السّـودانُ بلد تذبحَـهُ الخُـطـطُ السّـوداء
تاريخ النشر: 8th, September 2023 GMT
(1)
يقول الســودانيون، بلهجتهم العامية، حين يتضايقون من أمرٍ، إنهم وضـعوا له "الخطّة السـودا". ويعني ذلك، في الفهم الشعبي، الكيد وإضمار منافرة ما بعــدها اجتــماع. وربما يقع ذلـك بسببٍ موضوعي معلومٍ، أو بسببٍ ذاتي يغلب عليه شيءٌ من الحسـد.
في مقابلة أجرتها قـناة إعلامية عربية شـهيرة مع الوزيـر والسّفير العراقي الرّاحل، عـدنان الباجه جي، عن السياسة العربية في حقبة الستينيات من القرن الماضي، سُئل عمّن من السفراء العرب الذين كان لهـم دورٌ وبصمة في منظـمة الأمم المتحــدة، فذكر على الفور اسـم السـفير المندوب الدائم السوداني عـمر عـديل.
(2)
بلغتْ نجاحات عـديل أوجـها خـلال أزمة الكونغو، فقد تردّد المستعمر البلجيكي طويلاً في منح حق تقـرير المصير والاســتقلال لذلـك البـلـد الغـني بالمعــادن الثمـيـنة، مثل الـمـاس واليورانيوم. تصدّى السـفير عـديل في خطابٍ ألقاه في الجلسة الخاصة لمجلس الأمــن، مطالـبـاً بتصميم أكيد، بالتحـقـيـق في حـادثة اغتـيـال رئيــس وزراء الكونغـــو، باتريس لوممبا، وكان أمراً مؤسفاً التعتيم على حقــائق الجـريمة التي ظهر بعـد ســنوات أنّ وراءهــا أصابع المخابـرات الأميركية والبريطانية والبلجيكية، وتلك أفاعيل المخابرات في حقبة الحرب الباردة.
تبين وثائق أفرج عنها في جنوب أفريقيا أن مخابرات دولتين دائمتي العضوية في مجلس الأمن كانتا متورطتين في خطّة التخلص من الأمين العام للأمم المتحدة عام 1961
ولتميّـز أدائه في قضايا القارّة الأفـريقـية، خصوصاً في ملـف تصفـية الاستعمار، اعتمد الأمين العام للمنظمـة الأممية، داغ همرشولد، السفير عديل، مستشاراً له من ضمـن آخـرين، غير رسميّ، لكنه صار الناصح الأول للأمين العام في ذلك التجمّع غير الرسمي الذي عرف في أوسـاط أمـانة الأمم المتــحدة باسم "نادي الكونغو". وبعد إخفاقات ممثل الأمين العام للأمم المتحدة، السفير الهـندي دايال، طلـب همرشولد موافقة الحكومة السودانية على تعيـيـن الســفير عـديل ممثـلاً للأمـم المتحـدة في الكونغو، إلا أن ما تعرّضت له الكتـيـبة السودانية التي شـاركت ضمن القـوات الأممية في الكونغو من اعـتداءٍ سافرٍ عليها من قوات كونغولية، وعدم قيام المنظمة بدورها في الدفاع عن تلك القوات أو إدانة الاعتداء، جعلا الحكومة السـودانية ترفض الطلب.
(3)
بعد اغتيال لوممبا بأشهر، أُسقِطَت طائرة الأمين العام للأمم المتحدة، همرشولد، في الأحراج الحدودية، وهو في رحلته من زامبيا إلى الكونغو في سبتمبر/ أيلول 1961م، وفـق خطة تآمرية خبيثة، جرى التخلص عبرها من المسؤول الدولي، وأسـدل السـتار على قصته، وظلّ سـرّ إسقاط تلك الطائرة مجهولاً نحو 40 عاماً. قبل أن تبين وثائق أفرج عنها في جنوب أفريقيا أن أجهزة مخابرات دولتين دائمتي العضوية في مجلس الأمن، كانتا متورطتين في خطّة التخلص من الأمين العام للأمم المتحدة عام 1961. وأشير لك هنا إلى أن لمخابرات كل من بريطانيا والولايات المتحدة أصــابع وألسـنة ولغتْ في الجريمة.
وفي البحث عن أمين عام جديد للأمم المتحدة في 1961، كتبت صحيفة هيرالد تريبيون في 23 سبتمبر/ أيلول 1962، تقريراً عن المرشّحين لتولي المنصب بعد داغ همرشــولد، من بين المتنافسـين الثـلاثـة، مندوب بورمـا يو ثانـت والباكسـتاني ظفـر اللـه خان والهـنـدي نارا سـيمهان، ولكــن تقرير الصحيفة جاء على "ما يـراه دبلوماسيون ذوو نظـرٍ بعـيد، أن لا تغـيب العين عـن المنـدوب السـوداني عمـر عديل، وهو قادم جديد وبقوّة في الساحة الدولية، ودبلوماسـي ذكي قاد اللجنة السياسية، وهي اللجـنة الأولى والأهم من لجان الجمعـية العـامة للأمــم المتحـــدة، في دورتـها لعام 1962، وأدارها بحنكةٍ واقتـدار".
(4)
لم يحن، في ذلـك الـوقـت المبكّر (1962)، لأفريقـيـا دورها في تقـلّـد أحــد أبنـائها ذلـك المنصب المرموق، وفق تقلـيـدِ تداولِـهِ بيـنَ قـارّات العالــم. وكان الســـفير السـوداني عـمر عـديل من الذين اقـتربوا من التنافـس لتولّي المنصب، وقد تناهَى إلى علـمي من بعض معاصريه في تلكم الفترة أنه استـشـعـر ما تُبطنه جهات غربية، خصوصاً مـن ممثليها في مجلـس الأمـن، وقد أثار حفيظتهم علـوّ صوته في الجمعـية العامة في قضايا تصفية الاستعمار وأزمة الكونغو ودعم الثورة الجزائرية وقضايا نزع السلاح. وذلك متوقــع مـن مخابرات الدول الغربية، لما لها من أيـدٍ نافـذة إبّان حقبة الحرب الباردة، في تحديد وجهات السياسات الخارجية للبلدان الغربية تجاه دول العالم الثالث. وقد أدرك عديل أنه لن يجد فرصة للتنافس لمنصب قيـادة الأمـم المتحــدة، فكانت مساندته مندوب بورما، يو ثانـت، قوية وحاسمة، أدّتْ، مع عوامل أخرى، إلى أن ينال الأخير منصب الأمين العام الذي لو قُـدّر للمنــدوب السـوداني أن يناله، وهو الذي قد اقترب منه آنذاك، لشـكّل مكسباً للقارة الأفريقية، إلا أن تولِّـي مواطن أفريقي ذلـك المنصب المرموق لم يتحقق إلا بعد نحو 30 عامـاً من بروز اسـم السـفير السوداني عمر عديل للترشّـح للمنصب عام 1962.
(5)
تمضي السنوات ويكتسب السّـفير عديل خبرات وتجارب في عمله مندوباً لبلاده في الأمم المتحدة، جعلت منه نجـمـاً مميّـزاً في الأمـم المتحدة، على النحو الذي أشار إليه السفير عـدنان الباجه جي مندوب العراق في ذلـك الزمان. ولكن لمّا حانتْ الفرصةُ للـقـارّةِ الأفـريقـية لأنْ تنال حظّـها في رئاسـة الجمعـية العامــة، فإنّ تدرّجَ السّفيرِ/ المندوب الدائم السوداني عمر عديل، الذي انتُخب نائبــاً لرئيس الجمعـية العامة في دورتها عـام 1962، ثمّ رئيساً للجنة السياسية الأولى في الجمعية العامّـة في دورة 1963، ثمّ ترشـيحه لرئاسـة الجمعـية العامّـة في دورتها التاســعة عشــرة عام 1964، فقـد كان ذلك تدرّجـاً طبيـعـياً يؤهِّل صاحـبـه للإرتقـاءِ ليشغل ذلـك المنصب في تلـك الدورة عن جـدارة. كان هـو الأوفـر حظاً للفـوز بالمنصب، وقد نافسـه عليه منــدوبا غـانـا وليـبـيريا، وكان التقليد أن يتوافق منـدوبو المجموعة الأفريقية على مرشّح واحد، ولكن الأفارقة لم يسلموا آنذاك من تحريضٍ يضغط عليهم من حائكِي الخطط السوداء. لم يكسب السـفير عـديـل رضـا المؤثّرين من بعض أعضاء مجلـس الأمــن، دائمي العضوية، خصوصاً ممثل الولايات المتحدة، فأحسّ أن ترشيحه لرئاسة الجمعية العامة لن يمرّ بيســر، ولم يدُر في خلـده أنّ الخـطط السّـوداء يمكن أن تصل إلى مستوىً يسـتهدف إلى اغتـيال شخصيته اغتيالاً معـنـوياً.
(6)
لعبت المخابرات الأميركية دورها لقطع الطـريق على ترشــيح الســفير عـديل ليـرأس الجمعية العامة في دورتها عام 1964. إذ عملت المخابرات الأميركية بما عرف عنها من أســاليب شريرة ومكائد، لاغتيال شخصية السـفير عـديل، فاختلـقـوا قضية أخلاقية، زعموا أنه تورّط فيها. ومع سُـخف الاتهـام، وإغلاق المحكمة الأميركية ملفّ القضية، لم ينته التآمر، بل سعى لأن يصل تشويه سمعة الرجل، بأســلوب خفي، إلى قـيادة وزارة الخارجية الســودانية. من مساوئ المصائب أن يُغتال الرئيس الأميركي، جـون كينـيدي، في أكتوبر/ تشرين الأول ذلك العام قبل شهر من موعد دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة، فتأجلت إلى ديسمبر ذلك العام، ما أتاح مزيداً من الوقت لتمرير الخطة السوداء: مؤامرة إقصــاء السفير عديل وإلغاء ترشيحه لمنصب رئاســة الجمعـية العـامـة.
بـلــدٌ يترنّح ذبيحـاً في دم بنـيهِ، والمتفـرّجون على الـذّبـح مِن أطــراف المجتـمع الدولـي كثر، وفيهم، ويا للأسى، بعض أهله، وعارفو أفضاله
وكما هو متوقع للخطة السوداء، فقـد تواصلت حياكة المؤامرة المخابراتية الأجنبية، لتكتمل فصولها بأيـدي الســودانيين مـن زملاء السـفير عـديـل في قيادة وزارة الخارجية الســـودانية، فينهـون مهمـته ويطردونه من منصبه منـدوباً للسودان في ديسمبر/ كانون الأول من عام 1964 بدمٍ بارد، وهـو قاب أسبوعين أو أدنى من أن يكون أوّل أفريقي يتولى رئاسة الجمعية العامة للأمم المتحـــدة في تاريخـها. أعـمَتْ مشاعر الحسد عيون زملائه، فما التفـتـوا إلى خسـارة تمثلت بضياع سانحة أتاحها التاريخ للسودان.
وهكذا اكتملت فصول الخطة السوداء، فأُقصي السفير المقـتدر عـمر عديل بقـرار من حكومة بلاده، وسـط دهشـة قيادات الأمــم المتحـــدة، وأولهم أميـنـها العــام يــو ثانـت الــذي أدرك أن ظلـماً لحـق بالســفير، فما كان له إلا أن يرد ّالجميـل لسـفيـر كَسَـرتْ بلاده أجنحـتــه، فقـرّر على الـفـور تعييـنه ممثـلاً له في مهـمّـة دبلوماسية تخصّ الأمانة العـامـة للأمم المتحــدة، ولكن حسرة الأمانة العامة كانت لا توصف لأفول واحدٍ من نجوم الأمم المتحدة، كان المستقبل أمامه ممتـداً، وهو في الأربعيـن من العمـر.
(6)
حفـلتْ حقـبة الحرب الباردة في العقود التي تلت نهاية الحرب العالمية الثانية بمشاهد لخطط سـوداء جهنمية، ومواجهات بين قطبيـن تقاسما النفوذ في العالم، موسكو وواشنطن. ظلـتْ مخابراتهما تتصارعان، في تنافـسٍ شـرسٍ على موارد العالـم الثالث، ويتبـادلان الضربات في مواقع عديدة بلا هـوادة، لعلّ أكثـرها بروزاً ما حــدث في حرب كوريا وفي حادثة خليج الخنازير وفي حرب فيتنام، ثم في الكونغو والمعادن المكنوزة في باطن أرضه. لا أورد لك الأمثلة جميعها، وأكثرها مرعب.
لعبت المخابرات الأميركية دورها لقطع الطـريق على ترشــيح ســفير السودان عمر عـديل ليـرأس الجمعية العامة في دورتها عام 1964
أمّا السودان، فلن يبرأ بيسـرٍ من علـلٍ سبّبتْها خطط الأشرار السوداء. هـذه الحرب التي تدور رحاها في أرضه، أهـي من صنع أهـله أم هي بعض ما يحيـك الغرباء؟ بلــدٌ كانت كتائب جـنـده تشارك مع قوات أممية أرسلتها الأمم المتحدة، في أوّل مهـمة في تاريخها، إلى دولة هي الكونغو في سـتينيات القرن الماضي، فإذا بالمنظمة الأممية ترسل بعد 50 عاماً قواتٍ دولـية هجينة إلى أكبر إقليم في السـودان، دارفــور، تجاوز عــددها عشرين ألفاً، لوقف القـتال واحتواء ما يشبه إبادة جماعية تتولاها حكومته.
بلــدٌ كان مِن أغنى بلــدان القارّة الأفريقية بالموارد البكر، وأغناها بالثروة الحيوانية والـنفط والذهـب، فإذا هو، في ســنوات الألفـية الثالثة، يتذيل قائمة الدول الأفقر في العـالم. بلــدٌ كان من بيــن ســفرائه من كـاد أن يتـبـوأ قـيادة المنظـمة الأمميـة في ستينيات القرن الماضي، فإذا هو الآن منبـوذ بيـن أقرانه الأفـارقـة ومن المجتمع الدولي، ولا يجد مقعـداً في المنظمة الأفريقية، وقد كان يوماً من مؤسسيها وكُـتّـاب ميـثـاقـها. بـلــدٌ يترنّح ذبيحـاً في دم بنـيهِ، والمتفـرّجون على الـذّبـح مِن أطــراف المجتـمع الدولـي كثر، وفيهم، ويا للأسـى، بعض أهله، وعارفـو أفضاله، فأنكروها، وعـنـد السودانيـيــن مثـل فصيح بعامـيتـهــم: "دار أبيـك إنْ خربتْ شِــيْـل منـها شــليّة"، أي خُـذ قدر ما تستطيع ممّا ترك أبوك بعد هلاكه، فمن وضع خطّة سـوداء للســودان؟
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الأمین العام للأمم المتحدة الجمعـیة العام الجمعیة العامة الجمعیة العام الأمم المتحدة ة الأفریقیة العامة فی فی دورتها
إقرأ أيضاً:
الهلال بين السياسة والدين!
ليس جديدا أن تختلف الدول العربية في تحديد بداية شهر رمضان ونهايته، فهذا هو خبر العام وكل عام، لكن الجديد أن تخالف مصر الرأي السعودي في هذا الصدد، وسط حديث عن فتور في العلاقات بين البلدين!
لست منحازا لأي الرأيين، فقد أخذت برأي الجمهور واعتمدت يوم الأحد هو الأول من شهر شوال، نزولا على إعلان البلد الذي أقيم فيه، وإن رأيت أن فرحة العيد لم تكتمل (وللصائم فرحتان)، لأنه لم يشاركنا الأهل في مصر في يوم عيد واحد، ولست أرجح إذا كانت العيد في أي اليومين؛ الأحد، أم الاثنين؟!
فاعتمادا على السوابق، لا أسلم بصحة الرأي السعودي في هذا الصدد، وأحيانا كان يتم الاعتراف بالخطأ من جانب القوم أنفسهم، وأحيانا أخرى كان بعض الناس يقفون بأنفسهم على هذا الخطأ، وفي الطفولة والصبا، كنت أسمع شيئا من ذلك، عندما كنت أعيش في الريف، حيث السماء صافية، ولا يشوش على صفائها لدى البشر عازل التلوث، وما فعلته أيدي الناس!
ولعل ما وقف عليه المصريون بأنفسهم، عندما كانوا ينتظرون أن تتوحد احتفالاتهم بنصر أكتوبر/ تشرين الأول 1973، في يوم واحد، ويقولون إن تطابق الذكرى بين الشهري الميلادي والهجري، يحدث بعد أكثر من ثلاثين عاما، ولم يحدث هذا التطابق بين السادس من أكتوبر والعاشر من رمضان في العام المنظور، على نحو كاشف بأن هناك خطأ حدث في تحديد شهر رمضان إما في عام النصر، أو في سنة الذكرى والتطابق!
التسيس لم يبدأ سوى هذا العام، وكثير من التصرفات الصغيرة يمكن للمرء أن يحكم بمقتضاها على أن هناك فتورا في العلاقات بين النظامين، قبل أن يجتمع رأس النظام المصري بولي العهد السعودي، في لقاء يبدو ذرا للرماد في العيون، لكن هذا لا ينفي أن العلاقة ليست على ما يرام، فهل كان جزءا من الحديث عن فشل الدراما راجعا لهذا الفتور، وفي ظل التهديد السعودي على لسان عمرو أديب بأنه يمكن لإدارة الترفيه الراعي للدراما المصرية أن تنسحب من الرعاية إن استمر هذا الهجوم؟!
ورغم ما استقر في أذهان العامة بأنه ليس بالضرورة أن يكون الإعلان السعودي صحيحا، فلم يكن الأمر محل جدل بينهم، فهم يلتزمون بهذا الإعلان، الذي تلتزم به دار الإفتاء المصرية، حتى بعد عام الأزمة، عندما أعلن المفتي المصري في بيانه أن الغد هو المتمم لشهر شعبان امتثالا للإعلان السعودي، وكنت قد استغرقت في النوم، عندما تم إيقاظي بقوة لكي أستعد للسحور، لأن دار الإفتاء عدلت عن رأيها بعد منتصف الليل، وأقرت أن الغد هو بداية الشهر الفضيل، بناء على الإعلان السعودي الجديد!
ولم يصل هذا العدول لكل الناس، وقد قدمت الصحف استعراضا لهذا الارتباك الذي حدث، لدرجة أن كثيرين في مكاتب العمل كانوا مفطرين، فبعد مرور كل هذه الساعات لم يصلهم نبأ الإعلان السعودي الجديد. ومما قرأته وعلق في ذاكرتي حتى الآن، أنه في أحد المصالح الحكومية، وبينما كان أحد الموظفين يدخن، استنكرت عليه زميلته ذلك بقولها له: إذا ابتليتم فاستتروا!
عشرية طنطاوي:
وظلت مصر ترى أن تحديد الشهور القمرية، وبداية شهري رمضان وشوال، اختصاصا أصيلا للسعودية، والانقلاب الذي حدث كان عندما تولى الشيخ محمد سيد طنطاوي منصب مفتي الديار (1986-1996)، حيث اعتمد الحسابات الفلكية، وخرج على القاعدة الفقهية المعتمدة والمستقرة لدار الإفتاء بأن مصر تأخذ برؤية أي بلد يشترك مع مصر في جزء من الليل ، وهي قاعدة اختزلت عمليا في أن أي بلد تعني بلدا واحدا هو المملكة، على أساس أن دولا عربية أخرى كان لها رأي مخالف في هذا العام أو ذاك ولم تُفعل بشأنها هذه القاعدة، ربما للثقة المطلقة في دقة أهل الذكر في السعودية، فإن وقع خطأ في هذا العام أو ذاك فهو بعد اجتهاد وتدبر!
وقد سبق لي أن كتبت عن جدوى وجود مرصد مصري، ورأيه استشاري، ليظل القول الفصل للإعلان السعودي، والذي لا يتدارس الأمر مع دار الإفتاء المصرية، ولا يتبادل معها أخبار الرؤية بين ما أعلن عندهم وما أعلنه المرصد المصري!
ولم تكن مهمة الشيخ طنطاوي سهلة، لكنه كان يُعرف عنه الخروج على المألوف إذا كان له رأي آخر، كما حدث مع فتوى عدم ربوية الفوائد البنكية. ولدار الإفتاء المصرية فتاوى مضطردة ورأي مستقر بأنها من الربا المحرم، ولطنطاوي نفسه فتوى تمثل استمرارا لهذا الاتجاه في عامه الأول، قبل أن يعدل عنها، ويواجَه بهجوم لم يثنه عن رأيه.
فتوى فوائد البنوك:
وقد أخبرني المستشار سعيد العشماوي، الكاتب والقاضي الراحل، أن ضغوطا حكومية مورست على دار الإفتاء لإصدار هذه الفتوى، بعد أزمة شركات توظيف الأموال، حيث كانت الحكومة تواجه تحديا يتمثل في عزوف كثيرين عن التعامل مع البنوك، لربوية الفائدة، وهم من مثلوا عملاء لهذه الشركات، وقد انقضت السلطة عليها، ورفعت سعر الفائدة في البنوك، لكن المودعين بشركات التوظيف لم يذهبوا للبنوك مع رفع الفائدة، فقد كانت هناك عتبة تحول دون ذلك تتمثل في المانع الديني!
وكان العشماوي قد أصدر حكما قضائيا في نزاع قضائي نظر فيه، بأن فوائد البنوك ليست هي الربا المحرمة، وعليه فقط ضغطت الحكومة على دار الإفتاء بأنها إن لم ترفع هذه المانع فسوف تعتمد "الحكم" وتتبناه وتروج له!
وفي اعتقادي أن المصدر الحكومي الذي أبلغ القاضي العشماوي بذلك، لم يكن دقيقا، فحكم محكمة لا يمثل قيمة لدى الناس، لهدم الاعتقاد المستقر بربوية الفائدة البنكية، فإذا كان غالبية الناس لم يسلّموا بصواب الفتوى الجديدة، فهل يمكن أن يسلموا بمصداقية حكم محكمة، لقاض وإن كتب في الإسلاميات فآراؤه الدينية ليس مسلّما بها؟!
وبدا الشيخ طنطاوي في اعتماد رأي الفلك كما لو كان يُحدث انقلابا على التراث، حيث "الرؤية"، وحيث "الفتوى" الخاصة بالالتزام بأي بلد يشترك مع مصر في جزء من الليل! وكنا لا نتصور شهر رمضان إلا بخاصية "الانتظار"، ننتظر إن كان الغد هو بداية الشهر أم المتمم لشهر شعبان، وأن الغد هو المتمم لشهر رمضان أم هو أول أيام عيد الفطر!
بيد أن مع جدل البداية، فقد بدا الناس متهيئين في الأعوام القادمة على استبعاد عنصر المفاجأة الذي عرف بالشهر الكريم بالضرورة، فقد صار مألوفا أن تكون بدايته ونهايته معروفتين مسبقا!
لكن بتولي الشيخ نصر فريد واصل موقع المفتي (1996- 2002)، عاد الأمر إلى سيرته الأولى حيث العمل بالقاعدة السابقة؛ وأن أي بلد يشترك مع مصر ولو في جزء من الليل تُعتمد رؤيته للهلال، وذلك بعد العام الأول له، ففي هذا العام سار على خطى طنطاوي، والذي كان قد عُين شيخا للأزهر. وقد كان هناك خلاف بين المفتي محمد سيد طنطاوي وشيخ الأزهر الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، تصل أصداؤه للناس، وربما للصحف من خلال كلمات الضجر التي تصدر منه مثل قوله إنه يكره سياسة "التكويش"، في دلالة على أن شيخ الأزهر يسيطر على المشهد الديني برمته، بما في ذلك الفتوى. وكان وقار الشيخ جاد يمنعه من الهمز واللمز الذي يمارسه طنطاوي وانفلات لسانه، إلا أنه تصرف بشكل لا تغيب دلالته عن من يتابع الملف!
فإذا كان طنطاوي يريد احتكار الفتوى بحسبانه مفتي الدولة، فقد ترك أمره للشيوخ المعارضين في تحجيمه في إطار وظيفي ضيق، فهو لا يصلح للإفتاء العام، ودوره فقط في تحديد أوائل الشهور، وفي إبداء الرأي في قضايا الاعدامات!
وفي الرد العملي عليه، وتأكيد أن الإفتاء من وظيفة الأزهر أيضا، قام الشيخ جاد الحق بتنشيط لجنة الفتوى في الأزهر، بتعيين الفقيه المعروف الشيخ عطية صقر رئيسا لها، والذي خطف الأضواء تماما من دار الإفتاء لتكون في حدود الوظيفة مؤسسة تابعة لوزارة العدل، والمفتي هو مجرد وكيل وزارة العدل!
الانقلاب الناعم:
ولا نعرف كيف قاد نصر فريد واصل هذا الانقلاب الناعم على رأي طنطاوي في دار الإفتاء، ولم يبدر من طنطاوي أي رد فعل، وقد كان شيخ الأزهر يهيمن على المشهد الديني، وحصر مهمة المفتي في حدودها بل وأقل من حدودها، فصار شيخ الأزهر هو المفتي الرسمي للدولة؛ تلجأ اليه في الأمور التي تحتاج الى المساندة الدينية فيها، على النحو الذي حدث لدعم موقفها من قانون الخلع!
والبعض يرجح أن هناك خلافا بين طنطاوي وواصل، وهو الرأي السائد في الأوساط المهتمة، وظني أنه لو وُجد خلاف لما تحمل قلب طنطاوي كتمانه بما عرف عنه من عفوية في القول والفعل!
بيد أن فريد واصل رجل أبكم، تأسست قيمته لدى الناس في قلة الكلام، وعدم إبداء رأي في القضايا الخلافية إن لم يطلب منه رسميا، ثم إنه ساير السلفيين بفتوى تحريم التدخين، وساهم سمته العام في تصور أنه مغلوب على أمره، لهذا كله فقد أحياه الرئيس مرسي بعد أن طواه النسيان وأعاده للمشهد بعد موت، فلما رأى الانقلاب العسكري حية تسعى، قال: هذا ربي هذا أكبر، ولم يحفظ جميلا للرجل الذي أخرجه من القمقم، ورد له الاعتبار، وثبت مكانته كعالم مستقل، وكثيرون -قبل هذا الظهور- لم يكونوا يعرفون أحي هو أم ميت!
وعموما، فقد أعاد نصر فريد واصل الأمر كما كان عليه بدون جَلَبة، وبدون إعلان عن أنه مختلف عن طنطاوي، ولم يكن النظام طرفا في هذا كله، سواء اعتُمدت الحسابات الفلكية أو تم الأخذ بالرؤية ومحلها العربية السعودية، فلم يكن قد تم تسيس الهلال، وكلا الموقفين السابقين كانا في عهد مبارك، المقرب من السعودية، والتي لم يقبل الإساءة لها ولو بشطر كلمة، لكن ظل الهلال شأنا دينيا لا يعنيه، رؤية أو فلكا!
وكذلك الحال كان في العهود السابقة، فقد اعتُمدت فتوى كل بلد يشترك مع مصر ولو في جزء من الليل، واستمرت حتى في فترة عداء عبد الناصر للمملكة وفي قطيعة السادات معها، فما للسياسة في حدود السياسة وما يخص الدين على حاله!
وفي ظني أن التسيس لم يبدأ سوى هذا العام، وكثير من التصرفات الصغيرة يمكن للمرء أن يحكم بمقتضاها على أن هناك فتورا في العلاقات بين النظامين، قبل أن يجتمع رأس النظام المصري بولي العهد السعودي، في لقاء يبدو ذرا للرماد في العيون، لكن هذا لا ينفي أن العلاقة ليست على ما يرام، فهل كان جزءا من الحديث عن فشل الدراما راجعا لهذا الفتور، وفي ظل التهديد السعودي على لسان عمرو أديب بأنه يمكن لإدارة الترفيه الراعي للدراما المصرية أن تنسحب من الرعاية إن استمر هذا الهجوم؟!
تبدو المشكلة إذا دخلت المكايدة السياسية على الخط، والحديث عن الاستقلال والتبعية في شأن كهذا، فالتبعية يمكن أن تحدث إذا تم دفع ثمنها، وقديما قال الجنرال: تريد أن تتدخل في قرار هذا البلد؟.. ادفع مئة مليار
لقد تمت مخالفة المستقَر عليه من قبل ومن بعد عشرية محمد سيد طنطاوي مع هتاف لاستقلال القرار المصري، ونزاهة مفتي البلاد، واستقامة الرأي المصري، وهو أمر جديد على الموضوعات الدينية، على نحو يوحي بأنها رسالة دينية، أكثر منها انحيازا لأمور أخرى. وفي عشرية طنطاوي لم يجد أحد نفسه مدفوعا للحديث عن الاستقلال الوطني، على عكس الحاصل الآن!
والأمر لا يحتمل هذه العصبية، وكل يؤخذ منه ويرد، والأمر ليس خلافا بين العلم الحديث والتقليد، ومن هو الأصدق في تحديد أوائل الشهور، فحتى الحسابات الفلكية هنا ليست مستقرة، فهناك حالة توحم على أي شيء يبدو مسكونا بالكرامة الوطنية والاستقلال الوطني.
وقبل سنوات شاهدت حلقة في برنامج "الاتجاه المعاكس" كان ضيفاها مسؤولين عن الحسابات الفلكية، وحدث بينهما خلاف كبير في تحديد أوائل الشهور القمرية.
ومركز الفلك الدولي قال إن العيد الاثنين بينما المعهد المصري للبحوث الفلكية ووكالة ناسا قالا بأن العيد يوم الأحد، ولا معنى لأن ينبعث أشقاها (خالد منتصر) فيبكي على إهدار قيمة العلم، وكأنه أحمد زويل، وكأنه أثبت كرامة في مجال الطب بحسبانه في الأصل طبيبا.
همز وغمز ساويرس:
وليس الأمر بحاجة إلى لمز وغمز ساويرس وويل لكل هُمزة لُمزة، عندما يقول إنه يحلم بتوحيد يوم عيد الفطر، ما لم يقدم الحلم بتوحيد احتفالات الكنائس المختلفة بعيد الميلاد المجيد، والخلاف ليس بين يومين بل بينهما ثلاثة عشر يوما، فالصحيح أن الخلاف يدور حول أربعة أيام: يوم 7 كانون الثاني/ يناير حيث عيد الميلاد عند الأقباط والروم الأحباش، ويوم 6 كانون الثاني/ يناير لدى الأرمن والأرثوذكس، وأرمن أورشليم يوم 19 كانون الثاني/ يناير، بينما تحتفل الكنائس الغربية يوم 25 كانون الثاني/ يناير!
ولا تجد الكنيسة المصرية حرجا في القول إن خلافها بسبب إشكاليات بين التقويم الغريغوري والتقويم القبطي، حيث تعتمد هي الأخير.
ويبدو -بالتالي- الاستقرار على رأي واحد أمرا صعبا، فلم تعلن كل من مصر والسعودية أنها أخذت بالرأي العلمي، فقد تم الأخذ بالرؤية، ومع ذلك حدث الخلاف، والرؤية لا تعتمد العين المجردة، ولكنها تستخدم وسائط العلم الحديث.. وحسابات الفلك -كما رأينا- لها رأيان، تماما كما يحدث الخلاف بين الكنائس المختلفة ليصل الى أربعة أيام، والفاصل الزمني بين الأول والأخير يقترب من الشهر.. فمتى ولد السيد المسيح؟!
وتبدو المشكلة إذا دخلت المكايدة السياسية على الخط، والحديث عن الاستقلال والتبعية في شأن كهذا، فالتبعية يمكن أن تحدث إذا تم دفع ثمنها، وقديما قال الجنرال: تريد أن تتدخل في قرار هذا البلد؟.. ادفع مئة مليار... لم يحدد إن كانت جنيها أم ريالا!
فماذا هناك؟!
x.com/selimazouz1