بين الصحة والسكان يكثر الكلام
تاريخ النشر: 8th, September 2023 GMT
يٌقاس نضوج الدولة بقدرتها على تحديد التحديات والأولويات الراهنة وربما وضع الآليات المناسبة للخروج منها وتطبيق استراتيجيات بعينها، ولكن الدولة تتميّز بحنكتها وتفوقها على ذاتها عندما تنظر إلى التاريخ والى المشاكل التي حدثت في الماضي وفى أزمنة مختلفة لتتعلم منها، بنظرة ثاقبة تحدد الأسباب والنتائج والدروس المستفادة من الأزمة الماضية، وهذا ما شرحه السيد الرئيس بكلمات بسيطة في افتتاح المؤتمر الطبي العالمي الأول للسكان والصحة والتنمية في توصيف أزمة ٢٠١١، عندما عبر عن متطلبات شعب حينذاك أراد أن يحيا حياة كريمة وعادلة ولكن الدولة كانت غير قادرة على تلبية تلك المطالب، واتخذ منها درسًا ومثلا توضيحيًا عن أثر الزيادة السكانية في غل يد الدولة عن تقديم خدمات صحية وتعليمية جيدة لشعبها نتيجة تلك الكثبان الرملية التي تبتلع كل آثار التنمية، علمًا بأن الدولة دائمًا تحرص على الاستثمار في الخصائص السكانية وهذا هو ما تبرهن عليه الدولة المصرية بشكل مستمر منذ إطلاق كثير من المبادرات الرئاسية الصحية، والاستراتيجيات التنموية للأسرة المصرية، وصولًا لتنظيم المؤتمر العالمي الطبي الأول وهو مؤتمر متميز جدًا، حيث يعرض مقاربات بين الديموغرافية السكانية بين دول مختلفة.
وهو ما شاهدناه في عرض التجربة المصرية التي تعانى من زيادة المواليد بشكل أكبر من عدد الوفيات مما يضع تحديات أمام القطاع الصحي والتعليمي ويجبر الدولة على توفير عدد أكبر من المستشفيات والفصول المدرسية، على العكس في صربيا التي تعانى من انخفاض المواليد ويبلغ متوسط الأعمار لشعبها حوالي ٤٤ عامًا وهو تحدٍ أيضًا ولكن من نوع أخر، فمثل تلك الدول تعانى من الشيخوخة المبكرة للشعب، بانخفاض الخصوبة والمواليد وعدد الشباب يصبح الشعب أغلبه في أحد العقود من المتقدمين في العمر الذين يعانون بعض أمراض الشيخوخة دون تنوع في الفئات العمرية التي تستطيع بناء الدولة وربما يضع تحديًا آخر أمام جهات التضامن الاجتماعي من الناحية المالية وأمام فرص التنمية وبناء المشروعات القومية.
تلك المقاربات المتضادة والمختلفة كليًا توضح لنا الديمغرافية الصحيحة التي يجب أن يكون عليها المجتمع وأن يكون هناك توازن بين كل الفئات العمرية فلا تضغط فئة على قطاع دون آخر وأن يكون هناك توازن بين نسب الوفيات والمواليد.
وقد تكون التجربة الصينية هي الأقرب للواقع، والتي لم تترك الحرية المطلقة للانفجار السكاني ثم عندما بلغت الهدف المنشود وأصبح عدد المواليد منخفضًا، أزالت كل المعوقات أمام الإنجاب ولكن الصين استغلت كل يد عاملة وأدمجتها في العملية الإنتاجية.
إن مشكلة الانفجار السكاني مشكلة مزمنة تعانى منها الدولة المصرية منذ أكثر من خمسة عقود والمتواليات الهندسية هي كابوسها الأول وهي مجرد أعداد ستنفجر حتمًا ما لم يكن هناك وعي وتفهم من المواطن المصري واستعداده لتفهم حجم ذلك التحدي الذي تحكمه الحسابات ولازالت الدولة المصرية تراهن على تعاون المواطن قبل أن تلجأ لقوانين مقيدة وملزمة.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: تعانى من
إقرأ أيضاً:
البطولة الأخيرة في غزة وتهافت الكلام
كل يوم يمر على غزة، تزيد فظاعته عن الذي سبقه، وكل يوم فلسطيني يمر على الضفة والقدس يكشف عن انتزاع جزء من أرضها وتهويده وسلبه ونسفه، وكل يوم عربي يمر على عواصم العرب يكشف عن انتزاع المروءة والوفاء والأخلاق. بدون مكابرة وإنكار، مسؤولية استمرار الإبادة الفلسطينية هي مسؤولية عربية أولا، فكل ما هو محظور قد وقع بالفعل دون تداعيات ومخاطر يمكن أن يحاجج فيها منطق السياسة العربية المنطق الأمريكي والغربي الداعم لإسرائيل فعلا وقولا، وليس هناك مجال للشك في أن الحالة الفلسطينية الرسمية مساهمة بهذا المنطق العربي الذي يقدم تفسيره للواقع بالعقدة "الحمساوية"، وهي عقدة خطيرة أصلا فسرها عتاة الصهيونية من نتنياهو وسموتريتش وبن غفير وعميحاي وكاتس وكل أقطاب فاشية إسرائيل، من خلال الدعوة لإبادة كل الفلسطينيين وعدم قبول أي فصيل وسلطة أو كيان فلسطيني يؤدي لقيام دولة فلسطينية.
فجرائم الإبادة الجماعية المستمرة في غزة، لم تعد تُحدث مفاجأة للمجتمع الدولي، ولا لعالم عربي مدهش وغريب في صمته ومواقفه من جرائم الإبادة في غزة ومن الإرهاب الاسرائيلي، مواقف منحت صك الاعتراف باستمرارها، ومضاعفتها والإيغال بقسوتها، وجعلت من الاحتلال يبتلع كل شيء، فغداة قمة الرئيس ماكرون مع زعماء مصر والأردن، وبعد منتدى أنطاليا الدبلوماسي، وقرارات ثلاث قمم عربية، أكملت إسرائيل حصار مدينة رفح وعزلها عن بقية مناطق غزة، واستحدثت محور "موراغ" بين رفح وخان يونس بعد احتلال محور فيلادلفيا، وكررت الجريمة في المستشفى المعمداني للمرة الثالثة بقصفه مباشرة، وتعمل على تقطيع أوصال مدن شمال وجنوب غزة، من خلال تكثيف المذابح اليومية وقصف خيام النازحين، والدفع أكثر لحصار السكان وصولا للتهجير. وهنا، نذكر بما قاله نتنياهو سابقا لإدارة جو بايدن وللمجتمع الدولي: "الكل حذرنا بعدم دخول رفح ودخلناها ولم يحدث شيء، وحذرونا من الدخول لمستشفى الشفاء ودخلناه".
ونتنياهو أحد زعماء إسرائيل الذين أتقنوا مثل أسلافهم صناعة الإرهاب وارتكاب المذابح، وهو يذكرنا من حيث النتائج الخطيرة التي ترتبت على مشاريعه الإجرامية في غزة بالشراكة مع أقطاب حكومته الفاشية، وأن تدعيم خططه الفاشية لتكريس الإبادة الجماعية في غزة، والفصل العنصري في الضفة والقدس، يمكن تحقيقها في العصر الحديث، لذلك لم يواجه حرجا في كل ما أقدم عليه للآن، على العكس، يتجرأ أقطاب حكومته بطروحات لخلق إسرائيل الكبرى تحت حماية القنابل والبوارج الأمريكية.
لذلك، لم يحدث شيء له فاعلية لوقف جرائم الإبادة، أو وقف خطة تهجير السكان التي أصبحت خطة أمريكية إسرائيلية أو بالعكس، ولا تقابل بفرض إرادة دولية لمنع هذه الجرائم، أو بمناعة عربية إذا شئنا ضد هذه الخطط. يُقتل فلسطينو غزة يوميا بالمئات، يبتلعون لغة الخذلان والاستسلام التي تُرمى فوق جثث الضحايا، وفوق أجسادهم التي أكلتها الأمراض والجوع، وإثر كل مذبحة وجريمة إبادة في غزة، يبقى مستنقع اللغة ساكنا في منطق تبرير ما لا يُبرر، ورهان على وقت إنجاز إسرائيل للجريمة الكبرى، وللحديث عن مستقبل المنطقة دون أهلها.
فمنطق تسوية المنطقة العربية بدءا من جرف غزة من سكانها وبنيانها، هو منطق الاعتراف بالإبادة الجماعية بمبررات صهيونية أمريكية، في ظل كل أشكال التهافت الكلامي عن رفض التهجير، دون وقف جرائم الإبادة الجماعية، والحديث عن ضرورات تحقيق السلام في المنطقة، أو إقرار حل "الدولتين"، والطرف المعني بالاعتراف بالفلسطينيين وحقهم يقوم بسحقهم لتحويلهم إلى أصفار غير مرئية، وهم ينتظرون منطق الضغط الدولي على إسرائيل، وينتظرون مواقف عربية ضاغطة على مصالح الاحتلال في بلدان التطبيع، أو أن تتحرك مشاعر الغضب العربي في عواصم العرب دعما لبقائهم ورفضا للتطبيع مع المجرم، لا التغنّي ببطولتهم.
المسألة تجاوزت كل منطق، وكل عذرٍ عن أسرى الاحتلال في غزة، المسألة تتعلق بوحشية الاحتلال وطابعه العنصري، وبمعركة الشعب الفلسطيني ضد مشروع استعماري ينفي حقه الأزلي بالوجود فوق أرض فلسطين، وهذا الشكل الجديد البالغ القدم من الإبادة الجماعية منذ النكبة الفلسطينية، هو الوجه الآخر للمنطق الاستعماري المدعوم إمبرياليا والذي يدغدغ رغبات ترامب الفاشية التي يجسدها نتنياهو في غزة.
فإذا كانت العقلية الداعمة بشكل أعمى لفاشية إسرائيل، هي التي ترعى التفاوض على مستقبل غزة وشعب فلسطين، مبنية وفق المنطق الترامبي لإحلال التطبيع في المنطقة، على حساب وجود الفلسطينيين، وبمعرفة عربية مبنية على قبول ضمني لها، قبول ضمني بالشراكة مع احتلال مهيمن بالقوة ومتغطرس بشراكة المال العربي مع القوة الإسرائيلية، وأنها هي من ستحول المنطقة لجنّةٍ ينعم فيها الجميع، فإن هذه العبقرية الصهيونية جُربت في مراكمة جثث ضحايا النكبة والإبادة الجماعية في غزة، وطحنت حواضر الغزيين وسحقت كلام وشعارات العرب. فالذي يجري من صمتٍ مطبق على جرائم الإبادة في غزة والتعاطي معها بجملة من الأخطاء الفظيعة، ليس من قبيل المصادفة التاريخية لمن لم يقرأ أدبيات المشروع الصهيوني الذي يعد العدة لهذه الإبادة الجماعية.
فأول الأخطاء العربية وأبرزها، يكمن في مفهوم قراءة مقاومة الشعب الفلسطيني لمستعمره، ومفهوم قراءة جوهر المشروع الصهيوني، والتخلي الرسمي عن نقاط القوة، التي يمكن أن تحمي ظواهر وبواطن الأمن العربي المشترك، ستجلب نوعا من الاستسلام، لا السلام، ومواقف الذل من جرائم الإبادة لاسترضاء الأمريكي والإسرائيلي، ستبقى سببا رئيسيا في استمرارها وتوسعها في أكثر من جبهة عربية. وهي نفس الذرائع والحجج التي يتفهمها البعض ويهلل لها، حتى أصبحت عند العقل الباطني لبعض النخب العربية تبريرا للعدوان الإسرائيلي.
لهذا كله من الأخطاء والكوارث، يجري الإعداد الإسرائيلي والأمريكي لاستثمار هذا الخذلان، بتشديد الخناق على الشعب الفلسطيني قتلا وتهجيرا وسحقا، وأن هذا الترتيب الجديد لأوضاع غزة والضفة والقدس، إن تم وفق المنظور الإسرائيلي الأمريكي، لن يؤدي لا لقيام دولة فلسطينية، ولا لسلامٍ جَرّب أوهامه الفلسطينيون والعرب، إنما سيؤدي لضم كل الأراضي الفلسطينية، وإعادة احتلال غزة وإعادة إحياء مشروع وأحلام صهيونية في سيناء وجنوب لبنان وسوريا، ولأن البطولة الأخيرة في غزة وناسها المكلومين يتلقون تهافت الكلام، تنازع غزة من ينقذها من راية الاستسلام، وتتأمل أن ينهض من يحزم أمره ليتصدى لإبادتها، حتى لا تكون عبودية المنطقة كلها للصهيوني.
x.com/nizar_sahli