نوافذ: يا مركب «بهارات» يا بو دقلين!
تاريخ النشر: 9th, September 2023 GMT
أيام قليلة تفصلنا عن الحدث المهمّ. بالتحديد 8 أيام فقط ولن تعود «الهند» هندًا، إذا ما وافق برلمانها في اجتماعه المُزمَع على تغيير اسمها الرسمي. ستكون «بهارات»؛ هذا الاسم الذي يحيلنا للوهلة الأولى إلى أهم ما تميز به المطبخ الهندي. آسف، أقصد «المطبخ البهاراتي». عليّ أن أعتاد الاسم من الآن وأجربه على لساني، كأن أقول مثلًا إنني كنتُ مسافرًا برفقة الوالد في رحلة علاجية إلى «بهارات»، أو أن أقول إنني أحبّ من الروايات «البهاراتية» رواية «النمر الأبيض» لـ«أرافيند أديجا»، وإنني شاهدت الفيلم المصري «سمك لبن تمر بهاراتي» ولم يعجبني، وإن هناك كثيرًا من الرؤساء التنفيذيين «البهاراتيين» في مؤسساتنا العُمانية، وإنني في صلالة شربتُ «المشلي»؛ مشروب شجرة «جوز بهارات» اللذيذ، وإنني حين أخلو إلى نفسي أحب الاستماع إلى أغنية الفنان العُماني سالم الصوري رحمه الله: «يا مركب بهارات يا بو دقلين».
في الحقيقة، لم يكن اسم «بهارات» بعيدا عن الهند، فدستورها منذ عام 1950م - أي بعد 3 سنوات فقط من الاستقلال عن بريطانيا - ينصّ في مادته الأولى على أن «الهند، أي بهارات، يجب أن تكون اتحادًا للولايات»، هكذا بالحرف. لكنه اسمٌ بقي نائمًا في الدستور فقط، وكان أقرب إلى اسم رديف متوارٍ في الظل، كـ«فيروز» الأشهر من نار على علم و«نهاد حداد» المختبئة خلفه، أو كجورج أورويل الشهير الذي وُلِد في الهند بالمناسبة، و«إريك آرثر بلير» الذي يكاد لا يعرفه أحد، ربما لأنه وُلِد في «بهارات»! شقيقٌ توأم ينام بجوار شقيقه الآخر الذي يتصدّر المحافل الدولية، يسير معه إن مشى داخل البلاد خطوةً بخطوة، أما إن سافر خارجها فإنه يكتفي بانتظاره إلى أن يعود. فما الذي تغيّر اليوم حتى تستبق الحكومة الهندية الأحداث وترسل دعوات العشاء إلى قادة قمة العشرين ممهورة بتوقيع: «دروبادي مورمو رئيسة جمهورية بهارات»؟
الذي تغيّر أن حكم الهند منذ عام 2014م آلَ إلى حزب «بهارتيا جاناتا» (لنلاحظ الاسم) مُطيحًا بأسرة نهرو- غاندي التي حكمت أكبر ديمقراطيات العالم عشرات السنين، ومنذ ذلك التاريخ يسعى رئيس الوزراء ناريندرا مودي - الحاكم الفعلي للهند - إلى القضاء على كل رموز حقبة الاحتلال البريطاني لبلاده من المؤسسات السياسية، إلى كتب التاريخ في الهند، وصولًا إلى تغيير الاسم الذي اختارته بريطانيا للبلاد. وبما أنه سيحتفل في السابع عشر من سبتمبر الجاري بعيد ميلاده الثالث والسبعين فأظن أن البرلمان - الذي سيجتمع في اليوم التالي - سيُهديه إذا ما أقرّ اسم «بهارات» أغلى هدية عيد ميلاد.
شخصيًّا، لا أُكِن أي إعجاب لمودي ولا لحزبه، وقد ارتبطا لديّ بانتعاش أجواء الكراهية الدينية في الهند منذ تولى الحكم، وتفشّي الاعتداءات الطائفية والعنصرية البغيضة ضد المسلمين، ولا يُمكن أن أفصل محاولة تغيير اسم البلاد عن السياسة «الشعبوية» التي ينتهجها رئيس الوزراء لجذب الناخبين. لكن ثمة من سيقول إنه أمرٌ مشروع في النهاية، فمن ذا الذي يمكن أن يلوم قائدًا سياسيًّا على سعيه لتغيير اسمٍ لبلاده اختاره المستعمِر! هكذا فعل قبله روبرت موجابي فغيّر روديسيا الجنوبية التي كانت مستَعمَرة بريطانية إلى زيمبابوي؛ وغيّر توماس سانكارا فولتا العُليا إلى بوركينافاسو، أما رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية فلم يكتفِ بتغيير اسم بلاده إلى «زائير»، بل غيّر اسمه هو أيضًا إلى موبوتو سيسي سيكو، والقائمة طويلة. لكن الرد على هذا الطرح هو أن كل تلك الدول السابقة لم تكن الهند!.
ليست الهند دولة عادية، إنها في الوقت الحاضر قوة سياسية واقتصادية كبرى، وأكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان، أما في الماضي فهي حضارة كبيرة تمتد لآلاف السنين. بعبارة أخرى ليست الهند للهنود فقط، إنها هندُ الجميع؛ «هندُنا» نحن العرب أيضًا، يشهد بذلك كتاب «ألف ليلة وليلة» ورحلات ابن بطوطة قديمًا، ورحلات العُمانيين إليها حديثا، إنها «هندُ الفرس» كذلك يشهد بذلك بزرك بن شهريار في كتابه الهام: «عجائب الهند». باختصار ما من حضارة قديمة أو حديثة إلا والتقتْ بالهند وأثرتْ وتأثرتْ بها. فكيف تتحول اليوم إلى «بهارات»!
من كل قلبي أتمنى أن يرفض البرلمان الهندي تغيير الاسم في اجتماعه الأسبوع المقبل، ويُبقي لنا «الهند» التي أحببْناها وألِفناها. وإلى ذلك الموعد سأردد مع شاعر العامّية المصرية الجميل مصطفى إبراهيم: «الحياة مش كلّها انبهارات / ولا تجارب سُخْنة بالبهارات / والليالي المُدهِشة حلوين / بس السنين المُمِلّة / هي اللي بَنتْ حضارات».
سليمان المعمري كاتب وروائي عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: تغییر اسم
إقرأ أيضاً: