لجريدة عمان:
2024-09-19@03:12:55 GMT

أم كلثوم

تاريخ النشر: 9th, September 2023 GMT

أنتمي إلى جيل كان يُطرب لغناء أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وفيروز وناظم الغزالي وغيرهم ، ولا أعتقد أن شخصا طبيعيا لم يتذوق موسيقى عبد الوهاب ورياض السنباطي ومحمد الموجي وبليغ حمدي وغيرهم من الموسيقيين الذي أسعدونا، وخصوصا حينما تكون الكلمات من أشعار بيرم التونسي وأحمد رامي وما سبقهما أو لحق بهما من شعراء ملؤوا حياتنا أملا ومتعة وسعادة، لا سيما أم كلثوم التي بقيت لأكثر من نصف قرن تطربنا، ليس فقط بجمال صوتها وقوته وإنما لإحساسها المرهف، وقدرتها الفائقة على تجسيد أجمل ما كتبه الشعراء، سواء بالفصحى أو العامية، وهي حالة لا تتكرر كثيرًا في تاريخ الغناء العربي.

أتذكر منذ ستينات القرن الماضي، وكنت في بداية المرحلة الإعدادية، ولم تكن الكهرباء أو التليفزيون قد دخلا معظم القرى المصرية، لكن من المشاهد التي تستحق التوثيق، حينما كان أهل قريتي يتحلقون حول المذياع في الخميس الأول من كل شهر، وهو الموعد المحدد لحفل أم كلثوم الشهري، لم يكن الكثيرون لديهم هذا المذياع العجيب، الذي يقدم لنا هذا الغناء وتلك البرامج الثقافية والاجتماعية، التي كان يشارك فيها أحيانا طه حسين والعقاد ونجيب محفوظ وزكي نجيب محمود، وغيرهم من كبار الكتاب والمفكرين الذين ارتبطنا بهم وجدانيًا وعاطفيًا، إلا أن حفلات أم كلثوم الشهرية تبقى حالة خاصة جدا، ليس للمتعلمين أو حتى أنصاف المتعلمين، بل والفلاحين، بأغنيائهم وفقرائهم رغم أن الكثيرين منهم لم يكن يعرف القراءة ولا الكتابة، لكنهم جميعًا كانوا ينتظرون بشغف حفلات أم كلثوم الشهرية.

يتحلق أهل القرية حول المذياع، وبمحبة بالغة يستضيف من يملكون هذا الاختراع العجيب من لم يكن لديهم هذا الترف، وتتحول بيوت القرية إلى حالة من البهجة حينما تبدأ أم كلثوم في الغناء، واللافت للنظر أن سماع حفلات أم كلثوم لم يكن قاصرًا على الرجال، بل كانت النساء وحتى الأطفال من بين من رأيتهم وقد غمرتهم السعادة وهم يستمعون لغناء متواصل، ربما يستمر أحيانا لمدة ساعتين أو أكثر. هكذا عشنا حياة القرية قبل أن تدخلها الكهرباء أو التليفزيون ربما حتى نهاية الستينات، بعدها أصبح التليفزيون منافسا قويا للراديو، عقب أن دخلت الكهرباء كل القرى المصرية، لكن يبقى سماع أم كلثوم عبر الراديو حالة خاصة جدا، ربما لارتباطها بطفولتنا، وربما للقدرة على التركيز في السماع أكثر بعيدًا عن الصورة. لم أجد اتفاقًا من أهل قريتي على شيءٍ أكثر من اتفاقهم على محبتهم لسماع صوت أم كلثوم، تتوارى الخصومات ويتقارب الناس وتتضاعف المحبة، وكأن هذه السيدة العجيبة قد سحرتهم بغنائها.

لم تنقطع محبتنا بأم كلثوم رغم انحياز قطاع كبير من الشباب إلى غناء عبد الحليم وفايزة أحمد وشادية ونجاة وفيروز وغيرهم من الفنانين الذين راحوا يدخلون الساحة الغنائية، ربما بألوان جديدة أقرب إلى ذائقة الشباب، ومع منتصف سبعينات القرن الماضي رحلت أم كلثوم (٣ فبراير ١٩٧٥)، مخلفة وراءها تراثا عظيما من الغناء، وقد شاهدت يوم وفاتها مقدار الحزن الذي عم القرى والمدن المصرية، وقد شعر الناس في طول البلاد وعرضها بأنهم قد فقدوا رمزا كبيرا كان مصدر سعادتهم، فقد أمدهم بقدرة فائقة على مواصلة الحياة، وتجاوزهم لهمومهم وأحزانهم، حتى لمن فقدوا واحدا أو أكثر من أسرتهم في حروب متواصلة منذ ١٩٦٧، وحتى ١٩٧٣، أعتقد أن غناء أم كلثوم كان سببا قويا لتجاوز المحن وألم الفراق، على شباب ذهب إلى الحرب ولم يعد. كانت هذه هي أم كلثوم كما عشنا معها وعاشت معنا.

عقب رحيل أم كلثوم ربما بشهر كنت أمضي بعض الوقت في مقر اتحاد طلاب مصر وسط القاهرة، وفي المساء دق جرس التليفون وكنت أجلس قريبًا منه، ورفعت السماعة وسمعت صوتًا لرجل يسأل: هل هذا هو مقر اتحاد الطلاب؟ أجبته: نعم، رد قائلا: أنا صلاح چاهين، ومضى في الحديث قائلا: عندي ضيف أمريكي يعد فيلما تسجيليًا عن أم كلثوم، هل تستطيع الحضور إلى مكتبي الآن في الأهرام ومعك زميل آخر من جيل الشباب؟ كانت سعادتي غامرة، بسماع صوت الشاعر الكبير ورسام الكاريكاتير الذي كنا نتابع إبداعه صباح كل يوم في صحيفة الأهرام، حيث كان ينشر رباعيته الشهيرة، ورسوماته الكاريكاتيرية المتميزة التي مست شغاف القلوب والعقول، اصطحبت معي أحد الزملاء واخترقنا وسط القاهرة سيرا على الأقدام، إلى أن وصلنا مبنى صحيفة الأهرام في شارع الجلاء، واستقبلنا أحد العاملين الذي اصطحبنا إلى مكتب الأستاذ (هكذا كانوا ينادونه)، ودخلنا المكتب وكان صلاح چاهين يجلس خلف مكتبه، وجلسنا على مقعدين في مواجهة الرجل الأمريكي الذي يعد الفيلم، ومعه مصور، وقد وجهت إليه سؤلا: ما هي علاقتكم بأم كلثوم؟ ولماذا تعدون فيلما عنها؟ كدت أن أقول له أنتم أعداؤنا، وأنتم من قتل شبابنا بدعمكم لإسرائيل، إلا أنني نظرت إلى الأستاذ وشعرت أنه لا يود إقحام السياسة في موضوع أم كلثوم، وربما عزفت عن الحديث حتى لا أحرج الأستاذ، واعتصمت بالصمت.

وجه لنا معد الفيلم سؤلا واحدا لي ولزميلي: ماذا تعني لكم أم كلثوم؟ وكنت أول المتحدثين، وأفضت في الحديث عن أم كلثوم التي أمتعتنا بغنائها وشاركتنا أحزاننا وأفراحنا.. إلخ، وأجاب زميلي عن السؤال نفسه بقول آخر، فقد كان من أنصار المطربين الجدد، وأضاف أنه لا يستمتع بغناء السيدة التي تغني لمدة ساعتين، وخلفها هذا الحشد الكبير من الموسيقيين، الذي أطلق عليهم (الچوقة)، وانتهى حديث الزميل، وقد طلب الأستاذ صلاح چاهين أن يدلي هو الآخر بشهادته، ويبدو أن ما قاله الزميل قد استفزه، رغم أنه لم يكن معدا مشاركته في الحوار، فقد كان الفيلم مخصصا للشباب.

تحدث صلاح چاهين قائلا: لقد ولدت في غرفة منزلنا في الطابق الأول، وأمام نافذة الغرفة التي ولدت فيها توجد شجرة وارفة الظلال، تحمل زهورا شديدة الجمال يختلف لونها ما بين الصيف والشتاء، ومنذ طفولتي الأولى ووالدتي تحملني بين يديها في الصباح، وهي تفتح النافذة، فلا أرى من الدنيا إلا هذه الشجرة، ويتكرر المشهد في المساء حينما تغلق النافذة، ثم أضاف متسائلًا: هل تتصور مقدار الحزن وقد تقدم بي العمر وأنا أفتح نافذة حجرتي فأجد هذه الشجرة قد اقتلعت من جذورها؟ ثم توقف عن الحديث وقد بدا عليه التأثر. وأعتقد وربما لقرون قادمة ستبقى أم كلثوم مصدر طاقة لمحبي غنائها، كما ستظل تاريخا من جمال الغناء والمتعة وسط زحام الحياة وتلوث آذاننا بأنواع جديدة يسميها البعض غناء!

د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية سابقا ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية سابقا.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: أم کلثوم لم یکن

إقرأ أيضاً:

الطيب عبدالله لـ «التغيير»: الغناء الهابط إفراز لنظام مريض ظل يرزح باسم الدين «30» عاماً

دونما استئذان اقتحمته بعبارة (قالوا لي أنساه وأمسح من خيالك ذكرياته) في إشارة لأغنيته الخالدة (السنين) ورد بالقول: لكن كيف؟! الحكاية دي ما صعبة شديد؟ باقي ليك بتبقي يا حبيب؟ هكذا رد الفنان الكبير الطيب عبدالله، وبعد التعريف بنفسي والاستئذان لعمل حوار صحفي أجاب حول وضعه الصحي قائلا: تسلم اخوي نحمد الله لا جديد، بس نسأل الله العودة لي بلدنا الحبيب، ويحفظ أهلنا المساكين الفيه من شر المجرمين. وفي مقابلة مطولة تحدث الشاعر والملحن والفنان السوداني صاحب الأصول اليمنية عن تجربته العريضة وبداياته، وتناول الواقع الغنائي بالسودان وعبّر عن رأيه في اهتمام الدولة بالمبدعين، ورأى أن التوزيع الموسيقي في السودان يحتاج للكثير ليواكب الاحترافية وتطرق الطيب عبدالله لمنافسته مع العمالقة وردي وود الأمين والكاشف وأبو داؤود وغيرهم، وعن تأثير الثقافة اليمنية عليه، وأجاب عن الأسئلة بهدوء يشبه طبقات صوته الحزين التي أطربت الشعب السوداني حد الثمالة.

أجرى المقابلة: عبدالله برير

أنت احد عظماء المبدعين السودانيين ذوي الأصول المزدوجة أمثال بازرعة وربشة وغيرهما، كيف كان تأثير الفن اليمني عليك؟

جدي لأبي مولود في السودان لذا لا اعلم عن فن الغناء اليمني شيئا مع احترامي الشديد له فقط اسمعه من حين لآخر كاي شخص سوداني، انا لم أجد نفسي مسكونا بالفن السوداني فجأة،  فهو في  تكويني منذ بداية خلقي ونشوئي فانا سوداني حتي العظم، وأول فنان تغنى نابذا للتفرقة العنصرية البغيضة واسأل (يافتاتي ما للهوى بلد) فهي تنبيك عن سؤالك، عموما علينا ألا نتطرق لمثل هذه الأشياء التي اوردتنا الآن الى مانحن فيه من شتات وتشرذم وتهلكة، ابتعد عن الأنا والقبلية والجهوية (وجعجة نحن ونحن) فقط إن أحببت استخدام  لفظ نحن فقل (نحن ابونا النيل والجنس سوداني).

عند عودتك للسودان بعد غياب طويل هل وجدت التكريم والاحتفاء المستحق رسميا وشعبيا؟

لا تكريم لكريم، التكريم لـ (القونات)، نحن لم نفعل شيئا نستحق عليه التكريم.

كيف استطعت أن توظف إمكانيات صوتك المنتمية إلى المساحة الوسطى (تينرو) في تقديم ألحان وأغنيات ذات طابع تطريبي خرافي خلدت في وجدان الناس؟

بجانب الفطرة والموهبة الإلهية التي أعتقد انها كانت عالية الحمدالله، واتمتع بقرار صوتي عال جدا، درست (صولفيج) صوت بمعهد الموسيقي اول افتتاحه 1969 لخمس سنوات.

في بداياتك هل توقعت أن تحجز لنفسك مقعدا في خارطة الغناء السوداني في وجود الكاشف وعثمان حسين وأبو داؤود ووردي وقتذاك؟

هذه الأشياء كان وما زال صعبا التكهن بها، لم يدر بخلدي يوما أنني سأكون من بين هذه الكوكبة التي ذكرتها ولكن كل من كان يسمعني كان يتنبأ لي بان يكون لي يوما شأن في هذا المجال ما عدا شخصي لم اكن اتوقع ذلك.

هل يمكن القول بأن الفرق الموسيقية عند بعض الفنانين السودانيين محدودة الآلات كما ونوعا ( كلاسيكية) ولا توصل فكرة اللحن والتوزيع المطلوب؟

نحن مازلنا يا عزيزي بعيدين عن فهم توظيف الآلات الموسيقية الا من اجتهادات شخصية من بعض زملائنا مثل محمد وردي ومحمد الامين رحمهما الله،  نحن في حاجة ماسة لموزعين على مستوى رفيع من الموهبة والذكاء والاحساس العالي بجانب العلم المؤسس على فهم فن التوزيع للأغاني ليريحوا الفنان المغني من ارهاق التكرار للأغنية بالساعات الطويلة لكذا يوم او المقطوعات الموسيقية، شخصيا  كنت حضورا في   توزيع أغنية “الود” لوردي في القاهرة في السبعينات وكان المسؤول عن التوزيع الموسيقار العالمي ايطالي الجنسية اندريا رايدر علي النوتة، في ظرف 24 ساعة فقط كانت الاغنية قد  سُجلت.

هل قدرت الدولة الفن والفنانين والمبدعين؟

هذه الأشياء رهينة برئيس دولتك أي أن  يكون فنانا وليس بالضرورة أن يكون دارسا للموسيقى، فقط  يكون له احساس فني عالي، نحن بكل أسف وخلال كل الحكومات المتعاقبة لم يكن بها رئيس فنان ولا حتى  شغال بالفن، ومعظمهم ينظرون للفن من زاوية انه سفه أو ترف، ليس من أجندتهم في شيء، واذا زار أي رئيس فنانا وكان هذا الفنان مريضا يعتبر الرئيس زيارته هذه شرفا للفنان، انا شاهدت عشرات التماثيل لفنانين في امريكا وبريطانيا في قلب العواصم والمدن الكبيرة تكريما لهم، الفنان السوداني يعاني اشياء مؤلمة جدا منها عدم وجود سند مادي  له أذا مرض أو توقف عن الغناء ليعيش باقي عمره في أمان، كان الله في عونه.

ما هو تقييمك للساحة الفنية في العقد الأخير في ظل وجود ظاهرة الغناء الهابط ؟

هو ليس بفن لكي نطلق عليه هذه الكلمة السامية التي ما خلقت إلا لترقى بالأمم، أما ما يُطلق عليه من فن هابط ما هو إلا (عهر فكري) ونتاج إفراز طبيعي لنظام  مريض بأكمله يرزح باسم الدين، وجلس يتقيأ اسقاطاته على البسطاء ثلاثين عاما بسياسة ممنهجة لتقضي على كل ما هو جميل فكانت هذه الظاهرة من الذين نصبوا أنفسهم فنانين للغناء الهابط واصبح لهم مصدر ارتزاق للعيش، والأمم كما تعلم أخلاق.

في ظل شبح الجوع في السودان بسبب الحرب، هل من رسالة توجهها للمسؤولين؟

كيف تطلب مني أن  أرسل لهم رسالة لتذكيرهم بأن يساعدوا المطابخ الخيرية مثلا ليمدوا   بدورهم  الناس المساكين المحتاجين للطعام، هؤلاء الناس المسؤولين أليسوا سودانيين و(شايفين البحصل قدام عيونهم إنو الناس بتموت بالجوع) هؤلاء جبناء بلا ضمائر، لا تطلب من جبان أن يساعدك.

الوسومالطيب عبد الله الغناء السوداني الفنانين السودانيين الموسيقى السودانية

مقالات مشابهة

  • وزير الخارجية المصري: حماس تؤكد لنا التزامها الكامل باقتراح وقف إطلاق النار الذي توصلنا إليه في 27 مايو والتعديلات التي أجريت عليه في 2 يوليو
  • السوبرانو أميرة سليم: المغنى الأوبرالى قادر على التنوع
  • ماجدة موريس تفسر ظاهرة دخول الممثلين عالم الغناء بكثرة خلال الفترة الماضية
  • رأيت النبي.. شيخ المداحين أحمد الكحلاوي ضيف إيمان أبو طالب «الجمعة»
  • مواهب البيانو و الغناء العربى والرسم بأوبرا دمنهور
  • جودي عبد الحميد صوت قوي من الإسكندرية.. «الغناء والفن رسالة وهدف»
  • نصيحة أحمد فهمي لزوجته أميرة فراج في الغناء.. «ابعدي عن الكآبة»
  • الطيب عبدالله لـ «التغيير»: الغناء الهابط إفراز لنظام مريض ظل يرزح باسم الدين «30» عاماً
  • في وقت قياسي.. نفاذ تذاكر حفل هاني شاكر في الكويت
  • نفاد تذاكر حفل هاني شاكر في الكويت (تفاصيل)