البوابة نيوز:
2024-07-01@05:51:09 GMT

تراثنا

تاريخ النشر: 8th, September 2023 GMT

تكتسب الأمم قيمتها وهويتها الحضارية بقدر ما تمتلكه من تراث مادى أو لا مادى. فإذا كانت الأمم تستطيع أن تصوغ حاضرها، أو ترسم مستقبلها، فإنه لا يمكنها أن تقوم بإنتاج تراث لم يسبق إنتاجه، عبر تعاقب الأجيال عليه. ولعل من أهم ما تتميز به مصر هو تراثها الزاخر والثرى الممتد منذ آلاف السنين. وإذا كان الواقع المصرى فى بعض الحقب التاريخية لم يكن فى أحسن أحواله، فقد كان فى التراث المصري، بأشكاله المتعددة والمتنوعة، الملاذ الآمن للمصرى ولغير المصري، للدرجة التى كنا نجد السائح الأجنبى يأتى ليهرب من حاضره إلى ماضى مصر وتاريخها.

 لا يقتصر هذا على التراث المصرى المادى فحسب، مثل الآثار أو ما شابهها، وإنما يمتد ليشمل التراث اللامادي، مثل المأثور الشعبى المتنوع بين الأغانى أو الحكايات أو السير أو الأمثال والنكت الشعبية، وغيرها.  

فعلى أحاديث جدتى وحواديتها كنا نستنشق عبق مصر وروحها وقيمها الأصيلة الفطرية. ومن خلال أغانى الطفولة وأهازيجها تعلمنا الحبو والمشي، ولعبنا بالشوارع ألعابنا الشعبية المصحوبة بالأغاني، والتى علمتنا على نحو فطرى ديناميات القيادة الشخصية. ومع أبطال السير الشعبية تعلمنا قيم البطل الشعبى المخلص، الذى تعلمنا منه معنى التضحية والانتصار لصالح قيم أمته أو وطنه أو شعبه، حتى لو جاء ذلك على حساب مصالحنا الشخصية الضيقة.

وبالقدر نفسه نستطيع تلمس ذلك مع سائر الأشكال الأدبية الشعبية، كالنكتة التى بقدر ما تعد متنفسًا اجتماعيًا، فإنها تمثل أحد أهم أشكال المقاومة الشعبية للظلم والفساد والاستعمار، والأمر نفسه مع الأمثال والتعابير الشعبية وغيرها. 

ولا يختلف الأمر كثيرًا مع كل أشكال المأثور الشعبى (الفولكلور) كالعادات والتقاليد والمعتقدات والمعارف والفنون الشعبية. ولا أدل على ذلك من أن الحرف اليدوية الشعبية- إحدى أشكال مأثوراتنا الشعبية- بقدر ما تمثل مصدر دخل، يعفى صاحبها ذل السؤال، فإنها تعد مصدر قوة، تجعل صاحبها قويًا قادرًا على مواجهة الشدائد، فنجد يديه قوية كالصخر بسبب ممارسة الحرف اليدوية، على حد قول الشاعر محمود درويش: "وكفى صلبة كالصخر.. تخمش من يلامسها".

والسؤال الذى يطرح نفسه: هل دعوتنا للاهتمام بالتراث تعنى دائمًا الدعوة إلى تقديس الماضي؟ فى الحقيقة، ينبغى أن يكون التراث هو النقطة التى نبدأ منها لنعرف ذاتنا وهويتنا، لنصوغ حاضرنا، ونخطط لمستقبلنا. إننا عندما ننظر إلى ما يتعلق بالماضي، فهو إما تراث أو موروث. وكلاهما يشير إلى ما يرثه اللاحق عن السابق، أو ما تركه السلف للخلف.

 ويكمن الاختلاف بينهما، فى ثبات التراث أو ديمومته واستمراريته. فثباته مع الزمن، وعدم قدرته على التغيير، أو عدم مواكبته لروح العصر، يجعل منه تراثًا، ساكنًا وثابتًا، تنحصر وظيفته فى مدى تاريخيته أو أدبيته أو تراكميته، على نحو ما نجد فى تراث الجاحظ أو التوحيدى أو ابن رشد أو ابن النفيس، وغيرهم. فى حين اكتساب التراث سمة الحركية والديمومة والاستمرارية، والقدرة على مجاوزة زمنه، يجعل منه موروثًا، يتحرك من الماضى إلى الحاضر إلى المستقبل، وهو ما يمكن أن نلمسه بوضوح فى شتى أشكال المأثورات الشعبية المصرية، والتى يأتى فى المقدمة منها الصناعات الثقافية. هذه الصناعات التى بقدر ما تنتمى إلى الماضي، فإنها تعيش فى الحاضر، من خلال أصحاب هذه المهن والحرف الشعبية، التى توارثوها عن أجدادهم، وتعلموها بالمحاكاة وليس فى المدرسة، واستفادوا من عنصر الزمن، فيما أصبغوه عليها من مستجدات، لمواكبة الجديد وروح العصر.

 وإذا كانت الصناعات الثقافية فى التجربة الصينية، ساهمت بدور كبير فى التغلب على أزمة الزيادة السكانية فى الصين، بأن جعلت كل مواطن صينى قادرًا على توظيف مهنته الشعبية، ليصبح مواطنًا منتجًا، وليس عالة على المجتمع أو البلد، مما ساهم فى وضع الصين فى مكانة دولية مرموقة، إذا كان الأمر كذلك  فإنه يمكن الإفادة منها فى تجربتنا المصرية، وهو ما التفتت إليه قيادتنا السياسية مؤخرًا، فى ظل محاولتها الدؤوبة للإفادة من كل مكتسبات الشعب المصري، والتى كان فى مقدمتها التراث، بشقيه المادى واللامادي. 

لقد وضعت القيادة السياسية المصرية أهمية الصناعات الثقافية نصب أعينها، فوجهت نحو الاهتمام بما نمتلكه من حرف يدوية، فأنشأت المدارس المهنية، وبما نمتلكه من تراث، مما نتج عنه فكرة معرض"تراثنا" السنوي، للحرف اليدوية والتراثية، والذى أصبح بمثابة عرس سنوي، يتم الاهتمام فيه بالحرفيين وأصحاب المهن التراثية، لرد الاعتبار إلى أصحاب هذه المهن من ناحية، وللإفادة من موهبة أصحابها بوصفهم مصدرًا مهمًا من مصادر الدخل القومي، إذا حسن الاستثمار من ناحية ثانية، ولتشجيع الأجيال الجديدة من أبنائهم على إحياء هذه الصناعات والتمسك بمواصلة الحفاظ على استمرار هذا الموروث عبر الأجيال القادمة. 

ولتدعيم ما سبق فيمكن الاسترشاد بتجربة  الفنانة السويسرية إيفلين بوريه، بقرية تونس بمحافظة الفيوم، حيث استقرت بالقرية لأكثر من ٥٠ عامًا وأسست أول مدرسة لتعليم وتصنيع الخزف والفخار فى المنطقة، معتمدة على فتيات هذه القرية، مما ساهم فى تحويل القرية لمقصد سياحى عالمى ومركز إقليمى لصناعة وتصدير الخزف والفخار، بعد أن كانت صناعة مهمشة، بل ساهم فى فتح آفاق جديدة ورحبة أمام القرية وأهلها.

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: التراث تاريخ الامم التراث المصري تراث ا

إقرأ أيضاً:

تراث اللغة العربية مخطوطاً

تناولنا فيما سبق الكتابة وأهمية الوراقة ومهمة الوراقين، أى الذين يديرون حركة النشر والتأليف فى الحقول المتنوعة فى تراث لغتنا العربية قديماً، والآن نتحدث عن المادة التى بين أيديهم، أو المؤلفات المتداولة لديهم، وهى فى شكل مخطوط يدوى فى صحائف يجمعها عنوان ما. وقبل أن يصل المخطوط للتداول يكون قد مضى فى مراحله التالية:
1- العرضة، والعراض، والعرض، والعارض، وهى مقابلة الكتاب بعد نسخه، أو كتابته على أصل موثوق به لإصلاحه، ويراجع المؤلف مراجعة نهائية لنسخ (جمع نسخة) تلاميذه. 
2- الإبرازة، وهى الصورة التى يبرز بها الكتاب، أى مثل الطبعة فى عصرنا، أو الإصدارة.
النسخة: بمعنى الإبرازة، أو الطبعة، أو العرض.
3- الشاهد: وهى كل واحدة من النسخ التى تعبر عن مرحلة من مراحل تنقّل النص وتغيّره.
وكما قدمنا نتيجة لانتشار الكتابة على الورق نشأت طبقة الوراقين، وأدوات الكتابة، ونجد فيضاً من أحاديث المراجع عن دكاكين الوراقين وأسواقهم الدائمة، وأماكن بيع الكتب، وكيف كانت الوراقة مهنة محترمة، وما يتصل بالمهنة من نسخ وخبرة، واشتهر بعض الوراقين بلقب دلال الكتب، ومن الأدباء المشهورين من كان له وراقة خاصة به. هكذا كان للجاحظ، وابن دريد، والمبرد وراقون، ومن الوراقين من كان أديباً، وإن وجد منهم غير الأمناء، وعندما عرف العرب صناعة الورق أو الكاغد، كما يدعى آنذاك، اتسع نطاق نشر الكتب والثقافة، وظهرت طبقة الوراقين، وتعددت أسواق تجارتهم ومتاجرهم فى الورق وما يتصل به من أدوات وتجليد، ونجد أخبارهم منتشرة منذ عصر الرشيد. يذكر ذلك السمعانى فى الأنساب ظهر الورقة 579، ويؤيده أحمد شلبى فى تاريخ التربية الإسلامية هامش 145، وإليهما نرجع، كما نرجع إلى عبدالستار الحلوجى فى فصل الوراقة والوراقون من كتابه المخطوط العربى ص 125، وما بعدها يذكر السمعانى الوراقة على أنها كتابة المصاحف، وكتب الحديث، وبيع الورق، وكان فى مكتبة الواقدى غلامان مملوكان له يكتبان، وكان أشهر كتابه محمد بن سعد، وبذلك لقب، وكان لحنين بن إسحق نساخ، كما كان للجاحظ وراق اسمه عبدالوهاب بن عيسى، وكان على بن هلال المعروف بابن البواب خطاطاً شهيراً، وعهد إليه بمكتبة بهاء الدولة ابن عضد الدولة، ولم يمنعه ذلك أن يعود نساخاً، إذا اقتضى الأمر ذلك، وكان يقلد الخطاط الشهير ابن مقلة، ونجد من هؤلاء النساخ الكثيرين فى مكتبة المدرسة المستنصرية، ومكتبة المؤرخ أبى الفدا، ومكتبة أمين الدولة أبى الحسن بن غزال، أحد وزراء الشام وأطبائها، وفى مكتبة دار الحكمة فى مصر، وفى دار يعقوب بن كلس، وكان للقاضى الفاضل عدد من النساخ، أما فى الأندلس فقد جمع الحكم فى داره الحذاق منهم، كذلك القاضى أبو المطرف.
وقد ارتبطت الوراقة بنشاط حركة الترجمة عن الفارسية واليونانية، ويقال إن أول الوراقين هو مالك بن دينار، كما يذكر ابن النديم، وكثر عدد الوراقين وتعددت أماكنهم، واقترنت بذلك عناية بالخطوط وفنونه، وإن شاب تلك الحرفة شىء مما نسب لبعضهم من اختلاق، وانتحال، على نحو ما فصل القول فيه الحلوجى فى حديثه عن الوراقة والوراقين ص 125، وما بعدها، وانظر قضية الانتحال فى كتاب فى الشعر الجاهلى، وفى طبعته الثانية المعدلة فى الأدب الجاهلى، وهما للدكتور طه حسين، وتعليق ناصر الدين الأسد فى كتابه مصادر الشعر الجاهلى، الباب الرابع، وغيرها.
وقد ملأت دكاكين الوراقين أحياء بغداد، والتقى فيها الأدباء، والعلماء، وانعقدت فيها حلقات المناظرة والمناقشة والمطالعة، وتخرج فيها أعلام الثقافة العربية، ومنهم الجاحظ الذى كان يكترى هذه الدكاكين لقراءة ما تحويه من كنوز المعرفة الإنسانية، ومن أشهر الوراقين العرب ابن النديم صاحب كتاب (الفهرست) الذى ألفه سنة 377هـ، وياقوت الحموى صاحب كتاب (معجم البلدان)، يذكر القلقشندى أنواع الورق فى عهده، ويصفها، ويرتبها ويذكر أنواعها، وتبعاً لذلك ساد الإملاء طوال القرنين الثالث والرابع الهجريين، وازدادت حركة التأليف ونشطت حركة الورق فى بغداد، ونشطت طبقة الوراقين ودكاكينهم للبيع والقراءة معا، وبلغتْ أوجها فى العصر العباسى. ومن هنا كانت....
صناعة الكتاب وصناعة تأليفه
أفاض القدماء فى الحديث عن جوانب صناعة الكتاب إفاضة غير مسبوقة. وفى الجزء الخامس من صبح الأعشى فى صناعة الإنشا للقلقشندى الذى طبع طبعات عديدة منذ طبعة بولاق 1323هـ، فدار الكتب 1338/1920، فالأميرية بمصر فى 14 جزءا، ففهارسه، فمصطلحات صبح الأعشى، وفيه نجد تفصيلاً للألقاب بعامة، وحديثاً عن ألقاب الكتاب: كتاب الإنشاء، وكتاب الأموال، ومنها ما سبق حديثه عنهم فى المقدمة، وهم: كاتب السر، وهو صاحب ديوان الإنشاء، وكاتب الدست، وهو الذى يجلس مع كاتب السر، ويوقع على القصص، وكاتب الدرح، أى الذى يكتب المكاتبات والولايات ويعبر عنه بالموقع.أما أرباب الوظائف من كتاب الأموال، فمنهم: الوزير، والناظر، وصاحب الديوان، والشاهد، والمستوفى، والعامل، والماسح، والمعين.. إلخ. كما يتحدث عن صيغ المكاتبات المتبعة: 1- من فلان إلى فلان. 2- العلامة فى المكاتبات: أخو فلان، وشاكره فلان، وفلان خط. أما اسم المكتوب له فهما: 1- ابتداء المكاتبات.
2- العنوان من الأدنى إلى الأعلى. كما يذكر ألقاب المكاتبات مثل:
الجانب- المقام بفتح الميم- المقر بفتح الميم والقاف- الجناب- المجلس - مجلس (مضافاً)- المضاف إليه- الحضرة- الديوان- الباسط- الباسطة- اليد- الستارة- الجهة- الباب- المخيّم.
عضو المجمع العلمى المصرى، وأستاذ النقد الأدبى الحديث

 

مقالات مشابهة

  • إطلاق مسابقة حسن عطية للنصوص المسرحية فى دورتها التاسعة
  • الليلة.. روائع تراث الطرب بمعهد الموسيقى العربية
  • اطلاق مسابقة حسن عطية للنصوص المسرحية فى دورتها التاسعة
  • «بازار البلد»..تراث سعودي عريق
  • خبيرة: المناظرة بين بايدن وترامب كانت شكل من أشكال الكوميديا السوداء
  • «الجناح الإماراتي».. أيقونة تراثية بـ«موسم طانطان الثقافي 2024»
  • هزة أرضية بقدر (3.6) درجات على مقياس ريختر شرق الشنان
  • تراث اللغة العربية مخطوطاً
  • الصين: التوتر في البحر الأحمر أحد أشكال امتداد الصراع في غزة
  • سويلم: مصر ستستمر في تقديم كافة أشكال الدعم لجنوب السودان