ديفيد بروكس يكتب.. البشر أكثر كرمًا مما تعتقد
تاريخ النشر: 9th, September 2023 GMT
هل البشر في الأساس طيبون أم أشرار؟ هل الناس في الغالب كرماء أم أنهم في الغالب أنانيون؟ على مر القرون، رأى العديد من الرواد أن الناس أنانيون في الأساس. جادل «مكيافيلي» بأن الناس مخادعون، جاحدون للجميل، وطماعون. يعتمد الاقتصاد الكلاسيكي على فكرة أن الناس يسعون بلا هوادة إلى تحقيق مصلحتهم الذاتية. كتب الاقتصادي «جوردون تولوك» ذات يوم: «إن الإنسان العادي أناني بنسبة 95% بالمعنى الضيق للمصطلح».
في كتابه «الجين الأناني»، قال عالم الأحياء التطوري «ريتشارد دوكينز»: «لقد ولدنا أنانيين». ومن بين عامة الناس، يقول 30% فقط من الأميركيين إنهم يستطيعون الوثوق بالناس من حولهم، مما يشير إلى نظرة قاتمة للطبيعة البشرية. ولكن ماذا لو كانت هذه النظرة المظلمة لطبيعتنا غير صحيحة؟ في تجربة حديثة أجراها علماء النفس «ريان جي دواير»، و«ويليام جي برادي»، و«إليزابيث دبليو دان»، و«أمين تيد كريس أندرسون»، حصل كل من 200 شخص في سبع دول حول العالم على 10000 دولار دون مقابل، ثم أبلغوا عن كيفية إنفاقهم للمال. هل احتفظوا بكل المبلغ لأنفسهم؟ لا. في المتوسط، أنفق المشاركون أكثر من 6400 دولار من هذا المبلغ لإفادة الآخرين، بما في ذلك إنفاق ما يقرب من 1700 دولار على التبرعات للأعمال الخيرية.
ومن هذا الإنفاق الاجتماعي الإيجابي، ذهب 3678 دولاراً إلى أشخاص خارج أسرهم المباشرة، وتم إنفاق 2163 دولاراً على الغرباء والمعارف والتبرعات للمنظمات. استخدم الناس الأموال لاصطحاب الأصدقاء لتناول وجبات الطعام أو لدعم الأسر التي فقدت أحباءها أو لدعم منظمة توفر التدريب على البناء للأشخاص المهمشين. هذا يبدو سخياً جداً بالنسبة لي. لكن انتظر قليلاً. ربما كانوا ينفقون بهذه الطريقة حتى يتمكنوا بأنانية من أن ينالوا الإشادة ويحظوا بمكانة مرموقة. هذا غير محتمل.
فقد طُلب من بعض الأشخاص في التجربة تسجيل إنفاقهم على تويتر، وطُلب من الباقين الحفاظ على خصوصية إنفاقهم. لم يكن هناك فرق كبير بين أولئك الذين أعلنوا نفقاتهم وأولئك الذين لم يفعلوا ذلك. بشكل عام، خلص الباحثون إلى أن الناس يجدون أنه من المفيد إنفاق المال على الآخرين. هذه الدراسة ليست غريبة. على مدى العقود القليلة الماضية، ابتكر علماء الاجتماع العديد من المواقف التي يُمنح فيها المشاركون في البحث الفرصة للتصرف إما بشكل أناني أو بشكل تعاوني.
وفي كتابه «البطريق والتنين: انتصار التعاون على المصلحة الذاتية»، لخص «يوشاي بنكلر»، من جامعة هارفارد النتائج. وذكر أنه في أي تجربة معينة، فإن حوالي 30% من الناس يتصرفون بالفعل بأنانية. ولكنه تابع قائلاً: «إن نصف الناس بالكامل يتصرفون بشكل تعاوني ومنهجي وكبير ويمكن التنبؤ به».
وعاد بنكلر ليوضح الاستنتاج الأساسي من هذا الكم الهائل من الأبحاث: «النقطة المهمة هي أنه عبر مجموعة واسعة من التجارب، وفي مجموعات سكانية متنوعة على نطاق واسع، تبرز نتيجة واحدة: في الواقع، لا يوجد مجتمع بشري تم فحصه في ظل ظروف خاضعة للرقابة، يكون فيه أغلبية الناس يتصرفون باستمرار بأنانية». لم تزدهر الإنسانية طوال هذه القرون لأننا أنانيون بلا رحمة، لقد ازدهرنا لأننا جيدون حقاً في التعاون. لكن لنفترض أنك شخص لطيف وعليك التنافس مع الأوغاد الأنانيين القساة. ألست مجبراً على التصرف وفقاً لقواعد الغابة؟ حسناً، ليس بالضرورة.
في كتابه «أعط وخذ»، حدد عالم النفس التنظيمي «آدم جرانت» الأشخاص الذين يركزون على الآخرين في المنظمات (المانحون) والأشخاص الأنانيين الذين يبحثون دائماً عما يمكنهم استخراجه لأنفسهم (الآخذون).. ووجد أن العديد من العمال ذوي الأداء المنخفض كانوا معطاءين. لقد سمحوا لأنفسهم أن يتم الضغط عليهم واستغلالهم. ولكن عندما نظر جرانت إلى أصحاب الأداء الأفضل في المؤسسات، وجد أن المانحين يهيمنون على تلك المراتب أيضاً. كان هؤلاء المانحون يتمتعون بسمعة ذهبية، وشبكات اجتماعية أوسع، وعلاقات أفضل – حيث أراد الناس العمل معهم والتعاون معهم.
من الأفضل أن تكون معطاء وأن تعرف، في الحالات القصوى، كيفية الدفاع عن نفسك. أود أن أقول إن الكثير من مفكرينا العامين قللوا إلى حد كبير من أهمية الدوافع الأخلاقية والاجتماعية المنسوجة في الطبيعة البشرية.
نحن نعطي إكرامية (بقشيشاً) للمطاعم التي لن نعود إليها أبداً. نحن نهب لمساعدة بعضنا البعض أثناء الكوارث الطبيعية. نحن لا نتوق فقط إلى الحصول على الإعجاب، بل أيضاً إلى أن نكون جديرين بالإعجاب. العديد من مفكرينا العامين انتهى بهم الأمر إلى إنشاء نبوءة ذاتية التحقق. ومن خلال إخبار الناس أنهم أنانيون بالفطرة وأنهم محاطون بآخرين أنانيين بالفطرة، فإننا نشجع بعضنا البعض على تضخيم الجانب الأناني من طبيعتنا. إننا في الغرب نفرق بشكل حاد بين الهدايا والمعاملات. في مقالته الكلاسيكية «الهدية»، زعم عالم الاجتماع «مارسيل موس» أن العديد من الثقافات لا تميز هذا التمييز بشكل صارخ. وفي تلك الثقافات، يرى الناس أنفسهم جزءاً لا يتجزأ من شبكة من الرعاية المادية والاجتماعية والروحية.
يمد الناس يد المساعدة لبعضهم البعض، ويصغون لبعضهم البعض. يقترضون ويقرضون. وهم لا ينظرون إلى هذه التبادلات باعتبارها معاملات باردة ومحصلتها صفر، بل باعتبارها علاقات داعمة ومتبادلة مستمرة. وأخيراً، أود أن أقول إننا في الغرب بالغنا في بناء أنظمة تحاول تحفيز الناس من خلال مناشدة مصالحهم الاقتصادية الذاتية في الأغلب. نحن نبني أنظمة غير إنسانية، حيث تُحجب الحوافز المادية الحوافز الاجتماعية والأخلاقية. ولقد جعلنا أنفسنا بائسين على طول الطريق.
*خدمة «نيويورك تايمز»
يمن مونيتور9 سبتمبر، 2023 شاركها فيسبوك تويتر واتساب تيلقرام الحكومة اليمنية تتخلى عن علاج جرحى الجيش خارج البلاد مقالات ذات صلة الحكومة اليمنية تتخلى عن علاج جرحى الجيش خارج البلاد 9 سبتمبر، 2023 وكالة روسية: السعودية تبحث شراء ” مقاتلات رافال” من فرنسا 8 سبتمبر، 2023 تكريم فلم “سَطْل” اليمني في مسابقة الأفلام القصيرة “حكاية أثر” 8 سبتمبر، 2023 المنتخب المصري ينهي مشواره في تصفيات أمم إفريقيا بالفوز على إثيوبيا 8 سبتمبر، 2023 اترك تعليقاً إلغاء الردلن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
التعليق *
الاسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني
احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.
شاهد أيضاً إغلاق آراء ومواقف طارق الحميد يكتب.. هل نُسي السودان؟ 6 سبتمبر، 2023 الأخبار الرئيسية الحكومة اليمنية تتخلى عن علاج جرحى الجيش خارج البلاد 9 سبتمبر، 2023 تحذير بريطاني من كيان ينتحل صفة أممية يحوّل السفن من ميناء عدن إلى الحديدة 8 سبتمبر، 2023 قتلى وجرحى في صدامات عرقية بين مهاجرين إثيوبيين بعدن 8 سبتمبر، 2023 “الرئاسي اليمني” يدعم الاحتجاجات في مناطق الحوثيين 8 سبتمبر، 2023 “الوزاري الخليجي” يؤكد على وحدة اليمن واستكمال تنفيذ اتفاق الرياض 8 سبتمبر، 2023 الأكثر مشاهدة واللاتي تخافون نشوزهن 14 مارس، 2018 التحالف يقول إن نهاية الحوثيين في اليمن باتت وشيكة 26 يوليو، 2019 الحكومة اليمنية تبدي استعدادها بتوفير المشتقات النفطية لمناطق سيطرة الحوثيين وبأسعار أقل 12 أكتوبر، 2019 مجموعة العشرين تتعهّد توفير “الغذاء الكافي” في مواجهة كورونا 22 أبريل، 2020 (تحقيق حصري) كيف تحوّلت مؤسسات صنعاء إلى “فقَّاسة صراع” الأجنحة داخل جماعة الحوثي؟ 29 أغسطس، 2021 اخترنا لكم طارق الحميد يكتب.. هل نُسي السودان؟ 6 سبتمبر، 2023 راغدة درغام تكتب.. لماذا تفضل إيران مهمة السلام اللبنانية الإسرائيلية التي يقودها بايدن؟ 6 سبتمبر، 2023 د.عبد العزيز العويشق يكتب.. كيف يمكن وقف حلقة العنف والبؤس المفرغة في اليمن؟ 6 سبتمبر، 2023 عمّار ياسين يكتب: كيف يُغير استهداف البنى التحتية قواعد اللعبة في الصراعات؟ 25 أغسطس، 2023 محمد الساعد يكتب: إيران.. والخيارات السعودية! 25 أغسطس، 2023 الطقس صنعاء غيوم متفرقة 20 ℃ 27º - 17º 28% 2.74 كيلومتر/ساعة 27℃ السبت 28℃ الأحد 26℃ الأثنين 27℃ الثلاثاء 28℃ الأربعاء تصفح إيضاً ديفيد بروكس يكتب.. البشر أكثر كرمًا مما تعتقد 9 سبتمبر، 2023 الحكومة اليمنية تتخلى عن علاج جرحى الجيش خارج البلاد 9 سبتمبر، 2023 الأقسام أخبار محلية 24٬269 غير مصنف 24٬146 الأخبار الرئيسية 11٬679 اخترنا لكم 6٬306 عربي ودولي 5٬508 رياضة 1٬979 كأس العالم 2022 71 كتابات خاصة 1٬975 اقتصاد 1٬894 منوعات 1٬757 مجتمع 1٬715 صحافة 1٬432 تراجم وتحليلات 1٬410 آراء ومواقف 1٬388 تقارير 1٬375 حقوق وحريات 1٬163 ميديا 1٬158 فكر وثقافة 813 تفاعل 738 فنون 443 الأرصاد 140 بورتريه 60 صورة وخبر 20 كاريكاتير 15 الرئيسية أخبار تقارير تراجم وتحليلات حقوق وحريات آراء ومواقف مجتمع صحافة كتابات خاصة وسائط من نحن تواصل معنا فن منوعات تفاعل من نحن تواصل معنا فن منوعات تفاعل © حقوق النشر 2023، جميع الحقوق محفوظة | يمن مونيتورفيسبوكتويتريوتيوبتيلقرامملخص الموقع RSS فيسبوك تويتر واتساب تيلقرام زر الذهاب إلى الأعلى إغلاق فيسبوكتويتريوتيوبتيلقرامملخص الموقع RSS البحث عن: أكثر المقالات مشاهدة واللاتي تخافون نشوزهن 14 مارس، 2018 التحالف يقول إن نهاية الحوثيين في اليمن باتت وشيكة 26 يوليو، 2019 الحكومة اليمنية تبدي استعدادها بتوفير المشتقات النفطية لمناطق سيطرة الحوثيين وبأسعار أقل 12 أكتوبر، 2019 مجموعة العشرين تتعهّد توفير “الغذاء الكافي” في مواجهة كورونا 22 أبريل، 2020 (تحقيق حصري) كيف تحوّلت مؤسسات صنعاء إلى “فقَّاسة صراع” الأجنحة داخل جماعة الحوثي؟ 29 أغسطس، 2021 أكثر المقالات تعليقاً 4 سبتمبر، 2022 مؤسسة قطرية تطلق مشروعاً في اليمن لدعم أكثر من 41 ألف شاب وفتاه اقتصاديا 19 يوليو، 2022 تامر حسني يثير جدل المصريين وسخرية اليمنيين.. هل توجد دور سينما في اليمن! 15 ديسمبر، 2021 الأمم المتحدة: نشعر بخيبة أمل إزاء استمرا الحوثي في اعتقال اثنين من موظفينا 2 سبتمبر، 2023 عزوف الطلاب عن الدراسة الجامعية في تعز.. ما الأسباب والتداعيات؟ 20 ديسمبر، 2020 الحوثيون يرفضون عرضاً لنقل “توأم سيامي” إلى خارج اليمن 30 مايو، 2023 الأرصاد اليمني يدعو المواطنين إلى عدم استخدام الأجهزة الإلكترونية أثناء العواصف الرعدية أخر التعليقات ماجد عبد الله
الله لا فتح على الحرب ومن كان السبب ...... وا نشكر الكتب وا...
divaمقال ممتاز موقع ديفا اكسبرت الطبي...
عبدالله منير التميميمش مقتنع بالخبر احسه دعاية على المسلمين هناك خصوصا ان الخبر...
Tarek El Noamanyتحليل رائع موقع ديفا اكسبرت الطبي...
عاصم أبو الخير[أذلة البترول العربى] . . المملكة العربية السعودية قوة عربية...
المصدر: يمن مونيتور
كلمات دلالية: العدید من أن الناس فی الیمن
إقرأ أيضاً:
ديفيد هيرست: تغلب الفلسطينيين على حرب الإبادة الإسرائيلية وعادوا إلى الديار
تناول مقال للكاتب البريطاني ديفيد هيرست في موقع "ميدل إيست آي" عودة الفلسطينيين إلى شمال القطاع بعد 15 من حرب الإبادة الإسرائيلية.
وقال هيرست، إن "العودة التاريخية للفلسطينيين، بعد خمسة عشر شهراً من التدمير الإسرائيلي، مؤشر على انتصار الروح الإنسانية على القهر المنظم".
وأضاف، أن "صور الدمار في غزة سوف تحرق ثقبا تاريخيا في الرواية التأسيسية لإسرائيل كدولة ولدت من رحم المحرقة وقامت على أكتاف ضحاياها".
وتابع، "سوف يخلد رفع الحصار عن شمال غزة – مهما كان مؤقتاً – في التاريخ الفلسطيني كما خلد فك الحصار عن لينينغراد (والذي حصل أيضاً في السابع والعشرين من يناير) في التاريخ الروسي للحرب العالمية الثانية. إنه لا يقل أهمية عنه".
وفيما يلي نص المقال:
يمكن للمذيع الخارجي أن تحيق به الكثير من الفجائع – في هذه الحالة، أفضل مخططات البي بي سي لعمل برنامج "اليوم" من معسكر أوشفيتز، وتكريس اليوم بأكمله للبث عبر العديد من القنوات إحياء للذكرى السنوية الثمانين لتحرير المعتقلين في ذلك المعسكر.
قد ينقطع البث من بولندا، وهو انقطاع – في زمن البث عبر الإنترنيت والأقمار الصناعية في أيامنا هذه – قد لا يتجاوز بضع ثوان، والأسوأ من ذلك هو أن ينشغل الناس عن الحدث نفسه بحدث أكبر منه تشهده الساحة العالمية، وذلك كان هو حادث تصادم السيارات الذي وقع يوم الاثنين.
بينما كان رجالات الدولة يتجمعون من مختلف أرجاء العالم في معسكر الإبادة السابق، كان مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين عانوا خمسة عشر شهراً من القصف المدمر والتجويع والمرض على أيدي دولة ولدت بعد المحرقة يمشون إلى شمال غزة في مسيرة عودة استمرت عدة ساعات.
لوحظ غياب شخصين مهمين عن هذا التجمع في بولندا. أما الأول والأبرز فهو رئيس البلد الذي كانت قواته هي من قام بتحرير معسكر الموت النازي، أي رئيس روسيا فلاديمير بوتين.
وأما الغائب الثاني فهو رئيس وزراء البلد الذي بذل أقصى ما في وسعه خلال فترة احترافه للعمل السياسي من أجل أن يقبض ثمن الشعور الأوروبي بالذنب إزاء المحرقة، ومن أجل تبرير محاولات إسرائيل المتكررة لتطهير فلسطين عرقياً من الفلسطينيين.
ثمة أسباب عملية من وراء غياب بنيامين نتنياهو عن أوشفيتز. أما الأول فهو خشيته من أن يتم إلقاء القبض عليه بموجب المذكرة التي صدرت عن المحكمة الجنائية الدولية بحقه عن ارتكاب جرائم حرب في غزة.
وأما السبب الثاني فهو مثوله أمام محكمة إسرائيلية بتهم متعددة تتعلق بالفساد.
تناقض صارخ
انسجاماً مع تعامل إسرائيل الخسيس تاريخياً مع الناجين من المحرقة، لم تتحول قنواتها التلفزيونية الرئيسية إلى سمت "لقد ماتت الملكة" كما فعلت البي بي سي، بل استمرت تلك القنوات في بث برامجها الاعتيادية طوال اليوم.
لم يمض دون أن يلفت الأنظار نفاق إسرائيل في تعاملها مع واحدة من أهم الذكريات السنوية في التاريخ اليهودي، ولا التناقض الصارخ الذي يولده ذلك إذا ما أخذنا بالاعتبار ما تعودت عليه إسرائيل من اغتنام كل فرصة ممكنة لاتهام نقادها بمعاداة السامية وبإنكار المحرقة.
لم ينس أحد تلك الحركة الاستعراضية التي قام بها نتنياهو عندما ألبس أعضاء وفد إسرائيل إلى الأمم المتحدة نجوماً صفراء بعد هجوم حماس يوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 – وهي الحركة الاستعراضية التي ندد بها رئيس النصب التذكاري للمحرقة المسمى ياد فاشيم، معتبراً إياها إهانة لضحايا الإبادة الجماعية ولدولة إسرائيل في آن واحد.
إلا أن رد البي بي سي على هذه الأزمة من القيم الإخبارية كان بالفعل سوفياتياً: وهو أن تقوم بمحو الأخبار التي لا تتناسب مع توجه الحزب.
لا ريب أن ذلك كان بأوامر من الجهات العليا، وذلك أن كل واحد من معدي البرامج فعل نفس الشيء. بعد تدبر عميق طوال اليوم، منحت نشرة أخبار العاشرة مساء في تلفزيون البي بي سي 22 دقيقة لذكرى المحرقة وأربع دقائق لغزة.
وضعت تغطية الذكرى السنوية للمحرقة ضمن إطار توجيه رسالة إلى عالم اليوم. قال المتحدثون، الواحد تلو الآخر، إن الدروس المستوحاة من المحرقة لا ينبغي أن تموت مع آخر من تبقى من الناجين منها، على الأقل بسبب ما يجتاح العالم من مستويات غير مسبوقة من معاداة السامية.
لا يمكن للمرء معارضة هذا التصريح. إلا أن الفيل الذي في الحجرة كان التشابه بين ما فعله النازيون باليهود وما لم يزل يفعله الإسرائيليون بالفلسطينيين في غزة والضفة الغربية المحتلة على مدى خمسة عشر شهراً، ونحن هنا لا نتكلم عن التشابه خطابياً أو بلاغياً فحسب، بل من حيث أنه بات الأساس الذي انبني عليه إجراءان قضائيان في أرفع المحاكم الدولية.
ومع مرور اليوم نما أكبر فأكبر. في برنامج "اليوم" توجه فيليب ساندز، الخبير القانوني في جرائم الحرب، إلى المستمعين بشرح لتاريخ المحاولات التي بذلت تاريخياً من أجل تصنيف الإبادة الجماعية جريمة حرب.
ذكر ساندز كلمة "غزة" المحرمة، ولكنه سعى للقول إنه أياً كان ما توصف به ما تقوم به إسرائيل من أفعال في فلسطين وغزة، فما كان ينبغي له أن يحصل. رغم أن محكمة العدل الدولية تنظر حالياً في تهمة الإبادة الجماعية التي توجهت بها جنوب أفريقيا ومعها بلدان أخرى، إلا أن المذيع وساندز كلاهما التزما الصمت إزاء القضية رغم أنها ماتزال حية. لا يمكن لهما التأثير على المحلفين لأنه لا وجود لمحلفين. إذن، لابد من أن صمتهما وراءه سبب آخر.
تاريخ لا ينسى
ثمة جدل حول الأفعال الإسرائيلية في غزة حتى داخل إسرائيل.
أجرى اثنان من مؤرخي المحرقة، وهما دانيال بلاتمان وآموس غولدبيرغ، مقارنات مخيفة وخلصا منها إلى التالي: "مع أن ما يحدث في غزة ليس أوشفيتز، إلا أنه ينتمي إلى نفس العائلة – جريمة الإبادة الجماعية."
لنتنياهو نفسه ينسب الفضل في وقوع هذين الحدثين الدوليين الهائلين في نفس اليوم – أكبر عودة فلسطينية إلى الأرض التي طردوا منها في تاريخ الصراع والذكرى السنوية لتحرير أوشفيتز.
فقراره منع الفلسطينيين من العودة يوم السبت كما كان مقرراً لهم، بسبب خلاف حول من ينبغي أن يطلق سراحه من الرهائن الإسرائيليين، هو الذي أخر مسيرة العودة شمالاً يومين حتى الاثنين.
من خلال ذلك، أسس نتنياهو وزمرة المتعصبين الدينيين من حوله لمناسبة تضاف إلى التاريخ الإسلامي والعربي.
لم يكن يوم الاثنين، السابع من يناير (كانون الثاني) أي إثنين يُستهل به العام الجديد. صادف ذلك في التقويم الإسلامي يوم السابع والعشرين من رجب، والذي لم يزل حتى هذا الأسبوع يُحتفل به من قبل المسلمين في أنحاء العالم لحدثين آخرين تصادف وقوعهما فيه.
ليلة الإسراء والمعراج هي الليلة التي حملت الملائكة فيها النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) من مكة إلى المسجد الأقصى قبل أن تعرج به إلى السماوات العلى ثم تعود به إلى مكة. تلك الرحلة، التي اجتمع فيها النبي بموسى وإبراهيم وآدم وعيسى، وتلقى من الله التعليمات، هي جزء مهم في الدين. فهي تربط المسلمين بالمسجد الأقصى، وخلدت ذكرها آيات في القرآن الكريم.
هذا من مبادئ العقيدة. ولكن تصادف نفس اليوم مع مناسبة أخرى وقعت في التاريخ العربي، وهي أيضاً حدث يربط العرب بالقدس، كان ذلك في عام 1187 عندما حرر صلاح الدين مدينة القدس من لورد باليان أوف إبيلين، منهياً بذلك قرناً من الاحتلال الصليبي.
والآن أضاف نتنياهو مناسبة ثالثة إلى السابع والعشرين من رجب.
سعادة وتحدي
هذا هو اليوم الأول في تاريخ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الذي يمارس فيه الفلسطينيون حق العودة إلى أراض لم تدخر إسرائيل وسعاً في محاولة إخراجهم منها عنوة. كل الأحداث الثلاثة ترسخ وتعزز إيمان الفلسطينيين بأن القدس هي عاصمتهم الوطنية، وكذلك إيمان المسلمين بأن القدس جزء لا يتجزأ من العقيدة الإسلامية.
ما شهدناه هذا الأسبوع من مسيرة طويلة لمئات الآلاف من الفلسطينيين وهم يعودون إلى ديارهم لهو حدث ملحمي وتاريخي – ليس فقط بسبب ما في المشهد من صور، وإنما لما سيكون لهذا الحدث من أثر عميق على الأجيال القادمة.
لقد أثبتت غزة لكل فلسطيني ولكل العالم أن حقهم في العودة ليس ممكناً فحسب، بل وقريب المنال كذلك.
ما يقرب من نصف مليون فلسطيني عادوا إلى الشمال، وذلك رغم علمهم التام بأن منازلهم أصبحت ركاماً وأنهم قد لا يرون أفراداً من عائلاتهم تركوهم خلفهم عندما خرجوا.
يعبّرون في طريق عودتهم عن السعادة، وكلهم عزم، وتصميم، وتحد. في تصريح لموقع ميدل إيست آي، قالت كبير روسومي، وهي من بيت لاهيا، إنها تتجه نحو الشمال لتبحث عن أحبتها، سواء من كانوا على قيد الحياة أو من كانوا في عداد الأموات.
وقالت: "الشمال هو القلب والروح، الشمال هو الأرض التي فقدناها. نأمل أن نلتحف بهذه الأرض، أرض ديارنا، وأرض شعبنا، التي فقدناها."
رسومي محقة. فقد عانى شمال غزة من أطول وأصعب فترة احتلال لقطاع غزة طوال أيام الحرب التي بلغت 471 يوماً. فقد كان المكان الذي حاولت إسرائيل مراراً وتكراراً إخلاءه من مقاتلي حماس، ثم من كل المواطنين، من خلال فرض التجويع.
يمكننا أن نعبر عن ذلك بالأرقام. فقد نقلت قناة الجزيرة عن مصدر طبي القول إن ما لا يقل عن خمسة آلاف إنسان قتلوا أو فقدوا، وأن 9500 جرحوا، بسبب حملة التطهير العرقي التي أطلق عليها خطة الجنرالات، والتي بدأت في وقت مبكر من شهر أكتوبر (تشرين الأول).
رغم ذلك، خرج من تحت الركام مقاتلو حماس ومن بحوزتهم من رهائن. يمكن لملايين الإسرائيليين الذين أيدوا الحرب أن يروا الآن بأعينهم عبثية ما جنتهم أياديهم وما تسببوا به من دمار.
هنا ليبقوا
سوف تحرق صور الدمار في غزة ثقباً تاريخياً في الرواية التأسيسية لإسرائيل كدولة ولدت من رحم المحرقة وقامت على أكتاف ضحاياها.
سوف يخلد رفع الحصار عن شمال غزة – مهما كان مؤقتاً – في التاريخ الفلسطيني كما خلد فك الحصار عن لينينغراد (والذي حصل أيضاً في السابع والعشرين من يناير) في التاريخ الروسي للحرب العالمية الثانية. إنه لا يقل أهمية عنه.
أكثر من أي شيء آخر، يعتبر هذا الصمود الجماعي في وجه كل العوامل الطاغية، ووسط دمار لا يقل عما لحق بهيروشيما من دمار، أفضل رد على نتنياهو وعلى المجتمع الدولي، الذي ظل يتفرج سامحاً للكارثة أن تحصل – ثم على الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
لم يكن من باب الصدفة، عشية ذلك الحدث التاريخي، أن يقول ترامب بعفوية خادعة تصدر عنه كلما أراد الحديث عن تحركات محسوبة بعمق إنه ينبغي أن تُنظف غزة من مليون ونصف المليون فلسطيني، بحيث يتم نقلهم إلى الأردن ومصر لإتاحة المجال لإعادة تعمير القطاع. ينسجم ذلك تماماً مع طلب نتنياهو في الأيام الأولى من الحرب من ذراعه الأيمن، رون ديرمر، البحث عن طرق لتقليل عدد السكان في غزة.
فقط بيرني ساندرز، السيناتور المستقل من فيرمونت، أطلق على هذه الخطة ما ينطبق عليها تماماً، حيث قال: "هناك اسم لهذا – تطهير عرقي – وهو جريمة حرب."
لحسن الحظ، لا توجد فرصة لتطبيق خطط ترامب ونتنياهو في التطهير العرقي – والتي أعيدت تسميتها الآن لتصبح "الهجرة الطوعية". فخلال ساعات، أعلن كل من الأردن ومصر عن رفضهما لأي تهجير للسكان – ليس من باب التعاطف مع الفلسطينيين، ولكن بشكل أساسي لأن الدولتين تعلمان بأن تدفق أعداد كبيرة من الفلسطينيين إليهما يمكن أن تشكل مزيجاً متفجراً.
يعتبر الأردن ومصر ذلك مشكلة وجودية تهدد نظاميهما. ثم ورد اسم ألبانيا، ولكن ما لبثت تيرانا أن رفضت ذلك بعد ساعات.
في فترته الرئاسية الأولى، أخفق ترامب في بيع "صفقة القرن" للمنطقة، والتي كانت محاولة لدفن الحقوق الفلسطينية في قبر شيد بالصفقات التجارية وبكثير من الخرسانة. وفي فترته الثانية، أخفقت حتى قبل أن تبدأ خطته لبيع التطهير العرقي للفلسطينيين إلى جيرانهم. وهذا أمر أكثر أهمية.
هذا يعني أن الفلسطينيين هنا ليبقوا، وبأعداد أكبر من اليهود، داخل فلسطين التاريخية. تحقق ذلك في خضم معاناة شخصية غير مسبوقة، ورغم ذلك أثبت الفلسطينيون تمسكهم بهذه الأرض.
هذا هو انتصار الروح الإنسانية على القهر المنظم. وهذا هو أيضاً الدرس المستفاد من المحرقة.