لجريدة عمان:
2025-04-02@07:47:07 GMT

أم كلثوم

تاريخ النشر: 9th, September 2023 GMT

أنتمي إلى جيل كان يُطرب لغناء أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وفيروز وناظم الغزالي وغيرهم ، ولا أعتقد أن شخصا طبيعيا لم يتذوق موسيقى عبد الوهاب ورياض السنباطي ومحمد الموجي وبليغ حمدي وغيرهم من الموسيقيين الذي أسعدونا، وخصوصا حينما تكون الكلمات من أشعار بيرم التونسي وأحمد رامي وما سبقهما أو لحق بهما من شعراء ملؤوا حياتنا أملا ومتعة وسعادة، لا سيما أم كلثوم التي بقيت لأكثر من نصف قرن تطربنا، ليس فقط بجمال صوتها وقوته وإنما لإحساسها المرهف، وقدرتها الفائقة على تجسيد أجمل ما كتبه الشعراء، سواء بالفصحى أو العامية، وهي حالة لا تتكرر كثيرًا في تاريخ الغناء العربي.

أتذكر منذ ستينات القرن الماضي، وكنت في بداية المرحلة الإعدادية، ولم تكن الكهرباء أو التليفزيون قد دخلا معظم القرى المصرية، لكن من المشاهد التي تستحق التوثيق، حينما كان أهل قريتي يتحلقون حول المذياع في الخميس الأول من كل شهر، وهو الموعد المحدد لحفل أم كلثوم الشهري، لم يكن الكثيرون لديهم هذا المذياع العجيب، الذي يقدم لنا هذا الغناء وتلك البرامج الثقافية والاجتماعية، التي كان يشارك فيها أحيانا طه حسين والعقاد ونجيب محفوظ وزكي نجيب محمود، وغيرهم من كبار الكتاب والمفكرين الذين ارتبطنا بهم وجدانيًا وعاطفيًا، إلا أن حفلات أم كلثوم الشهرية تبقى حالة خاصة جدا، ليس للمتعلمين أو حتى أنصاف المتعلمين، بل والفلاحين، بأغنيائهم وفقرائهم رغم أن الكثيرين منهم لم يكن يعرف القراءة ولا الكتابة، لكنهم جميعًا كانوا ينتظرون بشغف حفلات أم كلثوم الشهرية.

يتحلق أهل القرية حول المذياع، وبمحبة بالغة يستضيف من يملكون هذا الاختراع العجيب من لم يكن لديهم هذا الترف، وتتحول بيوت القرية إلى حالة من البهجة حينما تبدأ أم كلثوم في الغناء، واللافت للنظر أن سماع حفلات أم كلثوم لم يكن قاصرًا على الرجال، بل كانت النساء وحتى الأطفال من بين من رأيتهم وقد غمرتهم السعادة وهم يستمعون لغناء متواصل، ربما يستمر أحيانا لمدة ساعتين أو أكثر. هكذا عشنا حياة القرية قبل أن تدخلها الكهرباء أو التليفزيون ربما حتى نهاية الستينات، بعدها أصبح التليفزيون منافسا قويا للراديو، عقب أن دخلت الكهرباء كل القرى المصرية، لكن يبقى سماع أم كلثوم عبر الراديو حالة خاصة جدا، ربما لارتباطها بطفولتنا، وربما للقدرة على التركيز في السماع أكثر بعيدًا عن الصورة. لم أجد اتفاقًا من أهل قريتي على شيءٍ أكثر من اتفاقهم على محبتهم لسماع صوت أم كلثوم، تتوارى الخصومات ويتقارب الناس وتتضاعف المحبة، وكأن هذه السيدة العجيبة قد سحرتهم بغنائها.

لم تنقطع محبتنا بأم كلثوم رغم انحياز قطاع كبير من الشباب إلى غناء عبد الحليم وفايزة أحمد وشادية ونجاة وفيروز وغيرهم من الفنانين الذين راحوا يدخلون الساحة الغنائية، ربما بألوان جديدة أقرب إلى ذائقة الشباب، ومع منتصف سبعينات القرن الماضي رحلت أم كلثوم (٣ فبراير ١٩٧٥)، مخلفة وراءها تراثا عظيما من الغناء، وقد شاهدت يوم وفاتها مقدار الحزن الذي عم القرى والمدن المصرية، وقد شعر الناس في طول البلاد وعرضها بأنهم قد فقدوا رمزا كبيرا كان مصدر سعادتهم، فقد أمدهم بقدرة فائقة على مواصلة الحياة، وتجاوزهم لهمومهم وأحزانهم، حتى لمن فقدوا واحدا أو أكثر من أسرتهم في حروب متواصلة منذ ١٩٦٧، وحتى ١٩٧٣، أعتقد أن غناء أم كلثوم كان سببا قويا لتجاوز المحن وألم الفراق، على شباب ذهب إلى الحرب ولم يعد. كانت هذه هي أم كلثوم كما عشنا معها وعاشت معنا.

عقب رحيل أم كلثوم ربما بشهر كنت أمضي بعض الوقت في مقر اتحاد طلاب مصر وسط القاهرة، وفي المساء دق جرس التليفون وكنت أجلس قريبًا منه، ورفعت السماعة وسمعت صوتًا لرجل يسأل: هل هذا هو مقر اتحاد الطلاب؟ أجبته: نعم، رد قائلا: أنا صلاح چاهين، ومضى في الحديث قائلا: عندي ضيف أمريكي يعد فيلما تسجيليًا عن أم كلثوم، هل تستطيع الحضور إلى مكتبي الآن في الأهرام ومعك زميل آخر من جيل الشباب؟ كانت سعادتي غامرة، بسماع صوت الشاعر الكبير ورسام الكاريكاتير الذي كنا نتابع إبداعه صباح كل يوم في صحيفة الأهرام، حيث كان ينشر رباعيته الشهيرة، ورسوماته الكاريكاتيرية المتميزة التي مست شغاف القلوب والعقول، اصطحبت معي أحد الزملاء واخترقنا وسط القاهرة سيرا على الأقدام، إلى أن وصلنا مبنى صحيفة الأهرام في شارع الجلاء، واستقبلنا أحد العاملين الذي اصطحبنا إلى مكتب الأستاذ (هكذا كانوا ينادونه)، ودخلنا المكتب وكان صلاح چاهين يجلس خلف مكتبه، وجلسنا على مقعدين في مواجهة الرجل الأمريكي الذي يعد الفيلم، ومعه مصور، وقد وجهت إليه سؤلا: ما هي علاقتكم بأم كلثوم؟ ولماذا تعدون فيلما عنها؟ كدت أن أقول له أنتم أعداؤنا، وأنتم من قتل شبابنا بدعمكم لإسرائيل، إلا أنني نظرت إلى الأستاذ وشعرت أنه لا يود إقحام السياسة في موضوع أم كلثوم، وربما عزفت عن الحديث حتى لا أحرج الأستاذ، واعتصمت بالصمت.

وجه لنا معد الفيلم سؤلا واحدا لي ولزميلي: ماذا تعني لكم أم كلثوم؟ وكنت أول المتحدثين، وأفضت في الحديث عن أم كلثوم التي أمتعتنا بغنائها وشاركتنا أحزاننا وأفراحنا.. إلخ، وأجاب زميلي عن السؤال نفسه بقول آخر، فقد كان من أنصار المطربين الجدد، وأضاف أنه لا يستمتع بغناء السيدة التي تغني لمدة ساعتين، وخلفها هذا الحشد الكبير من الموسيقيين، الذي أطلق عليهم (الچوقة)، وانتهى حديث الزميل، وقد طلب الأستاذ صلاح چاهين أن يدلي هو الآخر بشهادته، ويبدو أن ما قاله الزميل قد استفزه، رغم أنه لم يكن معدا مشاركته في الحوار، فقد كان الفيلم مخصصا للشباب.

تحدث صلاح چاهين قائلا: لقد ولدت في غرفة منزلنا في الطابق الأول، وأمام نافذة الغرفة التي ولدت فيها توجد شجرة وارفة الظلال، تحمل زهورا شديدة الجمال يختلف لونها ما بين الصيف والشتاء، ومنذ طفولتي الأولى ووالدتي تحملني بين يديها في الصباح، وهي تفتح النافذة، فلا أرى من الدنيا إلا هذه الشجرة، ويتكرر المشهد في المساء حينما تغلق النافذة، ثم أضاف متسائلًا: هل تتصور مقدار الحزن وقد تقدم بي العمر وأنا أفتح نافذة حجرتي فأجد هذه الشجرة قد اقتلعت من جذورها؟ ثم توقف عن الحديث وقد بدا عليه التأثر. وأعتقد وربما لقرون قادمة ستبقى أم كلثوم مصدر طاقة لمحبي غنائها، كما ستظل تاريخا من جمال الغناء والمتعة وسط زحام الحياة وتلوث آذاننا بأنواع جديدة يسميها البعض غناء!

د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية سابقا ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية سابقا.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: أم کلثوم لم یکن

إقرأ أيضاً:

بعض الأسئلة التي تخص قادة الجيش

قبل أن أطرح بعض الأسئلة التي تخص قادة الجيش- ربما ليست شاملة-، أود أن أضع استفساراً هنا في المقدمة -وضعته أيضاً كسؤال في هذه الحزمة للتأكيد عليه-، وذلك لأهميته في رأيي وحتى يكون مدخلاً إضافياً لتحفيز الذاكرة مع مرور ذكرى مجزرة فض اعتصام القيادة العامة في أواخر أيام شهر رمضان (وافق 3 يونيو 2019)، وذلك لطرح أسئلة والبحث عن إجابات مرتبطة به وهو:
اختلف قادة الجيش والدعم السريع على العديد من القضايا حتى وصلت البلاد للحرب، وخرجا وتبادلا الاتهامات بعد ذلك حتى أن حميدتي لم يتوان في خطاباته العامة عن إفشاء أسرار جلسات الندامى الخاصة وكرر الحديث عن ممارسات شخصية لقادة الجيش!
الحدث الوحيد الذي تفادى الجميع الخوض فيه هو مجزرة فض الاعتصام، حيث لم يجرؤ أحد منهم على الحديث علناً عن دقائق الاجتماعات التي سبقته ومواقف أصدقاء الأمس أعداء اليوم في تلك الاجتماعات، وأدوارهم ومن رفض ومن أيّد الفض، من جاء أرض الاعتصام ومن لم يكن على علم، ومن كذب على قادة القوى المدنية وأنكر معرفته بالمجزرة، أو اعترف وقال حدث ما حدث، في المنصات الإعلامية للعامة أو الاجتماعات المغلقة، وما هو دور وتأثير قيادة الإسلاميين وغيرهم في ذلك الحدث الذي غير وأثّر كثيراً في مستقبل مشروع الانتقال والاتفاق السياسي بل ومستقبل البلاد بعده!
هناك جهات صحفية تؤكد أن لديها شواهد بأن حميدتي مثلاً زار أرض المجزرة في صبيحة فض الاعتصام ووقف على ما جرى بنفسه، فهل لدى قادة الجيش أي شواهد أو أقوال مماثلة؟ وإن وجدت لماذا يصمتون عنها حتى اليوم وهو الذي فضح كل شيئ وسيفعل في كل سانحة؟ ما الذي لا يزال بينهم حتى يخفون أسرار هذا الأمر الجلل ويتفادون كشفه علناً حتى بعد وقوع الحرب؟!
- ⁠ لماذا تساهل قادة الجيش مع الد.عم السريع وأصروا على أنه جزء لا يتجزأ منهم ومن مشروعيتهم الدستورية التي نالوها منذ الاستقلال كممثل وحيد للقوة الضاربة في البلاد؟
- لماذا أصر قادة الجيش على أن تكون قوات الدعم الس.ريع جزءاً أصيلاً من دور الجيش في التغيير، فأتوا بقائدها في المجلس العسكري ونصبوه نائباً لرئيسه، وأدخلوه كمفاوض رئيسي، بل ووقع عنهم في الاتفاق السياسي مع القوى المدنية، رغم أن الثوار اعتصموا أمام القيادة العامة للجيش لا أي مكان سواها؟
- ⁠ لماذا أذعن قادة الجيش لقائد الد.عم الس.ريع وضربوا له التعظيم والتحية العسكرية (التي لا يستحقها وفق الأشراط العسكرية)؟
- ⁠ لماذا شاركه هؤلاء القادة في مؤامرة الانقلاب على الانتقال وهم يعلمون نواياه مسبقاً وكثيراً ما تحدثوا عنه وعن نواياه وأطماعه في السلطة في غرفهم المغلقة وفق إفادة العطا؟
- ⁠ لماذا تساهل قادة الجيش مع المليشيا حين بدأت تبحث عن دور جديد عبر الاتفاق الإطاري، حسب وصفهم لاحقاً، وحين بدأت إعلان الحرب بالكلام والخطاب التهديدي من مثل ( العمارات دي إلا يسكنوها الكدايس)؟
- ⁠ لماذا سمح قادة الجيش بوصول قوات الد.عم الس.ريع إلى تخوم قاعدة مروي العسكرية ومحاصرتها دون أن يعترضها أحد، مع أنها انطلقت من معسكر الزرق نحو مساحة مفتوحة يسهل استهدافها فيها، بل على العكس، خرج قائد الجيش في المدرعات معية مدير الاستخبارات يوم 13 أبريل 2023 وتحدث عن محاولات تهدئة رغم تصريحهم بأن هذه القوات خرجت عن السيطرة؟
- ⁠ لماذا لم يرعو قادة الجيش وسمحوا بتفريخ مليشيات جديدة وتكبير كومها وتوفير الدعم العسكري لها خارج مظلة القوات المسلحة الرسمية، والإفساح لها في الإعلام الرسمي لتزويق وتزيين نفسها وتلميع قادتها وتحضيرهم لأدوار غير عسكرية عبر القيام بأدوار عسكرية؟ ولماذا حدث ذلك رغم التجربة المريرة التي دخلت فيها البلاد بسبب حدوث ذات الأمر مع مليشيات أخرى(الد.عم الس.ريع)
- ⁠ لماذا وافق قادة الجيش على الاتفاق الإطاري أول أمره ودافعوا عنه، ثم نكثوا بعهدهم في آخره؟
- كانت هناك حالة قطيعة أو شبهة كراهية متبادلة ومنذ وقت مبكر بين بعض قادة الجيش وقادة الد.عم الس.ريع، كيف تصرف قادة الجيش مع هذا الفتيل الذي كان قابلاً للاشتعال حينها؟ وهل لذلك صلة أو علاقة باشتعال الحرب؟
- ⁠ حين قدم رئيس الوزراء الانتقالي مبادرة الطريق إلى الأمام في منتصف العام 2021، لماذا امتنع القادة العسكريين عن دعمها رغم أنها كانت مبادرة- أهم أهدافها- من أجل نزع فتيل الصراع بينهم وبين الد.عم الس.ريع؟ وهل لرفضهم علاقة بغضب حميدتي من مشروع المبادرة التي تحدثت عن مستقبل الد.عم الس.ريع ورفضه لها على هذا الأساس؟
- ⁠ رغم الصراع الذي ظهرت بوادره منذ وقت باكر ذهب قادة الجيش نحو الانقلاب بالشراكة مع قادة الد.عم الس.ريع وتحالف الكتلة الديمقراطية. كيف كان الانقلاب نقطة تلاقي بين قادة الجيش وقادة الد.عم الس.ريع رغم اختلافهم وتزعزع الثقة بينهم والذي كان مشهوداً خلال الشهور التي سبقت الانقلاب؟ ما هي المغريات التي دفعت بهم للانقلاب- خلاف إزاحة المدنيين- وهل كانت هناك أيادٍ خارجية أو أي دواعٍ أخرى جعلتهم يختلفون في كل شيئ ويتفقون فقط على تنفيذ الانقلاب؟
- ⁠ اختلف قادة الجيش وقادة الد.عم الس.ريع على أشياء كثيرة حتى وصلوا للحرب، لكنهم وحتى يوم الناس هذا لم يخرجوا ببيان ومعلومات واضحة حول فض الاعتصام، دورهم فيه، دور الد.عم الس.ريع، فلول النظام البائد، أخرى؟
- ⁠ ما هي الإجراءات التي اتخذها قادة الجيش ضد من أعطوا الأوامر بإغلاق بوابات القيادة العامة في الخرطوم عندما لجأ إليها الفارون من قتلة المعتصمين؟! هل كانت هذه أوامر عليا، وممن، ولماذا صمت ويصمت الآخرون؟
في الفيديو المرفق جزء من المؤتمر الصحفي الذي تلى فض الاعتصام حيث كان كباشي يقدم إفادات عن ما جرى، ثم جاءته ورقة مطوية من العطا. أترك هذه الملاحظة العابرة هنا لفطنة القارئ!
#السودان_ماقد_كان_وسوف_يكون
#تفكيك_النص
#ذكرى_فض_اعتصام_القيادة

/  

مقالات مشابهة

  • دار الأوبرا.. مسارح القاهرة التي لا تنام
  • (مناوي) الذي لا يتعلم الدرس
  • بهجة الكلمات وإيقاع الفرح في ذاكرة الأجيال
  • الذكاء الاصطناعي يجمع أساطير الكرة وأم كلثوم في احتفالات العيد
  • فنانة مصرية شهيرة تعتزل الغناء ترتدي «الحجاب»
  • بعد منعه من الغناء.. مطرب المهرجانات مسلم يوجه رسالة مؤثرة لنقابة الموسيقيين
  • «هوس الغناء الفاحش».. ضبط شخص ونجله بتهمة التنقيب عن الآثار ببولاق
  • بالفيديو .. من هو الشيخ الذي عاتب الشرع بسبب التهميش؟ مؤيد لنظام الأسد
  • في ذكرى وفاة العندليب.. محطات الرحلة من معاناة الطفولة إلى قمة الهرم الفني
  • بعض الأسئلة التي تخص قادة الجيش