السودان والاستفادة من صراع الإستراتيجيات الدولية
تاريخ النشر: 8th, September 2023 GMT
في أواخر خمسينيات القرن الماضي حيث اشتد الصراع بين الغرب و الشرق ( الحرب الباردة) تقدمت الولايات المتحدة الأمريكية بمعونة اقتصادية للسودان، و كان معلوم في ذلك الوقت أن الولايات المتحدة كانت رافضة للمد الشيوعي في المنطقة الأفريقية و الشرق الأوسط، و لكن المعونة الأمريكية التي كانت قد قدمت للسودان لم تكن مشروطة، إلا أن قبائل اليسار الشيوعي و القومي وقفوا ضدها تماما، و قال النائب البرلماني للحزب الشيوعي حسن الطاهر زروق أن المعونة مشروطة و بها بنود سرية و لا يمكن أن نقبلها، و خرجت التظاهرات الحماسية ضد المعونة و خسر السودان فرصة للتنمية.
قال مارك توين أعظم كتاب أمريكا الساخرين " أن التاريخ لا يعيد نفسه و لكنه يتشابه كثيرا" بعد نهاية الحرب البارد كان الاعتقاد أن القارة الأفريقية سوف تكون خاضعة تماما للمصالح الغربية و خاصة الأمريكية، باعتبارها المنتصرة في الحرب الباردة، و لكن التطور الاقتصادي الذي حدث في الصين في آواخر سبعينات القرن الماضي بعد رحيل الزعيم الصيني قائد الثورة الثقافية ماو سيتونغ، و جاء بعده دينغ شياوبينغ الذي منح المزارعين حق استغلال الاراضي الخاصة، و الذي خلق طفرة في الاقتصاد. خاصة بعد تحولها من الاقتصاد المخطط إلي اقتصاد السوق، هذه السياسية الاقتصادية كانت بداية للنمو الاقتصادي الحر الصيني. حيث مكنها أن تدخل منافسا للدول الغربية و أمريكا في أفريقيا و تفوق استثماراتها 100 مليار دولار أمريكي و الصين لا تفرض شروط سياسية لذلك يرغبها القادة الأفارقة. في عام 2000 خلف الرئيس فلاديمير بوتين لبوريس يلسن، و استطاع بوتين أن يعيد قوة النزعة القومية وسط النخبة الروسية، و عمل على أعادة بناء الاقتصاد الروسي و تطوير الصناعات البيتروكيمائية و الطاقة الحفورية بهدف إعادة روسيا للمجتمع الدولى كدولة عظمى لها رؤيتها. و بالفعل استطاع أن جعل من روسيا دولة لها نفوذها في السياسة الدولية، و استطاعت روسيا أن تدخل القارة الأفريقية من خلال استثماراتها في كل من ليبيا و الجزائر، و من خلال شركة فاغنر أن تنمي استثماراتها في المعادن و خاصة الذهب في غرب أفريقيا و السودان. و أصبحت الآن تزاحم النفوذ الغربي و الأمريكي في غرب أفريقيا من خلال انقلابات مالي و بوركينافاسو و النيجر، و أن كان انقلاب الغابون يشك أن وراءه فرنسا بهدف حماية نفوذها في المنطقة من خلال أجيال جديدة. هكذا أصبحت أفريقيا تعود مرة أخرى لعهد الصراعات الإستراتيجية ما بعد الحرب الباردة، و يمكن الاستفادة منها للدول التي تريد أن تنهض.
في الوقت الذي تحاول فيه فرنسا إقناع دول إكواس أن تتدخل عسكريا لحسم الصراع الذي أفرزته الانقلابات، نجد أن الولايات المتحدة الأمريكية تتبنى الحل الدبلوماسي و تحاول أن تعزز وجودها من خلال سياسة النفس الطويل. الأمر الذي يؤكد تباين السياسي الأمريكي – الفرنسي في المنطقة. حيث تحاول الولايات المتحدة أن تحافظ على نفوذها من خلال كسب دول أخرى في المنطقة لها نفوذا كبير و أثرا يمكنها أن تلعب دورا يحقق عملية الاستقرار في المنطقة. السودان باعتباره دولة ذات موقع إستراتيجي يربط بين شرق أفريقيا و غربها و أيضا جنوبها أن الولايات المتحدة عينها عليه، و لكن الصراعات السياسية الحادة في السودان لابد أن تتوقف و تتحول إلي حوارات سياسية تفطن لمصالح البلاد و المواطنين، و ليس على الرغبات النخبوية الضيقة التي مدعاة لتوليد الخلافات. حيث تدرك الولايات المتحدة أن الإسلاميين يمثلون قوى سياسية عريضة في المجتمع لا يمكن تجاوزهم، و تريد من القوى الأخرى أن تستوعب ذلك، و تحاول أن تبني لها حلفا قويا مؤثرا في الساحة من خلال التفاف قاعدة جماهيرية عريضة حولها، و ليس من خلال دعوات الإقصاء المولدة للصراع الحاد، أن الكتلة الجديدة مراد بها أن تخلق المعادلة المطلوبة مع الإسلاميين و حلفائهم، لكي تضمن الحفاظ على استقرار النظام الديمقراطي. و هذه المعادلة أيضا تتطلب بناء جيش مهني يملك القوة التي تؤهله على الحفاظ على النظام الديمقراطي، و أيضا حماية البلاد و حدودها و الدستور. و هذه تتأتي بالحوار بين المجموعات المختلفة، و ليس بوضع حوائط سميكة تفصل بينها. و النخبة السياسية القادرة على استيعاب ذلك و قادرة على الانفتاح من خلال طرح الأراء و الأفكار للحوار هي القادرة على قيادة البلاد للاستفادة من الصراع الإستراتيجي في المنطقة لمصلحة الوطن.
أن النخب السياسية لا تستطيع أن تخرج من الأزمة السياسية التي أدت للحرب، إلا إذا استطاعات أن تفكر تفكيرا برجماتيا للاستفادة من هذا الصراع المحموع الذي بدأ يتخلق داخل القارة الأفريقية، و على حدود السودان. أية محاولة للرجوع للتفكير التقليدي و الصراع الأيديولوجي العقيم الذي لم يكسب البلاد غير موروثات الفشل، لن يكون في مصلحة البلاد. أن العقليات التاريخية في الأحزاب التقليدية و اليسارية و اليمينة إذا فشلت الأجيال الجديدة أن تقيلها من مواقعها، لا تستطيع أن تحدث أي تغييرات جوهرية، تؤدي إلي التنمية و اتساع رقعة الاستثمارات، و لن تخرج البلاد من أزماتها المتواصلة. القيادات التاريخية لها أحترامها و تقدر نضالاتها، لكن في الحقيقة قد نضب خيالهم و أصبحت عقليات جامدة لا تتجدد لا معرفيا و لا فكريا، و لا يمكن الاستفادة منها في الحوارات الفكرية و السياسية، لأنها لا تستطيع أن تخرج عن دائرة مخزونها الثقافي القديم المتكيء على أطنان من الفشل.
أن السودان لكي يستفيد من الصراع الإستراتيجي الدائر الآن على حدوده الغربية، يحتاج إلي عقليات و أفكار جديدة تتعامل بمعادلات رقمية هندسية، و ليس عواطف سياسية تاريخية. الأجيال الجديدة تستطيع أن تفكر خارج الصندوق، و تقدم مشروعاتها التي تريد من خلالها بناء السودان و استقراره الاجتماعي و السياسي، و دون الميل لجانب دون الأخر إلا من خلال الذي يسهم بالفعل في نهضة السودان و اتساع رقعته الاستثمارية في كل الحقول ( الزراعية الصناعية – الطاقة – المعادن – التعليم – الصناعات الدفاعية و غيرها) هذا التحول يحتاج لأجيال مؤمنة بالديمقراطية ايمانا مبني على المعرفة و المرجعية الفكرية و ليس شعارات بهدف التضليل. القوى الديمقراطية لا تتخوف من الحوارات الفكرية و الثقافية و غيرها لأنها تعتقد أن الحوارات أهم مدرسة لإنتاج الثقافة الديمقراطية و توليد الثقة السياسية و المجتمعية، و في نفس الوقت تخفف حدة النزاعات و حتى الحدة الفظية. سودان جديد يعني فكر جديد ثقافة جديدة قائمة على احترام المجتمع و توجهاته الاخلاقية وعقليات جديدة. لكن سودان جديد بمكنات قديمة معطوبة لا يمكن أن يكون. نسأل الله حسن البصير.
zainsalih@hotmail.com
////////////////////
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الولایات المتحدة فی المنطقة تستطیع أن لا یمکن من خلال
إقرأ أيضاً:
تفاصيل الأزمة السياسية في جورجيا بعد تنصيب رئيس جديد
موسكو- تدخل جورجيا العام الجديد برئيسين، أحدهما الرئيسة المنتهية ولايتها سالومي زورابيشفيلي التي ترفض التنازل عن منصبها وتهدد حزب "الحلم الجورجي" بالإطاحة بـ"نظامه" والآخر رئيس الدولة الجديد ميخائيل كافيلاشفيلي الذي تم انتخابه من قبل الهيئة الانتخابية التي يسيطر عليها حزب "الحلم" الفائز بانتخابات 26 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
ووجهت زورابيشفيلي -التي برزت باعتبارها المعارضة الرئيسية للحكومة الحالية- إنذارًا إلى الحزب الحاكم، وطالبته بأن يدعو إلى انتخابات برلمانية جديدة "وخلافًا لذلك" فإنه ستعمل على الإطاحة به -حسب تعبيرها- مؤكدة أنه "لم تكن هناك انتخابات" وأنها لا تنوي ترك منصبها بعد انتهاء فترة ولايتها والتي انتهت رسميا اليوم الأحد.
وتقول المعارضة أن سيرة كافيلاشفيلي وخبرته المهنية لا تتوافق مع منصب رئيس الدولة، حيث أدى انتخابه إلى تفاقم المواجهة مع الحكومة، بعد أن أصبح الرئيس السادس لجورجيا، وهو مرشح حزب "الحلم" الحاكم ورئيسه الفخري الملياردير بيدزينا إيفانيشفيلي.
وخلال فترة حكمه كحزب حاكم في البرلمان، حافظ حزب "الحلم" على تصدره الخطاب المؤيد لأوروبا وعلاقات أوثق مع حلف شمال الأطلسي "ناتو" في حين قاوم في الوقت نفسه الإصلاحات المطلوبة من بروكسل لتحقيق الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
إعلانوتبنى هذا الحزب بشكل تدريجي في السنوات الأخيرة مواقف مشككة بالمنظومة الغربية، واتضح ذلك من خلال اعتماده تشريعات وصفت من قبل المعارضة بأنها مناهضة للغرب ومؤيدة لروسيا، بينما يؤكد الحزب أنها تسعى للحفاظ على القيم الثقافية لجورجيا.
وعلى ضوء ذلك، ومع اتساع نطاق الاحتجاجات، بات التوجه الجيوسياسي المستقبلي لجورجيا معلقا الآن، وستحدد نتيجة الصراع القائم حاليًا ما إذا كانت البلاد ستتحالف مع الغرب أم ستقع تحت نفوذ موسكو.
ميخائيل كافيلاشفيلي أصبح الرئيس السادس لجورجيا بعد انتخابه من قبل البرلمان (رويترز) ما الذي حفز الاحتجاجات؟بحسب المتخصص في الشؤون الجورجية غيفي أباشيدزه، فإن الإعلان الأخير للحكومة -عن أنها ستعلق مساعي الحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي حتى عام 2028 على الأقل- شكل فتيل المرحلة الجديدة من الأزمة داخل البلاد، متوقعًا أن تدخل الحكومة والمعارضة في "معركة طاحنة" لحسم مستقبل هذا الملف.
ووفق ما يقوله للجزيرة نت، فقد شكل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي منذ فترة طويلة طموحًا موحدًا للجورجيين، بغض النظر عن الانتماء السياسي، وفقًا لما أظهرته الكثير من استطلاعات الرأي، مضيفًا أن تعليق عملية الانضمام للاتحاد ترى فيها شرائح واسعة من المجتمع أنها "خيانة".
ويضيف إلى ذلك تواصل حالة الغضب والإحباط بشأن الانتخابات البرلمانية في البلاد، والتي وصفها العديد من زعماء المعارضة ومنظمات المجتمع المدني والمراقبين الدوليين بأنها مزورة، والتي -حسب رأيه- صبت المزيد من الزيت على النار، خصوصًا بعد أن سنت الحكومة ما يسمى "القانون الروسي" المثير للجدل، الذي يسمح للحكومة بشن حملات على المجتمع المدني.
ما السيناريوهات المتوقعة لتطور الأزمة؟يرجح أباشيدزه أن تدخل جورجيا مرحلة الصراع على الشرعية، من خلال "ثنائية الرؤساء" بعد تولى كافيلاشفيلي منصبه، وإصرار زورابيشفيلي على الاحتفاظ بمنصبها الحالي حتى انتخاب برلمان جديد.
إعلانويضيف بأن ذلك سيتم بموازاة حرب "هجينة" غير معلنة بين روسيا والغرب، يقوم من خلالها كل طرف بدعم حلفائه داخل البلاد، ولكن دون أن يكون هذا الدعم علنيًا.
ويوضح بأن هذا الدعم سيزداد وفقًا لتوسع رقعة الاحتجاجات واستمرار "تآكل" المعايير الديمقراطية في البلاد، فضلًا عن احتمال قيام عدد من الدبلوماسيين والموظفين الحكوميين بتقديم استقالاتهم احتجاجًا على تعليق الحكومة عملية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وإعلان دعمهم للمتظاهرين.
وبرأيه فإن الحل يكمن في التراجع عن قرار تعليق الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، أو إلغاء "القانون الروسي" والاتفاق على إجراء انتخابات برلمانية جديدة.
ولكنه يشير إلى أنه مع مرور كل يوم وظهور نوبات جديدة من العنف بين السلطات والمتظاهرين، تصبح إمكانية التوصل إلى تسوية تلبي مطالب المحتجين بعيدة المنال.
رئيسة جورجيا المنتهية ولايتها سالومي زورابيشفيلي ترفض التنازل عن منصبها (الفرنسية) هل يمكن أن تؤدي الاحتجاجات الجديدة إلى أزمة سياسية أكثر خطورة في جورجيا؟يعتبر الكاتب في شؤون جنوب القوقاز ألكسندر يودين أن احتجاجات المعارضة تهدف إلى جذب الدعم المالي والإعلامي لها من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، حيث أظهرت المعارضة عدم امتلاكها للموارد السياسية الكافية لمنع السلطة الحالية من السيطرة على البرلمان والرئاسة للسنوات الأربع والخمس القادمة على التوالي.
ويوضح يودين -للجزيرة نت- بأن المعارضة والغرب -على حد سواء- لا يمكنهما تقبل فكرة تجميد خطط انضمام تبليسي إلى الاتحاد الأوروبي، لأن ذلك يعني مزيدا من التقارب مع روسيا مقابل الابتعاد عن الغرب.
ويضيف بأن ذلك يمكن أن يؤثر كذلك على نوايًا أرمينيا المجاورة بهذا الخصوص، ويشجع معارضي الحكومة الحالية على رفع وتيرة الاحتجاجات ضد ما يعتبرونه انضماما على حساب السيادة الوطنية، والذي حسب رأيهم يعني المزيد من الضعف أمام الضغوط من أذربيجان وروسيا وتركيا.
إعلان كيف تبدو العلاقات الحالية بين جورجيا والاتحاد الأوروبي؟يوضح يودين أن حجم التجارة بين جورجيا والاتحاد الأوروبي عام 2023 بلغ نحو 4.5 مليارات دولار، وبلغت حصة الاستثمار الأجنبي المباشر في البلاد 60% من دول الاتحاد الأوروبي وبلدان أوروبية أخرى مثل المملكة المتحدة وسويسرا وليختنشتاين والنرويج وأيسلندا وجبل طارق، بينما وصلت النسبة إلى 76% عام 2021.
لكن -في وقت لاحق- بدأت العلاقة بالتدهور بسبب خطاب تبليسي المعتدل نسبيا تجاه موسكو، واعتقال الرئيس السابق ميخائيل ساكاشفيلي عام 2021، وعدم الانضمام إلى العقوبات المناهضة لروسيا بعد فبراير/شباط 2022.
ويضيف الكاتب إلى ذلك اعتماد قانون يحظر الدعاية المثلية، واعتماد قانون العملاء الأجانب الذي تعتبر المعارضة أنه يستهدف "المنظمات التي تعمل لصالح دولة أجنبية" وسيكون أكثر استهدافًا للمؤسسات غير الربحية ووسائل الإعلام الأجنبية، حيث يأتي أكثر من 20% من مصادر تمويلها من الخارج.