ديفيد بروكس يكتب.. البشر أكثر كرمًا مما تعتقد
تاريخ النشر: 9th, September 2023 GMT
هل البشر في الأساس طيبون أم أشرار؟ هل الناس في الغالب كرماء أم أنهم في الغالب أنانيون؟ على مر القرون، رأى العديد من الرواد أن الناس أنانيون في الأساس. جادل «مكيافيلي» بأن الناس مخادعون، جاحدون للجميل، وطماعون. يعتمد الاقتصاد الكلاسيكي على فكرة أن الناس يسعون بلا هوادة إلى تحقيق مصلحتهم الذاتية. كتب الاقتصادي «جوردون تولوك» ذات يوم: «إن الإنسان العادي أناني بنسبة 95% بالمعنى الضيق للمصطلح».
في كتابه «الجين الأناني»، قال عالم الأحياء التطوري «ريتشارد دوكينز»: «لقد ولدنا أنانيين». ومن بين عامة الناس، يقول 30% فقط من الأميركيين إنهم يستطيعون الوثوق بالناس من حولهم، مما يشير إلى نظرة قاتمة للطبيعة البشرية. ولكن ماذا لو كانت هذه النظرة المظلمة لطبيعتنا غير صحيحة؟ في تجربة حديثة أجراها علماء النفس «ريان جي دواير»، و«ويليام جي برادي»، و«إليزابيث دبليو دان»، و«أمين تيد كريس أندرسون»، حصل كل من 200 شخص في سبع دول حول العالم على 10000 دولار دون مقابل، ثم أبلغوا عن كيفية إنفاقهم للمال. هل احتفظوا بكل المبلغ لأنفسهم؟ لا. في المتوسط، أنفق المشاركون أكثر من 6400 دولار من هذا المبلغ لإفادة الآخرين، بما في ذلك إنفاق ما يقرب من 1700 دولار على التبرعات للأعمال الخيرية.
ومن هذا الإنفاق الاجتماعي الإيجابي، ذهب 3678 دولاراً إلى أشخاص خارج أسرهم المباشرة، وتم إنفاق 2163 دولاراً على الغرباء والمعارف والتبرعات للمنظمات. استخدم الناس الأموال لاصطحاب الأصدقاء لتناول وجبات الطعام أو لدعم الأسر التي فقدت أحباءها أو لدعم منظمة توفر التدريب على البناء للأشخاص المهمشين. هذا يبدو سخياً جداً بالنسبة لي. لكن انتظر قليلاً. ربما كانوا ينفقون بهذه الطريقة حتى يتمكنوا بأنانية من أن ينالوا الإشادة ويحظوا بمكانة مرموقة. هذا غير محتمل.
فقد طُلب من بعض الأشخاص في التجربة تسجيل إنفاقهم على تويتر، وطُلب من الباقين الحفاظ على خصوصية إنفاقهم. لم يكن هناك فرق كبير بين أولئك الذين أعلنوا نفقاتهم وأولئك الذين لم يفعلوا ذلك. بشكل عام، خلص الباحثون إلى أن الناس يجدون أنه من المفيد إنفاق المال على الآخرين. هذه الدراسة ليست غريبة. على مدى العقود القليلة الماضية، ابتكر علماء الاجتماع العديد من المواقف التي يُمنح فيها المشاركون في البحث الفرصة للتصرف إما بشكل أناني أو بشكل تعاوني.
وفي كتابه «البطريق والتنين: انتصار التعاون على المصلحة الذاتية»، لخص «يوشاي بنكلر»، من جامعة هارفارد النتائج. وذكر أنه في أي تجربة معينة، فإن حوالي 30% من الناس يتصرفون بالفعل بأنانية. ولكنه تابع قائلاً: «إن نصف الناس بالكامل يتصرفون بشكل تعاوني ومنهجي وكبير ويمكن التنبؤ به».
وعاد بنكلر ليوضح الاستنتاج الأساسي من هذا الكم الهائل من الأبحاث: «النقطة المهمة هي أنه عبر مجموعة واسعة من التجارب، وفي مجموعات سكانية متنوعة على نطاق واسع، تبرز نتيجة واحدة: في الواقع، لا يوجد مجتمع بشري تم فحصه في ظل ظروف خاضعة للرقابة، يكون فيه أغلبية الناس يتصرفون باستمرار بأنانية». لم تزدهر الإنسانية طوال هذه القرون لأننا أنانيون بلا رحمة، لقد ازدهرنا لأننا جيدون حقاً في التعاون. لكن لنفترض أنك شخص لطيف وعليك التنافس مع الأوغاد الأنانيين القساة. ألست مجبراً على التصرف وفقاً لقواعد الغابة؟ حسناً، ليس بالضرورة.
في كتابه «أعط وخذ»، حدد عالم النفس التنظيمي «آدم جرانت» الأشخاص الذين يركزون على الآخرين في المنظمات (المانحون) والأشخاص الأنانيين الذين يبحثون دائماً عما يمكنهم استخراجه لأنفسهم (الآخذون).. ووجد أن العديد من العمال ذوي الأداء المنخفض كانوا معطاءين. لقد سمحوا لأنفسهم أن يتم الضغط عليهم واستغلالهم. ولكن عندما نظر جرانت إلى أصحاب الأداء الأفضل في المؤسسات، وجد أن المانحين يهيمنون على تلك المراتب أيضاً. كان هؤلاء المانحون يتمتعون بسمعة ذهبية، وشبكات اجتماعية أوسع، وعلاقات أفضل – حيث أراد الناس العمل معهم والتعاون معهم.
من الأفضل أن تكون معطاء وأن تعرف، في الحالات القصوى، كيفية الدفاع عن نفسك. أود أن أقول إن الكثير من مفكرينا العامين قللوا إلى حد كبير من أهمية الدوافع الأخلاقية والاجتماعية المنسوجة في الطبيعة البشرية.
نحن نعطي إكرامية (بقشيشاً) للمطاعم التي لن نعود إليها أبداً. نحن نهب لمساعدة بعضنا البعض أثناء الكوارث الطبيعية. نحن لا نتوق فقط إلى الحصول على الإعجاب، بل أيضاً إلى أن نكون جديرين بالإعجاب. العديد من مفكرينا العامين انتهى بهم الأمر إلى إنشاء نبوءة ذاتية التحقق. ومن خلال إخبار الناس أنهم أنانيون بالفطرة وأنهم محاطون بآخرين أنانيين بالفطرة، فإننا نشجع بعضنا البعض على تضخيم الجانب الأناني من طبيعتنا. إننا في الغرب نفرق بشكل حاد بين الهدايا والمعاملات. في مقالته الكلاسيكية «الهدية»، زعم عالم الاجتماع «مارسيل موس» أن العديد من الثقافات لا تميز هذا التمييز بشكل صارخ. وفي تلك الثقافات، يرى الناس أنفسهم جزءاً لا يتجزأ من شبكة من الرعاية المادية والاجتماعية والروحية.
يمد الناس يد المساعدة لبعضهم البعض، ويصغون لبعضهم البعض. يقترضون ويقرضون. وهم لا ينظرون إلى هذه التبادلات باعتبارها معاملات باردة ومحصلتها صفر، بل باعتبارها علاقات داعمة ومتبادلة مستمرة. وأخيراً، أود أن أقول إننا في الغرب بالغنا في بناء أنظمة تحاول تحفيز الناس من خلال مناشدة مصالحهم الاقتصادية الذاتية في الأغلب. نحن نبني أنظمة غير إنسانية، حيث تُحجب الحوافز المادية الحوافز الاجتماعية والأخلاقية. ولقد جعلنا أنفسنا بائسين على طول الطريق.
*خدمة «نيويورك تايمز»
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
التعليق *
الاسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني
احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.
شاهد أيضاً إغلاق آراء ومواقف
الله لا فتح على الحرب ومن كان السبب ...... وا نشكر الكتب وا...
مقال ممتاز موقع ديفا اكسبرت الطبي...
مش مقتنع بالخبر احسه دعاية على المسلمين هناك خصوصا ان الخبر...
تحليل رائع موقع ديفا اكسبرت الطبي...
[أذلة البترول العربى] . . المملكة العربية السعودية قوة عربية...
المصدر: يمن مونيتور
كلمات دلالية: العدید من أن الناس فی الیمن
إقرأ أيضاً:
الجن زمن الإنسانية المتحولة
الجن فـي المرويات الدينية والثقافـية والشعبية والأسطورية، مكون رئيس من المعتقد العام لأغلب الشعوب، التي تحضر فـيها فكرة كائنات نورانية ونيرانية أو ترابية أو هوائية مفارقة لوجود البشر المخلوق من تراب، وفـي الآن ذاته هي مؤسسة لعالم مواز ينعم بخوارق تجاوز فعل البشر وتتعداه. فكرة الجن، هي فكرة عائمة، قائمة على أمرين رئيسين، الأمر الأول أسطوري به يمكن تفسير ظواهر تبدو فـي ظاهرها عجيبة وغريبة، ويعسر على الفكر البشري تلقيها وتقبلها، مثل النحت فـي الجبال أو مد الأفلاج أو بناء القصور المفرطة فـي الدقة فـي أزمنة شبه بدائية، والأمر الثاني هو رغبة الكائن البشري فـي إيجاد صوت قادر يحمل أمراضه وعقده ويلقى عليه عبء عجز الإنسان.
ودون الدخول فـي الحقيقة الدينية للجن، وهو ما تؤكده أغلب المنازع الدينية السماوية والأرضية، فإن الجن ثيمة حكائية وسيعة المجال، مولدة الحكايا، باعثة لممكنات قصصية لا نهاية لها، وهي -على غير ما تبدو عليه- ليست من العجائب والغرائب المفارقة لكون الإنسان، وإنما هي من باب العجائب والغرائب الداخلة فـي كون البشر، وقد استثمرها العرب بشكل لافت، وبنوا عليها قصصا مديدا، وأفاضوا فـيها السرد، تجاوزا للإشارات القرآنية واللمح النبوية، وإنما غلبت على قصص الجن حمولات الثقافة الشعبية الغالبة على الشعوب العربية فـي التفاعل مع عالم مواز له وجود فاعل فـي حياتهم، وبسبب من هذه الوفرة الحكائية ومن الثبات الاعتقادي، دخلت حكايات الجن مصنفات التاريخ ركنا مكينا أصيلا ثابت الوجود فـي حقائق المؤرخين، وقس على ذلك -على سبيل المثال- ما ذكره الطبري فـي تاريخه، وما ذكره ابن الأثير فـي كامل تاريخه من قصص الجن وتدخلهم فـي عالم البشر.
وقد صنعت أميرة الزين كتابا مهما فـي الغرض تحدثت فـيه عن الجن فـي الثقافة العربية وفـي أدبها، وقلبت الموضوع على أوجه عدة، وسمت كتابها «العرب، الإسلام، وعالم الجن الذكي»، Islam, Arabs, and the intelligent world of the jinn وهو كتاب باللغة الإنجليزية يتوجه أساسا إلى قارئ لا يعرف من عوالم العرب إلا ألف ليلة وليلة فـي الغالب الأعم، وينشد إلى عوالمها الخارقة، وإلى قصص بشرها وجنها، ولا يعرف من الإسلام إلا قمع المرأة ومحاصرة حريتها، وتوليده الإرهاب الذي صار لصيقا بالمسلمين مع الأسف، وكلنا صار يتابع بسخرية أن نداء «الله أكبر» أصبح مفزعا لعموم الغربيين، وكأن العبارة الدالة على إعلاء ذات الإله أصبحت عبارة مقرونة بالتفجير والتقتيل وإسالة الدماء، وهي مسألة لا تدعو إلى السخرية ولا إلى الهزء من أولئك الخائفـين من صوت المؤذن ولا الداعي إلى إعلاء كلمة الله، وإنما تدعو إلى الوقوف تأملا ونظرا فـي أبعاد هذه الفوبيا وطرق مقاومتها. عالم الجن، إذن هو عالم مرغب للغربيين، منفر للعرب، مخيف أحيانا، حتى أنه من باب المزاح عندما أخبرت صديقة مقربة مني ومن عالمي أني شرعت فـي إنجاز بحث عن الجن، قالت، استعن بالمعوذتين كل ليلة ولا تغفل عن ذلك.
لماذا نخاف من عالم الجن ونحن على أبواب الحديث عن الإنسانية المتحولة أو عن صور الإنسانية الخارقة أو عما بعد الإنسانية؟ لقد أثارت أميرة الزين فـي كتابها عمق التفاعل العربي مع عالم الجن، ومهدت لكتابها بمقدمة شاملة هامة أبانت فـيها انتشار الاعتقاد فـي الجن لدى أغلب الملل والأديان والمعتقدات وركزت من بعد ذلك على بيان «شعرية اللامرئي»، وقدرة الخيال الإسلامي على تمثل هذه المرجعيات اللامرئية التي يمكن أن تتواجد (وأقصد التواجد لا الوجود) فـي عالمين متباينين، عالم الشهادة وعالم الغيب، وتثير الدارسة جملة من الإشكاليات العميقة التي لم نتعود مقاربتها فـي موضوع الجن، مثل «الصلة بين الوحي والعرافة والجن»، أو جملة من التوازنات والمقارنات بين طبيعة البشر وطبيعة الجن وأواصر الصلة الجامعة بينهما فـي إيجاد عوامل واصلة بين العالمين المتفارقين، عالم الجن وعالم البشر، أو التعرض لجملة من الظواهر المؤسسة لفكرة الجن، مثل السحر أو التلبس والأشكال الحيوانية التي رسختها الثقافة الشعبية التي عليها يظهر الجن ويخرج من طينته ليتلبس حيوانا ما، ومن المواضيع المتكررة والمكثفة فـي سيرة الجن فـي الثقافة العربية الإسلامية علاقات الحب التي قد تنتهي إلى زواج بين الجن والإنس (وقد توسع الجاحظ فـي نكران ذلك، وهو العاقل)، وصلة الشعراء بالجن، وهو من المواضيع الجالبة الجاذبة لأخبار عديدة، توسعت فـيها مدونات عديدة، حتى أصبح التابع حقيقة، والجني الذي يقول الشعر على لسان البشر واقعا.
عالم الجن فـي الحكايات العربية يحتاج إلى نظر ورؤية تخرج عن دائرة الإثبات والنفـي إلى الوقوف على إدراك حاجة الإنسان إلى بناء عالم كامل للجن، مجتمع يوازي المجتمع البشري ويساويه، زواج وأبناء ودور وصلات، إيمان وكفر، شعر ونثر، تخيلا لعالم ممكن فـي الذهن العربي لكائن أمثل قادر على البقاء والإبقاء، قادر على الخفاء والجلاء، مالك لإمكان أفعال وصفات يصبو البشر إلى بلوغها، وقد قدمت لنا المرويات العربية عوالم تامة الكمال لعوالم الجن، يمكن أن نمثل عليها فحسب، بما ورد فـي كتاب عبيد بن شرية الجرهمي «أخبار عبيد بن شرية الجرهمي فـي أخبار اليمن وأشعارها وأنسابها» يقول: «قال: ملك (الرائش) مائتي سنة وخمسا وعشرين سنة.
فقال (معاوية): فمن ملك بعده؟ قال (عبيد بن شرية): ابنه أبرهة بن الرائش -وكان يدعى ذا المنار- وكان من أجمل أهل زمانه، فعشقته امرأة من الجن -يقال لها العيوف- ويروى أنها الهيوف بنت الرابع فتزوجها، فولدت له العبد بن أبرهة»، وهو أمر دارج فـي أخبار العرب، لا يمثل حدثا مفارقا، ولذلك، فإن التداخل بين عالمي الجن والإنس فـي الموروث العربي ليس فعلا خارقا، ولا يدخل باب التجنيح التخيلي، وإنما هو فعل دارج، نابع من عقيدة وإيمان راسخين بتدخل الجن فـي عالم البشر، وبربط علاقات قد تبلغ درجة التزاوج، ولا غرابة أن مدينة مثل مأرب فـي اليمن، هي نسخة من مدينة للجن، وأن الهدهاد بن شرح بن شرحبيل تزوج من الجن، تزوج الحرورى ابنة اليلب، ملك من ملوك الجن، ومنهما كانت ابنتهما بلقيس صاحبة السيرة الشهيرة.
يثار اليوم موضوع الجن، وكما سلف أن ذكرنا، فنحن لا نهتم بالبعد الديني لمسألة الجن، ولكن عنايتنا به ثقافـية أنتروبولوجية، سردية، يثار موضوع الجن، ونحن فـي خضم إشكال فلسفـي وجودي حول نهاية الإنسان والإنسانية، ولعل العودة إلى الفـيلسوف الفرنسي لوك فـيري، وهو الناظر فـي أصول السعادة البشرية، الباحث عن علم الحياة، الناقد لتحول الإنسان إلى جهاز حاسوب، أن تعيننا على فهم هذه النهاية التي يبشر بها العلم، هي نهاية قاطعة مع حال من الإنسانية التي عاشها الإنسان منذ وجوده، وباعثة لما بعد الإنسانية، تحقيقا للإنسان الأكمل أو للإنسان الآلة، فهل سيكون الجن حاضرا فـي مخيلة الإنسان صاحب الذكاء الخارق، الخالي من المشاعر، لأن المشاعر هي علة من علل فشل الإنسان ومنعه من البقاء لفترة أطول، أو منعه من الخلود.