مُفارقات الحرب السودانية ودلالاتها
تاريخ النشر: 9th, September 2023 GMT
المُفارقة في إحدى تعريفاتها هي التناقض مع معرفة سابقة. باستخدام هذا التعريف، سنرى أنّ الحرب المُدمِّرة الدائرة حالياً في السودان بين المؤسَّسة العسكرية وقوات الدعم السريع، التي قيل للناس إنّها خرجت من رحمها، قد انتجت ضمن ما انتجت مُفارقتين لافتتين.
المُفارقة الأولى، هي تبنّي الدعم السريع لقضية التهميش، الذي يرمُز إلى التمييز بين الشعوب السودانية في حقوق المواطنة وفي المُشاركة العادلة في السُلطة والثروة، والترويج بأنّ ذلك هو ما تحارب هذه القوات من أجل تحقيقه.
تكمُن المُفارقة هُنا بالطبع، في أنّ الدعم السريع منذ بدايات تكوينه وقبل أن يكتسب مُسمّاه الحالي، هو كيان أنشأه نظام الانقاذ الذي سطا على الحكم في نهاية يونيو 1989، ليعمل معه بتعاون وثيق، كاليد في القُفاز، أداةً لقمع الحركات المُناهضة للسلطة في دارفور وكردفان. وتنتمي عناصر هذه الحركات كما هو معلوم، إلى القبائل التي توصف بأنّها من الأصول الإفريقيّة- وصف قبائل بعينها بأنّها هي فقط التي تعدّ من الأصول الإفريقيّة في بلد يقع كلّه في القارة المُشار إليها أمر مدهش في حدِّ ذاته. وهو ينطوي بلا مِراء على انتقاص مُبطّن لها مشابه في مقصده للفظ الزنوج الذي يطلق على السود من قبل بعض أصحاب الثقافة العربية.
والمُفارقة الثانية، هي مُحاولة قيادة الجيش التظاهر بالخروج من نفق المنظومة الحزبيّة الإسلامية الجهاديّة الذي حُشرت فيه المؤسّسة العسكرية على مدى ما يربو على ثلاثة عقود، وطرح نفسها كمدافع عن الوطن كفكرة ومفهوم خالص وكمأوى تُصان فيه حقوق مواطنيه.
وغنيّ عن الذكر أنّه لا توجد مؤسسة في السودان بلغ فيها استثمار الحركة الإسلامية الحاكمة المادي والبشري ما بلغه في المؤسّسة العسكرية والأجهزة النظامية المُسلّحة الأخرى التابعة للحركة. لا مكان في تلك المنظومة للدولة الوطنية وللحقوق المُقرّ بها والمحميّة للمواطنين. وهو ما تجلّى في الموافقة على قرار بتر الجنوب عندما برهن أنّه يقف عائقاً قوياً أمام سيطرة النظام الإسلامي، وفي الحروب ضد الجماعات السودانية المعارضة للمشروع الحاكم في أطراف البلد المُتبقّية، إضافة الى فتح الأبواب والقلوب للإسلاميين المُتشدِّدين المناوئين لحكومات بلدانهم المختلفة.
من الصحيح بالطبع أنّ سِجلّ المؤسسة العسكرية في خوض الحروب ضد الشعوب السودانية لم يبدأ مع نظام الإنقاذ، ولكِنّ الحرب الجهادية الدينية هي وليدة الإنقاذ. ولذلك، لم يندهش أحد من الأنباء التي راجت بكثافة خلال الحرب الحاليّة عن حشود الإسلاميين التي تقاتل بجانب الجيش تحت مُسمّى كتائب البراء بن مالك، وليس عثمان دقنة أو حمدان أبو عنجة، ودعْنا لا نذكر بعانخي او تهارقا، مع أنّه في الحقيقة كم عُمر الوطن ومن يحدّده؟
من المُهِمّ ألا يقع المرء في فخّ التفسيرات المُتعجِّلة، ويعزو المُفارقتين إلى الدوافع الانتهازيّة، لدى طرفين متورِّطين في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب والإبادة الجماعية، بغرض تحقيق مكاسب آنيّة، ويكتفي بذلك. فبغضِّ النظر عن دوافعهما، والتي هي بلا ريب دوافع انتهازية، فإنّه لا ينبغي أن يغيب عنّا أنّ القضيتين المُثارتين، ألا وهما قضية حقوق المواطنة المتساوية والمشاركة العادلة في السلطة والثروة، وقضية الدور الوطني الطبيعي للجيش، لهما أهمِّيّة مفصليّة في ظروف السودان الحاليّة، وفي الحقيقة لكلّ مجتمع معاصر مُعافى. وهذا السبب في حدِّ ذاته هو ما يُفسِّر تسارع الطرفين ليتدثّر كلٌّ منهما بالقضية التي يظنّ أنّها ستجلُب له المُناصرين وتدخله في قلوبهم.
بالنسبة لقضية التهميش، التي نصّب الدعم السريع نفسه مُدافعاً عنها، لا بُدّ من الإشارة في المبتدأ إلى أنّ تُهمة التمييز في حقوق المواطنة بين السودانيين هي الجانب الأكثر خطورة فيها، لأنّها تمسّ العصب الحسّاس في سياق تكييف الشخص لقيمة وجوده كإنسان في بلده. ولا غرابة في أن يلتفّ الناس حول شعار مُناهضة التمييز أكثر من التفافهم حول شعارات مكافحة التهميش الأخرى المُطالِبة بالمشاركة العادلة في السُلطة والثروة. ولا يهمّ إن كان الشعور بالتمييز مُبرّراً بالكامل أم أنّه يخالطه قدر من التوهُّم، فوجود الشعور في حدِّ ذاته واستمراريته من المُفترض أن يدُقّ ناقوس الخطر في أيّ نظام حكم رشيد. أمّا عندما يترسّخ هذا الشعور وتتزايد أعداد المؤمنين به، فإنّ معالجته يجب أن تكون لها الأولوية. ولو سألت مخلوقاً عاقلاً قدِم إلى هذه الدُنيا من مجرّة أخرى لوافق على ذلك من فوره.
وفي هذا لا يُخفى على أحد، أو ينبغي ألا يُخفى على أحد، وجود مشاعر قويّة لدى قطاعات واسعة بأنّها لم تلقْ مُعاملة عادلة في هذه الدولة السودانية الحديثة منذ أن نال السودان استقلاله. ولا يقتصر وجود هذه المشاعر على غربيّ البلاد ومنطقة جنوب النيل الأزرق، بل يشمل بالإضافة إلى ذلك، المواطنين الذين ترجع جذورهم إلى دارفور وكردفان الموجودين في أجزاء البلاد الأخرى. ودليلهم على الأمر، أّنّ الشخص الذي ينحدر من منطقة قريبة من الحدود خاصة الحدود الغربية ينظر إليه البعض كشخص دخيل. أمّا منْ لا يتحدّث العربية كأهل الشمال والوسط أو تختلف ملامحه عنهم فسيُعاني من المعاملة كشخص من الدرجة الثانية. ودليلهم الآخر على الاستهانة الموجِعة بهم تلك الحروب التي انحصرت، إلى ما قبل نشوب حرب العاصمة الحاليّة، في ولايات دارفور وكردفان والنيل الأزرق، إضافة إلى ضعف تمثيلهم في قيادة الأجهزة النظامية ووظائف الدولة العُليا.
مُعالجة هذا الوضع المُحتقِن يجب أن تبدأ، قبل الحديث عن أي شيء آخر، بتأكيد الدولة على أعلى مستوياتها التزامها القاطع بمبدأ المُساواة في الحقوق بين المواطنين، وعلى استعدادها لاتِّخاذ إجراءات رادعة ضد مُمارسات التمييز والتحقير التي يتعرّض لها بعض المواطنين من مُنطلقات إثنيّة أو جهويّة بحيث لا يشعر شخص سوداني في أيّ منطقة بأنّه تجري معاملته في بلده كمواطن من الدرجة الثانية، وهو شعور موجع ينتقص من إنسانية الفرد. أيّ شخص ولِد بالسودان يجب أن يُحسّ إحساساً حقيقيّاً بأنّه يُعامل على قدم المساواة ويتمتّع بكافة الحقوق التي يتمتّع بها غيره من السودانيين. هذه هي القاعدة الأساسيّة التي لا يُمكِن بدونها قيام سودان مُعافى.
ولا يُجدي هُنا الركون إلى الطرح الذي يقوم على أنّ هذا النوع من القضايا يستوجب النظر فيه وبحثه بطريقة تنأى عن التبسيط وتتحاشى انتزاعه من سياق الظروف التاريخية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي أدت إلى ظهوره في المكان الأوّل. فمثل هذا الطرح، على الرغم من طابع العقلانية الذي يبدو عليه، سيُفسّر، في بلدٍ لم يعرف شيئاً قدر معرفته الحروب منذ حصوله على الاستقلال، على أنّه محض تكتيك للتسويف والمحافظة على الامتيازات التاريخية.
الإحساس بالتمييز العُنصري أو الإثني والشكوى من مهانته، ليس ظاهرة مُقتصرة على السودان وحده بالطبع. ولكِنّ إنكار وجودها هو ظاهرة تكاد تكون سودانية بالكامل، تعمل باتِّساق مع إرث عريق له باع طويل في إحالة القضايا الصعبة إلى سراديب المسكوت عنه. هذه الظاهرة وتوابعها هي ما يُفسِّر تجاهل صروح العلم من جامعات ومعاهد بحوث ومعظم المُثقّفين بشكل عامّ، لإجراء دراسات مُستفيضة وأمينة للشرخ الذي حدث إثر الثورة المهدية بين أهل الشمال والوسط وأهل الغرب. وإذا لم تُدرس الأحداث الجسيمة وتوضع السياسات الهادفة إلى عدم تكرارها، فستبقى نارها مُتّقِدة بانتظار من يصبّ عليها الزيت.
من ناحية اخرى لا تقلّ أهمّيّة، فإنّ على مُناصري قضايا ُمكافحة التهميش وتحقيق المُساواة في حقوق المواطنة وفي المُشاركة العادلة في السلطة والثروة، إدراك حقيقة أنّه ليس كلّ من لديه أموال ومنازل ومصانع قد حصل عليها بطريقة تفضيليّة ومزايا غير مُستحقّة من خلال علاقاته بالمسؤولين من أقاربه أومن أبناء منطقته. الجزء الأكبر من هؤلاء الناس اكتسبوا ما عندهم بعرق جبينهم، إمّا من خلال هجرات امتدّت لمعظم سنوات العمر في السعودية ودول الخليج وغيرها، أو من خلال أنواع العمل المشروع المختلفة داخل السودان مُلتزمين في ذلك بالقوانين والتشريعات المعمول بها. معظم هؤلاء الناس تعرّضت منازلهم ومصانعهم وعرباتهم وأموالهم مع نشوب الحرب إلى أعمال النهب والتكسير، سواء من قبل منسوبيّ الدعم السريع أو من اللصوص الذين خلا لهم الجو، بل فيهم من فقد روحه. هؤلاء أيضاً لهم الحقّ في التعويض على خسائرهم ومُحاسبة من تسبّب فيها، فالعدالة وحقوق المواطنة يجب أن تسري على الجميع.
القضية الأخرى، والمُتمثّلة في الدور الوطني للجيش، يجب ألا تحتاج إلى شرح مُطوّل لتوضيح أهمِّيّتها المحورية لدولة يعيش فيها الناس بأمن وكرامة. من المُهمّ التحلي بالقدر الكافي من النضج والمسؤولية لدراسة الأسباب التي جعلت الجيش السوداني يخوض معاركه في الداخل ضد مجموعات مُختلفة من مواطنيه، لمدّة سبعة وخمسين سنة من مجموع سبعة وستين سنة هي عمر الاستقلال من المُستعمر، بدلاً عن اقتصار دوره على حماية حدود البلد ودستورها. ومن المُهمّ فوق ذلك، بناء جيش مُحترف، كما أقرّ أخيراً البرهان القائد الحالي للجيش بالحاجة إليه. جيش قومي لا تقوم بجانبه ميليشيات عسكرية، ولا يدفعه العجز أو الغفلة لإنشائها، يتناسب حجمه مع موارد البلد المُتاحة من ناحية، ومع المخاطر الخارجية عليه من ناحية أخرى. ذلك وحده هو ما يخلق الرابطة العميقة التي لا غنى عنها بين أيّ جيش وأهل بلاده.
والأمر الذي يُضاهي ذلك في الأهمِّيّة، أن يقتنع محترفو السياسة السودانيون من حملة السلاح ومن يتماهى معهم، بأنّ الوقت قد حان، لنبذ أسلوب حلّ الخلافات السياسية والفكرية بفوهة البندقية، الموروث من عصور الظلام الإنساني. الحرب أمرٌ شائن لا يليق بالبشر الأسوياء، ومعظم ضحاياها هُم من لا دور لهم في إشعالها.
أورد المؤرِّخ "جون كيغان" في كتابه القيِّم " تاريخ الحرب"* الذي انتقد فيه بعُمق الأطروحة الشهيرة ل "كارل فون كلاوزوز" التي يدور معناها حول أنّ الحرب هي استمرار السياسة بوسائل أخرى، بعد اتِّضاح حجم الخسائر البشرية الفادحة للحرب العالمية الأولى، الاستشهاد التالي بما قاله الجنرال "وليام شيرمان" في أواخر عمره. وهذا الجنرال هو القائد المعروف في الجيش الفيدرالي في الحرب الأهلية الأمريكية الذي اشتهر بحرق مدينة أتلانتا في ولاية جورجيا وأجزاء واسعة من الجنوب الأمريكي:
" أنا مُتعب ومُصاب بالغثيان من الحرب. مجدها عبارة عن كلام سخيف. الحرب هي الجحيم."
John Keegan,” A History of Warfare” *
محمد حامد الحاج
سبتمبر 2023
melhaj@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الدعم السریع العادلة فی ة التی فی الم یجب أن الذی ی من الم
إقرأ أيضاً:
ماذا تعرف عن محطة أبا السودانية؟
رغم تراجع منسوب النيل الأبيض، ما زال سكان جزيرة أبا السودانية يعانون من تبعات الفيضان الذي اجتاح المنطقة بعد فتح بوابات خزان جبل الأولياء جنوبي الخرطوم. أدى ارتفاع منسوب المياه إلى غمر المدن والقرى والجزر الواقعة على مجرى النهر، مما تسبب في خسائر فادحة.
أفاد أصحاب مزارع مشاريع الري الفيضي أن مياه النيل أغرقت حقولهم التي كانت في طور حصاد محاصيل أساسية مثل القمح، الذرة، والخضروات. يُعد هذا الفيضان استثنائيًا، حيث تجاوزت المياه الحدود المعتادة، مهددة مناطق كوستي، الدويم، شبشة، المرابيع، والجبلين.
على الرغم من تراجع الفيضان، يواصل سكان جزيرة أبا النزوح الجماعي بسبب الدمار الواسع الذي لحق بالمنازل والبنية التحتية. تقارير محلية تشير إلى انهيار أعداد كبيرة من المنازل، بالإضافة إلى تدهور المرافق الصحية، ما يثير المخاوف من انتشار الأمراض والأوبئة بين السكان.
الفيضان تسبب في كارثة إنسانية أثرت على حياة الآلاف، حيث لم تعد مناطق كثيرة صالحة للسكن. وبينما تستمر الجهود المحلية والدولية لتقديم الدعم، يبقى التحدي الأكبر هو إعادة تأهيل المنطقة وإعادة الحياة إلى طبيعتها.
في ظل هذه الكارثة، أطلقت منظمات بيئية تحذيرات بشأن أهمية تعزيز البنية التحتية لمواجهة الفيضانات المتكررة، لا سيما مع التغيرات المناخية التي تزيد من حدة الظواهر الطبيعية في السودان.
محطة أبا للكهرباء
تُعد محطة أبا لتوليد الكهرباء واحدة من المحطات الرئيسية في السودان، وتقع في ولاية النيل الأبيض، وتحديدًا في منطقة الجزيرة أبا.
ورغم دورها الأساسي في تلبية احتياجات السكان المحليين من الطاقة الكهربائية، إلا أنها تواجه تحديات كبيرة تعيق استمرارية عملها وتطويرها.
أهمية محطة أبا
تساهم المحطة في تزويد المناطق المحيطة بالطاقة الكهربائية، خاصة في ظل النقص الكبير في إنتاج الكهرباء على المستوى القومي.
تلعب دورًا حيويًا في استقرار إمدادات الكهرباء بولاية النيل الأبيض والمناطق المجاورة، ما يساعد على تعزيز التنمية الاقتصادية والخدمات الأساسية في المنطقة.