- 1 -

أشرنا في المرة السابقة من مرفأ قراءة إلى أن لدينا مثالين بـارزين للرواية التاريخية في الأدب العربي الحديث: روايات «جرجي زيـدان»، وروايـات «نجيب محفوظ». وأشرنا إلى أن كلا العملين ينطبق عليهما تماما مفهوم "الرواية التاريخية" في تقليده الكلاسيكي المعروف؛ كاستعادة كاملة لحدثٍ تاريخي بذاته، ولشخوص بعينهم في مكان معين وفي زمان معين.

ولو أننا تأملنا عمل كل من الكاتبين، في كل عنصر من العناصر المكونة لفنه الروائي؛ لوجدنا أنه يختار أحداثًا تاريخية دون الأخرى، وأشخاصًا دون غيرهم، وأماكن دون غيرها وأزمانًا دون غيرها.

وقد أفضنا القول عن روايات جورجي زيدان التاريخية، ثم مهدنا للانتقال من مرحلة كتابة الرواية التاريخية لدى زيدان إلى كتابة الرواية التاريخية لدى محفوظ، ويفترض كاتب هذه السطور بأن ثمة انتقالة على مستوى الاختيار والرؤية والمعالجة من جانب، فضلا على ضرورة التمييز الدقيق بين صور الاستلهام من التاريخ بمعناه الواسع والعام والشامل، والتراث الأدبي (الرسمي منه والشعبي على السواء) داخل دائرة هذا التاريخ العام.

- 2 -

في كتابه «جماليات الحضور الفرعوني» في روايات نجيب محفوظ، يشير الناقد والأكاديمي الدكتور محمد حسن عبد الله إلى تفرقة مهمة وضرورية، أغفلها كل من كتب عن روايات نجيب محفوظ الأولى ووصفها بالتاريخية. هذه التفرقة تقوم على التمييز بين استلهام الأدب الفرعوني (الشعبي)، واستلهام التاريخ الفرعوني كما سجلته الكتب والدراسات والوثائق.

والحقيقة أن نجيب محفوظ نفسه قد صنف رواياته الثلاث الأولى (التي صدرت خلال الفترة من 1938 وحتى 1944) تصنيفًا دقيقًا للغاية، فقال إن الروايتين الأوليين تستلهمان الأدب الفرعوني الشعبي أو التراث الفرعوني الشعبي، وليس التاريخي بوجه عام، فيما يمكن وصف رواية «كفاح طيبة» وحدها بأنها "رواية تاريخية"؛ يقول محفوظ: "يمكن اعتبار روايتي «عبث الأقدار» (1938) و«رادوبيس» (1942) إعادة تشكيل لقصتين فرعونيتين من التراث الفرعوني في الأدب، مزجتُ بين حوادثها وشخوصها، وبين خط وهمي متخيل، وضفرت الاثنين في جديلة سردية واحدة كي أقول ما أريد".

فيما كانت رواية «كفاح طيبة» (1943) -وحدها- هي التي اعتبرها محفوظ "رواية تاريخية" بالمعنى المعروف ذلك لأنه "معروف أن الأساس الذي بُنيت عليه الرواية "تاريخي"، بمعنى أنها تستلهم تاريخ كفاح أسرة أحمس في سبيل تحرير مصر من الهكسوس، وقد كان نظري في واقع الأمر على الواقع الذي نعيشه أكثر من عيني على الحوادث التاريخية القديمة في ذاتها"..

ولهذا فإن نظرًا أكثر دقة وفحصًا لقراءة هذه الأعمال بات أمرًا مُلحًا وضروريًّا وكشفا لواحدة من المقولات الراسخة في نقد محفوظ لم يُعد تأملها ولا فحصها ولا دراستها منذ إطلاقها وحتى وقتنا هذا!

- 3 -

وقد تأثر نجيب محفوظ تأثرا كبيرًا بالروايات التاريخية المترجمة التي كانت منتشرة في ذلك الوقت (عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي)، وهي روايات وجدت صدى واسعًا، وكانت سببا من الأسباب التي قرنت الدعوة إلى كتابة "أدب قومي" بالكتابة عن التاريخ القومي القديم، ومن ثم دفعت جيل نجيب محفوظ كله تقريبًا إلى مواصلة المسعى الذي بدأه الجيل السابق، والمضي قدما في كتابة روايات تبعث التاريخ الوطني، وتدفع به إلى مناطق الحضور من الذاكرة الثقافية للأمة.

ومن هنا كان تصميم نجيب محفوظ على محاكاة روايات جورجي زيدان التي كتبها عن تاريخ الإسلام بكتابة روايات التاريخ المصري القديم، وألحت عليه هذه الرغبة منذ أن كان طالبًا بكلية الآداب وحتى تخرجه في قسم الفلسفة عام 1934.

وقد فصلنا القول في ميلاد هذا المشروع وكيف خطط له محفوظ وأنجز فيه رواياته الثلاث الأولى، وعلى المستوى الشخصي (كقارئ وشغوف بكتابة محفوظ وأعماله) كم كنت أتمنى أن ينجز هذا المشروع الكبير، الذي لو تحقق لكان كنزا ثمينا بكل المقاييس ولكان لدينا في الأدب العربي الحديث والرواية العربية الحديثة كنز رائع مثل أعمال والتر سكوت في الأدب الإنجليزي ودوماس في الأدب الفرنسي، ولكن للأسف الشديد لم يكتمل هذا المشروع في تمامه لأسباب سنذكرها فيما بعد.

- 4 -

لكن السؤال المنطقي والذي يفرض نفسه على كل من يدرس هذه المرحلة، هو: لماذا اتجه نجيب محفوظ إلى التاريخ المصري القديم والتراث الشعبي الفرعوني ليستلهم منه كتابة رواياته الأولى؟ وهل كان غرضه التعليم البحت والعرض التاريخي الميسر مثلما فعل جورجي زيدان في رواياته؟ أم أنه تقدم خطوة للأمام في صياغة هذه الروايات، متجاوزا هذا الغرض التعليمي المباشر، وأن تكون هذه الروايات بمثابة مرايا للحاضر الذي يستلهم ماضيه أو ما يعتبره جابر عصفور "أقنعة للكتاب الذين يتوسلون بالماضي ليكشفوا عن مثالب الحاضر، كي يدفعوا بقوى التغيير الإيجابي فيه إلى الأمام"؟

لقد أصبح الماضي الفرعوني عند نجيب محفوظ أحداثًا يعاد إنتاجها إبداعيًّا لصياغة رسائل مرتبطة بالحاضر ومتولدة عنه، وفي الوقت نفسه، كان تعدد صور الحاضر -في سلبه وإيجابه- دافعًا لتعدد صياغات الرواية التاريخية التي حدثنا عنها في حديثه مع فؤاد دوارة المشار إليه أعلاه.

ويعني ذلك، في طرح جابر عصفور النقدي لروايات محفوظ الأولى، أن رؤيته لمصر القديمة، خلال أعماله الروائية الأولى، كانت معبرة عن "التيار الوطني" الذي كان يهدف إلى بعث الماضي، والبحث فيه عن العلامات التي ترسم طريق المستقبل، وطبيعي -كما يقول عصفور- أن تتضح رؤية الكاتب في اختياره لأحداث معينة دون غيرها، وترتيبها بطريقةٍ دون غيرها، وتلوينها تلوينًا خاصا يساعد على إيصال ما يريده الكاتب من رسائل مضمنة إلى القارئ وقت صدور الرواية.

وإذا نظرنا إلى الأحداث التي اختارها نجيب محفوظ من تاريخ مصر الفرعونية، داخل إطار هذا المنظور، لاحظنا للوهلة الأولى أنه لا يختار اللحظات التاريخية العادية، بل يختار اللحظات التاريخية المشعة التي تنبض بالبطولة والقوة، والتي تفجِّر لمجرد استرجاعها قيما تبثّ الحماسة في نفوس قارئيها.

- 5 -

وكان نجيب محفوظ في اختياره لهذه اللحظات لا ينجذب إلا إلى ما يتجانس مع رؤيته "الليبرالية" الإصلاحية للعالم، خصوصا من المنظور السياسي لحزب (الوفد) الذي انتسب إليه، وظل مخلصا لمبادئه الأساسية على امتداد مراحل ممارساته الإبداعية.

و"الرؤية الليبرالية"، في تفسير أغلب النقاد، تدفع صاحبها الروائي إلى الإعلاء من شأن الفرد، ومن ثم التركيز على الأبطال الذين يصنعون التاريخ بقدراتهم الاستثنائية، سلبًا أو إيجابًا، وذلك ما فعله نجيب محفوظ في رواياته التاريخية التي تدور حول أبطال إيجابيين يتحولون إلى مثل أعلى يتطلع إليه الكاتب، أو أبطال سلبيين يجعل منهم الكاتب مثالا دالا على نهاية أشباههم في الزمن الحاضر للكتابة.

ومن هذا المنظور، تكشف روايات نجيب محفوظ التاريخية عن تحيزاته السياسية بأكثر من معنى، كما تكشف عن القدوة التي يرى الكاتب ضرورة الاحتذاء بها في أمور السياسة على وجه التحديد، وفي المقابل، إبراز نهاية النموذج السلبي للحاكم الفاسد في الدائرة نفسها.

وآية ذلك، كما يدلل جابر عصفور على معقولية هذا الطرح، أن أحداث روايته «عبث الأقدار» (1938)، على سبيل المثال، تقع في فترة من أنصع فترات التاريخ الفرعوني القديم، وهي فترة بناء الهرم الأكبر في عهد خوفو، هذا الهرم الذي ظل خالدًا يذكر بعظمة الحضارة القديمة، ودالا على شخصية حاكم جليل وحكيم وعادل من ناحية أخرى.

أما رواية «رادوبيس»، فإنها تتحدث عن فترة قلقة من فترات تاريخ الفراعنة، مقدمة صورة الشعب عندما يستشار ويستباح حماه فيهب ثائرا لينتقم من ظالميه، وصورة الملك اللاهي التي كانت معادلا فرعونيا للصورة التي انتهى إليها الملك فاروق- ملك مصر والسودان- وقت صدور الرواية عام 1943.

فيما تتناول رواية «كفاح طيبة» فترة تاريخية حرجة في التاريخ المصري القديم لا تقل خطورة عن فترة بناء الهرم الأكبر، بل تزيد عنها كثيرا، إذ تصور كفاح شعب مصر في سبيل استرداد حريته وطرد الغزاة المستعمرين من أرض النيل، ومن ثم تبرز أبطال التحرر الوطني المأمولين بواسطة أقنعة التاريخ الفرعوني القديم...

(وللحديث بقية)...

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: نجیب محفوظ فی الأدب

إقرأ أيضاً:

ما هي الساعة الحجرية التاريخية؟.. كان المصريون القدماء يعرفون بها الوقت

خلال وقتنا هذا يلجأ العديد من الأشخاص إلى الاعتماد على الساعة الزمنية، سواء التقليدية أو الإلكترونية، فهي تساعد على تنظيم الوقت، ما يزيد كفاءة العمل، كما أنه يزيد من فرص التقدم ومنح فرص كبيرة لتحقيق الأهداف من خلال تقسيم الوقت، ليبقى السؤال، ماذا كان يستخدم أجدادنا القدماء حتى يتمكنوا من معرفة الزمن.

كان المصري القديم يستخدم الساعة الحجرية التاريخية التي توجد في أسوان ويتجاوز عمرها 7 آلاف عام، إذ كانت تستخدم لمعرفة الوقت والزمن، وعقب ذلك شاهدا أول مومياء تم تحنيطها بشكل طبيعي، إذ تم دفن أدوات المومياء معها والتي كان يستخدمها فى حياته وفقا لما ذكره المرشد السياسي مدحت عابدين، أثناء لقائه في سلسلة برامج «أم الدنيا» الذي يُعرض على قناة «سي بي سي» وتقدمه الفنانة سوسن بدر.

تم اكتشاف الساعة الحجرية التاريخية في أسوان سنة 1990 بمنطقة «نبتة بلايا» شمال غرب أبوسمبل، وهي تعود إلى عصور ما قبل التاريخ، وهي كانت تستخدم لتحديد بداية الانقلاب الصيفي وتوقيت سقوط الأمطار منذ آلاف السنين.

معلومات عن الساعة التاريخية الحجرية في أسوان هي دائرة حجرية قطرها 4 أمتار. لها أربعة مداخل. يوجد بداخلها 6 أحجار عمودية مرتبطة بنجوم كوكبة «الجبار». هي عبارة عن ساعة نجمية وشمسية في الوقت نفسه وتسمى المنطقة التي تقع بها الساعة حوض النبتة. تُعتبر الساعة إحدى أقدم 4 ظواهر وأحداث فلكية تشهدها أسوان منها ظاهرة تعامد الشمس.

سلسلة أم الدنيا بطولة سوسن بدر، وإخراج ورؤية محمود رشاد، مدير تصوير بسام إبراهيم، وعرض منها حتى الآن جزآن عبر منصة watch it الإلكترونية، إذ تسرد السلسلة بإطار تشويقي وإنساني بسيط وملم بتاريخ مصر الطويل منذ بدايته وحتى العصر الحديث.

مقالات مشابهة

  • تعالى الجونة.. محمد رمضان يحتفل بالكريسماس مع نجيب ساويرس – صورة
  • حكايات الكتاب الأول.. ناشرون وكتاب يروون تجارب وخبرات مهمة فى صالون روايات مصرية للجيب
  • المرأة ﻓﻰ ﻋﻴﻮن "ﻣﺤﻔﻮظ"
  • الإعلام العربي ومعركة البحر الأحمر التاريخية
  • ما هي الساعة الحجرية التاريخية؟.. كان المصريون القدماء يعرفون بها الوقت
  • كيف يمكننا إعادة قراءة التاريخ الإسلامي بعيدا عن التقديس والتدنيس؟
  • عيد ميلاد مجيد| محمد رمضان يحتفل بالكريسماس برفقة نجيب ساويرس.. صور
  • سياحة أبوظبي تطلق مبادرة «مرفأ أبوظبي الذهبي» التي تتيح لمالكي اليخوت الفاخرة الحصول على الإقامة الذهبية
  • دائرة الثقافة والسياحة – أبوظبي تطلق مبادرة «مرفأ أبوظبي الذهبي» التي تتيح لمالكي اليخوت الفاخرة الحصول على الإقامة الذهبية
  • ما الذي يكشفه طعن نجيب محفوظ عن السلطة في مصر ؟