التربوي في المقام الأول ثم التعليم في المقام الثاني ، أم أمر النظافة عندك ليس من الأولويات ، هل تعلم يا سيادة الوزير أن هذا الأمر الذي حدثتك عنه يعتبر ذو أولوية قصوى إن كنت لا تدري بذلك و لا تلقي له بال ، و لكني متيقن بانك لن تفعل ذلك أبداً .. لماذا ؟ ، لأن العين لا ترى إنسان عينها و كما أيضاً أن الجمل لا يرى عوجة رقبته ، و فوق كل ذلك نجد ان الإهتمام بأمر نظافة الوزارة ليس في محل إهتمام ملح ، لانها لا تسهم في خزنة التسيير بأي عائد مادي ، و لكن نجد أن إستراحة المعلم لها دخل معلوم و ثابت ، و لهذا يجتهد الوزير لأجل رفع القيمة الإيجارية مجاراة للسوق ، و أن هذا الأمر السوقي سيخصم من القيمة الأخلاقية لهذه المؤسسة التربوية لا محال ، فنجد من العيب أن تتأثر الوزارة بسلوك سماسرة المدينة في الجشع الشيء الذي جعل هذه المؤسسة تتحايل من أجل رفع القيمة الإيجارية لتواكب الأسعار الحالية في المدينة ، و من المؤسف أن يتأثر الموظف الأول في هذه المؤسسة التربوية بسلوك السماسرة و يعجز في التأثير عليهم و هو رأس هرم القيمة التربوية ، و الموظف الأول فيها ، و المعني ببناء القيم و الخلق القويم و السلوك الحميد ، و لا أريد ان أخلط بين الوزير و قبيلة المعلمين، فهم منارات المجتمع و دليلنا في الحياة ، و قد فتحوا لنا قلوبهم قبل بيوتهم كما فعل وزير التربية السابق خالد ميرغني ، ذلك الرجل الأنسان و الذي ما زال فاتحاً باب بيته لضيوف دنقلا ، فروعة الإنسان دائماً ليست بما يملك من منقولات بل بما يمنح الناس من عطاء ، و من هذا المنطلق يجب أن يعلم السيد الوزير في المقام الأول أن الشعب السوداني أقوى من أن يهزمه الجشع أو أحد من مخاليق الله كائن من كان ، و كما يجب عليه أن يعلم تمام العلم أن سكان الإستراحة هم أناس محترمين و لهم مكان عظيم في المجتمع ، و لذلك لن يخرجوا ليكونوا في الشارع و لن يستجبوا لطلب لجنة الوزير ، و هذا ليس من باب ركوب الرأس و لكنهم لم يجدوا بديل للسكن الحالي بما يتوافق مع ظروفهم و إمكانياتهم المادية ، فقد سعوا بكل جدية و لكن كل محاولاتهم باءت بالفشل ، و لهذا قرروا البقاء ، فهل درس سعادة الوزير عن مصيرهم بعد الطرد و ماذا سيحل بهم بعد تنفيذ هذا الإخلاء القسري الذي خطط له ، و هل شاور اللجنة الأمنية بالولاية في المهددات الأمنية المتوقعة من هذه الخطوة العرجاء ، لن يكون قد فعل من ذلك شيء لأنني من خلال مهاتفتي له علمت بمقدار مساحة صدره تجاه هذه القضية التي لم تعنيه في يوم من الأيام، فكان من الممكن أن يكون بطلاً في نظرهم إذا تعاطف مع قضيتهم ، فمن المؤكد سينال أجر الدنيا مع إحترام الناس لشخصه ، و ثواب الآخرة عند الله في جنة عرضها السموات والأرض ، و أخير أقول له و للجنته التي أتى بها : (أرعوا بقيدكم) ، فلن يسمح الشعب السوداني مرة أخرى بتمرير هكذا قرارات و خصوصاً أنه في وضع لا يسمح له بأي مخاطرات في أمر سكنه ، و علاوة على ذلك لهم حساسية مفرطة تجاه كل من يحاول زعزعة أمنهم السكني ، إذن ما هو الفرق بين ما قامت به الوزارة و لجنتها و مليشيا الدعم السريع بخصوص طرد المواطنين الآمنين من أماكن سكنهم ، حيث أن هذا الأمر أرجعني لمقالي الكاتبين الحصيفين ، الأستاذ الطاهر ساتي و الأستاذ الباقر عكاشة عن المختبئين في دهاليز المرافق العامة و يفعلون ما لا يفعله الثور الهائج في مخزن الخزف .
و من ردود فعل هذا الامر كفعل مضاد له تحدث معي أحد الشباب الذين يسكنون في هذه الإستراحة و قلبه يعتصره الألم و قال لي : إذا تم طردي فعلاً من هذا المكان سأرجع إلى الخرطوم وسإنتظم في صفوف الدعم السريع لأنني لم أجد فرقاً شاسعاً في سلوك أفراد مليشيا الدعم السريع و هؤلاء الذين يتربصون بنا من أبناء جلدتنا ، فهم سواسية في أضطهاد الإنسانية ، و عموما نجد إن كل سكان إستراحة المعلم يمرون بظروف نفسية قاسية و معقدة و لا يجدون من يحس بهم كأمثال هذا الوزير ، فإنهم في حاجة ماسة لمراجعات في صحتهم النفسية من شدة تأثير ما وقع عليهم من ضغوط مادية و نفسية و جسمانية ، و لكن نجدهم مؤمنين بقضاء الله و قدره حيث ما زال لسان حالهم يقول :
وَإِنّا سَوفَ تُدرِكُنا المَناياَ
مُقَدَّرَةً لَنا وَمُقَدَّرينا
و ليعلم الجميع أنه لن يصيب شعبنا إلا ما كتب الله له و لن يذلهم من بعد هذا اليوم (أحد) كائن من كان .
و سنواصل بإذن الله
المصدر: نبض السودان
كلمات دلالية: التربية الحروف همس يا وزير الدعم السریع هذه المؤسسة هذا المکان هذا الأمر أن هذا
إقرأ أيضاً:
من القبو إلى القبر.. تأثيرات المكان في «لعنة الأمكنة» للخطاب المزروعي
فـي مجموعته القصصية (لعنة الأمكنة) الصادرة عن دار ميريت للنشر والمعلومات عام 2003م، أشار الخطاب المزروعي فـي عتبة المجموعة إلى الأمكنة مقدمًا إياها باللعنة المرتسمة عليها، وفـي هذا العنوان بالتحديد ما يوحي بخصوصية معينة للأمكنة الواردة فـي المجموعة؛ فهي تمنح انطباعًا أول بأنها أمكنة ذات طابع مسكون بالمجهول والغرابة واللعنة؛ إذ إنّ لفظة اللعنة الملتصقة بالمكان تشير فـي تأويلاتها المكانية بالحكايات الأسطورية والخوف واللاواقعي فـي التعبير المكاني.
إنّ المتأمل فـي المجموعة القصصية يجد حضورًا طاغيًا للمكان فـي السرد القصصي، ويبدو أنّ المؤلف قد اشتغل على المكان اشتغالًا أراد من خلاله إظهار شخصياته وفق المنحى المكاني للقصص وربطها بالأحداث ربطًا تسير عليه الحكايات وتُبنى من خلاله الشخوص. نجد تكرار مفردات (المقبرة/ القبر) واضحة فـي المجموعة، كما نجد غيرها من الأمكنة التي تفاعلت معها المجموعة وأنتجت تحولًا للأحداث المختلفة كـ(البيت والقرية والقبو والبحر والصحراء وغيرها).
القبو مستودع الحكايات:
يظهر القبو فـي المجموعة كونه مستودعًا للحكايات العديدة التي يضج بها السرد؛ ففـي قصة (القبو) يظهر القبو حاملًا بُعدًا رمزيًّا لا أكثر، ومعه تتسع الحكايات وتتوالد من قصة إلى أخرى، وتتوسع الموضوعات باتساع الحكايات، فتُظهر القرية دواخل شخوصها بالتعبير عما تضمره نفوسهم، فمن قضية العبيد إلى التدين الزائف إلى الصراع بين الأب وابنه إلى الحكم الخاطئ على الناس. قضايا عديدة تناولتها القصة الحديثة راسمة صورة القرية فـي الحكايات الشفهية ومعها حاول الكاتب استعادة شيء من صور القرية وصراع شخصياتها.
لقد كان القبو فـي هذه القصة مستودعًا للحكايات المختلفة المتوالدة على لسان الراوي، لكن القبو فـي قصة (هذا الليل ما أطوله) كان فضاءً للعذابات والقهر والجراح؛ فالقبو هنا فضاءٌ ارتبط بالتعذيب الجسدي، والخوف، تصف القصة هذا الفضاء: «ولكن ألم يكونوا يتركونكم تنامون؟ سألته.
- بلى... بعدما تنتهي حفلة الصحراء، نحمل إلى داخل قبوٍ مظلم ويرموننا على الفراش كالجيفة وما أن يحاول الواحد منا أن ينام حتى يسقط عليه عقرب أو ثعبان، فلا يدخل النوم إلى أعيننا وهكذا حتى تبدأ حفلة الصباح...
- ألا تلسعكم العقارب؟ سألته بسذاجة، وكأني أريد الاقتراب منه أكثر.
- تلسعنا.. حتى أننا تعودنا على العقارب والجرذان. فـي يوم من الأيام سقط ثعبان على عنق الذي يرقد بجانب سريري، فأطبق على عنقه وكان نائمًا، وعندما جاء الصباح ركله أحدهم على خاصرته، يحسب أنه مستغرق فـي النوم... انهض يا كلب.. تحسب نفسك نائما فـي بيت أبيك. فتجندلت جثته متشنجة على الأرض، بعدما تدحرجت ونحن نشاهد الموقف وكأننا فـي حلم أو فـي فـيلم هوليودي». ص51
يقابل القبو فـي هذه القصة الصحراء، وهي فضاء الحرية والتنقل على الأغلب، لكنها قد مثّلت هنا فضاء الاستعباد والظلم والتعذيب؛ إذ إنها تمثّل قبوًا أوسع من القبو الضيق المظلم فـي معناه المتعارف عليه. تصف القصة الصحراء: «كانوا يحملوننا إلى الصحراء فـي كل ليلة اثنين، والبرد القاسي، ونحن عراة ومن ثم يربطون أيدينا على الجيب وهم يطفئون أعقاب سجائرهم على صدورنا المشعرة، فأشم رائحة لحمي ومن ثم يأخذون بنتف شعور عاناتنا، فتحس بالألم يصل حتى الروح كإبر صغيرة تغرس فـي جلدك، فأتململ محاولًا أن أتحرر من الرباط لكن دون جدوى... وهكذا حتى يقترب الفجر». ص51
القبر/ المقبرة مستودع الذاكرة:
يحضر القبر أو المقبرة فـي أغلب نصوص المجموعة، وغالبًا ما يستعيد الراوي معها ذاكرة الألم والحزن والغياب والموت. تحضر مريمُ مثلًا بعد الرحيل مُشكّلةً رحلة فـي الذاكرة. وهنا يستعيدها الراوي؛ إذ تمثّل مريم كل الماضي: الحب والحنين والشوق، مستعيدًا مع رحيلها الذاكرة الشعبية المرتبطة بالسحر والسحرة. نجد اقتران المقبرة بهذه الذاكرة الحزينة إذ يصفها الراوي قائلًا: «مريم يا وجعي الآتي، يا شيئي الذي لا يمسك... ينفلت من صرة روحي. فـينوس... عشتار... هكذا أراك، فرس متروكة تروض نفسها فـي حديقة الوجود الذي رفضته. فرسك المجنون أنا أعبث بحوافري، أقتلع العشب الذي ينبت بين أصابع قدميك. يومها لم أستطع الكلام هربت إلى المقبرة وبدأت أصرخ وأتقلب كنورس جريح خضب الدم ريشه الأبيض.
أحسست بالذنب. أركض إلى روحي الممزقة بشتاتي الذي لا ينتهي.... تغطيني أشجار النخيل بظلال وهمية يخترقها ظل مؤقت يزول بزوال شمسك.... صرت أهيم كالمجنون. قلت:
- لا لم تمت... مريم لم تخلق للموت، بل للاستمرار! صرت أتطلع إلى بنات الحي وهن يضحكن، فأثرن ضحكتك فـي ذاكرتي... فتأتي قاسية كضربة قناص مفاجئة.
- يقولون إنّ عمها حمدون سحرها. قالتها أمي بعدما تنهدت وهي تغرز إبرة الخياطة فـي الكمة وكأنها تهدئ من روعي -بميتافـيزقيتها الساذجة-
ولماذا يسحرها؟ سألتها، وكأن الجنون بدأ يخيم على عقلي.
لأنها رفضت تتزوج ابنه، وقالت: أريد عيسى....». ص33
الأمر ذاته فـي قصة (حكاية صديقي الذي لم يمت) فـي اقتران القبر بالذاكرة واستعادتها، والتخيل المتمثل فـي الالتقاء بالصديق الراحل والحديث عن القبر والدود. أما فـي قصة (لعنة الأمكنة) فـيمتزج المكان: القبر/ المقبرة بغرائبية السرد المتمثل فـي الدخول إلى عالم القبور، ثم أخذ أحد الهياكل منها إلى المنزل. تقوم الغرائبية والتخيل فـي مدّ الحكاية منذ قوله: «أخذتُ أذرع المقبرة وكأني أحسدهم، جاءتني فكرة أن أندس فـي لحدٍ ما، لكن ماذا لو رفض ذلك الميت مشاركتي له..؟ قلت: سأجرب». ص83
تمتد الأحداث المتخيّلة بعد ذلك من أخذ أحد الهياكل إلى المنزل فتتبعه بقية الهياكل طارقة الباب خلفه، إلى أن يقرّر إرجاع الهيكل مرة أخرى. تصبح الأحداث غريبة فـي سردها ويتحول الوصف إلى نوع من الوحشة. هنا تنغلق الذاكرة على التخيل والخوف والوصف البشع من داخل القبر لا من خارجه، ويمتزج الوصف بقتامة الصورة، يقول: «أخذت يداي تنسلان إلى جوف اللحد تدخل الرفات المسروقة، ومن ثم أخذت أهيل التراب والأحجار.. فكأن صوتًا ثقيلًا يخرج من جوف اللحد يقول لي:
- شكرًا لأنك أرحتني مرة أخرى من ضنى الحياة وموتها الذي تعيشونه أنتم المساكين بنو البشر...
ارتجفت وأنا أحسده على أنه وحده لا أحد يشاركه نومته، نهضت بتثاقل وصوت بنات آوى يرجع صداه من الجبل.. فتزداد ضربات قلبي كلما كان الصوت أقرب إلى مسمعي، تملكتني رغبة البكاء وأنا أتجه إلى غرفتي.. أخذت أبكي بمرارة، ورجلاي تتعثران بأحجار الطريق، وكأني أسحب جسدي إلى المقبرة لا منها، كان صوت بنات آوى يزداد حدة وقلبي يرتجف أكثر كسمكة أخرجت من البحر لتوها». ص85
لقد قدّم لنا الخَطّاب المزروعي صورًا متعددةً للمكان، مختلفةً فـي سرد شخوصها والتعبير عنهم، أو بوصف المكان وصفًا دقيقًا يحاول معه ملامسة الأحداث وسيرها فـي القصص المختلفة. لم يكن المكان إلا تقنية يعبّر عنها القاص مستلهمًا ذاكرتها الماضية، ووصفها المتخيل لتكوين صورة سردية داخل النص.