في شقة صغيرة لا براح فيها، يركض أطفال “علياء” الخمسة خلف بعضهم للعب الكرة. فلا شيء في هذا البيت سوى سريرين وثلاث “مراتب” اشترتها الأم بالكاد بعد هروبهم من السودان إثر الحرب. لا تلفزيون ولا ألعاب من شأنها تسلية هؤلاء الصغار.. لكن جيران “علياء” ضيقوا عليهم أيضًا تلك المساحة، فلم يحتملوا أصواتهم، ما اضطر الأم إلى إسكات أطفالها وقلبها يتألم على حالهم.


فتقول علياء علي بصوت خافت حزين: “أريد أن يذهبوا إلى المدرسة في أسرع وقت.. فقد جاءوا من فزع وحرب، ليبقوا في شقة فارغة لا يمكنهم اللعب بها، ولا يمكننا الخروج أيضًا!”.

ومع اقتراب العام الدراسي بنهاية شهر سبتمبر الجاري، من المفترض أن يلتحق أبناء “علياء” بالمدارس السودانية المجتمعية في مصر ليكملوا دراسة المنهج ذاته، لكن حتى ذلك الحَق والمتنفس الوحيد يبقى صعبًا أمامهم والمئات غيرهم، إما لسبب المال أو فقدان الأوراق اللازمة أو كليهما معًا.

تشرق الشمس على منطقة فيصل بمحافظة الجيزة، أحد تجمعات السودانيين الكبرى في مصر، فتكشف ما يدور في مدارسها السودانية المجتمعية من أعمال صيانة. يقف عماد ياسين (مدير خمسة مدارس) في فناء إحداها، يراقب تلك التجهيزات لتعود المدارس إلى دورها بنهاية الشهر، بعدما ظلت خلال فترة الصيف أماكن لإيواء الفارين من الحرب السودانية إلى مصر، والتي قدرتهم مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بأكثر من 113 ألفاً (خلال الفترة من 15 أبريل إلى 17 مايو).

يستقبل “عماد” الكثير منهم، يسجل أطفالهم في دفاتره – وقد وصل عددهم حتى الآن لمائة طالب جديد بكل مدرسة- يدرس حالاتهم، ويتواصل مع السفارة السودانية طوال الوقت بشأنهم.. ينهمك في هذه المهمة اليومية، التي يحكي عنها قائلا: “تواجهنا مشكلتان في التسجيل هذا العام؛ الأولى عدم وجود أوراق مع أولياء الأمور، والثانية عدم قدرتهم على دفع مصروفات”.

فيما يخص المشكلة الأولى، يتصرف “عماد” على هذا النحو: يدون عُمر الطالب وبياناته، يجري اختبارًا له، ثم يرسل إلى السفارة كل ذلك لتعطيه شهادة معتمدة لتسجيله. وفي حالات سنوات الشهادات، فيرسل رقم الجلوس إلى السفارة التي تتواصل بدورها مع وزارة التعليم هناك وتتأكد منها، وهو أمر تُصعبه الحرب الدائرة وتطيل وقته، بحسب “عماد”.

نجت “علياء” من تلك المسألة المزعجة، حيث جلبت معها أوراق وشهادات أبنائها، الذين تتراوح أعمارهم بين 13 سنة و7 سنوات. أما ابنها الأكبر الذي حالت الحرب بينه وبين امتحانات شهادته الابتدائية، فتمكن من أدائها هنا بأحد مراكز التعليم السودانية بعد قرار رسمي صادر عن السلطات المحلية بالخرطوم، كما تحكي “علياء”.

لكن الأمر عند السيدة الأربعينية يرتبط كله بالمشكلة الثانية؛ وهي توفير المال للإنفاق على أطفالها وتعليمهم.. فقد خاضت وحدها بهم تلك الرحلة الخَطرة الطويلة من الخرطوم إلى مصر، بعد أن فقدت الاتصال بزوجها الذي يعمل محاسبًا في دارفور. كما انقطع أملها في مجيئه إليهم لصعوبة إصدار التأشيرة بالنسبة للرجال بعكس النساء وكبار السن.

لذا قَدمت “علياء”، وهي خريجة تربية رياضية، شهادتها في جميع المدارس السودانية بمصر لتعمل بها مثلما كانت تعمل في بلدها.. فتقول: “ما جمعناه من مال نفذ، ولابد أن أعمل بأي شكل، ولو عملت في نفس المدرسة التي سيلتحق بها أبنائي فيخصمون مصروفاتهم من راتبي”.

“علياء” ومئات الأسر المماثلة غير القادرة على دفع المصروفات يدرس “عماد” حالتهم لاحتمالية إعفائهم من نصف المبلغ أو ربعه أو المبلغ بأكمله، كما يقول. على الرغم من أن مدرسته لا تتلقى حاليًا دعمًا من منظمات أو تبرعات.

ذلك بعكس مدرسة أخرى بالمنطقة نفسها أسستها المفوضية السامية لشؤون اللاجئين قبل 6 سنوات.. تقول فضيلة سعيد (مديرتها) إن مصروفاتها تبلغ 5000 جنيه في العام الوحد لكل طالب، وتدعم المفوضية المسجلين لديها بـ1100 جنيه فقط.

لكن لايزال أغلب القادمين بعد الحرب غير مسجلين لدى المفوضية، وفقا لـ”فضيلة”، التي تضم مدرستها نحو 700 طالب من الحضانة إلى المرحلة الثانوية، نصفهم من الجدد.

لم تفكر “علياء” في الذهاب للتسجيل بالمفوضية لتدعم تعليم أولادها بحصولها على بطاقتها “الصفراء” (من يمتلكون أوراقا ثبوتية) أو “الزرقاء” (لمن تمت الموافقة على منحهم صفة لاجئ)، لأن ذلك يعني ببساطة تقيدها وسحب جواز سفرها.

لذلك، تتحمل مشقة طرق أبواب المنظمات والجمعيات لطلب المساعدة، ورفض عدد منهم ذلك لعدم استحقاقها في رأيهم. فتتساءل قائلة: “لا أعرف كيف يقيمون الأمور؟ كيف لسيدة بظروفي لا تستحق!؟”.

بمرور الأيام، يزداد تفكير “علياء” تشتتًا بين دخول المدارس وبين مشكلة إقامتها التي انتهت عقب ثلاثة أشهر من مجيئها إلى مصر في نهاية مايو الماضي.. فلم يعد لديها مال يكفي لتجديدها، وهو ما يجعلها عُرضه لغرامة يومية تقدر بمائة جنيه لكل فرد منهم، وفقا لحديثها.

تصمت “علياء” قليلا ثم تقول: “حتى الآن لا أعرف كيف سأدبر رسوم الإقامة ولا مصروفات المدارس وما يتبعها من كتب وأدوات وزي مدرسي!”.

لا تريد “علياء” أن يلقى أبناؤها مصير سبعة ملايين طفل سوداني خارج المدارس و 12 مليون آخرين يواجهون عدم استقرار في التعليم، وفقا لتحذير منظمة اليونيسف قبل اندلاع الحرب بنحو ثلاثة أشهر.

وبينما تتمسك “علياء” بذلك، تكاد رقية محمد (ربة منزل) أن تستسلم وتتخلى تمامًا عن الأمر. إذ ذهبت لتسجيل أبنائها الثلاثة بمراحل الابتدائية والإعدادية، وتم رفضهم لعدم قدرتها على دفع رسوم التسجيل.

تتشارك “رقية” مع “علياء” في التفاصيل نفسها تقريبا. فقد جاءت مع أبنائها بمفردها دون زوجها، الذي يعمل تاجرًا في سوق بالخرطوم تم حرقه، فهرب الرجل إلى أم درمان دون أن يجد سبيلا للحاق بهم.

وتقول “رقية”: “لا ارغب في أن يضيع عليهم هذا العام الدراسي.. لازلت احاول، لكن لا خيارات أمامي”.

تلك الأعباء التي تعانيها “علياء” و”رقية” وغيرهم، جعلت فضيلة سعيد تطلق بمدرستها مبادرة لتوعية وتأهيل السيدات القادمات نفسيًا، كما تسعى لتكرار ذلك مع الأطفال وفقا لإمكانيتها الضئيلة المتاحة. فتقول: “نفسية الأطفال مُدمرة تمامًا، ويحتاجون لمشرفين نفسيين لمساعدتهم على تجاوز ما مروا به ودمجهم في مجتمعهم الجديد”.

فلا يتوقف ابنها الأكبر عن ترديد عبارات مثل: “أريد لعب الكرة مع أصدقائي في الميدان في الخرطوم”.. “أريد الذهاب إلى أبي في دارفور”.. تواجه “علياء” أبناءها وكلامهم كل يوم، تحاول أن تشرح لهم ظروفاً هي نفسها مازالت لا تستوعبها. يسألونها: “كيف تقولون إن مصر بلد جميلة! لم نر شيئا جميلا!”. فتقول لهم إنها كذلك، وبها أهرامات ومتنزهات، لكن كل ما في الأمر أنه ليس لديهم أموال للذهاب الآن.

بكت “علياء” فجأة أثناء حديثها، ثم أكملت قائلة: “أحاول أن انسيهم أصوات الرصاص، والاختباء تحت الأسرة، وعربات الدعم السريع، وشكل المسلحين بالشوارع.. أحاول أن أجعلهم يتعايشون مع الوضع الجديد، وأقول لهم إنها مدارس سودانية أيضًا، وزملاؤكم سودانيون.. فالمدرسة هي منفذهم الوحيد الآن”.

مصراوي

المصدر: موقع النيلين

إقرأ أيضاً:

قراءة في الجذور الفكرية للحركة الإسلامية السودانية والحصاد المر

الحلقة الاولي :- شهادات الإسلاميين علي عهدهم

عبدالعزيز حسن علي

I. المدخل للدراسة
II. شهادات الإسلاميين علي عهدهم
III. ملاحظات علي شهادات الإسلاميين


I. المدخل للدراسة
 جرائم الحركة الإسلامية السودانية بدأت في عقل عرابها ومنظرها الأوحد الدكتور حسن الترابي بفكرة شديدة التبسيط لدرجة السذاجة، مفادها إرجاع الزمن وإنسان القرن العشرين الي الماضي، إلى عهد الصحابة الراشدين، من خلال دولة إسلامية متخيَّلة بدأت في الديمقراطية الثانية بالتأمر والتحريض علي طرد نواب الحزب الشيوعي المنتخبين بواسطة الشعب السوداني ، محاولة تكفير واغتيال الأستاذ محمود محمد طه ، ثم لاحقاً في الفترة النميرية مبايعة عسكري مخبول أماماً لدولة للمسلمين. زعموا أن دولتهم هي دولة الشريعة، الدولة العفيفة الطاهرة التي بدأت عهدها الميمون بقذف عدة صناديق من الخمر في نهر النيل، ثم ما لبثت أن شرعت في قطع ايادي الفقراء، وانتهت بجريمة العصر اغتيال الأستاذ محمود محمد طه، ثم الانقلاب علي النظام الديمقراطي في الديمقراطية الثالثة. ليبدأ من حينها عهد التمكين والصعود الحثيث الي القاع بتأصيل الخدمة العسكرية والمدنية المتوارثة من الاستعمار، بإضافة مسمى وظيفي جديد “أخصائي اغتصاب”. ثم، صياغة قانون للنظام العام مهموم بقياس طول فساتين النساء. أنشأوا دولة الإحاطة والانغلاق والتطرف الدولة الأحادية التي تقمع الآخر المختلف، وتستسهل دمه وعرضه. الدولة التي لم تفكر قط في تطبيق قيم الحرية والعدالة الاجتماعية التي جاء بها الإسلام. فقد فصلت جنوب البلاد، وأشعلت الحروب العنصرية فيما تبقي من وطن. لذلك، انتهت دولة الإنقاذ إلى دولة شديدة الفساد والإجرام، يتوارى منها قادتها خجلاً، وتبرأ منها عرَّابها الدكتور حسن الترابي، قبل أن يقبرها الشعب السوداني عنوةً واقتدراً.

 نشأت الحركة الإسلامية السودانية على المخلفات الفكرية لحسن البنا، وأبو الاعلي المودودي، وسيد قطب وآخرين ولم تجتهد مطلقاً في تقديم نظرية للحكم تحترم علوية الانسان ، وتعلي من قيم التسامح. بل، استسهلت الركون للشعارات الفضفاضة التي لا يمكن محاكمتها بالأدوات الموضوعية؛ شعارات خاوية هدفها، كما قيل، ربط الأرض بقيم السماء. فانتهت إلى تشويه قيم السماء والأرض معاً.  من خلال هذه الدراسة التي تأتي مجزأة في عدة مقالات سنغوص معاً في الجذور الفكرية للحركة الإسلامية وتبيان خطلها كمشروع ظلامي مغيِّب للعقل، وعدو للإنسانية وقيمها.

 في هذا المقال نورد بعض شهادات أصحاب المشروع الإسلامي (أصحاب الجلد والراس)، بعد تنفيذ المشروع ممثلاً في دولة الإنقاذ التي استمرت في الحكم والاحاطة بالحديد والنار لمدة تزيد علي الثلاثين عاماً. على أن نحاول في المقالات القادمة أن نحاور الأساس الفكري للحركة الإسلامية النظري "المشروع الحضاري" والعملي "دولة الإنقاذ"، ثم نختم الي كشف الحصاد المر ونتائجه.

II. شهادات الإسلاميين علي عهدهم
 الرئيس المخلوع عمر البشير بعد الانقلاب على النظام الديمقراطي، وفي أول تصريح صحفي له لصحيفة (القوات المسلحة) بتاريخ ٢ يوليو ١٩٨٩، قال: "أهدافنا محاسبة المفسدين، ومواجهة السوق الأسود والتهريب، لا نتخذ واجهة سياسية ضيقة، والذين يروجون لذلك يحاولون شق الصف وجرنا إلى صراعات".
 دكتور تجاني عبدالقادر في مقاله في مقاله (الرأسماليون الإسلاميون)، يكتب: "تحول التنظيم إلى ما يشبه حصان طروادة، يشير مظهره الخارجي إلى صرامة المجاهدين وتقشف الدعاة، أما من الداخل فقد تحول إلى سوق كبير تبرم فيه الصفقات، وتقسم فيه الغنائم، دون ذكر لتجديد الفكر الإسلامي أو لنموذج التنمية الإسلامية الموعودة. وبهذه الطريقة صار أفراد هذه الشريحة أغنياء، بينما ترك التنظيم ليزداد فقراً وتمزقاً. بل، إن عامة العضوية ظلوا فقراء مثل عامة الشعب برغم الشركات الكثيرة التي تم توزيعها بين المؤتمرين الوطني والشعبي؛ الشركات التي أسست باسم الإسلام ومن أجل نصرة الفقراء والمستضعفين “.

 الشيخ ياسين عمر الإمام، في لقاء مطول لصحيفة (ألوان)، بتاريخ ١٢ أغسطس ٢٠٠٧، حول تقييم التجربة الإسلامية في السودان قال: "زارني بعض الإخوان بالمنزل، وكان من ضمنهم حسن الترابي، قلت لهم إنني أخجل أن أحدث الناس عن الإسلام في المسجد الذي يجاورني بسبب الظلم والفساد الذي أراه، وقلت لهم إنني لا أستطيع أن أقول لأحفادي انضموا للإخوان المسلمين لأنهم يرون الظلم الواقع على أهلهم، فلذلك الواحد بيخجل يدعو زول للإسلام في السودان، أنا غايتوا بخجل".

 انتقدت القيادية الإسلامية البارزة والنائبة البرلمانية السابقة عن المؤتمر الوطني، دكتورة عائشة الغبشاوي، الوضع الاقتصادي الذي وصلت إليه البلاد، مطالبة الحكومة بإعلاء الشورى، والحرية، والمساواة، ورفع راية العدل، ورفع الظلم عن الناس، وصرحت لصحيفة (الصيحة) بتاريخ ٢٠ سبتمبر ٢٠١٦ بالقول: "خلال 27 عاماً لم ننتهج نهج النبوة ولم نخرج البلد من الفقر، بعض قادة المؤتمر الوطني لا يعترفون بالأخطاء، ويعتبرون كشفها إحباطاً للهمم".

 دكتور محمد محي الدين الجميعابي، صرح في لقاء تلفزيوني، بقناة أم درمان مع الأستاذ بكري المدني: "البشير أخبرني أنه يريد قتل الترابي، وأنا قلت للترابي: أنت أكبر مُربٍّ للأفاعي وهم سوف يؤذونك ويؤذون الشعب السوداني " .
 الدكتور حسن مكي، في مساهمته في ندوة مركز دراسات العالم الإسلامي ١٤ أكتوبر ٢٠١٥، قال: "على الحركة الإسلامية أن تراجع أولوياتها وخطابها السياسي، وأنهم لم يتمكنوا من ضبط تكامل شخصياتهم مع الضوابط الشرعية، واعتقدوا أن الشريعة هي الحدود، وأهملوا القضايا الأساسية مثل التعليم والصحة والاقتصاد ومعاش الناس، فأصبح 90% منهم يعاني من الفقر والفقر المدقع، فأصبح الشعب يتسول داخل البلاد وخارجها، مفضلين الموت غرقاً من البقاء في ذل الإنقاذ " .

 دكتور عبد الوهاب الأفندي، في لقاء مع صحيفة (الجريدة) بتاريخ ٢٨ يوليو ٢٠١٥، وفي إجابته عن سؤال المحرر كيف ترى النظام السياسي السوداني؟ أجاب: " لا يوجد في السودان نظام سياسي، لان من يتولون الامر فيه لا يريدون نظاماً ولا مؤسسات. هنالك تفريغ للمؤسسات من محتوها ، الحكومة تكتل انتهازيين ، والصحافة محاصرة من داخلها وخارجها ، هنالك نظام الانظام ، وهي وصفة جيدة للتدمير الذاتي " .

 الشيخ صادق عبد الله عبد الماجد، المراقب العام الأسبق للإخوان المسلمين بالسودان، صرح في لقاء تلفزيوني بالقول: "عايشت كل الحكومات منذ ١٩٥٥، وأشهد أن نظام الإنقاذ أفسد نظام في تاريخ السودان الحديث" .

 دكتور الطيب زين العابدين في مقاله بتاريخ ١٣ مارس ٢٠١١ كتب شهادة مهمة عن تجربة الإنقاذ، نقتطع منها أجزاء قال فيها: "لم يخطر ببالنا -طرفة عين- أننا عندما نحكم قبضتنا على مقاليد الدولة والمجتمع، سنضرب أسوأ مثل لحكم ديمقراطي أو عسكري شهده السودان علمانياً كان أم إسلامياً. فقد حدث في عهد الإنقاذ ما لم يحدث في غيرها من الكبائر: حارب أبناء الشمال لأول مرة مع حركة تمرد جنوبية يسارية كراهية في حكم الإنقاذ، وانقلبت الحرب ضد التمرد من حرب وطنية تحفظ وحدة السودان إلى حرب دينية جهادية ضد الكفار في الجنوب أدت إلى مقتل أكثر من عشرين ألفاً من شباب الإسلاميين". وكتب عن التمكين وفساد الدولة: "سعت الحكومة الإسلامية إلى تسيس الخدمة المدنية والقوات النظامية والقضاء والمؤسسات الأكاديمية تحت شعار التمكين، بصورة لم يسبق لها مثيل في تاريخ السودان الحديث، وبلغ الفساد المالي والأخلاقي مداه في ظل حكومة الإنقاذ بممارسات لم نسمع بها من قبل في العهود العسكرية السابقة" .

 والي “حاكم” ولاية القضارف الأسبق، كرم الله عباس، جاهر بالقول بعد تقديم استقالته: "الإنقاذ فاسدة، وإذا كنا في السابق نقول إن المعارضة يجب أن تغتسل سبع مرات، فإن الإنقاذ يجب أن تغتسل ثلاثين مرة من الفساد" .

 المهندس داؤود يحيى بولاد، الرئيس الأسبق لاتحاد طلاب جامعة الخرطوم ،أجاب عندما سأله الشهيد دكتور جون قرنق: لماذا تركت الحركة الإسلامية؟! قال بولاد بأسًى: "لأنني اكتشفت أن رابطة الدم أثقل عند الإسلاميين من رابطة الدين " .

 الرئيس المخلوع عمر البشير يعترف في مأدبة إفطار رمضاني عام ٢٠١٣ بمنزل التجاني السيسي الرئيس السابق للسلطة الانتقالية بدارفور: "لقد سفكنا دماء أهل دارفور لأتفه الأسباب، كيف قتلنا المسلمين ونحن عارفين أن هدم الكعبة أهون على الله من قتل امرئ مسلم، وبعد دا عاوزين الله يغفر لينا!! غايتوا أنا قدر ما فتشت ما وجدت أي كفارة للموضوع دا" .

 الشيخ أحمد عبد الرحمن ، احد القادة التاريخيين للحركة الإسلامية السودانية ، في اعترافاته الجريئة مع الصحفي مزمل عبد الغفار نشر بصحيفة الانتباهة “البشير كان مظلة للفساد، لا أتأسف على زوال الإنقاذ، النظام بنفسه قضى على نفسه بسياساته الخرقاء. وسُبة بالنسبة للإسلاميين أنهم تابعوا رجلاً واحداً. البداية تكمن في النقد الموضوعي لتجربة الحركة الإسلامية في الحكم" .

 الرئيس المخلوع عمر البشير، في اجتماع مجلس شورى الحركة الإسلامية، بالعيلفون بتاريخ ١٣ مايو ٢٠١٢، قال: "الحكم والسياسة أفسدا كثيراً من عضوية الحركة الإسلامية في السودان، على الرغم من أن مجيئهم كان لأجل القيم وتطبيق الشريعة الإسلامية" .
 دكتور مبارك علي طه الكوده معتمد الخرطوم الأسبق يعترف: "في مسيرتي الطويلة وأنا في حركة الإخوان المسلمين أعترف باني أخطأت في مفاهيم كثيرة منها مفهوم الجماعة في الإسلام، ومفهوم الإمارة، والطاعة لأولي الامر، وأخطأت كذلك في مفهوم الاعتراف بالآخر وإنسانيته وحقوقه، وهذه الأخطاء المفاهيمية شكلت تكويني العقلي مما جعلني أخطئ التقدير فيما هو ظني الدلالة فأخطأت التقدير عندما كنت مسئولاً في الدولة في الصرف علي المؤتمر الوطني من مال المواطن بحجة المصلحة العامة. وأخطأت التقدير بالصمت علي تمكين أهل الولاء في مفاصل الدولة علي الكفاءات من أبناء الشعب السوداني بحجة أن خير من استأجرت القوي الأمين وبحجة أن تأمين دولة الإسلام يقتضي ذلك. وأخطأت التقدير في الطاعة المطلقة لأولي الأمر لأنني تعلمت منهم: (على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره ما لم يؤمر بمعصية) مما جعلهم يزيدون طغيانا على طغيانهم ويستخفون بعقولنا وذواتنا ولا يزالون.  وأخطأت حتى في فهمي لآيات الله لأَنَّنِي كنت أسوقها سوقاً لما أعتقد" .

 بالرغم من كثرة انتقادات بعض الإسلاميين لنظامهم الذي أتوا به على ظهر الدبابات والخديعة، إلا أن هدف هذا المقال ليس حصرها، لذلك نختم بشهادتين لمفكر الحركة الإسلامية الأوحد، وعرَّاب انقلاب الإنقاذ، الدكتور حسن الترابي:
  الشهادة الأولى عند مخاطبته بتاريخ ٢٦ مارس ٢٠١٢ احتفال إقامة المؤتمر الشعبي، والتي صوب فيها الترابي انتقادات حادة للحكومة ودمغها بالإساءة البالغة لصورة الإسلام. وأبدى ندماً على إتيانه بالحاكمين. قائلاً: "السلطة أصابتهم بالفتنة"، منتقداً ما يجري في السودان تحت واجهة الدين والإسلام: "نكاد نشفق على سمعة السودان الذي أصبح من أبشع الصور في العالم، نعيش في حدود دنيا للعدالة، خربوا علينا سمعة الإسلام. ظنناهم دعاة ذات يوم، لكنهم أصبحوا أكثر من ينفر عن الإسلام. أقاموا فينا أفسد الدول وأكثرها سفكاً للدماء، وأكثرها تقطيعاً للأرض التي مكنهم الله فيها".
الشهادة الثانية لبرنامج (شاهد على العصر) على قناة (الجزيرة)، قال الترابي: "الفساد انتشر في مفاصل الدولة تحت سمعي وبصري وعجزي"، مؤكداً أن السلطة "فتنت أعضاء جماعته، وانساقوا خلفها لأنهم منذ البداية كانوا يجهلون أن السلطة يمكن أن تفتن من تربى وتزكى في حركة دينية عشرات السنين" .


III. ملاحظات علي شهادات الإسلاميين

 أن هذه الشهادات الموثقة لم تصدر من خصوم سياسيين للحركة الإسلامية ولم تقف وراءها دول الاستكبار والكنيسة العالمية أو الشيوعية الدولية. ولم تصدر كذلك من (طرف ثالث). بل، صدرت من قادة في الصف الأول والثاني للحركة الإسلامية، من إسلاميين تربوا في حضن الحركة الإسلامية منذ نعومة أظافرهم وحتى بلوغهم سن الشيوخ، لذلك يصعب دحضها، ورغم ذلك سيحاول البعض الانكار، لأن الكذب في سبيل التنظيم عندهم فريضة، والغاية تبرر الوسيلة، وصدق من قال إن السياسة بدون ضوابط أخلاقية وقانونية إجرام منظم.

 أن القاسم الأكبر بين هذه الشهادات هو الحديث عن الفساد والاعتراف به والعجز عن مقاومته، وهو أمر مثير للتفكير لجماعة تدَّعي الطهر والعفاف وتشدد على أن دستورها القرآن، وقدوتها محمد صلوات الله وسلامه عليه .

 أن الفساد ليس فساد أفراد فقط، بل فساد المؤسسات، الذي طال حتى المؤسسات المسؤولة عن "صياغة الفرد والجماعة وفق أسس الشريعة الإسلامية" – حسب زعمهم - . فوفقًا لتقارير المراجع العام لجمهورية السودان، فإنَّ المؤسسات ذات الطابع الديني كانت الأكثر فساداً، مثل: ديوان الزكاة، وهيئة الحج والعمرة. فيما أن هناك مؤسسات أخرى شبيهة لا تتم مراجعة حساباتها، مثل هيئة علماء السودان، وهيئة الذكر والذاكرين.

نواصل في الحلقات القادمة مناقشة المرتكزات الفكرية لمشروع الحركة الإسلامية مثل: الوطن ، الشعب والأمة، الشوري والديمقراطية، ودولة الشريعة، مقابل دولة المواطنة ، الآخر في فكر وممارسة الإسلاميين .

نشر في موقع مجلة افق جديد

https://nehorizon-s.net



abdelazizali@outlook.com  

مقالات مشابهة

  • نوازع السيطرة عند بريطانيا وإنكارها مسؤوليات ودور الحكومة السودانية
  • أطباء بلا حدود: تستأنف عملياتها في مستشفى بشائر جنوبي العاصمة السودانية
  • منها تأهل المنتخب لأمم أفريقيا.. 4 أحداث بيوم واحد تشعل المنصات السودانية
  • البرهان يوافق على مقترحات المبعوث الأميركي لحل الأزمة السودانية
  • لاعب السودان: أشكر السعودية التي وقفت معنا منذ بداية الأزمة .. فيديو
  • مجلس الأمن يستعد للتصويت على مشروع قرار لوقف إطلاق النار في السودان
  • الصحفية السودانية صباح أحمد: تنتقد غياب التضامن من النقابة والشبكة تجاه التهديدات التي تطالها
  • متى تنتهي الحرب في السودان؟.. الجيش يستعد للحسم
  • قراءة في الجذور الفكرية للحركة الإسلامية السودانية والحصاد المر
  • الإسلاميون والجيش واستراتيجية المليشيات: أدوات السيطرة التي تهدد مستقبل السودان