"لا تَشْكُ للناس جُرحا أنت صاحبه

لا يؤلم الجرحُ إلا مَن به ألم

شكواك للناس يا ابن الناس منقصة

ومَن مِن الناس صاحٍ ما به سقم"

قبل أيام قليلة، في الأول من سبتمبر/ أيلول 2023، رحل عن دنيانا الشاعر الغنائي البارز "كريم عودة"، المعروف في الأوساط الأدبية باسم "كريم العراقي"، عن عمر ناهز 68 عاما، في أحد مستشفيات العاصمة الإماراتية أبو ظبي، بعد معاناة مع مرض السرطان استمرت نحو 3 أعوام.

والشاعر الذي تميزت قصائده بالبساطة والعمق في آن واحد، من مواليد عام 1955 في محلة الشاكرية منطقة كرادة مريم، درس في معهد دار المعلمين في بغداد، ثم حصل على دبلوم في الموسيقى وعلم نفس الطفل.

عمل كريم في حقل التدريس والإشراف الفني في وزارة التربية والتعليم العراقية، قبل أن يتفرغ لكتابة الأوبريت والمسرح المدرسي. بدأ العراقي مسيرته بكتابة أغاني الأطفال، التي اشتهرت من خلال برامج الأطفال في إذاعة وتلفزيون العراق، كما تضمنت المناهج الدراسية في مرحلة التعليم الأساسي العديد من أشعاره، مثل قصائد "أقول شكرا" و"سالم يا عراق" و"أختي الصغيرة"، كما أن قصيدته "سيدة الصبر" تُرجمت إلى اللغة الدانماركية، وأصبحت ضمن المنهج الدراسي الجامعي في كوبنهاجن.

شغل العراقي عدة عضويات أدبية، منها: عضوية اتحاد الكتاب والأدباء العراقيين، واتحاد الكتاب والأدباء الإماراتيين، كذلك حاز عضوية اتحاد الكتّاب في السويد، وجمعية مؤلفي وناشري الموسيقى العالمية في باريس. كما حاز العديد من الجوائز على المستويين العربي والعالمي، منها جائزة الأمير عبد الله الفيصل العالمية للشعر العربي عام 2019، وجائزة اليونيسيف عن قصيدة "تذكر" التي لحنها وغناها المطرب العراقي كاظم الساهر، وجاء في بيان الجائزة أن القصيدة خطاب إنساني يترجم عذابات أطفال العراق.

"واحنا نغني في كل مكان أغاني الشعب وثواره

وأصغر طفلة في فلسطين شالت في الكف حجارة

فجرك يا أما يا فلسطين

لاحت أنواره للعين"

(أغنية العمّارة – كلمات الراحل كريم العراقي، وغناء محمد منير)

مؤلفات كريم غزيرة ومتنوعة، فقد مارس جميع الألوان الأدبية، ولم يقتصر على فن القصيدة فقط. وقد بدأها بديوان شعري بعنوان "المطر وأم الضفيرة"، صدر عام 1974 في بغداد، تلاه 12 ديوانا شعريّا، بالإضافة إلى ألبومات صوتية تحتوي قصائد بصوته، هي: المحكمة، هنا بغداد، كثر الحديث، يا ابن آدم، يا شاغل الفتيات، نخلة جدي، الطباخ المرح، حروف المعرفة، الغواص واللؤلؤ، أطفال يتحدون الإعاقة، وفدى عينيك، الأمومة وبستان جدي. أما في المسرح، فقد كتب العراقي 4 مسرحيات، منها 3 مسرحيات عُرضت في العراق، وهي: يا حوته يا منحوتة، عيد وعرس، يقظة حواس، ومسرحية قوس المطر التي عُرضت في دولة الإمارات العربية المتحدة. وفي مجال الغناء، ألّف العراقي أكثر من 500 قصيدة وأغنية، بينما في مجال السرد، نجد رواية الشاكرية الصادرة في بغداد، والتي تأتي على لسان الطفل أمين، ويتذكر عبرها طفولته في منطقة الشاكرية إبان حكم عبد الكريم قاسم خلال ستينيات القرن الماضي.

انخرط العراقي أيضا في مجال السيناريو والحوار، وكتب أفلام "افترض نفسك سعيدا" و"مخطوبة بنجاح ساحق" وفيلم الأطفال "الخياط المرح" وفيلم "شباب شياب" من إخراج ياسر الياسري، فيما نال جائزة دائرة السينما والمسرح عام 1990، مناصفة مع قاسم الملاك، عن سيناريو فيلم "عريس ولكن"، وأحداثه تدور حول يوميات قارئ مقياس كهرباء يعمل في أحد أحياء بغداد.

سنوات النشأة والطفولة

في حواره مع الكاتب "وداد يوسف"، حكى العراقي عن ميوله الأدبية في فترة طفولته، حيث راودته الرغبة في كتابة كلمات الإعلانات التلفزيونية، وأن يضمّن مفرداتها بمفردات من أدواته المدرسية، مثل المبراة والممحاة والقلم، وأتت أولى قصائده مثل ترنيمة بسيطة، على حد وصفه، إذ بدأ في ترديدها ضابطا الإيقاع عبر النقر فوق حقيبته المدرسية، بينما يردد أصدقاؤه ذلك اللحن معه.

يضيف العراقي: "وأنا دون العاشرة بدأت القراءة والعمل بأحد المقاهي في العطل المدرسية، مصغيا للأغاني التي كان يصدح بها المذياع لإمتاع روادها، وسرعان ما كنت أحفظها وأرددها، وبدأ الزبائن يطالبونني بغناء الأغنية الشعبية، ممارسة صقلت لدي مهارة ضبط الإيقاع والوزن للألحان"(1).

الشاعر الغنائي البارز "كريم عودة"، المعروف في الأوساط الأدبية باسم "كريم العراقي". (الجزيرة)

كان كريم شغوفا بالقراءة منذ صغره وعلى الدوام استهلكت الكتب والمجلات نقود الصغير، بينما لم يكن يحفل بالملاحظات السلبية التي يوجهها إليه الأقارب بخصوص تعلقه الزائد بالكتب، وهو يذكر على وجه التحديد عناوين من التراث الشعبي الذي سوف يصبح بؤرة اهتمامه فيما بعد، مثل ألف ليلة وليلة وسيرة الزير سالم، حيث كان يرويها لأصدقائه بأسلوبه بعدما يفرغ من قراءتها، ما أنمى لديه أسلوبا وقدرة على إعادة صياغة الأفكار والأحداث.

رافد آخر يراه العراقي سببا لتعلقه بالتراث الشعبي، وهو حكايات جده لأمه الذي كان يعمل حارس بستان، حيث حكى عن أمسيات طفولته، وكيف كان يرقد بين الأشجار في الليل خلال زياراته لجده، جوارهما الكوخ وأمامهما موقد الجمر، فيما يخترق أنفه شذى نباتات عطرية ومن حولهما طنين الحشرات، والجدّ يمضي الليل في قصّ الحكايات الخرافية والشعبية التي يستمع إليها الصبي بشغف، قبل أن يعيد روايتها على أصدقائه أو يضيف إليها من مخيلته في أحيان.

ويدين العراقي بالفضل إلى أستاذه "حسن الشرع"، الذي خصص له 10 دقائق أسبوعيّا في درس المطالعة، كي يقرأ الجديد من أشعاره على زملائه، وهي اللفتة التي أكسبته الثقة بالنفس وزادته جرأة على التعاطي مع الشعر، وتجاوز من خلالها الخجل الذي كان يتملكه على حد تعبيره. مثلما نصحه الأستاذ بالتركيز على فن الشعر، إلا أن العراقي لم يتمكن من الالتزام بنصيحة أستاذه، وظل متنقلا بين ألوان الفن، من شعر شعبي وأغنية إلى أوبريت ومسرحية وفيلم ومقال.

وسرعان ما لفتت موهبته الأنظار، حيث غنت المطربة العراقية "مي أكرم" أولى أغنياته، وهي "يا شميسة"، من تلحين خزعل مهدي، وكان يبلغ من العمر 15 عاما فقط. ورغم كونها أغنية أطفال بالأساس، فإنها حظيت بإعجاب الكبار كذلك، ومثّلت نقطة انطلاق لشاعر واعد، إذ تغنى بكلماته بعد ذلك المطرب الكبير "سعدون جابر"، في أغنيات "هلا بيك" و"أمي يا أم الوفا" من ألحان الفنان الكبير "عباس جميل"، مثلما غنى له المطرب "صلاح عبد الغفور" في أغنية "خسرتك حبيبي".

رفيق الرحلة.. كاظم الساهر

خلال سنوات الخدمة العسكرية في ثمانينيات القرن الماضي، تعرف العراقي إلى الشاب الواعد -آنذاك- كاظم الساهر. كانت تلك سنوات الحرب العراقية-الإيرانية، وكان الساهر ضمن كورال المسرح العسكري، ويخطو أولى خطواته في عالم الغناء والطرب، فيما كان اسم كريم معروفا في الأوساط الفنية، لكن ذلك لم يمنع العراقي من إدراك مدى تميز الساهر وتلمّس خامة الصوت البديعة فيه. وبعدما منعت لجنة إجازة الأغاني في العراق أغنية الساهر الجريئة "لدغة الحيّة"، من كلمات عزيز الرسام، حيث رأت اللجنة في مفرداتها خروجا عن طابع الأغنية العراقية، التقى العراقي بكاظم في مقهى الإذاعة عام 1986، وكان لقاؤهما بداية المسيرة الثنائية المتميزة التي أطربت الملايين في الوطن العربي.

وبتوصية من العراقي، وافق المخرج صلاح كرم أن يغني الساهر مقدمة مسلسل "ناديا" التي كتب كريم كلماتها، وكان صلاح هو مخرج العمل، واشترط أن يسمع الساهر وهو يؤدي المقدمة قبل إبداء الموافقة، حيث كان متحمسا لأحد المطربين، رياض أحمد أو محمود أنور، وهما الأكثر شهرة من الساهر في ذلك الوقت، إلا أن أداء الساهر كان رائعا وانتزع موافقة صلاح. تلا ذلك ترشيح العراقي لكاظم لأداء مقدمة مسلسل "الكنز". وهكذا بدأت رحلة فنية ثرية ومتنوعة، إذ غنى الساهر ولحّن من كلمات العراقي أكثر من 50 أغنية، منها الأغاني الرومانسية الخفيفة، مثل "ها حبيبي"، والفلسفية العميقة مثل أغنية "كان صديقي"، والوطنية الشجية مثل أغنية "كثر الحديث"، والتي عدّها العراقي القصيدة الأقرب إلى قلبه، والتي غناها الساهر للمرة الأولى في مهرجان بابل الدولي عام 1995.

تذكَّر كلما صلَّيت ليلا

ملايينٌ تلوك الصخرَ خُبزا

على جسر الجراح مشت وتمشي

وتلبسُ جلدها وتموتُ عزَّا

تذكَّر قبل أن تغفو على أي وسادة

أينام الليل من ذبحوا بلاده؟

نجاح الثنائي، العراقي والساهر، لم يخلُ من الانتقادات، ولعل أشهرها ما وجهها المطرب سعدون الجابر إلى كريم، الذي صرّح خلال مقابلة مع الإعلامي زاهي وهبي بأنه يأسف على المستوى الذي وصل إليه العراقي، ولا يصدق أن مَن كتب "أمي يا أم الوفا"، التي لحّنها عميد الغناء العراقي عباس جميل، هو نفسه من يكتب كلمات مثل "نزلت للبحر تتشمس الحلوة"، التي غناها الساهر. وكان رد كريم أن الأغنيتين مختلفتين ولا عيب في كتابة الأغاني الشعبية، إذ إن جزءا كبيرا من الجمهور تطربه مثل تلك الأغاني. وفيما يؤيد البعض رأي الجابر، رأى فريق آخر في انتقاده محاولة للانتقاص من الساهر، الذي تربع على عرش الأغنية العراقية، بعدما كانت الأضواء مُسلّطة على سعدون في وقت ما.

في عيون النقاد

يرى الشاعر خالد مطلك أن عبقرية كريم العراقي تكمن في التوجه نحو اللغة اليومية، وأن العراقي شحن الأغنية البغدادية بطاقةٍ حداثية أثرت عميقا في مسارها، ومعه ولدت أغنية المدينة، أغنية نتاج حسّ مدني أنيق وتلقائي، تمشي إلى جانب زمنها بالضبط، فلا تتأخر عنه ولا تتقدم، لا تنهل من التاريخ ولا تعير الموروث انتباها، بل تستجيب لقوانين المشاعر المتواضعة وغير المفتعلة، وتستمد مفرداتها من أثاث المدينة الحديثة(2).

أما الدكتور جلال أبو زيد، أستاذ الأدب والنقد في جامعة عين شمس المصرية، فيصف نص العراقي بالجواد العربي المنطلق في سلاسة ودون تعثر فوق أرض ممهدة، ويرى أن المعالجة النقدية لأشعار كريم لا بد أن تراعي طبيعة النص وجمالياته دون استعلاء، وأن العراقي يشغل مساحة في إبداعنا العربي تؤهله لأن يكون وريثا شرعيا لأعلام الغزل، الذين يمثلون جانبا مهما من ملامح الوجه الإبداعي العربي(3).

________________________________________________

المصادر:

من حوار مع الكاتب وداد يوسف – مجلة مرامي الإماراتية. جريدة المدى مارس 2016. الكلمة وترسيخ الهوية – الهيئة العامة للكتاب – القاهرة 2004.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: کریم العراقی

إقرأ أيضاً:

لهم فضْلُ القديمِ وسابقاته.. عن لغة الشعر النبطي

تزوج شاعر البادية الأردنية محمد علي عذيمان من فتاة أحبها وكانت تنتقل معه في البادية حيث حل وارتحل، وبعد أن أنجبت له مولودته الأولى أصابتها حمى النفاس ومرضت وماتت في أثناء ولادتها.

وكانت الثلوج حينها تهطل بغزارة ولم يكن له في منزله ذاك جيران قريبون، فلم يتمكن من دفنها فجلس حاملا ابنته التي رفضت النوم في أحضانه، فما كان منه إلا أن ذهب بها إلى فراش أمها المسجّاة، ووضعها في حضنها فسكتت البنت عن البكاء ونامت، وفي منتصف الليل سكن الجو وتوقف الثلج عن الهطول وتوقفت الرياح وإذا عواء الذئب يجلجل بين تلك التلال، وفي ذلك الموقف الحزين قال الشاعر عذيمان:

يا ذيب ياللي توحش القلب بعواك

أظن حالك صاير(ن) مثل حالي

انت عويلك يوم فاتك معشاك

وانا عويلي من تيتَّمْ عيالي

وان كان صيدك فاقد(ن) من خوياك

انا فقدت من الخويا الغوالي

حذراك من سود الليالي تغشاك

ويعتم عليك الضو عقب الدلالي

وتعال أيها القارئ نستمع معًا إلى الشاعر الشيخ نمر بن عدوان وهو يبكي زوجته وضحاء، ويذكر حالها في القبر وحاله بفقدها، ويشنّع على لائميه داعيًا عليهم، وجرّب أن تقرأ الأبيات الآتية بتسكين أواخرها، واستحضِر في نفسك واجلب إلى مسامعك أسلوب إلقاء الشعر النبطي:

سار القلم بداجي الليل مهتاج

سار بهوى قليبي وحير دليلي

بكيت غرام بالحشا يوهج اوهاج

من وجد وجدي الويل فرقا خليلي

عيني تهل الدمع لاجن بلجلاج

ودموع عيني سيل دوما يسيلي

واجب علي أهله بكل ملعاج

ودموع عيني مثل نهر تسيلي

سمعت انا بظلمة القبر مهتاج

عفت الحياه وعند قبره نزيلي

ياقبر انا ما أظن من جاك يحتاج

تعريف هي وضحا أُو قلبي عليلي

ياقبرها يامنوة الروح وسراج

والله انا عندك طنيب ودخيلي

مجنون ليلى كان داير بلجلاج

ما أضن يشبهني ولا هو مثيلي

هات الكفن يا عقاب وتابوت من صاج

أو علي من رمل السبايب هيلي

واحفر على قبري بازميل وهاج

اللي جرى ياعقاب وانت الوكيلي

انقش سقيم عايف الطب واعلاج

أضحى طريح الحب وامسى قتيلي

من لامني يبلاه بالهم وهاج

عليه حسبي الله ونعم الوكيلي

الشعر النبطي أسلوب الإلقاء والقدرة على جعله غنائيا، إذ يلتقط كُتاب الأغاني الشعبية القصائد النبطية ويستثمرونها ويحولونها إلى أغانٍ (مولدة بالذكاء الاصطناعي-الجزيرة)

يُكتب الشعر النبطي كما ينطق، وقد استحدثت كل قبيلة مفردات وألفاظا جديدة، واستعملتها وأدخلتها على الشعر النبطي بقصد أو بدون قصد، فضم بذلك الشعر النبطي كثيرا من اللهجات المختلفة، وصار له قاموسه الخاص. وفي توصيف لغة الشعر النبطي وبُعدها عن الإعراب والحركات قال ابن خلدون "أساليب الشّعر وفنونه موجودة في أشعارهم هذه ما عدا حركات الإعراب في أواخر الكلم، فإنّ غالب كلماتهم موقوفة الآخر، ويتميز عندهم الفاعل من المفعول والمبتدأ من الخبر بقرائن الكلام لا بحركات الإعراب".

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2جماعة تحت السور التونسية.. أدباء ساخرون من المجتمع والاستعمار وكل شيءlist 2 of 2غيث حمور: أدب المنفى السوري وجد طريقه أخيرا للوطنend of list إعلان

يعتمد الشعر النبطي على اللهجة العامية الدارجة والمتداولة بين الناس والأسلوب البسيط الواضح قريب المأخذ في سرد الوقائع والقصص، وله قدرة عالية على نشر الحكمة وتوثيق الأحداث بأسلوب يسير ومشوق يربط بين الماضي والحاضر بسلاسة وعذوبة؛ وذلك لاستعماله لغة الناس المحكية.

قد يتعذّر عليك فهم بعض الكلمات وربما كثير منها لبعد اللهجات المحلية اليوم عن بعضها، غير أن ذلك لا يحجب عنك تذوق سحر اللغة و جمال الشعور والاستمتاع بعذوبة التراكيب؛ فالشعر النبطي يمتاز بقدرة عالية على سكب المشاعر الإنسانية في ألفاظ شعرية بسيطة وواضحة ومباشرة، وفي قوالب شعرية قريبة من قلوب عامة الناس، فهو في المحصلة شعر، والشعر يتكئ على الخيال والتصوير والفني، ويعتمد على ألوان البلاغة وأساليبها المتنوعة كالتشبيه والاستعارة، ويميل إلى تزيين النصوص الشعرية بألوان البديع التي تضفي على النصوص جمالًا وعمقًا.

ومن أهم ما يتميز به الشعر النبطي أسلوب الإلقاء والقدرة على جعله غنائيا، إذ يلتقط كُتاب الأغاني الشعبية القصائد النبطية ويستثمرونها ويحولونها إلى أغان تحقق شهرته وانتشاره وشعبيته بين الناس.

ما الذي يجعل بعض أبناء العربية ينظرون إلى الشعر النبطي نظرة سلبية؟

وُجّهت انتقادات كثيرة لناظمي هذا النوع من الشعر، لأنه يبدو تأصيلا للعامية على حساب الفصحى وتنحيتها، وقد أُلّف كتاب بهذا الهدف بعنوان (كَفُّ المُخْطِي عن الدَّعوةِ إلى الشِّعرِ النَّبَطِي)؛ رأى فيه المؤلف ذياب الغامدي أن الشعراء الذين ينظمون الشعر النبطي: "دُعاة العامِّيَّة، وما أدراك ما العامِّيَّة؟! سواء كانت دَعوتهم سافرة جِهارًا نهارًا، كما تبنَّتْه الصُّحف وغيرها، أو دعوة مُستَتِرة تحت ثوب فَضفاض نسجَتْه أيدي الأعداء فألبسَته أمَّة الإسلام، والعرب العَرْباء، وشباب الصَّحوة؛ وذلك فيما يُسمى بالشّعر النَّبَطيِّ".

وُجّهت انتقادات كثيرة لناظمي الشعر النبطي، وقد أُلّف كتاب بهذا الهدف بعنوان (كَفُّ المُخْطِي عن الدَّعوة إلى الشِّعر النَّبَطِي) (الجزيرة)

ويقول الغامدي في موضع آخر من هذا الكتاب "ولو استسلم العُلماء أمام هذه السَّفسَطة والجَهالة التي يتّكئ عليها عشاق النَّبَطيّ في القرن الثّاني عشر الهجريّ وما تلاه من قرون، لكانت اللّغة الفصحى اليوم خبرًا بعد عِيان، كما يراد لها… وما زلنا نظنّ أن جَذوة دُعاة النّبطي ستنطفئ، وتنهار قواهم، حتَّى اتّسع الخَرق، وتجاوز شِعرُهم حُدوده، وعَلَت أصواتُهم، حتى استباحوا الصُّحف والمجلَّات والإذاعات، وأقاموا النَّدَوات والأُمسِيات؛ تمجيدًا وتعزيزًا، وتقريرًا وتقنينًا لنشر النَّبَطيّ".

إعلان

يرى بعض الباحثين أن التغيير اللغوي أمر طبيعي في سياق مرور الزمن وتطور الحياة، ولا يمكن أن ننظر إلى الشعر النبطي لأنه يعتمد العامية على أنه فساد لغوي، لا سيّما في ظل إمكانية رد الألفاظ العامية إلى الفصيح منها استنادا إلى القواعد الصرفية والصوتية تحديدا، ناهيك عن أن عامل الزمن يفرض تغيُّرات وتطوّرات حتمية يقررها تقدُّم الحياة وتطوّرها، وتمر بها أي لغة حية في سيرورة الأيام.

إن أكبر سبب -في حقيقة الأمر- للنظرة السلبية التي يحملها بعض أبناء العربية تجاه الشعر النبطي تتعلق باعتماده على اللهجات المحكية الدارجة، وذلك ليس إلا تخوفا من شيوعها وانتشارها واستسهالها على حساب العناية باللغة العربية الفصيحة التي تعد حاملا للدين ومصادره وأداة لمعرفة التاريخ العربي الممتد عبر العصور، وجسرا لعبور المعارف والوقائع والأحداث من جيل إلى آخر.

تبدو هذه المخاوف مشروعة لكن ينبغي ألا نبالغ فيها، فالشعر النبطي لون من ألوان الفنون الكلامية، وشكل من أشكال الإبداع الشعري، لا يهدف إلى إزاحة الشعر العربي التقليدي عن عرشه ولا قدرة له على ذلك، وإن كنا نستمع إليه ونتذوق جمالياته لقرب عهده أو قرب لغته، فإن ذلك لا يعني أنه راجح على ما سواه من أشكال الشعر العربي في الذائقة العربية.

حافظت أرض الحجاز على كثير من أخبار الشعر النبطي الذي نشأ في شبه الجزيرة العربية، وأولته عناية خاصة لأنه يعكس كثيرا من القيم والعادات والتقاليد المهمة لدى المجتمعات الخليجية (مولدة بالذكاء الاصطناعي-الجزيرة) الشعر النبطي في مرايا العصر الحالي

تولي دول الخليج العربي أهمية كبيرة للشعر النبطي باعتباره امتدادا لأصالة عاشها الأجداد في غابر الزمن، واستمر عبقها أخاذا على مر العصور، يربط الماضي بالحاضر، ويوحد الذائقة الشعرية لدى الأجيال المتعاقبة، وكأنه الحبل الأصيل المتين الذي يربط إنسان العصر في بوادي العربية بالإنسان العربي القديم الذي عاش فيها وأثبت عراقته وبنى حضارة ما تزال مشعة بين صفحات التاريخ، لا سيما في بادية الحجاز وما والاها، لأنه سجل دقيق دوّنوا فيه أهم الأحداث التاريخية والاجتماعية، وهو وسيلة للحفاظ على اللهجات المحلية والتراث الثقافي، ناهيك عن أنه يعزز القيم البدوية كالكرم والشجاعة وغيرها.

إعلان

حافظت أرض الحجاز على كثير من أخبار الشعر النبطي الذي نشأ في شبه الجزيرة العربية، وأولته عناية خاصة لأنه يعكس كثيرا من القيم والعادات والتقاليد المهمة لدى المجتمعات الخليجية. غير أن مجال النظر في موضوع الشعر النبطي واسع جدا، ويحتاج إلى كثير من البحث والتدقيق والجهد للوصول إلى نتائج دقيقة وأجوبة شافية، لا سيما في مسألة اللغة المحكية التي يعتمدها.

الشعر النبطي جزء أساسي لا يتجزأ من الثقافة البدوية، وقد شهد بمرور الأيام والعصور تحولات كبيرة جعلته يتماشى مع متطلبات العصر الحديث، فصار الشعراء يميلون إلى استخدام وسائل الإعلام والتواصل الحديثة لنشر قصائدهم وإبداعاتهم، فازدادت شعبية الشعر النبطي، وعمد بعض الشعراء إلى المزج بين الشعر الفصيح والنبطي فأضافوا بذلك أبعادا جديدة فنية وجمالية لقصائدهم وأشعارهم.

ومن أمثال ذلك الحديث عن القهوة العربيّة ومجالسها التي تعد أهم معالم الهويّة البدويّة، وقد قيل في ذلك كثير من الأشعار؛ منها ما قاله الشاعر حوشان بن عبود بن سويلم الشلواني العازمي:

لادك في قلبي من الهم هوجاس

حطيت فوق النار زين المحاميس

وحمست ما يجلى من الهم وعماس

بنٍّ من النيبار يجلى الحواسيس

لا ذاقه اللي من عنا الوقت محتاس

من لذته تنجال عنه النواحيس

ولننظر معا إلى قول الشاعر راكان بن فلاح بن مانع بن حثلين العجمي متغزلًا بفنجان القهوة راسمًا تفاصيل الشعور المرافق لاحتسائه القهوة في مجلس برفقة الأصحاب والأحباب؛ في صورة شعرية بديعة:

ياما حلى الفنجال مع سجّة البال

في مجلس ما فيه نفس ثقيله

هذا ولد عم وهذا ولد خال

وهذا رفيق ما لقينا مثيله

قصائد الشعر النبطي نلحظ بها جمال المزج بين الماضي والحاضر حين يعمد الشاعر إلى مفاجأة المستمع بنقله من الماضي السحيق إلى الواقع المعاصر (مولدة بالذكاء الاصطناعي-الجزيرة) القيم البدوية المجتمعية والإخوانيات في الشعر النبطي

يركز الشعر النبطي على القيم والأخلاق والعادات والتقاليد ويقدسها، ولا عجب في ذلك لأن الشاعر ابن بيئته، والشعر محاكاة للبيئة التي يُنظم فيها، والشعر النبطي بدوي في أصالته، يؤكد أهمية الحفاظ على القيم المجتمعية وتوارثها بين الأجيال، فالقيم الأخلاقية تحدد هوية الشعوب وانتماء المجتمعات، لذا يبدو الشعر النبطي ممتلئًا بكل ما يحض على مكارم الأخلاق ويزكيها في النفوس، ومن ذلك قول الشاعر محمد بن ناصر بن صقر السياري:

ياللي تعرف الجوهرة من نحاسَـــــهْ

خذ لك على درب التـــجاريب مرواس

مبنى على الغرمول ينــهد ساســـــه

ويثــبت إليــا عزيت مبنى على ســاس

واجب على الرجال يلبـــــس مقاسه

ويـصــير بعـيون الرياجــيل نــبراس

يرفع مجـــــاله عن دروب الـدناسـه

ونفــســه يدربـــها عـلى قــوة الـــباس

ويحــسن أخلا قـه بلــيّا شراســـــــه

لــو هـو شجاع ويلبس الـدرع والطاس

وياخذ تجاريب الـــــليالي دراســـه

ويمــيـّز الياقــوت من لمــعة الــــماس

ومن يصحب الأنذال وأهل النجاسه

يُــقـْـلب عــليه الهـرج في كل مجلاس

الذيــب يرفع هــمته عن مداســـــه

يوم يجوع وســاعـةٍ يــــرفــع الــراس

وبعض العرب مـــا همه إلا لباســـه

ودايم على عورات الأجواد عـــســاس

وحين نطالع قصائد الشعر النبطي نلحظ مدى سعة ثقافة الشعراء واطلاعهم على التراث الثقافي، ونلحظ جمال المزج بين الماضي والحاضر حين يعمد الشاعر إلى مفاجأة المستمع بنقله من الماضي السحيق إلى الواقع المعاصر، بذكر حكاية مشهورة من حكايا التراث القديم، وإسقاط المعاني بعدها على واقعنا المعيش بذكر أسماء أو رموز تدل عليه، وها هو الشاعر حمد بن علي بن مايقة الحبابي يَذكر في الأبيات الآتية حشدًا من الشُّعراء الأماجد في الفصحى؛ فيقول:

صناديد لهم باب النَّشيد

تفتَّح واستحلُّوا مغلقاتِهْ

الاخْطَل والفرزْدق مع جريرٍ

والاعْشى والذي سوَّى سواتِهْ

وابن ثابت وأبي سلمى زهير

وعمرٍو والضليلِ ومبكياتِهْ

وعنتر مَن هوى عبلةْ وقيس

هوى ليلى مسوِّي بهْ شراتِهْ

وذي الرمة والأقرع مع جميل

ومن قولهْ تسبَّب في وفاتِهْ

وبشار بن بردٍ والمهلهلْ

ومَن سمي الفحل بمقدماته

وحاتم والنوابغ وابن حلزهْ

وطرفة واطراف المعاني طراته

وأنا قصدي هو الشِّعر الفصيح

لهم فضْلُ القديمِ وسابقاتِه

إنّ الشعر النبطي  لم ينشَأ لمحاربة الفُصحى ولم يعرف عنه مزاحمتها، بل إنَّ التجارب المتراكمة تؤكد أنّه حاول أن يسير جنبًا إلى جنب معها واستقى منها واعتمد عليها ونهل من معينها، فقد اتخذ من طُرق الشعر التقليدي الذي يعتمد اللغة الفصيحة وأساليبه مرجعًا له.

إعلان

مقالات مشابهة

  • لهم فضْلُ القديمِ وسابقاته.. عن لغة الشعر النبطي
  • مصطفى عنبه: أحمد سعد استفاد أكثر مننا من نجاح أغنية سكوت
  • صور.. فوضى البسطات اليومية تُفسد التسوق الرمضاني في ”سيكو الدمام“
  • أمير طعيمة: قدمت 200 أغنية دون أي مقابل مادي |فيديو
  • رمضان كريم
  • محافظة الوادي الجديد: نسعى لتنفيذ المبادرات التي تمس احتياجات المواطنين اليومية
  • الانضباط تغلق شكوى عماد محمد ضد ولي كريم
  • إجابة سؤال مدفع رمضان الحلقة 13 .. كم أغنية اشتغلت في الحلقة؟
  • سؤال مدفع رمضان «الجائزة 300 ألف جنيه».. كام أغنية اشتغلت لي النهاردة إضافة للتترين؟
  • وزير الكهرباء المهندس عمر شقروق لـ سانا: ستؤدي هذه المساهمة إلى توليد 400 ميغاواط إضافية من الكهرباء، ما يؤدي إلى تحسين التغذية الكهربائية وزيادتها بمعدل ساعتين إلى 4 ساعات يومياً، الأمر الذي سينعكس إيجاباً على الحياة اليومية للمواطنين ودعم القطاعات الحيو