تكتسب الأمم قيمتها وهويتها الحضارية بقدر ما تمتلكه من تراث مادى أو لا مادى. فإذا كانت الأمم تستطيع أن تصوغ حاضرها، أو ترسم مستقبلها، فإنه لا يمكنها أن تقوم بإنتاج تراث لم يسبق إنتاجه، عبر تعاقب الأجيال عليه. ولعل من أهم ما تتميز به مصر هو تراثها الزاخر والثرى الممتد منذ آلاف السنين. وإذا كان الواقع المصرى فى بعض الحقب التاريخية لم يكن فى أحسن أحواله، فقد كان فى التراث المصري، بأشكاله المتعددة والمتنوعة، الملاذ الآمن للمصرى ولغير المصري، للدرجة التى كنا نجد السائح الأجنبى يأتى ليهرب من حاضره إلى ماضى مصر وتاريخها.
لا يقتصر هذا على التراث المصرى المادى فحسب، مثل الآثار أو ما شابهها، وإنما يمتد ليشمل التراث اللامادي، مثل المأثور الشعبى المتنوع بين الأغانى أو الحكايات أو السير أو الأمثال والنكت الشعبية، وغيرها.
فعلى أحاديث جدتى وحواديتها كنا نستنشق عبق مصر وروحها وقيمها الأصيلة الفطرية. ومن خلال أغانى الطفولة وأهازيجها تعلمنا الحبو والمشي، ولعبنا بالشوارع ألعابنا الشعبية المصحوبة بالأغاني، والتى علمتنا على نحو فطرى ديناميات القيادة الشخصية. ومع أبطال السير الشعبية تعلمنا قيم البطل الشعبى المخلص، الذى تعلمنا منه معنى التضحية والانتصار لصالح قيم أمته أو وطنه أو شعبه، حتى لو جاء ذلك على حساب مصالحنا الشخصية الضيقة.
وبالقدر نفسه نستطيع تلمس ذلك مع سائر الأشكال الأدبية الشعبية، كالنكتة التى بقدر ما تعد متنفسًا اجتماعيًا، فإنها تمثل أحد أهم أشكال المقاومة الشعبية للظلم والفساد والاستعمار، والأمر نفسه مع الأمثال والتعابير الشعبية وغيرها.
ولا يختلف الأمر كثيرًا مع كل أشكال المأثور الشعبى (الفولكلور) كالعادات والتقاليد والمعتقدات والمعارف والفنون الشعبية. ولا أدل على ذلك من أن الحرف اليدوية الشعبية- إحدى أشكال مأثوراتنا الشعبية- بقدر ما تمثل مصدر دخل، يعفى صاحبها ذل السؤال، فإنها تعد مصدر قوة، تجعل صاحبها قويًا قادرًا على مواجهة الشدائد، فنجد يديه قوية كالصخر بسبب ممارسة الحرف اليدوية، على حد قول الشاعر محمود درويش: "وكفى صلبة كالصخر.. تخمش من يلامسها".
والسؤال الذى يطرح نفسه: هل دعوتنا للاهتمام بالتراث تعنى دائمًا الدعوة إلى تقديس الماضي؟ فى الحقيقة، ينبغى أن يكون التراث هو النقطة التى نبدأ منها لنعرف ذاتنا وهويتنا، لنصوغ حاضرنا، ونخطط لمستقبلنا. إننا عندما ننظر إلى ما يتعلق بالماضي، فهو إما تراث أو موروث. وكلاهما يشير إلى ما يرثه اللاحق عن السابق، أو ما تركه السلف للخلف.
ويكمن الاختلاف بينهما، فى ثبات التراث أو ديمومته واستمراريته. فثباته مع الزمن، وعدم قدرته على التغيير، أو عدم مواكبته لروح العصر، يجعل منه تراثًا، ساكنًا وثابتًا، تنحصر وظيفته فى مدى تاريخيته أو أدبيته أو تراكميته، على نحو ما نجد فى تراث الجاحظ أو التوحيدى أو ابن رشد أو ابن النفيس، وغيرهم. فى حين اكتساب التراث سمة الحركية والديمومة والاستمرارية، والقدرة على مجاوزة زمنه، يجعل منه موروثًا، يتحرك من الماضى إلى الحاضر إلى المستقبل، وهو ما يمكن أن نلمسه بوضوح فى شتى أشكال المأثورات الشعبية المصرية، والتى يأتى فى المقدمة منها الصناعات الثقافية. هذه الصناعات التى بقدر ما تنتمى إلى الماضي، فإنها تعيش فى الحاضر، من خلال أصحاب هذه المهن والحرف الشعبية، التى توارثوها عن أجدادهم، وتعلموها بالمحاكاة وليس فى المدرسة، واستفادوا من عنصر الزمن، فيما أصبغوه عليها من مستجدات، لمواكبة الجديد وروح العصر.
وإذا كانت الصناعات الثقافية فى التجربة الصينية، ساهمت بدور كبير فى التغلب على أزمة الزيادة السكانية فى الصين، بأن جعلت كل مواطن صينى قادرًا على توظيف مهنته الشعبية، ليصبح مواطنًا منتجًا، وليس عالة على المجتمع أو البلد، مما ساهم فى وضع الصين فى مكانة دولية مرموقة، إذا كان الأمر كذلك فإنه يمكن الإفادة منها فى تجربتنا المصرية، وهو ما التفتت إليه قيادتنا السياسية مؤخرًا، فى ظل محاولتها الدؤوبة للإفادة من كل مكتسبات الشعب المصري، والتى كان فى مقدمتها التراث، بشقيه المادى واللامادي.
لقد وضعت القيادة السياسية المصرية أهمية الصناعات الثقافية نصب أعينها، فوجهت نحو الاهتمام بما نمتلكه من حرف يدوية، فأنشأت المدارس المهنية، وبما نمتلكه من تراث، مما نتج عنه فكرة معرض"تراثنا" السنوي، للحرف اليدوية والتراثية، والذى أصبح بمثابة عرس سنوي، يتم الاهتمام فيه بالحرفيين وأصحاب المهن التراثية، لرد الاعتبار إلى أصحاب هذه المهن من ناحية، وللإفادة من موهبة أصحابها بوصفهم مصدرًا مهمًا من مصادر الدخل القومي، إذا حسن الاستثمار من ناحية ثانية، ولتشجيع الأجيال الجديدة من أبنائهم على إحياء هذه الصناعات والتمسك بمواصلة الحفاظ على استمرار هذا الموروث عبر الأجيال القادمة.
ولتدعيم ما سبق فيمكن الاسترشاد بتجربة الفنانة السويسرية إيفلين بوريه، بقرية تونس بمحافظة الفيوم، حيث استقرت بالقرية لأكثر من ٥٠ عامًا وأسست أول مدرسة لتعليم وتصنيع الخزف والفخار فى المنطقة، معتمدة على فتيات هذه القرية، مما ساهم فى تحويل القرية لمقصد سياحى عالمى ومركز إقليمى لصناعة وتصدير الخزف والفخار، بعد أن كانت صناعة مهمشة، بل ساهم فى فتح آفاق جديدة ورحبة أمام القرية وأهلها.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: التراث تاريخ الامم التراث المصري تراث ا
إقرأ أيضاً:
أستاذ بجامعة الأزهر: العنصرية من أشكال النفوذ الاستعماري
قال الدكتور عادل رضوان، رئيس قسم الخدمة الاجتماعية بجامعة الأزهر، إن العنصرية ليست سلوكًا فطريًا، فالإنسان لا يولد عنصريًا، بل هي سلوك مكتسب يتأثر بالبيئة الاجتماعية التي ينشأ فيها الفرد، واعتمدت نظرية العنصرية على تقسيم البشر وفقًا لنوعهم، ومكانتهم أو لونهم أو جنسهم، مع استغلالهم لمصالح شخصية أو طمعًا في ثرواتهم واستغلال طاقاتهم.
وأشار إلى أن العنصرية أشكال النفوذ الاستعماري، حيث كانت تظهر باستغلال البسطاء والاستفادة من مواردهم، إلى استعمار فكري يمكّن القوى الاستعمارية من السيطرة على مجتمعات بأكملها والتحكم في عاداتهم وسلوكياتهم عن بُعد، وأثرت العنصرية على مختلف جوانب المجتمع، مما أدى إلى ظهور تصنيفات وتمييز على أساس العمل، أو النوع، أو المكانة، مما تسبب في نشوب نزاعات دولية وأخرى داخل المجتمعات، وحتى داخل الأسرة الواحدة، لنرى التمييز دخل بين أفرادها، وكذلك إلى انقسام القبائل والمناطق المحلية وقد طال التمييز حتى الديانات، مما أدى إلى ظهور طوائف ومذاهب مختلفة.
وأوضح أنه للتصدي لهذه الظاهرة، يجب عدم الانسياق وراء المصطلحات الحديثة والمفردات التي تُطبق بشكل عشوائي دون فهم واضح وغير مدروس، حيث تبدو في ظاهرها مفيدة لكنها قد تحمل مضمونات تتعارض مع المبادئ والتقاليد التي أوصانا بها ديننا الحنيف، مؤكدا على أهمية التكامل بين الوعي الاجتماعي والتربوي من خلال التعاون بين المدرسة والأسرة والدعاة ووسائل الإعلام، لأن غياب هذا التكامل يسبب تشتتًا في فهم الإنسان لما يؤمن به وما يتبناه من أفكار.
وشدد على ضرورة تضافر جهود الأسرة مع المؤسسات التربوية من خلال الندوات التثقيفية وتحديث المناهج الدراسية، ليتم بناء الوعي نحو نبذ العنصرية، مضيفا: " من الضروري الرجوع إلى تعاليم الدين الإسلامي الذي يرفض العنصرية ويخاطب الإنسان كإنسان دون تمييز، نظرًا لشموليته وتكامله، ففي معظم أياته خاطب جنس البشر ولم يوجه الخطاب للمسلمين وحدهم".