أنتمي إلى جيل كان يُطرب لغناء أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وفيروز وناظم الغزالي وغيرهم ، ولا أعتقد أن شخصا طبيعيا لم يتذوق موسيقى عبد الوهاب ورياض السنباطي ومحمد الموجي وبليغ حمدي وغيرهم من الموسيقيين الذي أسعدونا، وخصوصا حينما تكون الكلمات من أشعار بيرم التونسي وأحمد رامي وما سبقهما أو لحق بهما من شعراء ملؤوا حياتنا أملا ومتعة وسعادة، لا سيما أم كلثوم التي بقيت لأكثر من نصف قرن تطربنا، ليس فقط بجمال صوتها وقوته وإنما لإحساسها المرهف، وقدرتها الفائقة على تجسيد أجمل ما كتبه الشعراء، سواء بالفصحى أو العامية، وهي حالة لا تتكرر كثيرًا في تاريخ الغناء العربي.
أتذكر منذ ستينات القرن الماضي، وكنت في بداية المرحلة الإعدادية، ولم تكن الكهرباء أو التليفزيون قد دخلا معظم القرى المصرية، لكن من المشاهد التي تستحق التوثيق، حينما كان أهل قريتي يتحلقون حول المذياع في الخميس الأول من كل شهر، وهو الموعد المحدد لحفل أم كلثوم الشهري، لم يكن الكثيرون لديهم هذا المذياع العجيب، الذي يقدم لنا هذا الغناء وتلك البرامج الثقافية والاجتماعية، التي كان يشارك فيها أحيانا طه حسين والعقاد ونجيب محفوظ وزكي نجيب محمود، وغيرهم من كبار الكتاب والمفكرين الذين ارتبطنا بهم وجدانيًا وعاطفيًا، إلا أن حفلات أم كلثوم الشهرية تبقى حالة خاصة جدا، ليس للمتعلمين أو حتى أنصاف المتعلمين، بل والفلاحين، بأغنيائهم وفقرائهم رغم أن الكثيرين منهم لم يكن يعرف القراءة ولا الكتابة، لكنهم جميعًا كانوا ينتظرون بشغف حفلات أم كلثوم الشهرية.
يتحلق أهل القرية حول المذياع، وبمحبة بالغة يستضيف من يملكون هذا الاختراع العجيب من لم يكن لديهم هذا الترف، وتتحول بيوت القرية إلى حالة من البهجة حينما تبدأ أم كلثوم في الغناء، واللافت للنظر أن سماع حفلات أم كلثوم لم يكن قاصرًا على الرجال، بل كانت النساء وحتى الأطفال من بين من رأيتهم وقد غمرتهم السعادة وهم يستمعون لغناء متواصل، ربما يستمر أحيانا لمدة ساعتين أو أكثر. هكذا عشنا حياة القرية قبل أن تدخلها الكهرباء أو التليفزيون ربما حتى نهاية الستينات، بعدها أصبح التليفزيون منافسا قويا للراديو، عقب أن دخلت الكهرباء كل القرى المصرية، لكن يبقى سماع أم كلثوم عبر الراديو حالة خاصة جدا، ربما لارتباطها بطفولتنا، وربما للقدرة على التركيز في السماع أكثر بعيدًا عن الصورة. لم أجد اتفاقًا من أهل قريتي على شيءٍ أكثر من اتفاقهم على محبتهم لسماع صوت أم كلثوم، تتوارى الخصومات ويتقارب الناس وتتضاعف المحبة، وكأن هذه السيدة العجيبة قد سحرتهم بغنائها.
لم تنقطع محبتنا بأم كلثوم رغم انحياز قطاع كبير من الشباب إلى غناء عبد الحليم وفايزة أحمد وشادية ونجاة وفيروز وغيرهم من الفنانين الذين راحوا يدخلون الساحة الغنائية، ربما بألوان جديدة أقرب إلى ذائقة الشباب، ومع منتصف سبعينات القرن الماضي رحلت أم كلثوم (٣ فبراير ١٩٧٥)، مخلفة وراءها تراثا عظيما من الغناء، وقد شاهدت يوم وفاتها مقدار الحزن الذي عم القرى والمدن المصرية، وقد شعر الناس في طول البلاد وعرضها بأنهم قد فقدوا رمزا كبيرا كان مصدر سعادتهم، فقد أمدهم بقدرة فائقة على مواصلة الحياة، وتجاوزهم لهمومهم وأحزانهم، حتى لمن فقدوا واحدا أو أكثر من أسرتهم في حروب متواصلة منذ ١٩٦٧، وحتى ١٩٧٣، أعتقد أن غناء أم كلثوم كان سببا قويا لتجاوز المحن وألم الفراق، على شباب ذهب إلى الحرب ولم يعد. كانت هذه هي أم كلثوم كما عشنا معها وعاشت معنا.
عقب رحيل أم كلثوم ربما بشهر كنت أمضي بعض الوقت في مقر اتحاد طلاب مصر وسط القاهرة، وفي المساء دق جرس التليفون وكنت أجلس قريبًا منه، ورفعت السماعة وسمعت صوتًا لرجل يسأل: هل هذا هو مقر اتحاد الطلاب؟ أجبته: نعم، رد قائلا: أنا صلاح چاهين، ومضى في الحديث قائلا: عندي ضيف أمريكي يعد فيلما تسجيليًا عن أم كلثوم، هل تستطيع الحضور إلى مكتبي الآن في الأهرام ومعك زميل آخر من جيل الشباب؟ كانت سعادتي غامرة، بسماع صوت الشاعر الكبير ورسام الكاريكاتير الذي كنا نتابع إبداعه صباح كل يوم في صحيفة الأهرام، حيث كان ينشر رباعيته الشهيرة، ورسوماته الكاريكاتيرية المتميزة التي مست شغاف القلوب والعقول، اصطحبت معي أحد الزملاء واخترقنا وسط القاهرة سيرا على الأقدام، إلى أن وصلنا مبنى صحيفة الأهرام في شارع الجلاء، واستقبلنا أحد العاملين الذي اصطحبنا إلى مكتب الأستاذ (هكذا كانوا ينادونه)، ودخلنا المكتب وكان صلاح چاهين يجلس خلف مكتبه، وجلسنا على مقعدين في مواجهة الرجل الأمريكي الذي يعد الفيلم، ومعه مصور، وقد وجهت إليه سؤلا: ما هي علاقتكم بأم كلثوم؟ ولماذا تعدون فيلما عنها؟ كدت أن أقول له أنتم أعداؤنا، وأنتم من قتل شبابنا بدعمكم لإسرائيل، إلا أنني نظرت إلى الأستاذ وشعرت أنه لا يود إقحام السياسة في موضوع أم كلثوم، وربما عزفت عن الحديث حتى لا أحرج الأستاذ، واعتصمت بالصمت.
وجه لنا معد الفيلم سؤلا واحدا لي ولزميلي: ماذا تعني لكم أم كلثوم؟ وكنت أول المتحدثين، وأفضت في الحديث عن أم كلثوم التي أمتعتنا بغنائها وشاركتنا أحزاننا وأفراحنا.. إلخ، وأجاب زميلي عن السؤال نفسه بقول آخر، فقد كان من أنصار المطربين الجدد، وأضاف أنه لا يستمتع بغناء السيدة التي تغني لمدة ساعتين، وخلفها هذا الحشد الكبير من الموسيقيين، الذي أطلق عليهم (الچوقة)، وانتهى حديث الزميل، وقد طلب الأستاذ صلاح چاهين أن يدلي هو الآخر بشهادته، ويبدو أن ما قاله الزميل قد استفزه، رغم أنه لم يكن معدا مشاركته في الحوار، فقد كان الفيلم مخصصا للشباب.
تحدث صلاح چاهين قائلا: لقد ولدت في غرفة منزلنا في الطابق الأول، وأمام نافذة الغرفة التي ولدت فيها توجد شجرة وارفة الظلال، تحمل زهورا شديدة الجمال يختلف لونها ما بين الصيف والشتاء، ومنذ طفولتي الأولى ووالدتي تحملني بين يديها في الصباح، وهي تفتح النافذة، فلا أرى من الدنيا إلا هذه الشجرة، ويتكرر المشهد في المساء حينما تغلق النافذة، ثم أضاف متسائلًا: هل تتصور مقدار الحزن وقد تقدم بي العمر وأنا أفتح نافذة حجرتي فأجد هذه الشجرة قد اقتلعت من جذورها؟ ثم توقف عن الحديث وقد بدا عليه التأثر. وأعتقد وربما لقرون قادمة ستبقى أم كلثوم مصدر طاقة لمحبي غنائها، كما ستظل تاريخا من جمال الغناء والمتعة وسط زحام الحياة وتلوث آذاننا بأنواع جديدة يسميها البعض غناء!
د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية سابقا ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية سابقا.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
نيمار.. الأمير الذي رفض أن يصبح ملكاً
رفض البرازيلي نيمار جونيور أن يتم وصفه بـ"الملك"، وقال إن هناك ملكاً واحداً لكرة القدم الجميع يعرفه ويحبه.
منذ عودته إلى مسقط رأسه ونادي طفولته سانتوس، يسعى كثير من المشجعين ووسائل إعلام إلى رفع معنويات نجم برشلونة وباريس سان جيرمان السابق بمنحه لقب "الملك نيمار".
???? ¿Por qué Neymar no quiso ser el rey? Se lo ha contado a The Gregf https://t.co/1JMNfYs6j8
— MARCA (@marca) February 26, 2025لكن نيمار كان متواضعاً ورفض هذا اللقب، قائلاً إنه يليق بلاعب واحد فقط في التاريخ، وهو الأسطورة بيليه.
ويرى كثيرون أن نيمار فرط في فرصة التحول من "أمير" إلى "ملك" في كرة القدم، بعد انتقاله الصادم من برشلونة إلى باريس سان جيرمان في 2017 مقابل مبلغ قياسي آنذاك بقيمة 222 مليون يورو.
وسأل صانع المحتوى "ذا غريفغ" نيمار عن هذا الجدل حول لقب الملك، فأجاب: "لا أعرف إن كنت رفضت أن أصبح ملكاً، بالنسبة لي يوجد ملك واحد فقط وهو بيليه".
وأضاف: "حدثت الكثير من الأمور وتعرضت لكثير من الإصابات وهذا كلفني الكثير في مسيرتي، إنها إرادة الرب، لا يوجد سبب للشعور بالحزن، على النقيض".
وتابع: "أنا سعيد جداً بتاريخي وبحياتي، حققت كل ما حلمت به، تقريباً كل شيء، وحتى بعض الأشياء التي لم أحلم بها، أنا ممتن جداً للرب لتغيير حياتي ولعائلتي وأصدقائي، وهذا أهم شيء بالنسبة لي".