لجريدة عمان:
2024-12-17@09:33:44 GMT

تأملات في نظرية المُثُل الأفلاطونية

تاريخ النشر: 9th, September 2023 GMT

لا أحاول في هذا المقال التفرّد بصياغة جديدة لمفاهيم نظرية المُثُل الأفلاطونية بقدر محاولتي لتقديم تأملات تتعلق بهذه النظرية التي تتجاذبها عدة مقاربات تتناسق فيما بينها لتقترب إلى مفهوم نظرية المُثُل من جوانب أخرى في حياتنا. تناول أفلاطون مثالا تخيليّا لتقريب الأذهان إلى نظريته في المُثُل، وفي مثاله يصوّر لنا أفلاطون مجموعة من البشر المسجونين داخل كهف يفصلهم عن العالم الخارجي، والنار خلفهم تعكس لهم ظلال الأشكال الخارجية دون أن يستطيع أيٌّ منهم فهم واقع هذه الأشكال وصورتها الحقيقة، وحتى مع تحرر أيّ من هؤلاء المساجين وتحققه من وجود عالم حقيقي آخر ومحاولته لإقناع من هم في الداخل بوجود هذا الواقع المغاير لنمطهم الذهني؛ فإنه يفشل في إقناعهم بهذه الحقيقة غير المحسوسة والحتمية بالنسبة إليهم.

هكذا تخرج إلينا هذه الفكرة بأفكار وتأملات كثيرة تتعلق بمفاهيمنا في نظرية المعرفة، والثابت والمتغير، والحتمي والنسبي، واليقين والظن، والشهادة والغيب؛ فنجد أن مظاهر الطبيعة وحركتها -مثل الجاذبية وتأثيراتها، والطاقة الكهربائية والمغناطيسية، وحركة الأجسام والذرة وما تحتها- تعكس المتغير النسبي، إلا أن القوانين التي تعمل بواسطتها هذه الظواهر في حياتنا هي الثابت الحتمي التي لا يترجم إلا عبر هذه الظواهر الكونية المحسوسة «الوجود»؛ وحينها نجد أننا أمام صور تعكس الواقع النسبي للحقيقة المطلقة المندسة خلف أطر غير محسوسة بشكل حسي مطلق «الماهية»، بل أقصى ما يمكن أن تُفسّر به عبر ترجمتها لصورة رياضية؛ لتمكين العقل من إدراكها وإدراك ظلالها النسبية.

تحاول نظرية المُثُل عند أفلاطون أن تقرّبنا من واقعنا في الحياة المتّسم بالنسبية والظن المعرفي؛ فتصيغ لنا قواعدَ معرفية تعكس المنطلقات التي نعتمدها في صناعة المعرفة، وهذه المنطلقات تؤكد لنا أن المعرفة نسبية تحتمل الظن حتى مع أقصى حالات اليقين المعرفي؛ كون الأشياء التي ندركها نسبية وفقا لمظهرها المحسوس، ومطلقة بالنسبة لجوهرها غير المحسوس، وهذا مثاله -كما ذكرته آنفا- في ظواهر الكون النسبية وقوانينها المطلقة. تتشعب نظرية المُثُل إلى ما هو أبعد من ذلك لتشمل فرضياتها الفرعية قضايا ميتافيزيقية لا تتصل بعالَمنا الحسي؛ حيث إن معارفنا «المطلقة» موجودة في عالَمها ما قبل المادي، وهنا لمحة إلى أن الإنسان سبق له إدراك هذا الواقع المطلق -قبل ولادته- ودخوله إلى العالَم المادي -بعد الولادة- قاده إلى المشاهدة النسبية غير المطلقة للحياة وأشيائها، وهذا من الممكن أن يتقارب مع المعطيات الدينية مثل ما يعرّفه البعض بـ«عالم الذر» الذي يستدل البعض على وجوده عبر الآية القرآنية: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ»، وذلك إشارة -حسب ما يرى البعض- إلى وجودنا -نحن البشر- في عالَم ما قبل عالمنا المادي «عالم الشهادة»، وكان إدراكنا في ذلك العالَم إدراكا مطلقا غير نسبي، وسبق لي تناول هذه القضية بحيثيات علمية وفلسفية حاولت بواسطتها تحديد مفهومنا للعقل والوعي والروح، وخلاصة ما وصلت إليه أن تفاعلنا الجسدي والعقلي داخل المنظومة المادية في الحياة لا يسمح لنا بالإدراك المطلق للأشياء؛ إذ تكون معرفتنا بالأشياء معرفة نسبية تَضعُف وتزيد في مقاربتها للصورة الحقيقة لهذه الأشياء، ولهذا نجد بعض المدارس «الروحية» تشجع على ممارسة التأمل العميق الذي يحاول الإنسان بواسطته اختراق هذا الحاجز المادي؛ ليخرج خارج كهفه، ويرى مظاهرَ أخرى للأشياء تختلف عن صورتها النسبية السائدة، ويرى البعض هذا المنهج التأملي منهجا علاجيا يطبب النفس من ضيق عالَمها المادي المشحون بالآفات النفسية التي مع تزايدها وتفاعل الإنسان معها؛ تزيد من بُعدِ الإنسان عن حقائق الأشياء.

بجانب هذا المنهج التأملي، يأتي المنهج الإيماني متجانسا مع المنهج التأملي؛ إذ الإيمان يقود في حالاته العالية إلى بلوغ ما يسميه البعض بدرجة «اليقين»، وهذه الدرجة العالية هي ما تسمح للإنسان المتأمل ذي الإيمان العالي برؤية الضرورات الإيمانية التي لا يمكن برهنة وجودها في العالم الحسي، وأستشهد هنا -مثل كل مرة- بفلسفة كانط القاضية بضرورة الإيمان؛ كونه وسيلة وحيدة تصل الإنسان إلى اليقين بوجود الله عبر مبدأ التسليم المطلق، ولا سبيل إلى بلوغ هذا اليقين بأي طرق معرفية أخرى سواء العقلية أو التجريبية. تؤسس التجربة الإيمانية -في بدايتها- مرحلة من المعرفة الظنية التي تتسم معالمها باليقين النسبي، وهذا ما يمكن تأمله عبر الآية القرآنية: «الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ»؛ فالظن هنا ليس ظنًا يخامره الشك؛ بل هو ظن أقرب إلى اليقين غير المحسوس وفقا للمعايير الحسية في العالم المادي الذي لا يمكن برهنته عقلا وتجربة -وهناك تأويلات دينية ولغوية كثيرة يستند إليها أهل التفسير واللغة، ولست بصدد الإشارة إليها مثل تباين معنى الظن عند العرب وفقا للسياقات والضرورات اللغوية- ولكن الظن بوجوده عبر المنهج الإيماني المدعوم بالنص المطلق يجعل منه يقينا يمكن الشعور به، ولا تنقص هذه المرحلة -حتى لو خالطها الشك المنهجي «وليس المذهبي»- من المسلك الإيماني الذي يكافح الإنسان «المؤمن» لبلوغ أعلى مستوياته التي تصل به إلى اليقين المطلق الذي في أكثر حالاته لا يتحقق إلا بالمشاهدة المحسوسة التي تتأتى بعد مفارقة النفس الجسد ورجوعها إلى عالَمها المطلق وفقا للدلالات القرآنية: «ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ» «كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ» وغيرها من الآيات التي تشير إلى تحقق اليقين الذي يشير إلى حالة اليقين بوجود الشيء حسا دون مجرد الشعور أو الإيمان بوجوده.

تأملاتي في نظرية المُثُل التي يعكس وجودها واقعا في مظاهر حياتنا الكثيرة -وإن اختلفت مسمياتها ومعانيها الفرعية- تُوقظ في داخلنا مناهج الشك المنهجي المبني على ظواهر معرفية نسبية تدفعنا إلى حب الاكتشاف والمغامرة المعرفية التي تحاول أن تسلك بنا إلى حقائق الأشياء، وتستمر في عملية تحديث الصورة النمطية للأشياء وظلالها وفق أدوات المعرفة النسبية التي تحاول أن تدفعنا ولو عبر الشعور اليقيني «الظني حسا» إلى الخروج من الكهف. وجدت في نظرية المُثُل لأفلاطون معاني تأملية كثيرة رغم عدم حماسي الكبير لأفلاطون ومثاليته الفلسفية سالكا بذلك مذهب أستاذنا الدكتور علي الوردي.

د. معمر بن علي التوبي كاتب وباحث عُماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: نسبیة ت

إقرأ أيضاً:

ما الذي يحدث في المنطقة؟

يمانيون ـ بقلم ـ عبدالرحمن مراد

على مدى فترة زمنية وجيزة لا تتجاوز عشرة أَيَّـام، تسقط دولة بكل مقدراتها ويغادر رئيسها، ويحدث أن تتحَرّك المعارضة إلى المدن ولا يتجاوز الحدث دور التسليم والاستلام، وكأن الأمر قد دبر بليل والصورة الظاهرة لا تتجاوز الشكل الظاهر للناس، فما الذي يحاك للأُمَّـة؟

تتسع دائرة الأهداف للعدو الصهيوني فيحتل جزءاً كَبيرًا من الأراضي السورية بعد أن دخلت المعارضة السورية إلى دمشق، وتنشط الماكنة العسكرية لتضرب أهدافاً عسكرية ومعامل كيميائية وتشل حركة القدرات والمقدرات التي تراكمت عبر العقود الطويلة، وتتجاوز المعارضة فكرة الفوضى الخلاقة وتمنع المساس بمؤسّسات الدولة، وتتجاوز هيئة تحرير الشام فكرة الغنيمة التي كانت فكرة أصيلة في معتقدها، وتذهب إلى النظام، وحفظ المقدرات، وتعلن إجراءات احترازية لضمان الأمن والاستقرار، ثم تبادر “إسرائيل” لضرب المعامل ومخازن الأسلحة بحجّـة تأمين أمن “إسرائيل”، وضمان عدم وصول الأسلحة للجماعات العقائدية التي استلمت السلطة في سوريا، وتذهب قوات سوريا الديمقراطية المتعددة الأعراق والأهداف إلى خيار التسليم لبعض المدن مع احتفاظها بقرى متاخمة، وعدد كبير من جيش النظام السوري السابق يدخل العراق بكل عتاده، ثم يأتي مستشار الأمن القومي الأمريكي ليزور المنطقة، ويعلن أن ضمان أمن “إسرائيل” فرض ضرورة القيام بعمليات عسكرية احترازية، ويعلن صراحة أن “إسرائيل” أصبحت أقوى من أي وقت مضى.

أخذت الناس نشوة الانتصار ولم يدركوا أبعاد ما يحدث في المنطقة، التي تتعرض لعملية تهجين، وصراع لن يهدأ في المدى القريب المنظور؛ فالسيناريو الذي نشاهد اليوم بعض تفاصيله لا يهدف إلى استقرار المنطقة العربية، ولكنه يمهد الطريق لـ”إسرائيل” كي تكون هي الدولة المهيمنة على مقدرات الأُمَّــة، وعلى أمنها وعلى نشاطها الاقتصادي، والعسكري، وهو المشروع الذي يقف ضده محور المقاومة منذ انطلاق ثورات الربيع العربي إلى اليوم.

سوريا التي فرح الغالب من الناس بثورتها، وهللوا وصفقوا، لن تصبح دولة موحدة ومستقرة في قابل الأيّام، ومؤشرات ذلك قائمة، وتعلن عن وجودها في الأرض التي تحكمها؛ فقوات سوريا الديمقراطية خليط غير متجانس من جماعات متعددة العرقيات، وهي مدعومة بشكل كلي ومباشر من أمريكا، وهيئة تحرير الشام فصائل متجانسة لكنها تنطلق من عقائد غير موحدة وإن كان يجمعها الإطار السني، لكن تختلف العقائد والمنطلقات وكلّ فصيل له منظوره الذي قد لا يتسق مع ظاهرة الاعتدال التي بدا عليها قائد العمليات العسكرية أحمد الشرع في الكثير من بياناته والكثير من تعليماته التي صاحبت دخول دمشق بعد تسليم نظام بشار الأسد لها، وفق صفقة وتوافقات تمت بين النظام وبعض الحلفاء كما تقول الكثير من التداولات التي لم يتم تأكيدها، لكن حركة الواقع دلت عليها؛ إذ ليس معقولاً أن يسقط النظام بكل تلك السلاسة والهدوء ودون أية ممانعة أَو مقاومة بأي شكل من الأشكال مهما كانت المبرّرات؛ فبشار الأسد لم يكن ضعيفاً ولكنه يملك مقومات البقاء أَو الصراع على أقل تقدير لزمن محدود لكنه اختزل المقدمات في نتائجها، فرأى التسليم خياراً لا بُـدَّ منه، وقد كان التسليم خياراً قديماً لبشار لولا حزب الله الذي قلب المعادلة في اضطرابات الربيع العربي قبل عقد ونيف من الزمان، ويبدو أن خيار الضغط على بشار قد بلغ غايته مع انشغال حزب الله بحربه مع العدوّ الصهيوني، فكان استغلال الفرصة في سقوط سوريا لأهداف متعددة، وفي المجمل هي أهداف تخدم الوجود الإسرائيلي ولن تمس حياة المواطنين بسوريا بخير ولا تعدهم برخاء ولا برفاه؛ فالمؤشرات التي صاحبت تسليم واستلام السلطة تقول إن “إسرائيل” تريد من سوريا بلدًا منزوع السلاح لا يشكل خطراً على أمنها، كما أن الخيار الدولي يذهب إلى مبدأ التقسيم؛ إذ أننا لن نشهد بلدًا موحدًا كما كان في سالف عهده، بل سوف نشهد بلداً مقسماً تتنازعه القوميات والعرقيات والعصبيات المتعددة وقد يتحول إلى دويلات صغيرة قابلة للتهجين حتى تحقّق “إسرائيل” غايتها في تحقيق دولة “إسرائيل” الكبرى.

السياسة الأمريكية اليوم تحدها موضوعياً أربعة سيناريوهات معلنة وهي:

– السيناريو الأول عدم الاستقرار على نطاق واسع.

– السيناريو الثاني عدم الاستقرار المحلي.

– السيناريو الثالث الحرب الباردة.

– السيناريو الرابع العالم البارد، وهو نتيجة منطقية للسيناريوهات الثلاثة أي الوصول إلى الاستقرار في المستقبل من خلال ثنائية الخضوع والهيمنة للشعوب التي تنهكها الصراعات والفقر.

ومن خلال سياسة عدم الاستقرار الواسعة والمحلية ومن خلال ما يصاحب ذلك من حرب باردة يصل العالم إلى حالة من تهجين الهويات التي سوف تقبل التعايش مع الواقع الذي يفرضه النظام الدولي الرأسمالي، وتعزيز قيم جديدة للمجتمع الحداثي الجديد حتى يكون عنصراً كونيًّا رافضاً الهوية الجزئية، التي تصبح فكرة غير مقبولة في مجتمع الحريات الفردية المطلقة لمجتمع ما بعد الحداثة، الذي يشتغل عليه اليوم النظام الدولي الرأسمالي، وبسبب ذلك سارعت بعض الدول مثل روسيا إلى إعلان فكرة الأمن الثقافي القومي الذي بات مهدّداً من خلال الحرب الباردة التي تنتهجها السياسة الأمريكية في مستويات متعددة منها مجال الآداب وشبكات التواصل الاجتماعي والدراما ذات الأثر الكبير في محتواها الرقمي، فمصطلح “الهجنة ” مصلح جديد يدخل المجال الثقافي ويهدف إلى تحديد نقاط الالتقاء بين الثقافات؛ بهَدفِ تذويب الفوارق لينشأ مجتمع كوني يقفز على فكرة الهويات القومية.

خلاصة الفكرة أن ربيعاً جديدًا قادماً يتجاوز فكرة الفوضى الخلاقة يقوم على تنمية الصراعات ويتخذ من الحرب الباردة سبيلاً للوصول إلى غاياته ومؤشراته بدأت من سوريا.

مقالات مشابهة

  • ما الذي يحدث في المنطقة ؟
  • خالد نبهان.. الشهيد المبتسم الذي سلبه الاحتلال روح الروح
  • الذي سيحدث للتمرد في مدني ليس مجرد هزيمة .. فلم رعب
  • مراسلة الجزيرة بموسكو تكشف عن الفندق الذي نزل به الأسد والأموال التي بحوزته
  • ما الذي يحدث في المنطقة؟
  • آثار الدمار الذي خلفه نظام الأسد بمدينة حرستا بريف دمشق
  • أهم المعلومات حول جبل الشيخ الذي سيطر عليه الاحتلال (إنفوغراف)
  • ماذا قال جورج وسوف عن مستقبل سوريا بعد تأييده المطلق للأسد؟
  • هذا سبب الأصوات التي تُسمع في جرد رأس بعلبك
  • محاضرة نظرية للاعبي الأهلي قبل مواجهة باتشوكا