تأملات في نظرية المُثُل الأفلاطونية
تاريخ النشر: 9th, September 2023 GMT
لا أحاول في هذا المقال التفرّد بصياغة جديدة لمفاهيم نظرية المُثُل الأفلاطونية بقدر محاولتي لتقديم تأملات تتعلق بهذه النظرية التي تتجاذبها عدة مقاربات تتناسق فيما بينها لتقترب إلى مفهوم نظرية المُثُل من جوانب أخرى في حياتنا. تناول أفلاطون مثالا تخيليّا لتقريب الأذهان إلى نظريته في المُثُل، وفي مثاله يصوّر لنا أفلاطون مجموعة من البشر المسجونين داخل كهف يفصلهم عن العالم الخارجي، والنار خلفهم تعكس لهم ظلال الأشكال الخارجية دون أن يستطيع أيٌّ منهم فهم واقع هذه الأشكال وصورتها الحقيقة، وحتى مع تحرر أيّ من هؤلاء المساجين وتحققه من وجود عالم حقيقي آخر ومحاولته لإقناع من هم في الداخل بوجود هذا الواقع المغاير لنمطهم الذهني؛ فإنه يفشل في إقناعهم بهذه الحقيقة غير المحسوسة والحتمية بالنسبة إليهم.
تحاول نظرية المُثُل عند أفلاطون أن تقرّبنا من واقعنا في الحياة المتّسم بالنسبية والظن المعرفي؛ فتصيغ لنا قواعدَ معرفية تعكس المنطلقات التي نعتمدها في صناعة المعرفة، وهذه المنطلقات تؤكد لنا أن المعرفة نسبية تحتمل الظن حتى مع أقصى حالات اليقين المعرفي؛ كون الأشياء التي ندركها نسبية وفقا لمظهرها المحسوس، ومطلقة بالنسبة لجوهرها غير المحسوس، وهذا مثاله -كما ذكرته آنفا- في ظواهر الكون النسبية وقوانينها المطلقة. تتشعب نظرية المُثُل إلى ما هو أبعد من ذلك لتشمل فرضياتها الفرعية قضايا ميتافيزيقية لا تتصل بعالَمنا الحسي؛ حيث إن معارفنا «المطلقة» موجودة في عالَمها ما قبل المادي، وهنا لمحة إلى أن الإنسان سبق له إدراك هذا الواقع المطلق -قبل ولادته- ودخوله إلى العالَم المادي -بعد الولادة- قاده إلى المشاهدة النسبية غير المطلقة للحياة وأشيائها، وهذا من الممكن أن يتقارب مع المعطيات الدينية مثل ما يعرّفه البعض بـ«عالم الذر» الذي يستدل البعض على وجوده عبر الآية القرآنية: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ»، وذلك إشارة -حسب ما يرى البعض- إلى وجودنا -نحن البشر- في عالَم ما قبل عالمنا المادي «عالم الشهادة»، وكان إدراكنا في ذلك العالَم إدراكا مطلقا غير نسبي، وسبق لي تناول هذه القضية بحيثيات علمية وفلسفية حاولت بواسطتها تحديد مفهومنا للعقل والوعي والروح، وخلاصة ما وصلت إليه أن تفاعلنا الجسدي والعقلي داخل المنظومة المادية في الحياة لا يسمح لنا بالإدراك المطلق للأشياء؛ إذ تكون معرفتنا بالأشياء معرفة نسبية تَضعُف وتزيد في مقاربتها للصورة الحقيقة لهذه الأشياء، ولهذا نجد بعض المدارس «الروحية» تشجع على ممارسة التأمل العميق الذي يحاول الإنسان بواسطته اختراق هذا الحاجز المادي؛ ليخرج خارج كهفه، ويرى مظاهرَ أخرى للأشياء تختلف عن صورتها النسبية السائدة، ويرى البعض هذا المنهج التأملي منهجا علاجيا يطبب النفس من ضيق عالَمها المادي المشحون بالآفات النفسية التي مع تزايدها وتفاعل الإنسان معها؛ تزيد من بُعدِ الإنسان عن حقائق الأشياء.
بجانب هذا المنهج التأملي، يأتي المنهج الإيماني متجانسا مع المنهج التأملي؛ إذ الإيمان يقود في حالاته العالية إلى بلوغ ما يسميه البعض بدرجة «اليقين»، وهذه الدرجة العالية هي ما تسمح للإنسان المتأمل ذي الإيمان العالي برؤية الضرورات الإيمانية التي لا يمكن برهنة وجودها في العالم الحسي، وأستشهد هنا -مثل كل مرة- بفلسفة كانط القاضية بضرورة الإيمان؛ كونه وسيلة وحيدة تصل الإنسان إلى اليقين بوجود الله عبر مبدأ التسليم المطلق، ولا سبيل إلى بلوغ هذا اليقين بأي طرق معرفية أخرى سواء العقلية أو التجريبية. تؤسس التجربة الإيمانية -في بدايتها- مرحلة من المعرفة الظنية التي تتسم معالمها باليقين النسبي، وهذا ما يمكن تأمله عبر الآية القرآنية: «الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ»؛ فالظن هنا ليس ظنًا يخامره الشك؛ بل هو ظن أقرب إلى اليقين غير المحسوس وفقا للمعايير الحسية في العالم المادي الذي لا يمكن برهنته عقلا وتجربة -وهناك تأويلات دينية ولغوية كثيرة يستند إليها أهل التفسير واللغة، ولست بصدد الإشارة إليها مثل تباين معنى الظن عند العرب وفقا للسياقات والضرورات اللغوية- ولكن الظن بوجوده عبر المنهج الإيماني المدعوم بالنص المطلق يجعل منه يقينا يمكن الشعور به، ولا تنقص هذه المرحلة -حتى لو خالطها الشك المنهجي «وليس المذهبي»- من المسلك الإيماني الذي يكافح الإنسان «المؤمن» لبلوغ أعلى مستوياته التي تصل به إلى اليقين المطلق الذي في أكثر حالاته لا يتحقق إلا بالمشاهدة المحسوسة التي تتأتى بعد مفارقة النفس الجسد ورجوعها إلى عالَمها المطلق وفقا للدلالات القرآنية: «ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ» «كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ» وغيرها من الآيات التي تشير إلى تحقق اليقين الذي يشير إلى حالة اليقين بوجود الشيء حسا دون مجرد الشعور أو الإيمان بوجوده.
تأملاتي في نظرية المُثُل التي يعكس وجودها واقعا في مظاهر حياتنا الكثيرة -وإن اختلفت مسمياتها ومعانيها الفرعية- تُوقظ في داخلنا مناهج الشك المنهجي المبني على ظواهر معرفية نسبية تدفعنا إلى حب الاكتشاف والمغامرة المعرفية التي تحاول أن تسلك بنا إلى حقائق الأشياء، وتستمر في عملية تحديث الصورة النمطية للأشياء وظلالها وفق أدوات المعرفة النسبية التي تحاول أن تدفعنا ولو عبر الشعور اليقيني «الظني حسا» إلى الخروج من الكهف. وجدت في نظرية المُثُل لأفلاطون معاني تأملية كثيرة رغم عدم حماسي الكبير لأفلاطون ومثاليته الفلسفية سالكا بذلك مذهب أستاذنا الدكتور علي الوردي.
د. معمر بن علي التوبي كاتب وباحث عُماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: نسبیة ت
إقرأ أيضاً:
أنشيلوتي.. المدرب الذي كسر القاعدة
كثر الحديث واللغط حول كلاسيكو الأرض، وحول ما فعله برشلونة بريال مدريد، والذي في أغلب الظن كان صادمًا لجمهور كرة القدم كافة، وليس لجمهور ريال مدريد فقط، ولكن.. في آخر الأمر هو واقع فرض نفسه. ولكن ما أحزنني.. هو الهجوم الشرس من الجمهور والإعلام المدريدي على كارلو أنشيلوتي، الذي أشعرني للحظة أن هذا الرجل لم يقدم شيئًا للنادي الملكي.
عن نفسي، أنا من المحبين لأنشيلوتي كثيرًا، سواء على مستوى الأسلوب الفني، أو الأسلوب الاجتماعي والنفسي، الذي يتعامل به مع لاعبي ريال مدريد.
عزيزي القارئ.. لك أن تتخيل أنك مدرب لريال مدريد؛ النادي الأعظم على مستوى العالم، ويكون لديك هذا الكم من النجوم، وتستطيع السيطرة عليهم بكل بساطة، وتحقق معهم النتائج والبطولات لمدة تتجاوز الثلاثة أعوام.
لمن يعرفون أسرار كرة القدم يعلمون أن هذا الأمر صعب جدًا، فلاعبو كرة القدم ليسوا بطبيعتهم محبذين للنظام والأوامر، وتحديدًا النجوم( متمردين)، ولكن أنشيلوتي كسر هذه القاعدة، وأكبر دليل على ذلك كمية الإنجازات التي حققها في جميع الأندية التي مر بها؛ من ميلان، إلى تشيلسي، إلى باريس سان جرمان، إلى بايرن ميونخ، إلى أن ننتهي بريال مدريد.
سيأتي البعض من المغرضين وسيذكرون لك تجربة يوفنتوس، وإيفرتون، وبالطبع هؤلاء هم قصار النظر في معطيات كرة القدم، وذلك لسبب بسيط مرتبط بسؤال أبسط.
*من هو المدرب المستمر في جني النجاحات بجميع الفرق التي دربها؟
– الإجابة.. لا أحد؛ لأن الطبيعي أنك كما ستنتصر اليوم ستخسر غدًا، ولا يوجد على هذه الأرض فريق كرة قدم لم يخسر بتاتًا، وانشيلوتي مثله مثل عالم كرة القدم؛ ينجح اليوم، ويسقط غدًا، وإن كنت أرى أن أنشيلوتي كسر هذه القاعدة بخلق قاعدة أخرى، ألا وهي أنه ( انهزم بالأمس، لكنه لم يسقط اليوم).