لجريدة عمان:
2025-03-16@10:54:35 GMT

أنماط التغير الاجتماعي في مجتمعات الخليج العربي

تاريخ النشر: 9th, September 2023 GMT

لعقود كانت النقطة المرجعية لقياس حالة التغير الاجتماعي في مجتمعات الخليج العربي هي ظهور النفط، وما أفرزه من انتقال في التركيبة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لهذه المجتمعات. وظلت أدبيات التغير الاجتماعي تحاول قياس شكل وتركيب هذه المجتمعات بناء على ما قبل تلك اللحظة التاريخية وما بعدها. إلا أننا اليوم في حاجة إلى عدة نقاط مرجعية مجددة للقياس، وقد تحدثت في مقالة سابقة عبر هذه المساحة أن «الرؤى التنموية» التي تنخرط في تبنيها دول الخليج العربي قد تشكل نقطة مرجعية؛ تنتقل فيها هذه المجتمعات من مرحلة التنمية المستدامة ومستويات التنمية البشرية المرتفعة نسبيًا إلى حالة أكثر حداثة للمجتمع، قوامها المجتمع الذي تقوده القيادات الملهمة، والاقتصاد الذي يعظم الفرص لكافة الساكنين، والتنافسية التي تحرك عبر أدواتها ومحكاتها هذه المجتمعات بتركيبتها الثقافية والاجتماعية لانخراط أكبر في مشهد العولمة المتجدد في نسيجه وآفاقه.

لكن لنحاول تضييق مسافة القياس قليلًا؛ بالبحث والسؤال عن أهم العوامل التي تساهم في حالة التغير الاجتماعي في مجتمعات الخليج العربي خلال العقدين الماضيين. في الواقع فإن رصد حركة التغير الاجتماعي في هذه المجتمعات يحمل عوامل مشتبكة، بعضها له خصوصيته على مستوى المجتمع ذاته؛ إلا أن هناك عوامل عامة ومشتركة تجعل هذه المجتمعات على محك تغير سريع ومتواتر. نعتقد أن هذه العوامل هي أربعة: أولها (توسع نطاق ونوعية برامج الابتعاث الخارجي وربط مخرجاتها بحركة التنمية الوطنية)، وثانيها (شروع الرؤى التنموية في تحقيق التغيير الاجتماعي عبر القيادة بالنماذج)، أما ثالثها فهو (حراك التنافسية العالمية ودفع دول الخليج مجتمعاتها لمشهد التنافسية)، وأما رابعها فهو (انتشار أنماط الاستقلالية الاقتصادية لشرائح معينة من فئات المجتمع الخليجي).

في الواقع فإنه ليس من باب المبالغة القول: إن «الابتعاث الخارجي» - في مختلف مستوياته - أحد أهم مشاريع الدولة التي أسهمت في حالة التغير الاجتماعي في الخليج، ذلك أنه دفع بشرائح واسعة من الطبقة المتفاعلة ثقافيًا للاندماج في ثقافات أخرى، وأسهم في تقصير الآجال الزمنية للاستثمار في المورد البشري، وفي بعض الدول أسهم في إدماج العائلات (التي كانت ترافق المبتعثين) في أنماط وتفاعلات ثقافية مختلفة، كما أنه أعطى أدوارًا جديدة للمرأة المبتعثة في سوق العمل وفي مشهد التنمية الوطنية على وجه العموم. يمكن القول: إن الابتعاث بالنسبة لجموع الفئات المستهدفة به والمستفيدة منه على مستوى مجتمعات الخليج أعطى لهذه المجتمعات صورة كاشفة عن حالتها الثقافية، وعن عناصرها المعرفية، وعن منطلقات القوة الكامنة فيها. وعن آفاق التطوير والتلاقح الثقافي الممكنة مع الدول التي تستهدفها برامج الابتعاث. لا شك اليوم في بعض دول الخليج أن من يقود مشاريع التحول الاقتصادي والتنموي في الغالب هي الفئة التي استفادت من برامج الابتعاث في نهاية التسعينيات وبداية الألفية الجديدة. وهذا مكتسب مهم لمجتمعات الخليج في استثمارها في موردها البشري. إلى جانب ذلك تعضد الرؤى التنموية التي تتبناها الدول الخليجية على حد سواء حالة التغير الاجتماعي في الخليج؛ ذلك أنها تنطوي على إحداث تغييرات سلوكية ومفاهيمية في المقام الأول؛ سواء فيما يتصل بعلاقة المواطنين بالدولة، والقيم المهنية، والمفاهيم المتصلة بالوظيفة العامة، وعلاقة الأفراد عمومًا بسياقهم الإيكولوجي وحالة تجويد وترشيد الاستهلاك والاهتمام بجودة الحياة العامة، ونشوء مفاهيم العمل الحر والمستقل، والتركيز على «القيادة بالنماذج»؛ من خلال إيجاد نماذج قاطرة سواء من الأفراد (القادة) محركي التغيير، أو من المشاريع القومية التي تدفع بالوجدان الاجتماعي للالتفات حولها وتشكل رمزية طموح التغيير في هذه المجتمعات. تدفع هذه الرؤى كذلك باتجاه حشد الشعور الجمعي أن هذه المنطقة قادرة على التأثير العالمي، وأنها تجاوزت كونها مجرد مجتمعات متمحورة حول سلعة «الطاقة» إلى قدرتها على التأثير في سياق صنع القرار العالمي وشبكاته، وهذا يعطي بعدًا جديدا للشخصية الخليجية، قد يدفعها إلى تغيير مفاهيمها إزاء طبيعة الانخراط في الشبكات العالمية، وحدود طموحاتها في التعليم والعمل والإنتاجية الاقتصادية، وفي إقبالها على قيادة الرأي العالمي المتحول.

دفعت دول الخليج كذلك خلال السنوات الماضية باتجاه تعميم وتشجيع تحول مواطنيها وخاصة فئة الشباب نحو «ريادة الأعمال»، و«الأعمال الحرة» وسخرت الموارد المؤسسية والتنظيمات اللازمة لتعميم هذه الثقافة، وقد أصبح اليوم هذا العامل أحد محركات التفكير في الاستقلالية الاقتصادية عن الدولة بالنسبة لشرائح معينة من الأفراد في مجتمعات الخليج العربي. إن الدفع في هذا الاتجاه هو أيضًا محرك للتغير الاجتماعي، ذلك أنه ينبئ عن نشوء قيم جديدة ترتبط بفكرة الدخل الحر، ومساحة العمل الحر، والانتقال من حالة الموظف إلى رب العمل، والانعتاق من القيود الاجتماعية التقليدية للوظيفة، مما يشكل أدوارًا جديدة للرجل أو المرأة على حد سواء في سياق النسيج الاجتماعي. تتداخل فكرة العمل الحر مع تصورات جديدة للأدوار في الأسر والأوقات مع الأسر، وللعطل والإجازات والمناسبات الاجتماعية، كما أنها من شأنها تكوين معايير جديدة للمقارنة الاجتماعية والطبقة الاجتماعية في الخليج. هناك فئات شابة اختصرت مسارات تكوين الثروة وهو معطى اقتصادي – اجتماعي مهم للنظر في القيم التي يولدها. كما أن هذا الاتجاه ساعد كثير من الأفراد في التنقل عبر الحدود بمشاريعهم وتأثيرهم الاقتصادي والفكري والابتكاري. وفي العموم فإن حالة التغير الاجتماعي في الخليج في تقديرنا تسمها ثلاث سمات رئيسية: أولها أنه تغير تقوده الدولة؛ سواء كان عبر رؤاها وخططها طويلة الأمد، أو عبر أشكال التنظيم التشريعي المستحدثة في هذه الدولة والتي تشيء بالتحول إلى عقد اجتماعي جديد بين الدولة والمجتمع. أما ثاني السمات؛ ففي كونه تغير يصعب توقع مستوى سرعته ووتيرته، هناك مجتمعات خليجية كانت سرعة التغير الجزئي فيها غير متوقعة ومحسوبة، وهناك مجتمعات تأخذ دورة التغير فيها سياقًا أبطأ بكثير من غيرها. أما ثالث سمات التغير الاجتماعي في مجتمعات الخليج فهي الدور التظافري للعوامل التي تؤدي إليه، لم يُحدث الإعلام (بشكله التقليدي) ذلك الأثر في تغيير المجتمعات الخليجية، ولم تكن وسائل التواصل الاجتماعي وحدها أداة التغيير، وإنما تظافرت عوامل سياسية / ثقافية / اقتصادية دفعت نحو ذلك التغيير في مرجعيته وحدوده وسرعته. وعلى أية حال ما زالت دراسات التغير والتغيير الاجتماعي في الخليج (محدودة جدًا). وكمختصين في العلوم الاجتماعية ما زلنا نعول على أدبيات كتبت قبل الألفية لفهم هذه الحالة. نعتقد اليوم بضرورة تبني مرصدًا للتغير الاجتماعي في الخليج، يمكن أن يكون موقعه الأمثل في الأمانة العامة لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، ويجمع باحثين جديرين، قادرين على تطوير أدوات منهجية محكمة لرصد حالات التغير الاجتماعي في الخليج، والأهم تقديم رؤى مستنيرة للسياسات والبرامج القاطرة لاحتواء هذا التغير. وتوظيفه لخدمة أغراض الاستقرار الاجتماعي والازدهار المجتمعي.

مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: هذه المجتمعات دول الخلیج

إقرأ أيضاً:

نائب ترامب: غزونا للعراق دمر أحد أعظم المجتمعات المسيحية في العالم

15 مارس، 2025

بغداد/المسلة: اكد نائب الرئيس الأمريكي جيه دي فانس، ان غزو الولايات المتحدة للعراق دمر واحدا من أعظم المجتمعات المسيحية في العالم.

وقال فانس لشبكة “فوكس نيوز”، ان “الغزو الأمريكي للعراق دمر واحدا من أعظم المجتمعات المسيحية في العالم”.

وأضاف “يجب عدم السماح بتكرار ذلك مرة ثانية”.

وبشأن سوريا، ذكر فانس ان “على الإدارة الأمريكية ان تتذكر مع من تتعامل في سوريا، وعليها ضمان حماية هذه المجتمعات التاريخية”.

وأشار إلى أن “واشنطن تتحدث مع حلفائها وتعمل بعيدا عن الإعلام من أجل تشجيع الإدارة السورية على حماية الأقليات المسيحية والدرزية وغيرهما”، واصفا “الإدارة السورية الجديدة بالمتشددة”.

المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.

About Post Author زين

See author's posts

مقالات مشابهة

  • التحول الديموغرافي وتوجيه مجتمعات المستقبل
  • القيم والتقاليد عند مفترق الطرق.. كيف ندير التغيير؟!
  • نائب ترامب: غزونا للعراق دمر أحد أعظم المجتمعات المسيحية في العالم
  • الذكاء الاصطناعي يعزز الاستدامة ويسرع مكافحة التغير المناخي
  • نائب ترامب: غزونا للعراق دمّر أحد أعظم المجتمعات المسيحية التاريخية في العالم
  • حوار يناقش دور الأسرة في بناء المجتمعات
  • الدوري السعودي.. الوحدة يفوز على الخليج بمشاركة محمد شريف
  • الوحدة يهزم الخليج بثنائية
  • اتحاد الجولف يحتفي بأبطال الخليج
  • خطة إعمار ودولة فلسطينية.. خبير: التغير بالموقف الأمريكي جعل نتنياهو لا ينام