في خمسينيات وستينيات القرن الماضي انحسرت الظاهرة الاستعمارية في العالم، لتجد الدول التي انعتقت من ربقة الاستعمار أنها أمام خيارات صعبة، فإما الاستمرار في نظم سياسية ورثتها من المرحلة الاستعمارية، والإبقاء على علاقات تفضيلية لمصلحة مستعمريها السابقين، وإما الانتماء إلى اختيارات الثوريين اليساريين، في عالم كان منقسماً بين معسكرين، وكانت نظم اليسار تدار حتماً من موسكو، وهناك من قرر اختيار نموذج هجين أطلق عليه عدم الانحياز.
هكذا كانت حال القارة الأفريقية، حينما قررت دول مثل ساحل العاج، وكينيا، والغابون البقاء مع توجهات الدول الغربية لتصطف في خانة العالم الرأسمالي، فيما اختارت غانا، والسنغال، وتنزانيا، وأنغولا، ومالي الانحياز إلى المعسكر الاشتراكي، فيما اتخذت بعض الدول مثل مصر، والسودان، وغينيا، والصومال، وإثيوبيا طريق عدم الانحياز على رغم أنه كان انحيازاً بانتقائية.
خلال العقود الماضية تقلبت أحوال الدول الأفريقية ضمن الاستقطاب الدولي زمن الحرب الباردة بين اليمين واليسار، والمعسكرين الرأسمالي والشيوعي، حتى سقط جدار برلين وانهار الاتحاد السوفياتي، وانتقل كثير من مريدي موسكو الأفارقة إلى مواقع "الديمقراطية الاجتماعية" و "الاشتراكية الدولية"، وانتقلت للانضمام لركب "الديمقراطيات الناشئة".
ولا يستغرب ضياع الإرث الشيوعي في أفريقيا وكأنه "فص ملح وذاب"، على رغم أنه خلف ديكتاتوريات فريدة فيكفي التذكير بمنغستو هيلا مريام في إثيوبيا ومحمد سياد بري في الصومال، وأسياس أفورقي الباقي إلى الأبد في إريتريا، ولكن الواقع أن تأثير الاتحاد السوفياتي على كتلة الدول الاشتراكية في العالم لم يتعد الجوانب العسكرية والأمنية، فلم تكن موسكو حينها تمتلك نظرة توسعية اقتصادية وتجارية مثلما هي الحال اليوم مع الصين.
لذلك يرى الأكاديميون وخبراء السياسة الأفارقة أنه حتى الدول التي اختارت التبعية لموسكو كانت تعيش علاقات اقتصادية هي خليط من القطاعات العامة والخاصة والمختلطة، فيما بقي الاستعمار السابق يحيك تحالفات مع النخب الحاكمة لبقاء مصالحه مثل قصة فرنسا وآل بونغو في الغابون التي امتدت لقرابة ستة عقود، وربما تستمر مع فرع الأسرة الجديد بقيادة الجنرال بريس أوليغي نغيما ابن عم الرئيس المخلوع الذي نصب نفسه أخيراً رئيساً انتقالياً للبلاد. وفي الحقيقة فإن قصة الغابون تتكرر في كل دول القارة تقريباً في تدوير لفساد النخب.
اقرأ أيضاً غسل ونهب الأموال.. تقرير جديد يكشف كيف دمر الحوثيون القطاع المصرفي بصنعاء ومناطق سيطرتهم الفنان اليمني فؤاد الكبسي يلتقي للمرة الثانية بفنان مصري عاجل: مواجهات بين متظاهرين أفارقة وقوات أمنية في عدن مصرع قيادي حوثي من محافظة صعدة انتفاضة غاضبة لمهاجرين أفارقة في عدن مصرع مشرف في المليشيا بنيران نجل شقيقه وسط اليمن تحذير عاجل من تناول هذا النوع من الأسماك.. يحتوي على سم قاتل السلطات المصرية تعلن عن تسهيلات جديدة للمقيمين والوافدين اليمنيين بطلب من الرئيس العليمي قوات الانتقالي تعتقل 3 مسؤولين في اتحاد كرة القدم وتمنعهم من السفر عبر مطار عدن إلى مصر ”وثائق” مليشيا الحوثي تعلن مصرع عدد من مقاتليها بنيران القوات الحكومية اليمن الذي نأمل أن يعود سعيدًا!!! إعلان هام للسفارة اليمنية في القاهرة عقب قرار للسلطات المصرية بشأن نظام الإقامةلعنة الإرث الاستعماري
من خلال تتبع مراكز الفكر والدراسات الأفريقية يتضح أن المثقف الأفريقي بقي حبيس الظاهرة الاستعمارية وإفرازاتها، فكل الكتابات التي تمكنت من الاطلاع عليها والتي جرت ضمن محاولات فهم التطورات الأخيرة، كانت وما زالت تتناول هذا الإرث الاستعماري وتحمله أسباب الفشل الأفريقي، ومازالت النوستالجيا السياسية مسيطرة على التفكير الشعبي، وإلا ما كان الإعلام في بوركينا فاسو ليطلق على صانعي الانقلابات العسكرية في منطقة الساحل اليوم باسم توماس سانكارا الثوري الذي قارع الاستعمار كرمز لليسار الأفريقي.
ويستخدم البروفيسور سابيلو ندلوفو من جامعة جنوب أفريقيا مصطلح decoloniality الذي يمكن ترجمته التخلص من الإرث الاستعماري وليس decolonization المعروف في أدبيات الأمم المتحدة للدلالة لمرحلة إنهاء الاستعمار الذي بات من الماضي، باعتباره أن المصطلح الجديد هو ضرورة تحررية ملحة للانفصال عن الاستعمار العالمي وقطع دابر أثره على أفريقيا الجديدة، وشكل هذا التخريج النظري مدخلاً عند النخب للبحث عن تحالفات دولية أقل كلفة وتمحيصاً.
معلوم أن مفاهيم التخلص من الإرث الاستعماري اكتسبت أخيراً زخماً استثنائياً في أفريقيا، فيما خسرت الليبرالية لمعانها لتلحق بماركسية القرن العشرين التي باتت في سلة مهملات التاريخ، وكل نظريات "نهاية التاريخ" الهيغلية لفرانس فوكوياما، و"صراع الحضارات" لصامويل هينتنغتون، وهاهم قادة الانقلابات الأفريقية الجديدة يعاودون الحديث عن الاستعمار والامبريالية مجدداً ويبحثون عن طريق جديد يخطبون من خلاله ود دول مثل روسيا لحاجتهم لغطاء أمني، والصين لحاجتهم للمال.
أكيلى أمبيمبي الكاميروني الخبير في العلوم السياسية والشؤون الأفريقية، يفضل تسمية ظاهرة الانقلابات العسكرية التي شهدتها منطقة الساحل ووسط أفريقيا خلال العامين الماضيين، المرشحة للتصاعد، بظاهرة "السياديين الجدد" من زاوية اعتبارها صحوة أفريقية، ومن واقع اختيار قيادات الانقلاب الجديدة في أفريقيا خطابات شعبوية رنانة مثل "وقف التدخل الخارجي باعتباره غير شرعي وغير فعال، وأن الاعتماد على الذات الأفريقية أفضل الخيارات"، كما قال النقيب الشاب إبراهيم تراوري الرئيس الانتقالي في بوركينا فاسو، أو كقول وزير دفاع مالي أمام الرئيس فلاديمير بوتين في موسكو في أغسطس (آب) الماضي، إن الشعوب الأفريقية قررت أخذ مصائرها بيدها، وبناء استقلالها مع شركاء أكثر صدقية واعتمادية.
في الواقع، إن أفريقيا تدخل مرحلة جديدة بعد المرحلة الاستعمارية، وانهيار الكتلة الشيوعية، وسقوط الديمقراطيات الناشئة، لتشهد ظاهرة تجريبية جديدة تضاف إلى تجارب العقود الستة الأخيرة، لا علاقة لها بما تروج له مراكز الفكر المعادية للغرب باعتبارها صحوة أفريقية ذات ميول استقلالية، إنما هي عودة قوية لفوضى النظم التسلطية ولن يكون الأمر مقتصراً على الدول الفرانكوفونية، بل سيمتد أثرها في طول وعرض القارة إذا ما قرأنا جيداً مؤشرات ما يجري في إثيوبيا، وأزمة الانتخابات في كينيا والحرب في السودان.
إن مؤشرات بروز "تحالف المتمردين" يشكل تحولاً خطيراً في أفريقيا عنوانه أزمة النظم الديمقراطية وسيادة النظم التسلطية الأكثر فساداً مثل تجربة الجنرال أوليغي الذي كان حتى يوم الأمس يرتع في ملكوت فساد آل بونغو بفضل القرابة الأسرية، ليتحول الآن للحديث عن مكافحة الفساد، اليوم يفتح الباب الأفريقي واسعاً للصين وروسيا، فيما تنسحب فرنسا وربما الغرب من ورائها تدريجاً من القارة السمراء.
التدليس، والشعوب المغلوب على أمرها
ومع سماع الخطابات الشعبوية ووعود الخير الوفير المقبل على يد العسكريين في منطقتي الساحل ووسط أفريقيا، وفورة الشعوب المغلوب على أمرها التي تتراقص فرحاً بالنظم العسكرية، تتناسى هذه الجموع أن سردية التغيير والاستقلال، والأعلام الروسية التي تتدثر بها في الساحات، ما هي إلا بدفع من جيوش نخر قادتها الفساد والارتزاق فيما كان الفشل عنوان مقدرتها العسكرية التي انكشفت في الحرب ضد الإرهاب في منطقة الساحل، وأن الأمر ليس إلا تداولاً عنيفاً للسلطة سيؤدي إلى مزيد من العنف والمعاناة والتشريد للأفارقة في العالم.
وحينما يقرر الجنرال الذي قاد الانقلاب نهاية الفترة الانتقالية وتنظيم انتخابات عامة جديدة لعودة الحكم المدني، سيكون قد غير بزته العسكرية بأخرى مدنية ليفوز في الانتخابات الديمقراطية، ويحكم حتى مجيء جنرال آخر يختطفها منه باسم الشعب. لقد مرت على أفريقيا 187 انقلاباً منذ الاستقلال، وسيواصل الـ360 مليون أفريقي الدوران في مطحنة النخب الفاسدة تحت مسميات مختلفة. وما بين سياديين جدد وسياديين قدامى ستضيع أفريقيا.
وتظل أفريقيا الغنية بثرواتها وخيراتها السليبة وطاقات شعوبها وشبابها التواق للعيش الكريم تدور في حلقات مفرغة وفي رحى مطحنة الانقلابات غير المسبوقة في العالم، فيما تذهب خيراتها وثرواتها لجيوب قلة من النخب السياسية والعسكرية الفاسدة التي تتداول السلطة عبر العنف ودغدغة مشاعر ملايين الفقراء. كل المؤشرات تؤكد أن القارة السمراء على موعد مع مزيد من العنف والفوضى وغياب الأمل، التي لن تنحصر مخاطرها على شعوبها وأرضها فحسب، ولكن على الساحل المقابل في المتوسط، مع سماع نغمة أفريقية جديدة قديمة تتردد حول ثروات أفريقيا التي نهبتها أوروبا وأن هناك الملاذ المستحق لنزوح ملايين اللاجئين الافارقة.
إن معركة استهداف النظام العالمي لما بعد الحرب الباردة لا تدور رحاها في جبهات أوكرانيا، ولا في مضيق تايوان، ولكنها أيضاً تدور الآن في الدول الأفريقية في محاولة لضرب الغرب في أضعف حلقاته المتمثلة اليوم في الانسحاب الفرنسي. علامات الجرأة على التمرد ومحرضيه ماثلة للعيان والفاتورة ستدفعها الشعوب من دمها حينما ينهار النظام وتسود الفوضى.
*وزير الخارجية اليمني الأسبق
*إندبندنت عربية
المصدر: المشهد اليمني
كلمات دلالية: فی أفریقیا فی العالم
إقرأ أيضاً:
أوروبا تشدد قوانين استيراد البن والكاكاو لحماية غابات أفريقيا.. ودول تطلب مهلة
تحاول الدول الأفريقية المنتجة للكاكاو والبن تجنب الإقصاء من السوق الأوروبية، حيث تطالب بتأجيل تطبيق اللائحة الأوروبية لمكافحة إزالة الغابات، التي دخلت حيز التنفيذ في كانون الأول/ ديسمبر 2024، بهدف مزيد من الاستعداد.
وتلزم هذه اللائحة الشركات المصدّرة بإثبات أن منتجاتها لا تسهم في إزالة الغابات، مما يفرض تحديات كبيرة على الدول المصدّرة مثل إثيوبيا وغانا وتنزانيا، التي تبذل جهودًا كبيرة لتسجيل المزارعين ورسم خرائط الأراضي الزراعية بدقة.
وقد بلغت تكلفة الامتثال لهذه اللوائح ما بين 0.29% و4.3% من قيمة الواردات الأوروبية، مع تحمّل أفريقيا وأمريكا الجنوبية النصيب الأكبر من الخسائر الاقتصادية.
وتتقدّم غانا في تكييف أنظمتها مع المتطلبات الأوروبية، حيث طورت نظام "كاكاو مناجمنت سيستم" لتتبع حبوب الكاكاو وربط بيانات الغطاء الغابي بالزراعة.
رغم ذلك، تواجه تحديات تمويلية كبيرة، حيث كلف تطوير الأنظمة حوالي 50 مليون يورو، في حين تسعى دول مثل تنزانيا لاستكمال تسجيل المزارعين واستخدام تقنيات دقيقة لرسم خرائط الأراضي، وسط صعوبات مالية وتقنية.
في المقابل، توفر سويسرا دعمًا ماليًا في إطار برامج تعزيز الزراعة المستدامة، لكنها تلعب دورًا ثانويًا في هذه الجهود.
وفي تطور جديد، اقترحت المفوضية الأوروبية تأجيل تنفيذ اللائحة لمدة عام إضافي، ما يمنح الدول المصدّرة مزيدًا من الوقت للتكيف مع المتطلبات.
ورحّبت الدول الأفريقية بهذا القرار، حيث يُتوقّع أن تستفيد غانا وتنزانيا من المهلة لتحسين أنظمتها واستكمال تسجيل المزارعين.
ويؤكد المسؤولون أن التأجيل ضروري لضمان الامتثال وتحقيق الشفافية المطلوبة، ما يعزز فرص الدول الأفريقية في الحفاظ على حصتها في السوق الأوروبية.
وبحسب هيئة البث السويسرية "سويس إنفو" سيتعيّن على الشركات التي ترغب في بيع هذه المنتجات ومشتقاتها في الاتحاد الأوروبي، إثبات عدم ارتباطها بإزالة الغابات أو بتدهورها.
وقد تعهدت مجموعات سويسرية مثل نستله (Nestlé)، وباري كاليبو (Barry Callebaut)، وليندت آند سبرونغلي (Lindt & Sprüngli)، باعتماد سلاسل توريد خالية من خطر إزالة الغابات بحلول عام 2025، كما طوّرت أنظمتها لتتبّع الكاكاو لتحقيق أهدافها.
وقد استثمرت شركة الشوكولاتة ليندت آند سبرونغلي مثلا عام 2022 في توريد الكاكاو المستدام 27،5 مليون فرنك سويسري. فأصبحت سويسرا بذلك، في وضعٍ يسمح لها بالامتثال لمتطلبات لائحة مكافحة إزالة الغابات وتدهورها. إذ ارتفعت نسبة الكاكاو المستدام الذي تستورده من 50% عام 2017، إلى 82% عام 2023.